التجارة ومعاملاتها
بيع الأراضي:
من أقدم الصفقات التجارية المدونة في التوراة شراء إبراهيم لحقلٍ ومغارة من عفرون الحثي. ومنذ استقر العبرانيون في كنعان أصبح شراء الأراضي وبيعها غير محبذ. فقد تمسك كل رجل بأرضه كأمانة وضعها الله في عهدته. فالأرض ليست للإنسان، وكل أسرة حصلت على قطعة أرض كميراثٍ خاص بها. لذلك وجب أن تظل الأرض جزءاً من ممتلكات الأسرة.
وبالتالي، جرى العمل بقوانين تتعلق "بفكاك" الأرض، قضت بأنه إذا افتقر أحدٌ بحيث اضطر إلى بيع أرضه فمن الواجب أن يشتريها أحد أقربائه الأدنَين. وكان هنالك أيضاً التشريع المتعلق بسنوات "اليوبيل"، وقد قضى بأنه كلما أتت السنة الخمسون يجب أن تعاد جميع الأراضي إلى مالكيها الأصليين. ولسنا نعلم إلى أي مدى وفي أية أزمنة من التاريخ طُبقت هذه القوانين فعلاً. ولكن من المؤكد أن هذا القانون لم يطبق في زمن الملوك. فإن أخآب الملك دبر مقتل نابوت، أحد رعاياه، ليستولي على كرمٍ كان له. وكان الأغنياء يشترون أراضي الفقراء الذين لم يكونوا قادرين على سد ديونهم.
وقد درجت عادات قديمة في مجال شراء الأراضي. وفي سفر راعوث أن البائع يخلع نعله ويعطيه للشاري (مزمور 60: 8). وربما كان في ذلك رمزٌ إلى الامتلاك بوضع القدم في الأرض. ولما اشترى إرميا حقلاً، عُمِل صك ملكية وحُفِظت نسخة منه في إناء من خزف (ليكون في مأمن).
تكوين 23؛ لاويين 25: 8- 34؛ 1 ملوك 21: 1- 16؛ أشعياء 5: 8؛ راعوث 4: 7 و8؛ إرميا 23: 6- 15.
التجارة المحلية:
كان فلاحو العبرانيين فقراء. وقد أنتجوا على العموم ما يكفي لتلبية حاجات أُسرهم فقط، وكانوا يحتاجون إلى أشياء قليلة لم يكونوا يستطيعون صنعها بأنفسهم فضلاً عن الخزف والأدوات المعدنية والأسلحة. وكان السفر والانتقال صعبين. فقد استعملت الحمير لنقل الأحمال وكانت العربات صغيرة- إن وجدت. ولذا ظلت التجارة المحلية بسيطةً زمناً طويلاً على الأرجح. ولكن ساحات الأسواق تطورت بالتدريج حول أبواب المدن أو في مداخلها. فهنالك بيعت المنتوجات الزراعية والغنم والمعزى. وهُناك عرض الحدادون والخزافون مصنوعاتهم، وأقام التجار الأجنبيون منصات البيع.
التجارة الدولية:
أدت إلى انهماك العبرانيين في التجارة الدولية، ولا سيما في أيام الملوك، ثلاثة عوامل:
الأول كان ازدهار "الصناعات" التي تحتاج إلى مواد أولية مستوردة. وأهم هذه صناعة الثياب وشغل المعادن.
والثاني كان استيلاء العبرانيين على أراضٍ جديدة واقعة على طرق التجارة الدولية.
والثالث كان اهتمام الملوك أنفسهم باصطناع الثروة وشراء البضائع الثمينة الفاخرة.
وربما كانت حقيقة كون التجار يُعرفون بين العامة باسم "الكنعانيين" تعكس لنا انزواء العبرانيين زمناً طويلاً في الجبال وعدم انهماكهم في التجارة مع الخارج. ويتحدث النبي أشعياء عن صور التي منها تجار مكرمون في الأرض (23: 8). ولكن هوشع يعلن قائلاً: "مثل الكنعاني في يده موازين الغش، يحب أن يظلم" (12: 7).
الطرق التجارية البرية:
تقع فلسطين عند ملتقى آسيا الصغرى (تركيا وسورية) ومصر والعربية. وقد استغل العبرانيون هذا الواقع، وإن كان رجال البدو في الصحراء هم الذين كانوا يحملون البضائع على قوافل الجِمال.
وكان التجار يسافرون من آسيا الصغرى عبر جبال طوروس، غربي الصحراء السورية، مروراً بحلب وحماة ودمشق، إلى فلسطين.
ومن بلاد ما بين النهرين كانوا يسلكون طريقاً في شمال الصحراء السورية مروراً بحاران وحلب، ثم جنوباً إلى فلسطين.
ومن العربية يسيرون بمحاذاة شاطئ البحر الأحمر فالعقبة، ثم يتجهون إما شمالاً إلى دمشق مروراً بموآب وجلعاد إلى الشمال الغربي من أورشليم، وإما غرباً إلى مرفإ غزة.
الطرق التجارية البحرية:
سيطر الفينيقيون على الملاحة حتى زمن الرومان. وقد أبحر الفينيقيون إلى غرب المتوسط حتى وصلوا ربما إلى بريطانيا، ونشّطوا خطّاً ساحليّاً من لبنان إلى مصر، متوقفين في مواضع مثل أوغاريت وجبيل وصيدون وصور وعكا وقيصرية ويافا والموانئ الواقعة على الساحل الفلسطيني. ومع مرور الزمن، أُنشئت الأرصفة والعنابر ووسِّعت. وقد وُجد أيضاً خطٌّ عبر البحر الأحمر وساحل إفريقيا الشرقي، إلا أن التجارة على هذا الخط كانت تفور ثم تغور.
مشروعات ملكية:
عقد بعض ملوك إسرائيل تحالفات مع البلدان المجاورة، ولا سيما صور. وربما تم ذلك بقصد إنعاش التجارة وتوفير السلم معاً. فكانت صور آنذاك قد أصبحت أعظم قوة بحرية في المتوسط، ولها مستعمرات وموانئ على سواحله.
يبدو أن سليمان عمل كوسيط بين بلدان شتّى. والظاهر أنه استورد الخيول من كيليكياً والمركبات من مصر ثم صدرها جميعاً إلى سورية.
ولما زارت ملكة سبأ سليمان. ربما كانت مشاركةً في وفد تجاري من جنوب العربية (حيث كان يُنتج اللُّبان). ولما حصن سليمان تدمر، ربما كان ذلك لتسهيل عبور التجار في الصحراء السورية.
وقد طلب سليمان مساعدة الفينيقيين لبناء السفن في عصيون جابر، عند رأس خليج العقبة. وبعد تزويد الأسطول بالرجال، أبحر إلى "أُوفير" (ربما على ساحل أفريقيا الشمالي الغربي). وفي ما بعد حاول يهوشافاط ملك يهوذا إحياء هذا الأسطول التجاري بالاشتراك مع ملكي إسرائيل وصور، إلا أن السفن تحطمت في عاصفة شديدة.
ويبدو أن الملوك درجوا على محاولة تأمين حقهم في فتح أسواق لهم في البلدان الأجنبية لبيع منتوجاتهم الخاصة. فقد كان لأخآب الملك هذا الحق في دمشق.
ازدهرت الأمة في أيام بعض الملوك وتدفقت الثروات إلى داخل البلد. لكن الأنبياء نظروا إلى هذا الوضع نظرة عدم رضى شديد. فالرخاء مجلبةٌ للتباهي والفساد والدين والاستعباد. وبينما الأغنياء يزدادون غنى، أخذ الفقراء يزدادون فقراً. وما هو أسوأ من هذا أن الواردات لم تقتصر على البضائع المادية بل تعدتها إلى الديانات الأجنبية أيضاً.
حزقيال 27؛ 1 ملوك 5؛ 9: 11؛ 10: 28 و29؛ 2 أخبار 9: 28؛ 1 ملوك 10: 1- 13؛ 2 أخبار 20: 35- 37؛ 1 ملوك 22: 48 و49؛ 20: 34.
في أزمنة العهد الجديد:
يسَّر "السلام الروماني" سبل التجارة، وخصوصاً بعد تطهير بومبي للبحار من القراصنة. وفي فلسطين كانت مهنة التاجر تُحترم كثيراً، وقد تعاطى التجارة حتى الكهنة، وتزايدت الواردات والصادرات.
سيطر الأنباط على طرق التجارة البرية. وكان عاصمة هؤلاء هي البترا (في الأردن اليوم). وقد كانت قوافل الجمال طويلة في الغالب، فتعرضت دائماً لخطر اللصوص. ويبدو أن هذا الواقع ساد خصوصاً المنطقة المحيطة بأورشليم، مع أن الملك هيرودس اتخذ إجراءاتٍ للحد منه.
وتبين الوثائق أنه على رغم موقع أورشليم النائي بين الجبال، كانت تُباع فيها صنوفٌ من البضائع الفاخرة لا تقل عن 118 صنفاً متنوعاً. وكان فيها سبع أسواق مختلفة. وقد دفع عارضو البضاعة في السوق ضرائب باهظة، وكانت الأسعار غالية. ونشطت تجارةٌ قوية بالبضائع المطلوبة للعبادة في الهيكل، ولا سيما الحيوانات المعدة للذبائح. وقد اعترض المسيح دون ممارسة هذه التجارة في دار الهيكل الخارجية- وهو المكان الوحيد الذي كان يُسمح بدخول غير اليهود إليه. وربما كان الهيكل أهم عامل من عوامل التجارة في أورشليم. فقد كان على كل يهودي أن يؤدي مبلغاً لخزينة الهيكل، الأمر الذي ساهم، ولا شك، في دفع أثمان الواردات.
وقد وضع الرابيون اليهود (معلمو الدين عندهم) قوانين صارمة لعقد الصفقات التجارية، وكان عندهم مراقبون في السوق للتثبت من العمل بها. وكان واجباً أن تُنظَّف المعايير والأوزان بصورة منتظمة. وتمتع المشترون بحق رفع الشكاوى. ولم تكن أية فوائد تُفرض على المواطنين اليهود، فيما كان ممكناً رهن الممتلكات الشخصية لضمان وفاء القروض. ولكن لم يكن مسموحاً بيع الأشياء الضرورية، كالعبادة والمحراث وحجر الطحن، إذا تعذر على المقترض سد الدين. هذه القوانين لها جذورها في شريعة العهد القديم، ولكن معاصري المسيح شددوا عليها بطريقة خاصة.
لوقا 10: 30- 37؛ لاويين 19: 35 و36؛ تثنية 25: 13- 16
الدفع:
كانت التجارة تتم في الأزمنة القديمة بالمقايضة أو المبادلة. والكلمة المستعملة أصلاً في تكوين 33: 19 ويشوع 24: 32 ("قسيطة") تعني حرفياً "رأس ماشية". فلا شك أن تسعير البضاعة كان يتم أساساً وفقاً لما تساويه من المواشي. وسرعان ما جرى استعمال الذهب والفضة لهذه الغاية، ولكن قطع النقد لم تستعمل قبل القرن السابع ق م. والشاقل كان وزنة معينة من الذهب أو الفضة قبل أن يصير قطعة نقد. وهكذا استلزمت التجارة حمل كميات كبيرة من المعادن، وكان وزن القوالب وفحصها ضرورياً عند التجار. وليس لدينا دليل يثبت وجود مصارف عند العبرانيين قبل زمن السبي، مع أنها كانت موجودة فعلاً في ما بين النهرين.
ولما جاء القرن الأول للميلاد كانت تتداول عملة محلية ونشط العمل المصرفي النظامي. وقد استدعت المتاجرة بين البلدان ذات العملات المختلفة رواج خدمات الصيارفة.
التجربة:
يسمح الله بتجريب أولاده أو امتحانهم. وامتحان كهذا يُظهر قيمة محبتهم له. وكل امتحانٍ يفوزون به يقويهم ويدفعهم إلى الأمام. والكلمة "تجربة" تستعمل غالباً للإشارة إلى نشاط الشيطان في السعي إلى حمل الناس على ارتكاب الخطية. وأظهرُ مثلٍ على ذلك تجربة المسيح. والمثل الأقدم على ذلك هو ما جرى لآدم وحواء. فقد جرت الحية المرأة تدريجياً إلى الشك والارتياب في مشيئة الله. ومن ثم رأت المرأة الثمرة، وأدركت قيمتها، ورغبت فيها، وتبين لها ما قد تحمله إليها، فأخذت منها في الأخير.
يُطلب من المسيحيين المؤمنين أن يكونوا على أهبة الاستعداد للصمود في وجه التجربة. ولهم أيضاً وعد الله بأنه لن يدعهم يُجربون فوق طاقتهم. وهو تعالى يمدنا بالقوة للاحتمال.
راجع أيضاً الشيطان، الخطية.
تكوين 3؛ خروج 20: 20؛ تثنية 8: 1- 6؛ متى 4؛ 6: 13؛ 1 كورنثوس 10: 11- 13؛ أفسس 6: 10- 18؛ عبرانيين 2: 18؛ يعقوب 1: 12- 16؛ 1 بطرس 1: 6- 9؛ 4: 12- 19