إله الكل بقلم : البابا شنودة الثالث 27 - 9 - 2009
استمعت إليه وهو يناجي الله ويقول: من أنا يارب, حتي أتحدث إليك؟! أنا التراب, وأنت كل العظمة وكل المجد.. أنا الخاطئ الذي يضعف أمام حروب الشياطين ويسقط في كل يوم! كيف أقف يارب أمامك, وأنت القدوس الكلي القداسة, المحاط بملائكتك القديسين, يسبحونك كل حين, ومعهم أرواح الأبرار من البشر, الذين يفعلون باستمرار مايرضيك..؟!
كان يجب علي يارب أن أدرك من أنا ومن أنت؟! ولكنني تجرأت, وفتحت فمي لأتحدث إليك, وأنا غريب عن ملكوتك. لست من هذا الجمع المقدس الذي لك والذي هو حولك, وليست لي دالة أن أتكلم, فاغفر لي يارب هذه الجرأة..
وهنا تدخلت وقلت لذلك الصديق: لا يا أخي, لا تظن أن الله هو إله الأبرار فقط, الأقوياء في روحياتهم, بل هو إله الكل. هو إله الخطاة أيضا, يشفق عليهم علي سقوطهم, ويجذبهم إليه بأنواع وطرق شتي, حتي يقودهم الي التوبة, وهو ليس فقط إله الأقوياء. بل هو أيضا إله الضعفاء المحتاجين الي قوة منه, تسند ضعفهم وتمنحهم القوة.
إن الضعفاء والساقطين والخطاة هم أحوج الناس الي الله, وهو لا يتخلي عنهم, لأنه لا يحتاج الأصحاء الي طبيب, بل المرضي, وقد سألوا مرة رجلا أعرابيا: من هو أحب أبنائك إليك؟ فقال: الصغير حتي يكبر, والمريض حتي يشفي, والغائب حتي يعود, يقصد الأكثر احتياجا, فإن كان القلب البشري هكذا, فكم بالأكثر قلب الله؟! لا شك إن كل المحتاجين يجدون فيه كل العطف وكل الحنو, إنه معين من ليس له معين, ورجاء من ليس له رجاء.
إن الله هو إله الكل. هو إله العصفور المسكين, ينقذه من فخ الصيادين, وهو أيضا إله الصيادين الذين نصبوا الفخ لهذا العصفور, وهو الحافظ للتوازن بين كل هؤلاء.
إن الله ليس لشعب واحد من شعوب الأرض, بل هو لشعوب الأرض كلها, السود والبيض والصفر والسمر, كلهم خليقته, وكلهم تحت رعايته وموضع اهتمامه, بما فيهم من صالحين وخطاة, وبما فيهم من رعية ورعاة, الله يريد أن الجميع يخلصون والي معرفة الحق يقبلون.
فلا يظن الخاطئ أنه ليس من رعية الله, أو أن الله لا يهتم به! لو كان الأمر هكذا, ما كان ممكنا لأي خاطئ أن يتوب! ولكن مشيئة الله غير ذلك, فالله يشفق علي الخطاة جميعهم, ويرسل إليهم نعمه لتعمل في ضمائرهم وقلوبهم وأفكارهم, وتقودهم الي التوبة, ولعل من الأمثلة الواضحة القديس أوغسطينوس الذي كان بعيدا جدا عن الإيمان, وعن حياة الفضيلة, وكانت أمه تصلي من أجله بدموع كثيرة, كيف ان الله اقتاده إليه؟ فصار مؤمنا, وتائبا وقديسا.
إن الله الذي لا يتخلي عن أحد من خليفته, اهتم بالعالم الوثني, وساعده علي أن يترك عبادة الأصنام ويصير مؤمنا, وكذلك العالم الذي من قبل يؤمن بتعدد الآلهة, كيف قاده الي تركها ليؤمن بالإله الواحد خالق السماء والأرض.
حقا إن الله هو إله الكل. كان إلها لهؤلاء الوثنيين, وصبر عليهم حتي آمنوا به.. وكان إلها لليونان الذي آمنوا بجمهرة من الآلهة تحت قيادة زيوس, وصبر عليهم حتي آمنوا به, وكان إلها للمصريين القدماء الذين آمنوا بآلهة كثيرة منها: رع وآمون وأوزوريس وإيزيس وحورس وغيرها, ولكنه صبر عليهم حتي آمنوا به.
إنه إله كل هؤلاء, وفترة بعدهم عنه, لم تجعله يعتبرهم غرباء عن رعيته, هكذا فترة الشيوعية الملحدة في روسيا, كان الله و هو, يرعاهم ويهتم بهم, إذا عادوا إليه.
إن الله هو إله الكل, سواء ضلوا عن الإيمان أو عن حياة البر, ما أجمل عبارة القديس أوغسطينوس عن حياته السابقة في الخطية: كنت يارب معي, ولكنني من فرط شقوتي لم أكن معك. عجيب أن يقول إن الرب كان معه, وهو خاطئ! نعم كان معه, وبذلك استطاع أن يغير حياته الي البر, والي التوبة, وإلي النمو في ذلك حتي أوصله الي القداسة.
إن الله هو إله الكل, مهما كانت حياتهم متغيرة, هو إله المجاهدين الذين يبذلون حياتهم وجهدهم في خدمة الآخرين, وفي نفس الوقت هو إله العباد والنساك الذين يقضون حياتهم في الصلاة والتأمل والنسك.
إنه إله البسطاء, والحكماء, إله الجهلاء والعلماء, ليس الكل طبيعة واحدة, ولا عقلية واحدة, ولكنهم كلهم خليقة واحدة, لإله واحد, يضمهم جميعا تحت رعايته, ويهتم بالكل ليكونوا جميعا أبناء للملكوت.
حقا إن ملكوت الله سيضم أناسا من أنواع شتي, والله سيقبلهم, بشرط نقاوة قلوبهم, مهما كانت درجتهم أو نوعية عملهم. يكفي أن يكونوا أنقياء القلب, حتي لو كانوا ضعفاء في مستواهم, أو صغارا في سنهم.
مادام الله للكل, فهو لا يرفض أحدا, وحتي الذين يرفضونه, لا يأخذهم بجهالتهم, وإنما يحاول أن ينقذهم من هذا الرفض, تارة بترغيبهم في الحياة الروحية, وتارة بتجارب ترجعهم إليه.
ومادام الله للكل, فليس هناك مهمون ومهمشون, بل كل إنسان يشعر باهتمام الله به أيا كانت ظروفه, فطبيعة الله الحانية المملوءة من الشفقة علي الكل, ترتبط أيضا بعمل الله الرعوي, لأنه يرعي الكل, وهكذا يشعر كل إنسان بأن الله يرعاه وأنه يقود خطواته, حتي ان أخطأ الطريق, يصلح له طريقه ولكن لا يتخلي عنه.
إلهنا هو الله الذي بعد أن خلق العالم كله, ظل يعتني بكل من فيه, مهتما بكل فرد من خليقته, يريد الخير للجميع, سواء هنا علي الأرض, أو في المصير الأبدي, ولا يوجد أحد لم ينل من فيض نعمته.. أما الهالكون فهم الذين اختاروا لأنفسهم الضياع, وأصروا علي ذلك, ورافضين للنعمة.
|