رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الكلمة للحياة: الكتاب المقدس وجمال الله الكلمة للحياة الكتاب المقدس وجمال الله فلنحاول أن نفهم سوية ماهية كلمة الله: فإن فهمتها حقًا، بالفكر وبالقلب، ستشعر بضرورة الإصغاء للكلمات التي يخاطبك بها الله نفسه، مانحًا إياك النور لكي تتعرف على نفسك بالحق، والحكمة لكي تمير علامات حضوره، والقوة لكي تتمكن بدورك من أن تخبر عنه بكلمات محبة، فلتكن هذه الكلمات صوت صلاتك، اعتراف إيمانك المتواضع، نشيداً ضمن نشيد الكنيسة بأسرها، هذه الكنيسة التي تولد من الكلمة، ومن الكلمة تتلقى الدعوة لتكون شاهدة لها إلى أقاصي الأرض * * * 1. ما الدافع لكتابة رسالة عن كلمة الله؟ لقد قررت أن أكتب إليك رسالة عن كلمة الله، لأني مقتنع بأنه، في مجتمعنا، يجري شيء شبيه بما تتحدث عنه نبوءة عاموس: " ها إِنَّها سَتَأتي أَيَّامٌ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ أُرسِلُ فيها الجوعَ على الأَرْض لا الجوعَ إِلى الخُبزِ ولا العَطَشَ إِلى الماء بل إِلى استِماعِ كَلِمَةِ الرَّبّ" (8، 11). أكتشف هذا الجوع من خلال الحاجة إلى الحب المتجذرة في كل منّا، نحن رجال ونساء عصر "ما بعد الحداثة"، المسجونون أكثر فأكثر في وَحْشتنا. وحده الحب اللامتناهي يستطيع أن يشفي غليل الانتظار المشتعل في قلبنا: وحده الله الذي هو المحبة يمكنه أن يقول لنا أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن مسكننا هو المدينة السماوية، حيث لن يكون هناك ألم ولا موت. "من تلك المدينة – يقول القديس أغسطينس – أرسل إلينا أبونا رسائل، أعطانا الأسفار المقدسة، لكي يشعل فينا شوق العودة إلى بيتنا" (شرح المزامير 64، 2- 3). فإن أدركت أن الكتاب المقدس هو "رسالة الله" هذه، وأنها تتوجه إلى قلبك بالذات، ستقترب منها برهبة وشوق يقرأ بهما متيّم كلمات الحبيبة. لذا فإن الله، الذي هو أب وأم بالمحبة، ستكلم معك بالذات، والإصغاء الأمين والذكي، المتواضع والمصلي لما يقوله لك سيشبع تدريجيًا حاجتك إلى النور، وعطشك إلى الحب. فأن تتعلم كيف تصغي للصوت الذي يخاطبك عبر الكتاب المقدس، يعني أن تتعلم أن تحب: كلمة الله هي البشرى السارة ضد الوحشة! لذا فإن الاصغاء للكتاب المقدس هو إصغاء محرِّر وخلاصي. 2. الله يتكلم! وحده الله كان بإمكانه أن يكسر صمت السماوات وأن يدوّي في صمت القلب: وحده الله كان قادرًا – كما ليس باستطاعة أحد غيره – أن يقول لنا كلمات حب. هذا جل ما جرى في الوحي الإلهي، أولاً عبر الشعب المختار، إسرائيل، ومن ثمّ في يسوع المسيح، الكلمة الأزلية المتجسد. الله يتكلم: عبر أحداث وكلمات مترابطة صميميًا، ويهب نفسه للبشر. إن النصوص التي تشكل الكتاب المقدس هي أسفار وضعت بوحي من الروح القدس، وهي حلول كلمة الله في كلمات البشر. كلمة الله هي الله نفسه في رمز كلمته! فهذه الكلمة تشارك في جبروت الله: "لأنَّه كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ طَعاماً .فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أش 55، 10- 11). إن العبارة العبرية "دبر"، والتي نترجمها عادة كـ "كلمة"، تعني بالوقت عينه كلمة وعمل: وهكذا فالوصايا العشر يقال عنها بالعبرية "الكلمات العشر" بمعنى أنها تعبّر بالوقت عينه عن مستلزمات محبة الله، وعن العون الذي يمنحه الله لكي نتمكن من التجاوب مع حبه. فالرب يقول ما يفعل ويفعل ما يقول. في العهد القديم يعلن لأبناء إسرائيل عن مجيء المسيح الذي سيقيم عهدًا جديدًا؛ وفي الكلمة المتجسد يحقق وعوده متخطيًا كل التوقعات. فالعهد الأول والعهد الجديد يخبراننا عن تاريخ حبه لنا، من خلال مسيرة يهيئ الله فيها شعبه على تقبل عطية العهد النهائي: فالعهد القديم يستنير في الجديد، والجديد يتم التحضير له في القديم! كيف تستطيع شجرة الاكتمال الاستغناء عن الجذور التي تأتي منها؟ "إِذا كانَ الأَصْلُ مُقَدَّساً، فالفُروعُ مُقدَّسةٌ أَيضاً... فاذكُرْ أنَّكَ لا تَحمِلُ الأَصْل، بلِ الأَصْلُ يَحمِلُكَ" (روم 11، 16. 18). لذا، يا تلاميذ المسيح، فلنحبّ الكتاب المقدس الذي أحبه هو أيضًا! 3. الكلمة يصبح جسدًا "والكلمة صار جسدًا وأقام مسكنه بيننا" (يو 1، 14). إن اكتمال الوحي، عطية الحب الإلهي الكبرى، هو يسوع المسيح، ابن الله الصائر إنسانًا لأجلنا، كلمة الآب الوحيدة، الكاملة والنهائية: به الآب يقول كل شيء ويهبنا كل شيء. " اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (عب 1، 1- 2). في يسوع تنال نصوص العهد القديم معناها الكامل وتظهره: "النصوص المقدسة جميعها كتاب واحد، وهذا الكتاب هو المسيح" (Ugo da San Vittore, L’arca di Noè, II, 8). أن نتغذى من الكتاب المقدس يعني أن نتغذى من المسيح: "فجهل الكتب المقدسة – يقول القديس إيرونيموس – هو جهل المسيح" (Commento al Profeta Isaia, PL 24,17). من أراد أن يعيش من حياة المسيح، عليه أن يصغي باستمرار إلى الكتب المقدسة جميعها، دون استثناء. ففيها يظهر وجه الحبيب، في هذا اليوم الذي يمضي، وفي نهار الحب الذي لا ينتهي: "وجهك يا رب ألتمس: يجب أن يكون البحث عن وجه المسيح توق جميعنا نحن المسيحيين... فإذا ما ثابرنا في البحث عن وجه الرب، عند نهاية حجنا الأرضي، سيكون هو، يسوع، فرحنا الابدي، أجرنا ومجدنا إلى الأبد" (بندكتس السادس عشر في 1 سبتمبر 2006، في مزار الوجه الأقدس في مانوبلّو). 4. الروح مفسر الكلمة كيف السبيل إلى لقاء "الحي" في حقل الأسفار المقدسة، كما جرى اللقاء في حقل القبر؟ لكي نعيش الخبرة التي عاشتها المرأة التي انفتحت عيناها وتعرفت على الرب القائم من الموت، بعد أن كانت قد ظنته حارس الحقل (يو 20، 15..)، يجب أن يدعونا المحبوب، وأن تمسنا نار روحه: "المعزي، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي، هو يعلمكم كل شيء ويذكركم بما قلته لكم" (يو 14، 26). الروح القدس الذي قاد الشعب المختار، مانحًا الوحي إلى كُتّاب الأسفار المقدسة، يفتح قلب المؤمنين على فهم ما هو مكنون فيها. وهكذا، "تنمو الكتب المقدسة مع من يقرأها" (القديس غريغوريوس الكبير، عظات حول حزقيال، 1، 7، 8). لهذا، لا يجب أن نعيش أي لقاء مع الكلمة قبل أن ندعو الروح الذي يفتح الكتاب المغلق، محركًا القلب وموجهًا إياه إلى الله، وفاتحًا عيون الفكر، ومانحًا العذوبة لقبول الحقيقة وللإيمان بها (المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور حول الوحي الإلهي، كلمة الله، 5). الروح القدس هو الذي يوصلنا إلى "الحقيقة" الكاملة من خلال بوابة "الكلمة" الإلهية، جاعلاً منا عاملين وشهود للقوة المحررة التي تتضمنها الكلمة، والتي هي غاية في الضرورة في عالم غالبًا ما يبدو أنه فقد حس الحقيقة والولع بها. قبل أن تقرأ الكتاب المقدس، استدع دومًا مانح المواهب، نور القلوب: الروح القدس! 5. الكنيسة خليقة وبيت الكلمة لكي نتمكن من قبول كلمة الله بأمانة، أراد الرب يسوع أن يترك لنا – مع عطية الروح القدس – عطية الكنيسة المبنية على أساس الرسل. فهم الذين تلقوا كلمة الخلاص وسلموها إلى خلفائهم كجوهرة ثمينة، محفوظة في علبة جواهر أمينة هي شعب الله الحاج عبر التاريخ. الكنيسة هي بيت الكلمة، وجماعة التفسير، بضمانة هداية رعاة أراد الله أن يسلمهم قطيعه. فالقراءة الأمينة للكتاب المقدس ليست قراءة البحار المنعزل، بل قراءة تتم في سفينة بطرس: الإعلان، التعليم، الاحتفال الليتورجي، دراسة اللاهوت، التأمل الشخصي والجماعي، المعاش أيضًا في العائلة، الفهم الروحي الذي ينضج في حياة إيمان: هذه جميعها قنوات تجعلنا ندماء للكتاب المقدس في حياة الكنيسة. ولهو أمر جميل ومثمر أن نتأمل الكلمة بحسب التوزيع الذي تقوم به الليتورجية يوميًا، سامحين لها أن تمسكنا بيدنا لتقودنا في غابة الأسفار الكتابية الزاهرة. فعبر مرافقة الكنيسة، لا يجب على أي معمّد أن يقف غير مبالٍ أمام الكلمة الإلهية: فالإصغاء إلى الكلمة وإعلانها، والاستنارة بها لتنوير الآخرين، كل هذه هي واجبات تتعلق بجميع المؤمنين، كل بحسب العطية التي وهبت له، عبر الولع الإرسالي الذي يطلبه يسوع من تلاميذه، دون استثناء (انظر مر 16، 15: لذا أردت في أبرشيتنا مدرسة للكلمة مفتوحة للجميع!). من الكهنة إلى الشمامسة، من الأهل إلى معلمي التعليم المسيحي، من المكرسين إلى المكرسات، من اللاهوتيين إلى المعلمين، من أعضاء الجماعات والحركات إلى كل فرد معمد، أكان شابًا أو عجوزًا: الجميع مدعوون إلى أن يكونوا "كنيسة" مولودة من "الكلمة" ومعلنة "للكلمة": وأنت أيضًا! 6. طاعة الإيمان لكلمة الله تستطيع التجاوب بشكل حقيقي مع كلمة الله عندما تتقبلها بإصغاء طوعي، هو طاعة الإيمان، "التي بها يسلّم الإنسان نفسه بالكلية لله، مقدّمًا خضوع العقل والإرادة ومجيبًا بحرية على الوحي الذي تلقاه" (المجمع الفاتيكاني الثاني، كلمة الله، 5). فالله الذي يتوجه إلى قلبك، يدعوك لكي تقدم له، لا شيئًا من ذاتك، بل ذاتك برمّتها. وهذا الإصغاء الطوعي يوصلك إلى ميناء الحرية: "إذا حفظتم كلمتي، كنتم حقًا تلاميذي؛ تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8، 31- 32). الله نفسه يأتي إليك في كلمته ويحول كيانك: "إِنَّ كَلمَة اللهِ حَيّة ناجعة، أَمْضى مِن كُلِّ سَيفٍ ذي حَدَّين، تَنفُذُ إِلى ما بَينَ النَّفْسِ والرُّوحِ، وما بَينَ الأَوصالِ والمِخاخ، وبِوُسْعِها أَن تَحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكاره" (عبر 4، 12). سلّم نفسك إذًا لكلمة الله. ثق بها. فهي أمينة إلى الأبد، تمامًا كالله الذي يتفوه بها والذي يقيم فيها. لذا، إذا قبلت الكلمة بالإيمان، لن تكون وحيدًا أبدًا: في الحياة كما في الموت، تدخل من خلالها إلى قلب الله: "تعلّم أن تتعرف على قلب الله في كلمات الله" (القديس غريغوريوس الكبير، ملفّ الرسائل، 5، 46). الإصغاء للكلمة، قراءتها، تأملها؛ تذوقها، الولع بها، الاحتفال بها، عيشها، إعلانها بالقول والعمل: هذا هو السبيل الذي ينفتح أمامك إذا ما فهمت أن نبع الحياة يكمن في كلمة الله. الله نفسك يأتي إلى زيارتك في الكلمة: لذا فالكلمة تمسّك، تخطف قلبك، وتهب ذاتها لك في الإيمان كعون ومجنٍّ في درب النمو الروحي. 7. وسيلة لتقبًل كلمة الله: "القراءة الإلهية" كيف يمكننا أن نقرأ كلمة الله؟ هناك وسيلة مختبَرة للتعمق في الكلمة ولتذوقها، وهي "القراءة الإلهية"، التي تشكّل برنامجًا لمسيرة روحية متعددة المراحل. المرحلة الأولى هي القراءة بحد ذاتها (lectio): اقرأ بانتباه، مرارًا وتكرارًا مقطعًا من الكتاب المقدس، واسأل نفسك: "ماذا يقول هذا النص بحد ذاته؟" ثم انتقل إلى التأمل (meditatio)، التي هي بمثابة وقفة داخلية. استجمع نفسك واسأل الله: "ماذا تقول لي شخصيًا هذه الكلمة المحددة من كلماتك؟". اتخذ لنفسك موقف صموئيل الشاب: "تكلم يا رب، فإن عبدك يسمع!" (1 صم 3، 10). ثم أجب من خلال الصلاة (oratio)، متجهًا إلى الله الذي خاطبك: "ماذا عساي أقول أنا لك يا رب؟". والجواب ستعطيه داعيًا الرب ليأتي فيقيم في بيت قلبك، لكي يحوّل أفكارك وخطواتك. وتصل عندها إلى التطلع (contemplatio)، ذلك التطلع الفاعل، الذي يتساءل فيه قلبك بعد أن مسّه حضور المسيح: "ماذا ينبغي عليّ أن أفعل الآن لكي أحقق هذه الكلمة؟"، وتسعى لعيش ما تتوصل إلى إدراكه. الانتباه، الفهد، الحكم والقرار: من خلال هذه المراحل الأربع التي تعيشها في اللقاء مع الكلمة، تصبح كلمة الله "سِراجًا يُضيء في مَكانٍ مُظلِم، حتَّى يَطلَعَ الفَجْرُ ويُشرِقَ كَوكَبُ الصُّبحِ في قُلوبِكم" (2 بط 1، 19). بهذه الطريقة بالضبط يقودك الكتاب المقدس ويرافقك في طريق الحياة: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي" (مز 118 [119]، 105). وقد يبدو أحيانًا وكأن الكلمة المقروءة لا تعني لك شيئًا: لا تفقد عزيمتك! عد إليها واستدع الرب: "يا رب، هبني حياةً بحسب كلمتك!" (مز 118 [119]، 107). لقد عاش هذه الصعوبة نفسها العديد من الأشخاص قبلك: إبراهيم، سارة، موسى، إرميا، استير، المعمدان، بطرس، بولس: هؤلاء وغيرهم من شخصيات الكتاب المقدس، يمكنهم أن يحدثوك عن تعب وعن فرح الإيمان. حاول أن تلتقي بهم من خلال التأمل بالنصوص التي تخبر عن سيرتهم، مستعملاً مراحل القراءة الإلهية: ستكتشف كم أنهم قريبون من تساؤلاتك، وكيف أن خبرتهم تحاكي خبرتك. 8.الكلمة، نبع المحبة إن كلمات إله المحبة تجعلنا قادرين على أن نحب. فالحب هو الثمرة الأولى للإصغاء الحقيقي لكلمة الله. يحذرنا القديس يعقوب قائلاً: "كونوا مِمَّن يَعمَلونَ بهذه الكَلِمَة، لا مِمَّن يَكتَفونَ بِسَماعِها فيَخدَعونَ أَنفُسَهم" (1، 22). من سمح للكلمة أن تنيره، يعرف أن معنى الحياة يقوم لا على الانطواء على الذات، بل على الخروج من الذات دون رجوع: وهذا هو الحب. إن الاصغاء للكتاب المقدس يجعلك تشعر كم أنك محبوب ويجعلك قادرًا أن تُحِب: فإذا ما سلمت نفسك دون رجوع إلى الله، سيقدمك هو ذاته إلى الآخرين، مسبغًا عليك كل المواهب الضرورية لكي تقوم بخدمتهم. لهذا السبب يدعو بندكتس السادس عشر الشبيبة لكي ينمو في حياتهم "الألفة مع الكتاب المقدس، وإلى البقاء بقربها لكي تكون بوصلة تبين الطريق الذي ينبغي اتباعه" (رسالة ليوم الشبيبة العالمي 2006). الكلمة هي مرشد أكيد لأنها – في خضمّ ضجيج العالم – تقودنا إلى الاهتمام بالآخرين تشبهًا بيسوع، وإلى التعرف من خلالهم على صوت يسوع الذي ينادي. إن مراكز المحبة الموجودة في الكنيسة (مراكز الاصغاء، مراكز الاستقبال، مراكز توزيع الطعام على الفقراء...)، مختلف نشاطات التطوع، تحديات العدالة والسلام والمحافظة على الخلائق، الأشخاص الذين يقرعون كل يوم على باب قلبك، جميعهم ينتظرونك ليفهموا إذا ما حوّلَت الكلمة التي سمعتها قلبَك بالفعل. إذا قمت بهذه الأمور، صار بامكانك أن تسمع ما يقوله الرب: "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (راجع متى 25، 37- 40). 9.الكلمة، نبع فرح ورجاء إذا أصغيت إلى الكلمة وحفظتها، ستشعر أن حياتك قائمة في قلب الله نفسه، ومن هناك تحصل على الثقة للحاضر وعلى الرجاء للمستقبل: "مَثَلُ مَن يَسمَعُ كَلامي هذا فيَعمَلُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بيتَه على الصَّخْر". فالثقة تتغذى من اليقين بأننا محبوبون: " حينَ كانَت كَلِماتُكَ تَبلُغُ إِلَيَّ كُنتُ أَلتَهِمُها فكانَت لي كَلِمَتُكَ سُروراً وفرَحاً في قَلْبي لِأَنَّي بِآسمِكَ دُعيتُ أَيُّها الرَّبُّ إِلهُ القُوَّات" (إر 15، 16). لهذا السبب، يشعر التلميذان في مسيرتهما من أورشليم إلى عماوس بالحرارة في قلبيهما، لأنهما اكتشفا دواعي الرجاء، وقد غمرهما فلاح اللقاء (انظر لو 24، 13- 35). الكتاب المقدس، كسردٍ لتاريخ العهد بين الله وشعبه، هو تذكار حي لهذا الحب الكبير الذي يولد الثقة بذلك الذي يحقق مواعيده. من خلال منحك أسبابًا للعيش وللرجاء، تشرّع الكلمة أبوابك على غَدِ الله وتساعدك على وضعه في الحاضر من خلال قوة أفعال إيمان متواضعة ومن خلال أعمال بحبة بسيطة. وبفضل قوتها هذه، الكلمة هي ركن الرجاء الكبير الذي يحرك العمل المسكوني: إذا ما حاولنا أن نكون تلاميذ الكلمة الواحدة، كيف يمكننا أن نعتبر انقساماتنا أكبر من الوحدة التي تدعونا الكلمة إليها؟ 10. من الكلمة إلى الصمت من الاصغاء المطيع للكلمة، تنبع بلاغة الحياة الصامتة: "لا نَنفَكُّ نَشكُرُ اللهَ على أَنَّكم، لَمَّا تَلقَّيتُم ما أَسمَعْناكم مِن كَلِمَةِ الله، لم تَتَقَبَّلوه تَقَبُّلَكم لِكَلِمَةِ بَشَر، بل لِكَلِمَةِ اللهِ حَقًّا تَعمَلُ فيكم أَنتُمُ المُؤمِنين" (1 تسا 2، 13). فالوجود الذي يسكنه الأبدي يتغذى دومًا من الإصغاء لصمته، الذي نصل إليه عبر الكلمة والذي يفتح أمامنا صمت الشوق والانتظار. من يحب الكلمة، يعرف ضرورة الصمت، الداخلي والخارجي، ليصغي إليها فعلاً، وليفسح لنورها أن يحولنا عبر الصلاة، والتأمل والتمييز: في مناخ الصمت، وعلى ضوء الكتاب المقدس، نتعلم أن نتعرف على علامات الله وأن نقرأ مشاكلنا على ضوء مشروع الخلاص الذي يشهد له الكتاب المقدس. الإصغاء هو الصمت الخصب الذي تسكنه الكلمة. "تلفظ الآب بكلمة واحدة وكان الكلمة ابنه، وهو يكرر هذه الكلمة في صمت أبدي؛ لذا فبالصمت يجب على النفس أن تصغي لهذه الكلمة". (S. Giovanni della Croce, Sentenze. Spunti di amore, n. 21, in Opere, Roma 19672, 1095). لا تتلفظ أبدًا بكلمة الحياة قبل أن تكون قد سرت مطولاً في دروب الصمت، في الإصغاء المتأمل والعميق للكلمة التي تأتي من الأزلي! 11. أيقونة مريم، عذراء الإصغاء مريم هي أيقونة الإصغاء المثمر لكلمة الله: فهي تعلمنا أن نتقبلها، أن نحفظها وأن نتأملها باستمرار: "أما مريم، فكانت تحفظ هذه الأمور وتتأملها في قلبها" (لو 2، 19). مريم هي الصورة الكاملة للكنيسة، فهي تسمح لكلمة الله بأن تصوغها: "ليكن لي بحسب قولك" (1، 38). والإصغاء يصبح عطية حب: عذراء البشارة تسرع نحو أليصابات لتساعدها في حاجاتها. امرأة الإصغاء، تظهر مريم في الزيارة كأم الحب: "من أين لي أن تأتي إلي أم ربي؟" (1، 43). صوتها يحمل الفرح المسيحاني: "ما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني" (1، 44). طوباها ترتكز على أنها سمعت وآمنت بكلمة الأزلي: "طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّب" (1، 45). أطلب إلى مريم – خليقة الكلمة التي تشفع بنا في مجد الله – أن تساعدنا لكي نعيش مثلها في إصغاء للكلمة، لكي نتقبل في ذواتنا كلمة (لوغوس) الحياة ولكي نحمله إلى الآخرين، في شفافية الالتزام كل أيام حياتنا. الصلاة مع مريم والتوكل على شفاعتها (مثلاً عبر صلاة الوردية الغنية بالأصداء البيبلية) يساعدانك على أن تحفظ الكتب الإلهية وأن تعيشها. 12. الكلمة للحياة فلتساعدنا صلاة راهب خبير في التأمل الدائم بالكتاب المقدس لكي نلج في الإصغاء لكلمة الله على مثال مريم: "نطلب إليك يا رب أن تفتحنا على معرفة من نحبّ، لأننا لا نطلب شيئًا خلاك. أنت الكل لنا: حياتنا، نورنا، خلاصنا، قوتنا، شرابنا، إلهنا. أصلي إليك يا يسوعنا لكي تنير قلوبنا بنسمة روحك وأن تجرح بحبك نفوسنا لكي ما يستطيع كل منا القول بحق: عرّفني بمن تحبه نفسي؛ فأنا جريح حبك. أتشوق لكي تكون هذه الجراح مطبوعة فيّ، يا رب. طوبى للنفس المطعونة بالمحبة! فهي تبحث عن النبع ومنه سترتوي. وإذ تشرب ستبقى دائمًا عطشى إليه. وإذ ترتوي، ستتوق بولع إلى ذلك الذي تعطش إليه سرمدًا، بالرغم من أنها ترتوي منه دائمًا. بهذا الشكل يظهر الحب كعطشٍ تطلبه النفس بِوَلَه، وكجرح يشفي" (San Colombano, Istruzione 13 su Cristo fonte di vita, 2-3, Opera, Dublino 1957, 118-120). وحده الحب يفتح على معرفة المحبوب: "كان بامكانه أن يفهم كلمات يسوع، فقط ذلك الذي استراح على صدر يسوع" (Origene, In Joannem 1,6: PG 14,31). أتكئ رأسك أنت أيضًا على صدر الرب كالتلميذ الحبيب في العشاء الأخير (راجع يو 13، 25)، وأصغ إلى كلماته، اسمح لقلب الرب أن يتكلم إلى قلبك! هذا ما أطلب إلى الرب لأجلك إذ " أَستَودِعُك اللهَ وكَلِمَةَ نِعمَتِه وهُو القَادِرُ على أَن يَشيدَ البُنْيان وأن يَجعَلَ لَك الميراثَ مع جَميعِ المُقَدَّسين" (راجع رسل 20، 32). آمين. |
|