رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث Veselin Kesich تعريب الأب ميشال نجم الفهرس مقدمة الفصل الأول الكنيسة والنقد المنهج التفسيري في النقد الحديث نقد الأشكال الأدبية المنهج والموضوعية الفصل الثاني مسألة الأصالة الحدث وتفسيره كلام يسوع ومعناه اللغة اليونانية في فلسطين مقياس عدم التشابه الكتاب المقدس والتقليد الوحدة بين العهد القديم والعهد الجديد يسوع والكنيسة "يسوع التاريخ" و"مسيح الإيمان" الفصل الثالث الإنجيل والأناجيل تاريخ كلمة "إنجيل" الأناجيل والإنجيليون المسألة السينابتية هل تعد الأناجيل سيراً؟ مهمة الإنجيليين المزدوجة دور الشهود الفصل الرابع التسلسل الزمني والترتيب اللاهوتي في الأناجيل لا رواية عن يسوع بدون لاهوت موعد العشاء الأخير محاكمات يسوع الفصل الخامس قبول الكنيسة للأناجيل الأناجيل الأبوكريفية الكنيسة ومركيون "الإنجيل الرباعي" الفصل السادس يسوع واليهود والأمم يسوع والحركات الدينية اليهودية يسوع والأسانيون يسوع والسامريون والأمميون الفصل السابع من هو يسوع المسيح ابن الإنسان وخادم الرب المتألم ابن ورب السر الماسياني الفصل الثامن ملكوت الله الصبغة الآخروية في تعليم يسوع الملكوت كما تكشفه الأمثال الملكوت كما تكشفه العجائب الملكوت والكنيسة الخاتمة الحواشي حواشي الفصل الأول حواشي الفصل الثاني حواشي الفصل الثالث حواشي الفصل الرابع حواشي الفصل الخامس حواشي الفصل السادس حواشي الفصل السابع حواشي الفصل الثامن مراجع مختارة مقدمة هدف هذه الدراسة تعريف القارئ العادي على بعض المسائل الهامة التي برزت في الأبحاث الإنجيلية، والمشاركة في المناقشات الدائرة في الأوساط الأرثوذكسية حول قيمة النقد الكتابي واستخدامه في الكنيسة. وفي الوقت الحاضر نفتقر نحن الأرثوذكسيين إلى الاهتمام الكافي في هذا الحقل، وذلك يعود في الأصل، إلى الظروف التاريخية خلا الحقبة الطويلة من العزلة والتي ولدت لدينا الفكرة الخاطئة بأن أبحاث النقد الكتابي من اختصاص الإنجيليين وحدهم ولا علاقة للأرثوذكس به، لكن ظروفنا الآن قد تغيرت. فالكنيسة الأرثوذكسية ليست فقط باحتكاك مباشر مع الغرب ولكنها تحيا الإنجيل وتعلنه هناك. فإلى متى يمكنها أن تهمل وتتجاهل ما يدور في حقل الدراسات الكتابية؟ لاشك في أنه ظهر في القرنين الماضيين علماء ولاهوتيون أرثوذكسيون كانوا واعين تمام الوعي أهمية النقد الكتابي ومقدرين له قيمته، بيد أنهم لم يؤثروا التأثير الكافي على الكنيسة ككل. ولا وجدوا الكثيرين يحذون حذوهم ويتممون عملهم خالقين بذلك المناخ الملائم لمتابعة الدراسات الكتابية. بل بالعكس كان الحماس لهم ضعيفاً لأن الكثيرين كانوا ينظرون إلى النقد الكتابي وكأنه شيء سلبي، لا بل وكأنه موجه ضد الإيمان نفسه. لقد كتب (بضم الكاف وكسر التاء) هذا الكتاب بإيمان راسخ وقناعة بأن النقد الكتابي ليس سلبي، فالوظيفة الحقيقة للنقد ليست للهدم بل للبناء وليست للتعتيم بل للإنارة، وليست لتضليل أعضاء الكنيسة بل لحملهم على فهم أفضل للنص الكتابي وللحقيقة التي يعبر عنها هذا النص. لا يوجد منهج نقدي كامل ومعصوم عن الخط، لكن قد تكون لبعض نتائجه قيمة ثابتة، المصاعب تنشأ من جراء فرضيات العلماء وهذه الفرضيات هي التي تفسر كيف أن الذين يستخدمون المنهج ذاته يصلون أحياناً إلى نتائج متعارضة جداً. لا تمكن دراسة الإنجيل بدون نقد إنجيلي. لذا على الكنيسة ألا تتردد في تشجيع وخلق الظروف الملائمة لتقدم الدراسات الكتابية. يوجد ترابط بين هذا النمط من الدراسات وبين اللاهوت بحيث يصعب علينا تخيل نهضة لاهوتية بدون اهتمام عميق ومشاركة فعالة في الأبحاث الكتابية. وتاريخياً نما الفكر اللاهوتي عندما كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة الكتابية، إذ لا يمكن للواحد أن يحصل دون الآخر. هذا الكتاب يهتم بالأناجيل وبالشخص الذي هو محور الرواية الإنجيلية. ولقد عدنا دائماً إلى أساتذة التفسير الكتابي الذين ساعدونا على رؤية تلك الرواية في موقعها الصحيح وعلى اجتذابنا إلى يسوع كما كان ينظر إليه معاصروه. ولا بد لنا من أن نعي أن وجه يسوع، إذا أردنا له أن يؤثر في عصرنا هذ، يجب أن يكون هو نفسه الذي تصوره لنا الأناجيل. مهمة هذا الكتاب الرئيسية هي رسم هذا الوجه بمساعدة الأبحاث النقدية الحديثة. ترجم هذا الكتاب عن الأصل الانكليزي: The Gospel Image of Christ: The Church and Modern Criticism للمؤلفه: Veselin Kesich الصادر عن: St. Vladimir´s Orthodox Theological Seminary Crestwood، New York، 1972. |
30 - 01 - 2013, 10:07 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل الأول الكنيسة والنقد الأناجيل مصدرنا الوحيد لحياة يسوع ة تعاليمه (1). وبما أن أموراً كثيرة تعتمد على شخص يسوع فلا عجب أن تكون الأناجيل قد أخضعت لأدق بحث أدبي وتاريخي خلال القرنين الأخيرين. ولا وجد وثائق أخرى قديمة قرئت وحللت بالاهتمام والدقة الذين استخدما في دراسة الأناجيل الأربعة. بالطيع لم يكن النقد الكتابي مجهولاً في الكنيسة الأولى، لكن التساؤلات النقدية التي هي مركز ظاهرة جديدة في حياة الكنيسة. أننا سنبحث في الفصول اللاحقة بعض نتائج الأبحاث النقدية محاولين الإفادة منها. ولذا فستنعكس في مناقشاتنا آراء العديد من كبار النقاد. وسنركز، بادئ ذي بدء، على المنهج التفسيري ومن ثم تأتي الأنواع المختلفة للنقد الكتابي، كما سنولي التساؤلات التي يطرحها النقاد حول تاريخ المادة الإنجيلية اهتماماً خاص، آخذين بعين الاعتبار دور الكنيسة في تكوين الوثائق الإنجيلية وتحديدها. المنهج التفسيري في النقد الحديث يقبل كل من علماء الكتاب المقدس المنهج التفسيري ويستخدمونه، والمهمة الأولى للناقد الذي يستخدم هذا المنهج هي أن يفهم ما يريد الكاتب نقله في فقرة وكتاب ما. عليه أول، تحديد النص قبل استخراج معناه ودرس المقطع كله في سياق ما يسبقه وما يلحقه. هذا قد يتطلب دراسة الفصل كله وحتى الكتاب بكامله. ثم يحاول الناقد تحديد مصدر ومصادر الرواية التي يبحث فيه، هل تأتي هذه الرواية من مصدر يشترك فيه إنجيليان وثلاثة؟ أم هي من مصدر خاص يستند إليه إنجيلي واحد فقط؟ ثم تأتي بعد ذلك الخطوة التي تتعلق بالتفتيش عن الشكل غير المكتوب الذي عبر فيه عن تلك الرواية في التقليد الشفهي، الأمر الذي يعني تجاوز المصادر الأدبية والتأكد من مكانة هذه الرواية في حياة الكنيسة. وأخيراً يأتي السؤال عن أصل التقليد، أكان قولاً أم أعجوبة أم مثلاً أم أي حدث خاص ذكر في الأناجيل، ترى هل أصوله في حياة الكنيسة أم أنها تعود إلى يسوع نفسه؟ هذا المنهج التفسيري يفترض أنواعاً عديدة من (النقد) أولها نقد النصوص. فلو كنا نملك النسخ الأصلية لأسفار العهد الجديد لما كنا في حاجة للنقد النصي. ولكن هذه الأسفار نسخت وحصلت أخطاء خلال ذلك فغدا على الناقد أن يستخرج لنا أفضل نص ممكن. ليست هذه المهمة سهلة، فللأناجيل وحدها ما يتجاوز الألفي مخطوطة، وغالباً ما نجد قراءات متعددة للآية الواحدة، فأية قراءة نعتمد؟ لذلك يجب أن يكون الناقد عارفاً معرفة دقيقة ليس أسلوب الكاتب فقط بل لاهوته وذلك قبل الشروع بأخذ خطوة حاسمة في قبول قراءة ورفض أخرى. والصعوبة التي ينبغي تخطيها هنا هي لاهوت الناقد، خاصة عندما يتعارض ولاهوت صاحب النص الإنجيلي، لأن الناقد سيحاول فرض لاهوته هو على النص. لكن بالرغم من كل الصعوبات، من تعدد النصوص التي تحير النقاد، فقد أدى النقد النصي خدمة أساسية في فهم الكتاب المقدس لأنه ساعد في التوصل إلى نص جديد بالاعتماد (2). كثيرون ممن لا يرغبون بالنقد الكتابي بكل أشكاله، مستعدون تماماً لقبول ضرورة النقد النصي ولتقدير نتائجه. فيقبلون (بالنقد الأدنى) ويتخذون موقف الحذر تجاه تقييم (النقد الأعلى). وهذه البرودة تجاه هذا الأسلوب النقدي تبررها المواقف الاعتباطية التي يتخذها أصحاب (النقد الأعلى) كأن يكتشفوا أحياناً ثلاثة مصادر في آية واحدة. وهذا بالطبع يفقد السفر وحدته العضوية. لا شك في أن هذا الموقف متطرف لكن كثيراً ما أغرى نقاد المصادر بإتباعه. لكل منهج حدود ومنهج نقد المصادر ليس مستثنى. ورغم ذلك فعيوب هذا المنهج ليست مبرِراً كافياً لرفض قيمة (النقد الأعلى) رفضاً باتاً (3). تبقى مشكلة تحديد المصادر التي استقاها الإنجيليون في تدوين رواياتهم الإنجيلية. هذه المشكلة كانت من أولى اهتمامات نقاد المصادر. بيد أن نتائج النقد المصدري مشكوك بها أكثر من نتائج النقد النصي لأنها أكثر تجريبية وذاتية. مثال ذلك اهتمام نقاد المصادر بالتساؤل حول أولية الأناجيل الأربعة. كثير منهم يعتبر إنجيل مرقس الأول في الترتيب الزمني ويعتبر أن متى ولوقا استعانا به لكتابة إنجيليهما. كما استنتج من وجود المادة المشتركة بين متى ولوقا أنهما استعملا إلى جانب مرقس مصدراً أخر يشار إليه بالحرف Q (Quelle كلمة ألمانية تعني مصدراً). غير أن هذه النظرية التي تقوم على مرقس وعلى Q قد شَكَ في صحتها علماء آخرون لا يقبلون بأقدمية إنجيل مرقس ولا يؤيدون وجود مصدر مفترض هو Q. هؤلاء يفترضون وجود عدة مصادر لكنهم يشكون في نظرية الاستعارة قائلين بوجود احتكاك واتصال فيما بين المصادر الإنجيلية قبل أن يستخدمها الإنجيليون. نقد الأشكال الأدبية لقد طغى نقد الأشكال الأدبية على النقد الإنجيلي في القرن العشرين وبالتحديد منذ بداية الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يحتل مكانة النقد المصدري الذي كانت نتائجه قد قبلت. في هذا المنحى النقدي يحاول العالم التغلب على كل ما من شأنه أن يبدو انحرافاً أدبياً متطرفاً وذلك عن طريق تجاوز النصوص الأدبية والغوص في بحث التقليد الشفهي، والسعي في تتبع نمو التقاليد المتصلة بيسوع، ووصف كيفية هذا النمو وفقاً لاحتياجات الكنيسة الرسولية (4). أي أنه يهتم بالمرحلة الزمنية التي كانت فيها روايات يسوع وأقواله ما تزال طافية على سطح التقليد الشفهي. إن معرفة الشكل الأدبي مهم جداً لتفسير أي سفر كتابي إذ أن فهمنا للأناجيل يتوقف، إلى حد بعيد، على الإجابة عن السؤال حول شكلها الأدبي. أهي سيرة (قصة) أم تأريخ للأحداث أم أنها شهادة شهود عيان ليسوع؟ على الجواب يتوقف تفسيرنا للنص وما لم نحدد الشكل الأدبي للنص لن نكتشف مغزاه. فلنأخذ، مثل، سفر يونان، فإذا أردنا معرفة ما ينقله إلينا فلا بد لنا من التساؤل أولاً عن شكله الأدبي: هل هذا السفر سرد حادثة حقيقية وهو مثل؟ (5). ولا يكفي أن نحدد الشكل الأدبي لكل إنجيل بكامله بل يجب أيضاً أن نحدد الأشكال الأدبية للمقاطع الصغيرة الموجودة في كل إنجيل، لأن كل إنجيل يضم أنماطاً أدبية متعددة كأقوال يسوع القصيرة والمعجزات وسرد الخبرات الشخصية ومدونات الشهود العيان وقصص الطفولة وسلسة الأنساب وغيرها. لكن نقاد الأشكال الأدبية لا يتفقون حول تصنيف المادة الإنجيلية. فمنهم من يفضل التكلم عن الأشكال الأدبية المختلطة أكثر من الكلام عن الأشكال الأدبية الصافية. ومنهم من يعبر عن ارتيابه بالقيمة التاريخية لبعض المقاطع الصغيرة. فمثلاً لم يصنف كبير نقاد الأشكال الأدبية رودلف بولتمان الحادثة الواردة في (مر3: 1-6) والتي تدور حول شفاء رجل ذي يد مشلولة، كحادثة عجائبية بل كرأي معبر عن موقف اليهود تجاه السبت. ولهذا يقول: أن الحادثة تصل إلى ذروتها عندما يقول يسوع: "هل يحل في السبت عمل الخير أم الشر؟ إنقاذ نفس أم إهلاكها" ويدعو بولتمان هذا النمط من القصص "الحكمة" و"قولاً مأثوراً" لأن له ما يشابهه في الأدب اليوناني (6). أمثال هؤلاء النقاد، كبولتمان، يعتبرون أن القول ليسوع ولكن الأعجوبة هي من صنع الجماعة الأولى. لو اقتصر نقد الأشكال الأدبية على تحديد الأشكال الأدبية وتصنيفها لأدى بذلك مهمة لا غنى عنها (7). ولكنه تعدى ذلك إلى إصدار الحكم على القيمة التاريخية للمادة المتجسدة في شكل أدبي معين. وهذا ما أثار جدلاً عظيماً. ففي حين يعتبر ديبيليوس أن إعطاء مثل هذه الأحكام ليس من وظيفة نقاد الأشكال الأدبية، يرى بولتمان عكس ذلك. ويذهب المتطرفون من يحذون حذو بولتمان إلى القول بأن عجائب شفاء المرضى في الإنجيل تشكل نوعاً أدبياً يشابه قصص العجائب في العصر الهيليني. ويبينون أن قصص عجائب الشفاء في الأناجيل وفي التراث الهيليني ترتكز على العناصر الثلاثة التالية: - وصف الوضع ولطبيعة المرض. - العمل الذي قام به الشخص الشافي، أي الطريقة التي بها شفى المرضى. - نتيجة هذا العمل. على أساس هذا التشابه ينزع النقاد المتطرفون إلى الاستنتاج بأن عجائب الإنجيل ليست من عمل يسوع بل اختلقتها الجماعة المسيحية الأولى ولذلك هم يرفضونها. لكن، هل التشابه في الشكل الروائي سبب كاف لحذف العجائب من حياة يسوع؟ وهل بالإمكان رواية حادثة شفاء بطريقة أخرى؟ (8). عجائب يسوع جزء لا يتجزأ من التقليد الإنجيلي الأولي، ولا يوجد أي مصدر إنجيلي بدون ذكر أحداث عجائبية. وحتى يسوع نفسه فقد ذكر بوضوح أنه اجتراح العجائب: "ويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا! فلو كانت المعجزات التي جرت فيكما جرت في صور وصيدا لتاب أهلها من زمن بعيد ... وأنت يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين الى الهاوية" (لو10: 13-15، متى11: 20-24). وحتى خصوم يسوع أنفسهم لم يرفضوا عجائبه. وهكذا يتضح لنا كيف أن آراء النقاد الخاصة وفرضياتهم المسبقة يمكن أن تؤدي إلى رفضهم للعجائب (9). إن نقد الأشكال الأدبية يدل على أن حاجات الكنيسة لعبت دوراً هاماً في الحفاظ على الروايات والأقوال الإنجيلية، وفي اختياره واستعمالها. وبذا يكون أهم إنجاز لهذا النمط من النقد وإظهاره أن النقد الإنجيلي لم يوجد منفصلاً عن الكنيسة، وتأكيده أن العهد الجديد هو كتاب الكنيسة. لقد عاشت الكنيسة الأولى في صلواتها كلمات الرب يسوع وأعماله. وكان المسيحيون الأولون "يواظبون على تعليم الرسل وكسر الخبز والصلوات" (أعمال2: 42). وكانوا يتذكرون ويفسرون كلمات يسوع وأعماله من خلال إقامة الافخارستيا. ويمكننا التصور أن المعلمين في وعظهم كانوا يجيبون عن الأسئلة حول تعاليم يسوع ويعطون الأمثلة لشرح موقفه من الشريعة والشيع والمؤسسات اليهودية. كما كانوا يوضحون تعاليمه بشأن ملكوت الله وعن نفسه. ومع انتشار المسيحية وتزايد عدد الراغبين فيها قامت الكنيسة بإعداد مجموعات من أقوال يسوع وتعاليمه وضعت في متناول العاملين في العليم الديني. فضبطت بذلك نقل التقليد الإنجيلي واطمأنت إلى أن أعضاءها الجدد يتلقون بأمانة أقوال يسوع وأعماله. وأصبح بإمكان كل كنيسة محلية أن تراقب تعليم الكنائس الأخرى. وهكذا أغلق المجال أمام كل راغب في اختلاق روايات إنجيلية جديدة (انظر مثلاً أعمال 8: 14 و10: 11). إن احتياجات الكنيسة حددت ما يجب إدراجهم من تقاليد عن يسوع في النصوص المكتوبة. لم تكن الاحتياجات تؤدي إلى اختلاق الروايات بل كانت تدعو إلى تقرير ما يجب انتقاؤه وتطبيقه على الأوضاع الجديدة في الكنيسة. فالكنيسة لم تختلق أقوال يسوع وأعماله إنما سعت إلى تفسيرها فقط. فمثل، عندما طرح (بضم الطه وكسر الراء)، أثناء انعقاد المجمع الأورشليمي في السنة الخمسين بعد الميلاد، السؤال عن ضرورة إختتان الوثنيين لخلاصهم، لم تجد الكنيسة في كلام يسوع أي جواب مباشر. فلو كان نقاد الأشكال الأدبية محقين في إدعائهم بأن الكنيسة اختلقت الروايات الإنجيلية لكان من شأن الكنيسة، مادامت الظروف مؤاتية أن تبتدع أقوالاً تنسب إلى يسوع وتختلق قصة تدل على موقفه من ختان الوثنيين. لكن الكنيسة لم تخضع لأية تجربة من هذا النوع ولم تنسب إلى يسوع أي قول غير مسنود (10). وهكذا انتهى الجدل الحار حول ختانة الوثنيين دون اختلاق قول منسوب ليسوع، و أُتخِذ قرار ضد فرض الختان بعد دراسة وافية قام بها الرسل والشيوخ. إن النقد الشكلي ساهم مساهمة فعالة في توضيح التقاليد الإنجيلية قبل صبها في شكلها النهائي المكتوب. غير أن أتباع هذا النمط النقدي يميلون إلى أن ينسبوا إلى جماعة المؤمنين مسؤولية في تكوين النص الإنجيلي أكبر مما يمكن إثباته. فيقللون بذلك من أهمية الدور الذي لعبه الشهود العيان في نقل كلمات يسوع وأفعاله ويضعفون من مساهمة الإنجيليين الشخصية في تأليف أناجيلهم (11). ظهرت حديثاً نزعة جديدة في نقد الأشكال الأدبية تعرف ب "نقد الإنشاء الأدبي". هذه النزعة تحاول تدارك النقائض في الطريقة السابقة فتشدد على دور الإنجيليين أكثر من تشديدها على دور الجماعة. وفيها يهتم الناقد بالصفات المميزة لكل إنجيلي، والطريقة التي استعمل بها المصادر المتوفرة لديه. لذلك نراه بعد تحديد الشكل الأدبي لسفر ما يهتم بأسلوب الكتابة وطريقة التأليف ومراحل الوصول النهائي. إنه يهتم بعمل الإنسان الذي كتب السفر إذ يعتبر أن الإنجيليين لم يكونوا فقط جامعين لتقاليد الجماعة المسيحية بل مؤلفون لهم في نظرتهم الخاصة بدليل تصنيفهم المواد الإنجيلية بطريقة تعبر عن اهتماماتهم اللاهوتية. ولقد توصل أحد أشهر نقاد الإنشاء الكتابي ويللي ماركسن بتشديده على أهمية دور الإنجيليين إلى الاستنتاج بأن الأناجيل الأربعة لا تنتمي إلى شكل أدبي واحد، وأن النموذج الإنجيلي المشترك قد نقض (بضم النون وكسر القاف) لكثرة ما ابتكر كل من الإنجيليين من الأساليب الخاصة في الكتابة حتى أصبح كل إنجيل قائماً بذاته (12). بالرغم من المواقف المتطرفة التي قد تنتج عن تطبيق أي من نزعتي نقد الأشكال الأدبية، كما اتضح سابق، يبقى أن استعمال هذه النهج كأداة عملية محضة من قبل عدد آخر من النقاد أعطى فوائد جلى وفتح أبواباً كانت ما تزال مغلقة. فساهم التصنيف الدقيق للأشكال الأدبية والوصف الواضح لدور الإنجيليين في كتابة أناجيلهم إسهاماً كبيراً في تفسير العديد من المقاطع الصغيرة وكلمات يسوع وأقواله الواردة في الأناجيل المنهج والموضوعية لا يتوصل دائماً مطبقو المنهج التفسيري إلى النتائج نفسها. وهذا لا يسبب اللوم للمنهج بحد ذاته، إذ لم يظهر في عصر من العصور منهج مطلق ومكتف بذاته. فليس من منهج إلا وتعرض لفراضيات العلماء وتحيزاتهم. وقد ذكرنا بهذا الصدد أنه حتى في حقل النقد النصي لعبت دوراً مهماً في اختيار النصوص في اختيار نص ورفض آخر. ولذا فلا بد أن يكون لآرائهم تأثير في الكنيسة والتقليد ومكانة الكتاب المقدس في الكنيسة وحتى في تفسير نص إنجيلي. كتب الأب سرجيوس بولغاكوف أن هناك دوماً "بحثاً علمياً حقيقياً" من جهة و"إنحيازات العصر" من جهة أخرى (13). وبالرغم من الإجحافات فقد ساهم النقاد الكبار فعلياً في البحث العلمي لحل المشاكل الكتابية، وبالتالي ازدادت معرفتنا بالإنجيل، وتعمق فهمنا لعمل الله في التاريخ. وإن كنا قد انتقدنا بعض النزعات في علم الكتاب المقدس فهذا لم يكن بهدف اللوم على منهج نقد الأشكال الأدبية بل للإشارة إلى الانحرافات التي وصل إليها بعض البحاثة. فالبعض منهم يعتقد أن حياة يسوع يجب أن تكون مغايرة لما تبينه الوثائق الإنجيلية. وهم يريدون قبول المسيح وقهم رسالته بطريقتهم الخاصة. وانجرافاتهم هذه ذات طابع عقلاني مشكك. العقلاني يعتبر الأناجيل بمثابة وثائق إنسانية وحسب ولا يمكنه أن يرى فيها أي طابع آخر. وبالتالي لا يسعه أن يعتبرها إلهية وإنسانية لأنه يرفض، مبدئي، العنصر "الإلهي" و"الفائق الطبيعة"، وينسب كل شيء إلى إيمان جماعة مجهولة غير محددة المعالم. وهكذا يكون قد أبدى روحاً غير نقدية وأفضى به شكه المتطرف إلى التسليم الساذج ببعض فرضياته. ولو استطاع كل البحاثة أن يكونوا موضوعيين، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لتوصلوا في آخر الأمر إلى تفسير واحد للنص الكتابي. وبتعبير آخر لكانوا فهموا كل المعنى الذي أراد الكاتب أن ينقله إلى قرائه (14). وهذا الأمر ممكن ولو نسبياً. ويمكننا الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن عدداً من النقاد "الإنجيليين" و"الكاثوليك" يتوصلون اليوم في أبحاثهم الكتابية إلى النتائج نفسه، وبذلك يساهمون في هدم الحائط القديم الذي كان يفصل بينهم لدرجة يصعب تحديد هوية الناقد بالاستناد إلى أبحاثه ونتائجه، فالعالم "الإنجيلي" لا يميز من الكاثوليكي والعكس صحيح. وفي العشرين سنة الأخيرة تزايد عدد الكاثوليك الذين اتخذوا المواقف الأكثر تقارباً من الإنجيليين لا بل المواقف نفسها في كثير من الأحيان. لا شك أن هذه المواقف تدل على درجة عليا من الموضوعية. ولكن ليس المنهج التفسيري وحده يعلل هذا التقدم في الموضوعية بل الرؤى الواحدة والمنهج العلمي الواحد والمنطلقات الواحدة هي التي تجمع بين هؤلاء النقاد. يبقى أن إحدى النتائج المشجعة للنقد الكتابي الحديث الاهتمام المتزايد بالدراسات الكتابية، وبها تكتشف جماعات مسيحية عديدة أن بينها شركة في الرؤية أكثر بكثير مما كانت تظن. ولقد أسهم النقاد المتطرفون في زيادة الاهتمام إذ أثارات تساؤلاتهم نقاشاَ مجدياَ حول طبيعة الرواية الإنجيلية وتاريخه، وحثت علماء العهد الجديد على إعادة النظر بتأن في النصوص والبحث عن أجوبة للمسائل المطروحة. ------------------ حواشي الفصل الأول (1) يرد ذكر يسوع في مصادر غير مسيحية. فكتب عنه المؤرخ اليهودي يوسيفوس(37-110 م)أنه"إنسان حكيم"و"فاعل لأعمال عجيبة"وأن بيلاطس حكم عليه بالموت صلباً وذلك "بناء على الاتهام الذي وجهه أشخاص مسؤولون بيننا"(Antiquities of the Jews،XVIII،63 f). يشهد الأدب الرباني أيضاً على اجتراحه للعجائب، لكنه يفسرها على أنها أعمال سحرية "أغوت اليهود بالارتداد". وورد في التلمود أن يسوع قد حوكم عشية الفصح التي كانت عشية السبت. هذه الشواهد الموجودة في المصادر اليهودية نجدها منظمة تنظيماً حسن ومبحوثة بتفصيل في كتاب الباحث هيرفورد R.T.Herford الذي يحمل عنوان "المسيحية في التلمود والمدراش" Christianity in Talmud and Midrash، Clifton، N.J.، Reference book publishers، 1966. يوجد أيضاً تلخيص جيد وتقييم صحيح لكل هذه الشواهد في: Howard Clark Kee: Jesus in History. An approach to the study of the Gospels، New York، Harcourt، Brace & World،1970،pp.37-43 وفي التلمود توجد شواهد أخرى أيضاً لكنها ليست ذات قيمة كدليل على تاريخية يسوع، لأنها جدلية من حيث الروح، وهي ناتجة عن الصراع المرير المتتابع بين اليهودية والمسيحية في القرون الأولى. لعل أهم المراجع في المصادر الرومانية عن يسوع هو كتاب المؤرخ تاسيتوس (55-117 م) الذي كتب أن الأمبراطور نيرون اتهم المسيحيين بإحراق روما السنة 64 م لكي يبعد الشبهة عن نفسه. ولقد أشار تاسيتوس إلى أن لفظة "مسيحي" تأتي من المسيح الذي أسلم نفسه إلى الموت أيام حكم طيباريوس Tiberius ونفذ الحكم فيه وكيله بيلاطس البنطي (Tacitus، Annals، XV،44). لانستطيع التأكيد على أن تاسيتوس قد اعتمد المصادر الرومانية الرسمية، لكن عدداً كبيراً من العلماء يؤكدون أنه استمد معلوماته من مصدر مستقل عن المصادر اليهودية والمسيحية. ثمة مراجع أخرى اقل أهمية تشهد على كون يسوع شخصية تاريخية، إلا أننا فيما يخص حياة يسوع وتعليمه لا نستطيع أن نركن إلا إلى المدونات الإنجيلية. (2) "نستطيع أن نؤكد بقوة أن نص الكتاب المقدس موثوق به كلي وخصوصاً نص العهد الجديد". راجع: Frederic Kenyok: Our Bible and the Ancient manuscript، London، Eyer & Spottiswoode، 1958، p.55. (3) {استعار العلماء لفظتي "أعلى" و"أدنى" من صورة النهر. فالناقد "الأعلى" يسعى إلى التوغل في أعالي النهر، أقرب ما يكون من النبع (هذا هو التدوين الأصلي للكتاب) ... أما الناقد النصي فيهتم بأمور "أدنى" أي ذات علاقة بفترة ما بعد كتابة الكتاب ونسخه وانتشاره}. راجع: H.A. Guy: The Gospel of Mark، New-York، st.Martin Press، 1968، pp. 5-6 (4) راجع: Krister Stendahl: << Implication of Form-Criticism and Tradition-Criticism for Biblical Inter pretation>>، Journal of Biblical Literature 77: 1، 1958،34 {يستخدم نقد الأشكال الأدبية أحياناً كأداة لاستعادة الكلمات نفسها التي لفظ بها يسوع. هذا النقد في حد ذاته أداة يجب إضافتها إلى الأدوات المألوفة. لكنه كمنهج وكمدرسة يتركنا تحت رحمة الكنيسة الأولى بتعاليمه وفهمه وحياتها". إن وضع الإنجيل في حياة الكنيسة يشار إليه بالتعبير الألماني Sitz im Leben (الوضع في الحياة). هذه العبارة "لا تفهم إلا إذا عدنا إلى شكلها الأصلي Sitz im Leben der Kirche "الوضع في حياة الكنيسة"، أعني طقس الكنيسة الأولى وكرازته وتبشيره ودفاعها " وبالنسبة للعهد القديم الحياة الدينية والطقسية لإسرائيل". هذه العبارة يجب ألا تكون Sitz im Leben Yesu "الوضع في حياة يسوع"، بل ينبغي أن تعود لأعمال الجماعة}. (5) "إذا عرف القارئ أن سفر يونان هو مثل خيالي، سيعرف أيضاً أن المؤلف لا يقدم عرضاً لتاريخ العلاقة بين إسرائيل وأشور ولا يريد أن تعتبر قصة يونان في جوف الحوت كحدث واقعي". راجع: R.E. Brown: << Hermeneutics>>، Jerome Biblical Commentary 71: 27. ما يريد سفر يونان نقله هو أن الله يهتم بأهل نينوى وبشعب إسرائيل المختار سوية وأن رحمته تتجاوز حدود فلسطين. (6) يدعو ديبيليوس هذا النمط من القصص أمثال "Paradigms"، لأنه يعتقد بأنها كانت تستخدم كأسلوب وكصور إيضاحية في التبشير. لا شك، أن ديبيليوس وبوتمان هما أكثر نقّاد الأشكال الأدبية شهرةً وأقدرهم على الإبداع، لكن طريقتهم لفهم تقليد الأناجيل السينابتية هي غير متشابهة. فبينما يستخدم ديبيليوس ما يسمى "بالنهج البناء" أي يسعى لإظهار كيف يكون التقليد من خلال "دراسة الجماعة وحاجاتها"، ينطلق بولتمان من "تحليل العناصر الجزئية في التقليد"، محاولاً الوصول إلى الحاجات التي كانت السبب في تكوينه، ونقله. هذان الأسلوبان لا يتعارضان، بل كما يقول بولتمان، "يكملان بعضهما البعض". ولكنها في أي حال يختلفان في الأحكام التي يتوصلان إليها بشأن حادثة تاريخية إنجيلية م وقول ليسوع. راجع: Rudolf Bultmann: The history of the Synoptic Tradition، New York، Harper & Row، 1963،p.5. (7) يجب أن نؤكد من جديد على أهمية معرفة الأشكال الأدبية. فلقد أصيبت جماعة من الناس بالذعر عندما سمعوا من الراديو أن رجالاً من المريخ قد غزوا العالم، إذ ظنوا أنهم يستمعون إلى نشرة أخبارية، لم يدركوا أنهم كانوا يستمعون إلى تمثيلية إذاعية. هكذا نبتت ردة فعلهم عن خطأ في معرفة الشكل الأدبي. راجع: Celestin Charlier: The Christian Approach to the Bible Westminster، Md.، Newman Press، 1961،p.130. (8)"يستخدم إنسان يشكو الربو الشكل الأدبي عينه المستعمل في الأناجيل في قصص العجائب ليصف شفاءه على يد الدكتور براون". راجع Alan Richardson: The Miracle-Stories of the Gospels، London، SCM Press، 1952، pp. 27-28. وكتب لوسيان سيرفو في هذا الموضوع ما يلي: "عندما يصف المراسلون الصحفيون حريقاً نشب في مكان م، يلجأون في وصفهم إلى عبارات متشابهة، فهل هذا يعني أن الحريق لم يحصل؟ نستميح عذراً لاستعمالنا حجة كهذه، لكن هذه هي المغالطة الرئيسية للمدرسة التي تسمى نفسها "منهج تاريخ الأشكال الأدبية" والتي تنزع، من حيث المبد، عن كل رواية أخذت شكلاَ أدبياَ كان مستخدماَ في السابق، أية حقيقة موضوعية". راجع: Lucien Cerfaux: the Four Gospels، Westminster MD،. Newman Press، 1960،pp.122-123. (9) يلاحظ لويس أن رفض العجائب الإنجيلية ليس ناتجاً عن المعرفة التاريخية، ولكن من "الافتراض الضمني بأن العجائب مستحيلة الحدوث، غير معقولة وغير لائقة". راجع: C.S Lewis: Miracles: A Preliminary Study، New Yorkm Macmillan Co.، 1967، pp. 197. (10) تجد هذه المسألة معالجة جيدة في بحث "غير هاردسون" للإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل. راجع: Birger Gerhardsson: Memory and Manuscript: Oral Tradition and Written Transmssion in Rabbinic Judaism and Early Christianity، Uppsala 1961، pp. 257 f. (11) كتب تيلور: "إذا كان نقاد الأشكال الأدبي على حق، لا بد أن يكون التلاميذ قد انتقلوا إلى السماء فوراً بعد القيامة كما يرى بولتمان، تكون الجماعة المسيحية الأولى كما في فراغ ومنعزلة عن مؤسسها بحائط من الجهل لا يمكن تفسيره. راجع: V. Taylor: The Formation of the Gospel Tradition، London، Macmillan، 1949،p.41. لكن يخبرنا العهد الجديد، أنه بعد القيامة وحلول الروح القدس كان بعض التلاميذ فعالين في إعداد الأسس لانتشار الكنيسة وكانوا مهتمين بإعلان الإنجيل ونشره. (12) بالنسبة إلى الباحث ماركس فإنه لا يوجد شيء اسمه "الأناجيل السينابتية" من حيث الشكل الأدبي لهذه الأناجيل. راجع: W. Marxsen: Mark the Evangelist: Studies of the Redaction History of the Gospel، New York، Abingdon Press، 1969، p.217. (13) راجع: S. Bulgakov: The Orthodox Church، London، Centenary Press، 1935، p. 28. (14) هذا الأمر ممكن نظري، لأنه كما يصرح جون ماكينزي، "إن مؤلفي الكتاب المقدس لا مفسروه حددوا معناه". لكننا مازلنا بعيدين كل البعد عن الوصول إلى هذه المرحلة من الموضوعية الكاملة، "ومن المشكوك فيه أن نصل إلى تلك الموضوعية الكاملة قبل المجيء الثاني" . راجع: J.L. Mckenzie: Problems of Hermeneutics in Roman Catholic Exegesis، Journal of Biblical Literature 77: 20، 1958، 199. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:08 AM | رقم المشاركة : ( 3 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل الثاني مسألة الأصالة مهمة نقد العهد الجديد إيصالنا إلى رؤية يسوع كما كان يراه معاصروه بيد أنه لا يستطيع أن يستنفد كل معنى الإنجيل. قد يقودنا النقد إلى يسوع ولكن "لا يقدر أحد أن يقول: يسوع رب إلا بإلهام من الروح القدس" (1كور12: 3). مهمة النقد الحقيقية هي فتح طرق جديدة لفهم سبل الله وأهدافه في التاريخ. الأناجيل ذاتها تشجع النقد، إذ كل حادثة في حياة يسوع مدونة في أكثر من إنجيل. وليس من الضروري أن يكون الإنسان ناقداً كتابياً حتى يلاحظ التشابه والاختلاف بين الإنجيليين في سرد الحادثة نفسها. عمل النقد هو تفسير تلك الاختلافات. وحتى في تدوين كلمات يسوع نستطيع أن نلاحظ اختلافاً في التدوين واختلافاً في التركيز وذلك لأن أعمال يسوع لا تقدم إلينا كوقائع مجردة، وكلماته لا تعرض من دون معناها. فالوقائع مصحوبة بتفاسير له والكلمات مرتبطة بمعانيها. الحدث وتفسيره الحدث يلاحظ ثم يسجل. والوقائع لا تنقل بدون تفسير كما أن الرسالة النابعة من الحدث تنقل مع رواية الحدث نفسه. في التقليد الإنجيلي يلاصق الحدث دوماً تفسيره ونتعلم الوقائع مع معناها. فمثلاً في خبر موت المسيح (مر15: 37-38) هناك تقرير بالفعل عما حدث بالإضافة إلى معنى هذا الحدث: "فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح، فأنشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل". عندما مات يسوع انشق حجاب الهيكل. الحدثان حصلا معاً. ولكن عندما نأخذ موت يسوع على أنه موت بالمعنى الحقيقي للكلمة. فلا ضرورة لأخذ حكاية انشقاق الهيكل إلى اثنين بحرفيتها. فلربما عنى الإنجيلي بالحجاب ذاك الذي كان يفصل في هيكل أورشليم بين القدس، حيث كانت تقدم الذبائح يومي، وبين قدس الأقداس الذي هو مكان حضور الله غير المنظور ويدخله رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة. بموت يسوع أزيل الحاجز الذي يفصل الإنسان عن الله والممثل بالحجاب، ونقض "جدار العداوة" (أفسس2: 14-15). وتحققت النبوءات، فتم العمل الخلاصي في اللحظة التي فيها "أسلم يسوع الروح". ولننظر الآن في الحادثة نفسها كما رواها متى: "فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل والأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين" (متى27: 50-53). وحده متى دون الآيات التي تلي انشقاق حجاب الهيكل. ولم يرد أن تؤخذ بحرفيتها ولو أخذت كذلك لأرعبتنا. فالوصف ليس وصف شاهد عيان ولكنها وضعت لتنقل إلينا معنى موت يسوع. وهكذا أضاف متى جوانب جديدة للمعنى الذي أعطانا إياه مرقس. أما صورة الأرض المزلزلة والصخور المشققة في التقليد فهي صور وصف بها يوم يهوه (1). وهكذا أراد الإنجيلي، والتقليد الإنجيلي الذي اعتمده متى في رسم صورته، أن يقولا بأن يوم الرب قد أتى وهو حاضر الآن وأن ما أعلنه الأنبياء عن يوم الدينونة ويوم الخلاص قد ابتدأ بموت الرب على الصليب. وأما صورة فتح القبور وقيامة قديسي العهد القديم فماذا عنها؟ هل يشير هنا الإنجيلي إلى قيامة لعازر معمِّماً إياها على عدد كبير من البشر؟ وهل يمكن أخذ هذا النص بمعناه الحرفي؟ لقد أضفى كثير من الآباء والشرّاح المعاصرين على هذا المقطع صفة لاهوتية وليس مدلولاً تاريخياً (2). لأنه بتفسيرنا هذا المقطع تفسيراً حرفياً نفقده كل معناه. إذن تفسير معاني موت يسوع هو جزء لا يتجزأ من سرد الحدث نفسه. وهذا يعني أنه لابد من الحكم على أي تفسير آخر لموت السيد بالعودة إلى التفسير المعطى في الكتاب المقدس. والتفسير الوارد في العهد الجديد هو المقياس لأي تفسير آخر لأن الإنجيليين وجدو، في التقليد الإنجيلي الذي استقوا منه مادة أناجيلهم، الوقائع مصحوبة دوماً بتفاسيره، وأن هذا التقليد يعود إلى يسوع نفسه وتفسيره هو لمعنى موته. كلام يسوع ومعناه وكما رأين، الأناجيل لا تعطينا وقائع مجردة عن حياة يسوع. فهل تنقل إلينا "كلماته الأصلية" دون أية شائبة؟ الناقد المؤمن بمبدأ العصمة الحرفية للكتاب المقدس، وكذلك الراديكالي، يملك كل منهما جواباً سهلاً. فالأول يجيب بالإيجاب المطلق وأما الثاني فيجيب بالنفي دون تحفظ. وسيؤكد المتطرف في نقد الأشكال الأدبية أن كلام يسوع لم يحفظ كما هو وأن ما دون في الأناجيل ما هو إلا كلام الجماعة المعبر عن إيمانها. لا بد من التسليم معه بأن أقوال يسوع لم ندون في الأناجيل بحرفيتها. مثال ذلك الروايات الأربع عن تأسيس سر الشكر. فهي لا تتناقض في الفحوى ولكننا نجد اختلافاً في العبارات أحياناً. لقد تأملت الكنيسة بكلام يسوع في اجتماعات سر الشكر، وكان الروح القدس هاديها إلى فهم معناه الحقيقي. لذلك نجد كلام يسوع في الأناجيل مرفقاً بمعناه. لقد علم يسوع تلاميذه ودربهم وأقام الاثني عشر "ليكونوا معه" (مر3: 13-15). ولعله كرر الأقوال نفسها مراراً خلال وجوده على الأرض ودعي تلاميذه إلى سماع كلامه (مر4: 3) أي إلى حفظ هذا الكلام والعمل به: "فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر" (متى7: 24) "طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 1: 28). فكلام الله ينقل بكلام البشر. وكذلك الصوت الذي أتى من السحاب عند التجلي دعا التلاميذ إلى أن يسمعوا: "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا" (مر 9: 7 وما يوازيها) (3). وعندما نقول بان التلاميذ "تذكروا" كلام يسوع فهذا يعني أنهم لم يرددوه مجرد ترداد بل فهموه حق الفهم مما ألهب قلوبهم. وهكذا فننقل المعنى الذي يحمله كلام يسوع والحقيقة التي يكشفها عن يسوع هو أهم من نقل الكلام حرفي وبدون تفسير. فكلمات يسوع وكلمات الكنيسة مندمجة تعطي المعنى المطلوب (4). ومع أن كلمات يسوع الأصلية لم تفقد، يلاقي العلماء، للأسباب المذكورة أعلاه، صعوبات جمة في اكتشاف الصيغة الأصلية لأقواله (5). لقد وحد يسوع نفسه وكنيسته. وحافظت هذه الكنيسة على أعماله وأقواله، كما نقلته ودونتها في الأناجيل. لذلك فالرواية الإنجيلية جديرة بالثقة وإن لم ترتكز على تدوين حرفي للوقائع. مع ذلك تبقى المشكلة قائمة في إيجاد مقاييس يعتمد عليها للوصول إلى تمييز واضح بين أقوال يسوع وبين صياغتها من الكنيسة، بين "الأصيل" و"غير الأصيل" من هذه الأقوال، وكذلك بين عناصرها "القديمة" والعناصر "الأقل قدما"، علما بان مفهوم الأصالة والقدم غالبا ما يقرره النقاد حسب أهوائهم. فما هي الأسس التي يمكن للنقاد اعتمادها لنعت بعض العناصر بغير الأصيلة وبأنها قد أدخلت في فترات زمنية لاحقة؟ احد الأجوبة عن هذا السؤال يكمن في دراسة الألفاظ المتحدرة من أصل يوناني. لذلك لا بد لن، الآن، من بحث موضوع استعمال اللغة اليونانية في فلسطين أيام يسوع. اللغة اليونانية في فلسطين ينزع عدد كبير ممن البحاثة إلى القبول بفكرة الفصل بين العناصر الهلينية والعناصر السامية في الأناجيل وفي التقليد الذي ترتكز عليه. إنهم يفترضون أن يسوع علم بالآرامية، وأن فلسطين كانت شبه منعزلة في القرن الأول عن التأثيرات اليونانية. وكثيراً ما يعتبرون التأثيرات الهلينية غريبة عن التقليد الإنجيلي الأصيل وليست ذات أهمية عظيمة، كونها "حديثة وغير أصلية". وأما نحن قلا يمكننا أن نأخذ بهذا الفصل لأن الشواهد الأدبية والاكتشافات الأثرية تثبت أن اليهودية القديمة لم تكن منعزلة تماماً عن العالم الهليني المحيط بها. فاللغة اليونانية كانت معروفة في كل فلسطين وكانت لغة التخاطب في بعض البيوت اليهودية. حتى أنه كان يوجد في أورشليم مجمع خاص باليهود اليونانيين (أعمال 6: 9) (6). وهؤلاء هم غير اليونانيين الوثنيين (الأممين) المذكورين في (يو12: 20). ويظهر أن يونانيين، صعدوا إلى أورشليم كسواح، رغبوا في رؤية يسوع فتقدموا من فيلبس، أحد الاثني عشر، وعبروا ه عن رغبتهم. فنقل فيلبس لاندراوس رغبة هؤلاء الوثنيين. إنه من الأهمية بمكان أن يحمل اثنان من رسل يسوع، فيلبس واندراوس، اسمين يونانيين وأن يكونا مكلفين بالاتصال باليونانيين. وهذا يعني إمكانية معرفتهما لليونانية والتحدث بها. وثمة تلميذ ثالث كان ملماً باليونانية ألا وهو متى جابي الضرائب الذي قد يكون أيضاً على شيء من معرفة اللاتينية (7). تدل الاكتشافات الأثرية على الانتشار الواسع لليونانية في فلسطين. وشواهد بعض القبور في اليهودية كانت تحمل لغات ثلاث: العبرية والآرامية واليونانية (8). وهناك كتابة باليونانية وجدت على مجمع في أورشليم يرجع عهدها إلى ما قبل خراب هيكل أورشليم (سنة 70 م). وقد يكون هذا المجمع هو نفسه المذكور في (أعمال6: 9) (9). على ضوء الشواهد نستطيع افتراض أمرين: الأول هو أن الكنيسة المسيحية الأولى في أورشليم كانت تضم بين أعضائها أناساً يجيدون اليونانية، والثاني أن التقليد التعلق بيسوع وأقواله قد انتشر باللغتين الآرامية واليونانية، وأن اللغة اليونانية قد استعملت في الحقل التبشيري قبل اهتداء بولس. يتضح إذن أن التقليد الإنجيلي لم يسكب منذ البدء في قوالب سامية "دون شائبة"، وبالتالي لم يفقد أصالته عندما نقل إلى اليونانية. ومن المرجح أن يكون هذا التقليد قد عبر (بضم العين) عنه باللغتين منذ البدء. إن لهذا الأمر نتائج مهمة في مسألة أصالة التقليد الإنجيلي وتاريخيته (10). ولهذا فمن الصعوبة بمكان أن نرفض أصالة كلام لمجرد كونه ذا صفة هلينية. مقياس عدم التشابه هذا المقياس يستخدمه، بشكل خاص، نقاد الأشكال الأدبية للحكم على أصالة الأقوال الإنجيلية وللوصول إلى المادة "الأصلية" الجديرة بالاعتماد. ولا يكفي، برأي أتباع بولتمان، الوصول إلى أقدم شكل لكلام يسوع لتأكيد أصالته. إذ لا يعتبر القول أصيلاً إلا إذا ظهر أنه غير متشابه لأقوال الربابنة الأقدمين وللأقوال المنسوبة إلى الجماعة المسيحية الأولى. يقول أحدهم: "لا نستطيع أن نعتبر أقدم شكل لقول ما أصيلاً إلا إذا برهن على أنه غير متشابه لنقاط التشديد التي تميزت بها اليهودية القديمة والكنيسة الأولى" (11). بهذا المقياس يحاول النقاد اكتشاف شيء يمكن نسبه إلى يسوع. وهم يبحثون عن يقين مطلق وحكم واضح. وها نحن تجاه محاولة ولدت في الشك لتنتصر على الشك ذاته. يمكن استعمال مقياس عدم التشابه كنقطة انطلاق شرط الإقرار بمحدوديته عند التطبيق. وإذا طبق هذا المقياس بدون تمييز فالقليل من أقول يسوع يعتبر أصيلاً. قلا يعقل ألا يكون تشابه بين إيمان الكنيسة وتعاليم يسوع. يفترض الآخذون بهذا المقياس عدم وجود علاقة بين يسوع وبين المسيح والكنيسة لأنهم يعتقدون بأن أقوال يسوع يجب أن تكون مختلفة كل الاختلاف عن الصيغ الكنسية. وإذا اعتبرنا أن أقوال يسوع التي "تختلف عن طابع إيمان الكنيسة" هي وحدها أصيلة نقع في خطر اعتبار أمر أساسي وكأنه ثانوي، وذلك فقط لكون يسوه والكنيسة يشتركان في إعلانه. هذا المقياس يعكس محدودية نظرة هؤلاء النقاد إلى عبقرية يسوع (12)، وموقفهم المشكك تجاه نوعية المادة الإنجيلية والذين شهدوا لها. لا نقدر أن نكتفي بمقياس واحد للأصالة، خاصة إذا طبق على نص الإنجيل وهو متعارض منظوريته. المنهج نفسه ليس مخطئ وإنما موقف العلماء وافتراضاتهم. كتب كبير أساتذة المعهد الجديد المعاصرين اوسكار كولمان ما نصه: "نكون قد حققنا كسباً كبيراً إذا ما بذلنا جهداً رصيناً في الابتعاد عن الأحكام الذاتية... يجب أن نحرر أنفسنا من عادة قياس الحس النقدي عند مفسري العهد الجديد بعدد الأحكام التي يصدرونها ضد أصالة نصوص كتابية" (13). ويقترح كولمان بعض المقاييس التي تسمح بتحديد ومعرفة الأقوال المدونة المنسوبة إلى "فعل الجماعة" وليس إلى يسوع: أن يكون هذا القول متناقضاً مع أقوال أخرى تثبت نسبتها ليسوع. أن يدل هذا القول على وضع يستحيل حصوله في زمن يسوع. أن يكون هذا القول استناداً إلى نقد الأشكال الأدبية والمقارنة بين الأناجيل السينابتية قد قيل في زمن لاحق ليسوع. وينبهنا كولمان إلى عدم كفاية هذه المقاييس وإلى أنها لا تقدم ضمانات أكيدة للتمييز بين أقوال يسوع الأصيلة وبين أقوال الكنيسة. فليس من مقياس يسلم من تأثير الأحكام الشخصية (14). لا تعتمد أعمال النقاد الراديكاليين والنتائج التي يتوصلون إليها على رغبتهم في اكتشاف ما يريدون بل على المنظورية التي يستخدمونها في التطلع إلى الأحداث الماضية، وإلى الفرضيات المعبر عنها وغير المعبر عنه، والمبادئ المتبعة في التفسير. فهم لا يجدون، مثل، صعوبة في تأكيد صحة إسناد الأقوال التالية ليسوع: "قال له يسوع (للرجل الغني) لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله" (مر10: 18). "ولكن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفها أحد ولا الملائكة في السماء ولا الابن بل الآب فقط" (مر13: 32). "وصرخ يسوع بصوت عظيم: الوي الوي لما شبقتني؟ الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني" (مر15: 34). هذه الأقوال ليست من وضع الكنيسة لأن الكنيسة، حسب زعمهم، لا يمكن أن تكون قد ابتدعتها في صلواتها (15). ويظن هؤلاء النقاد أيضاً بأن بعض أقوال يسوع الأخرى قد تكون غير أصيلة، معتمدين على فرضيتهم أن يسوع التاريخي لم يكن يستطيع التلفظ به، ضاربين عرض الحائط بالنقد الأدبي والتاريخي. ومعظم هذه الأقوال ما يشير إلى تساوي يسوع مع الله. وهم يعتقدون بأن كلام "يسوع التاريخي" وحده أصيل وجدير بالاحترام. ويفترضون تطوراً تاريخياً في التقليد الإنجيلي من "الأدنى" إلى "الأعلى"، أي من صورة يسوع البشرية البسيطة إلى صورته السماوية الإلهية. ويعتبرون أن كل ما هو إنساني قديم وأصيل وأما ما هو إلهي فمستجد وغير أصيل. لذلك ينظرون إلى كلام السيد الناهض من القبر على أنه غير أصيل، إذن هو غير تاريخي. وبالتالي فسلطة المسيح الناهض أقل من "يسوع التاريخي". يبدأ الباحث في مشكلة الأصالة عمله على أساس فرضيات مسبقة. وهذا لا يعني أنه يرى نتائج بحثه مسبقاً لكنه يسير في بحثه معتمداً بعض المبادئ. وعلم الكتاب المقدس كسائر العلوم يعتمد بعض الفرضيات المسبقة (16). ومن المعلوم أنه، في حقل البحث التاريخي، لا يمكن الوصول إلى الموضوعية المطلقة مع وجوب السعي إليها دوماً. يقول الأب جورج فلورفسكي: "على المرء أن يفحص فرضياته وآراءه المسبقة بحزم ودقة، دون أن يجرد عقله من كل الفرضيات. فمحاولة كهذه ستكون بمثابة انتحار للعقل وتعطيل لإمكانياته الفكرية" (17). وأخطر أنواع الفرضيات الظن بأن العقل خال منها. عندما لا نوافق على فرضيات بعض المفسرين فهذا لا يعني أن ليس عندنا فرضيات أخرى. كل ما في الأمر أننا نتبع أسساً تفسيرية مختلفة عما يتبعون، وهذه الأسس يجب أن نبينها بكل وضوح. المفسر المسيحي حر في بحثه لكن ضمن إطار معين هو التقليد الكنسي برمته من كتابي وليتورجي وعقائدي. الكتاب المقدس ليس حقلاً علمياً قائماً بذاته لأن معناه معلن في حياة الكنيسة. ولذلك يجب، في رأين، أن يتبع كل مفسر للعهد الجديد المبادئ والفرضيات التالية: - الكتاب المقدس معطى ويجب أن يفهم ضمن إطار التقليد الكنسي. - هناك وحدة بين العهد القديم والعهد الجديد، إنها الوحدة بين عهود الله وتحقيقها. - يسوع هو مؤسس الكنيسة التي هي جسده. - يسوه التاريخي هو نفسه الرب الناهض من بين الأموات. الآن سندرس كل من هذه المبادئ بإيجاز الكتاب المقدس والتقليد إن كمال الإيمان معطى في الكتاب المقدس. لذلك لم يتردد آباء الكنيسة في التكلم عن "كفاية الكتاب المقدس". فبالنسبة للقديس أثناثيوس، الكتاب المقدس "كاف لإعلان الحقيقة". وبعد تعداده لأسفار العهد الجديد ال 27 في رسالته ال 39 سنة 376، يؤكد القديس على أن هذه الأسفار "هي ينابيع الخلاص فليقبل إليها كل ظمآن ليرتوي بكلامها. إن فيها وحدها أعلنت عقيدة التقوى، فلا يزدن عليها شيئ ولا ينقصن منها شيئاً" (18). لكن الآباء لم يعتبروا أن الكتاب المقدس يفسر نفسه بنفسه لأن نظرتهم على الكتاب لم تكن تنفي بل بالعكس تؤكد الارتباط العضوي بين الكتاب المقدس وبين الكنيسة وتقليدها. فالكتاب انبثق من التقليد. والكتاب والتقليد كلاهما ملك الكنيسة. ليس عهد جديد بدون الكنيسة ولا كنيسة بدون وحي الإنجيل وإعلانه. وما التقليد الشريف سوى تطبيق للكتاب المقدس في حياة الكنيسة. وما يميز شهادة الكتاب المقدس من كل الشهادات اللاحقة هو أنه فيه دون (بضم الدال) الإعلان الإلهي، وهو المقياس الذي بموجبه تحكم الكنيسة على كل التعابير اللاحقة للحقيقة الإلهية. يحيا الكتاب المقدس في التقليد وفيه يظهر معناه لأنه منه أتى (19). لذلك لا يمكن للواحد أن يناقض الآخر ويخضع له كما أنه لا يستطاع عزل الكتاب عن حياة الكنيسة (20). فقد تعرضت الكنيسة دوماً في تاريخها لتجربة اعتبار الكتاب المقدس وكأنه "قائم بذاته"، وبالتالي النظر إلى النمو العقائدي والليتورجي كعلامات ابتعاد عن "صفاء الإنجيل ونقاوته"، في حين يأتي هذا النمو من بذوره الإنجيل ذاته. الوحدة بين العهد القديم والعهد الجديد أعلن مؤتمر الدراسات المسكونية الذي عقد العام 1949 في اكسفورد (انكلترا) "إن وحدة العهدين القديم والجديد ليست قائمة على تطور طبيعي ولا على تماثل تعوزه الحياة والحركة إنما على فعالية عمل الله الخلاصي في تاريخ شعب واحد بلغ كماله في المسيح. لذا فمن المهم جداً أن نفسر العهد القديم على ضوء الإعلان الكامل في شخص يسوع المسيح كلمة الله المتجسد الذي منه انبثق كل إيمان الكنيسة بالثالوث" (21). يسوع لم ينقض العهد القديم ولم يبطله بل حققه. وهكذا فالعهد الجديد ليس ملحق وفصلاً تفسيرياً للعهد القديم، إنما تتمته وتحقيق لوعده ومفتاح لمعناه. بعد تحقيق الانتظار المسياني أصبح بالإمكان فهم العهد القديم في ضوء المسيح. كثيراً ما يعود الإنجيليين إلى نصوص العهد القديم لوصف حدث م ولتفسيره. والمسيحيون الأولون كذلك كانوا ينطلقون من يسوع إلى العهد القديم مختارين مقاطع العهد القديم الواجب استخدامها على ضوء تاريخ حياة يسوع. فيسوع كان المرجع بالنسبة إليهم والكتاب المقدس شاهد لهذه الأولية. لقد نظروا إلى العهد القديم على ضوء المسيح الذي حققه، وهذه هي النظرة الوحيدة التي كان بإمكان الكنيسة اتخاذها. يسوع والكنيسة تؤكد الأناجيل أن يسوع هو مؤسس الكنيسة. وما القصد من اختيار الرسل إلا الشهادة على أن يسوع أراد الكنيسة أن تتابع عمله. وقد وعدهم بعد القيامة بأنه سيكون مع خاصته "إلى انقضاء الدهر" (متى28: 20). الكنيسة هي جسد المسيح، فيها يحي وعليها يسود (22). وهو الذي أودع كلماته وأعماله في الكنيسة التي أسس، وليس في جماعة مجهولة اختلقت خرافات وأساطير عنه. "يسوع التاريخ" و"مسيح الإيمان" كما أننا لا نستطيع الفصل بين الكتاب المقدس والتقليد ولا الفصل بين يسوع وكنيسته، كذلك لا يمكن الفصل بين "يسوع" و"المسيح". فإذا لم يكن مسيح الكرازة يسوع الناصري نفسه فلا بد أنه شخص أسطوري. وفي هذه الحال تكون البشارة الإنجيلية غير متجذرة في حدث تاريخي، بل ناتجة عن تقرير خاطئ وخيالي. لقد بشر الرسل بالمسيح الناهض من بين الأموات دون أن يهملوا تاريخ حياة يسوع. ولهذا كان موضوع بشارتهم لليهود وللأمم هو الرب القائم ويسوع التاريخي في آن واحد. ولما أعلنوا لليهودية قيامة يسوع ركزوا على "يسوع هذا": "يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون، هذا أخذتموه مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه ... يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعا شهود لذلك" (أعمال2: 22-23، 32). "يسوع هذا" كان أيضاً نقطة التركيز في البشارة إلى الأمم: "و نحن شهود بكل ما فعل في كورة اليهودية وفي أورشليم. الذي أيضاً قتلوه معلقين إياه على خشبة. هذا أقامه الله في اليوم الثالث وأعطى أن يكون ظاهراً" (أعمال 10: 38-40). لا يوجد عند هؤلاء الشهود العيان للقيامة أي فصل بين يسوع الذي دعاهم عندما كان ماراً على شاطئ بحر الجليل وبين الرب الذي عاينوه بعد القيامة وسجدوا له. ذلك يؤكدون أن العلاقة بين يسوع التاريخي والمسيح الناهض من بين الأموات ليست نتيجة تطور تاريخي، بل يسوع هو بالحقيقة المسيح. بالرغم من أن لقب "الرب" Kyrios أطلق على يسوع بعد القيامة، ينسب إليه لوقا الإنجيلي هذا اللقب حتى قبل الصلب والقيامة (لو 7: 13، 10: 39-41). في عمله هذ، لم يسع لوقا إلى تزوير التاريخ، لكنه ارتكب الأخطاء نفسها التي يرتكبها المؤرخون عندما يتحدثون عن أحداث ماضية على ضوء التجربة الحاضرة . فامتد نور القيامة إلى كل أحداث حياة يسوع السابقة. عندما أعطى الإنجيلي لوقا لقب (الرب) ليسوع قبل موته وقيامته، عبر بذلك عن إيمانه وإيمان الكنيسة بأن المسيح الناهض من القبر هو بالفعل يسوع الناصري. هذه المبادئ الموجهة تعطي للمفسر المسيحي منظوريته بل وجهة نظر في دراسة للإنجيل، مما يؤهله بعد ذلك إلى طرح الأسئلة التالية: ما هو الإنجيل وما الحاجة التي دعت إلى كتابته؟ ما هي القيمة التاريخية للأناجيل، وما يمكننا أن نتعلمه منها عن يسوع وتعاليمه؟ وما نوع الشهادة التي تحملها عن يسوع؟ والأهم من كل ذلك، من هو يسوع؟ في معالجتنا لهذه المواضيع سنأخذ في حسابنا آراء بعض النقاد الكبار المعاصرين. ----------------- حواشي الفصل الثاني (1) راجع: Pierre Benoit: The Passion and Resurrection of Jesus Christ، New York، Herder and Herder، 1969، p.199 ff. يوم يهوه موصوف في صفنيا 1: 15 ويؤئيل 2: 10، 3: 3-4، وعاموص8: 9-10، 9: 2. (2) "من الصعب أن نتصور إبراهيم خارجاً من القبر ومتجولاً في أورشليم لمدة يومين وثلاثة، وعائداً بعد ذلك إلى الموت " (المرجع نفسه ص203 و204). يلخص بونوا آراء المفسرين القدامى والمعاصرين قائلاً أنه مع قيامة يسوع انفتحت طريق السماوات، وأن "المدينة المقدسة" التي ظهر فيها القديسون يعني غالباً أورشليم السماوية. في عبرانيين 11: 10، 12: 22-12 و13: 14 وفي رؤيا 3: 12، 12: 2-10 و22: 9 نرى أن المدينة المقدسة هي أورشليم السماوية. (3) نجد في الأناجيل السينابتية الثلاثة أن كلمة "اسمعوا" في صيغة الأمر الحاضر (Akouete) تدل على الاستمرارية أي "اسمعوا إلي (بتشديد الياء)". راجع: Ceslaus Spicq: Agape in the New Testament، St. Louis، B. Herder Book Co. 1963، I، p.44. (4) يقارن "غير هاردسون" في كتابه Memory and Manuscript بين انتقال كلام يسوع في الكنيسة الأولى وبين انتقال التعليم الشفهي للربانية الكبار، رابطاً بين ثلاثة عناصر في العهد الجديد (العهد القديم، كلمات يسوع وأعماله، واستخدام الكنيسة لها) وثلاثة عناصر من اليهودية (الكتاب المقدس، الميشن، والجمارا Gemara). الميشنا هي مجموعة القوانين الشفهية القديمة التي حفظها تلامذة المعلمين الكبار بواسطة الترديد. أما الجمارا فهي شرح الميشنا وتفسيرها. وقد ناقش ديفيس وانتقد ببراعة فكرة "غيرهاردسون" هذه. راجع: W.D.Davies: Reflection on a Scandinavian Approach to "Gospel Tradition" Appendix XV pf his Setting of the sermon on the Mount، Cambridge، Cambridge University Press، 1964، pp. 464-480. يقول ديفيس أنه في حين يسهل التمييز وتحديد ثلاثة اتجاهات في اليهودية فالوضع يختلف بالنسبة للتقليد المسيحي، لأن " الاتجاهات الثلاثة في المسيحية مندمجة مع بعضها البعض، كونه نقطة الانطلاق والثقل في الكنيسة هي يسوع المسيح الذي جمع في شخصه الكتاب والميشن والجمارا" (ص479). إن التقليد في اليهودية يوصلنا إلى الميشنا. أما التقليد في المسيحية فيقودنا إلى شيء مختلف تماماً أن من حيث الشكل الأدبي والمحتوى! إنه يقود إلى الإنجيل. إنه لا يمكن فصل يسوع والكنيسة، لأن يسوع وحد نفسه بها. فكلام يسوع الأصلي وتفسير الكنيسة له هما الشيء ذاته بالنسبة للإنجيليين (ص478). (5) يختلف، مثل، متى ولوقا في التعبير عن التطويبة الأولى في الموعظة على الجبل. فهل قال يسوع "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات" (متى5: 3) أم قال "طوبى أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله (لوقا6: 20)؟ متى يستعمل صيغة الغائب أما لوقا فيستعمل صيغة المخاطب. فأية صيغة استخدم يسوع؟ إذا عدنا إلى مقاطع أخرى من الكتاب المقدس سنجد أن صيغة الغائب هي أكثر شيوعاً في العهد القديم. يوجد فارق آخر بين هذين المقطعين في استعمال كلمة "بالروح" عند متى. حاول البعض القول أن متى يشدد على الكمال الأخلاقي بينما يعني القديس لوقا الفقر بمعناه العادي أي "الأوضاع المادية في هذه الحياة التي ستتغير في العالم الآخر". قيل أيضاً إن الشكل الأصلي للقول لا يضم كلمة "بالروح"، فإذا كان الأمر كذلك يهمنا معرفة من أدخل هذه الكلمة على النص الأصلي محوراً بذلك معنى التطويبة؟ أهو متى الإنجيلي أم الكنيسة؟ لعل الجواب يوجد في معنى الكلمة العبرية "انويم" التي تشير إلى المساكين والفقراء مادياً ولكنها تحمل أيضاً معنى ثانياً كثر استعماله في المزامير وسفر أشعياء أل وهو الأتقياء والمؤمنون من شعب الله والذين يريدون قبل كل شيء أن يعيشوا على علاقة مع الله. الأرجح أن متى الإنجيلي استخدم كلمة "المساكين بالروح" بهذا المعنى الأخير. ولذلك فمن المحتمل أن يكون الشكل الأصلي للتطويبة الأولى هو "طوبى للمساكين". إن المعنيين لا يتعارضان بل يمكن دعم كل منهما بالاستناد إلى أقوال أخرى تلفظ بها يسوع في مناسبات أخرى. لو كنا نملك تدويناً حرفياً لأقوال يسوع بدون تفسير وشرح كما هي الحال في الإنجيل، لما كنا وصلنا إلى فهم أفضل لشخص يسوع وتعاليمه حيث أن الإنجيليين لم ينقلوا إلينا فقط ما قاله يسوع وفعله، بل أعطونا ما هو أفضل أي قصد يسوع بالفعل. راجع: Barnabas M. Ahern: New Horizons: Studies in Biblical Theology، Notre Dame، Ind.، Fides Publishers، 1966، p. 72. (6) "اليهود اليونانيون" هم على الأرجح اليهود المسيحيون الذين عاش أجدادهم في الشتات حيث تعلمو وتكلموا اللغو اليونانية، ومن ثم، عاد بعضهم إلى أورشليم وأقاموا فيه وحافظوا على اللغة اليونانية كونها لغة أجدادهم. يقول كولمان إن الفعل اليوناني Hellenizein الذي يشتق منه الاسم Hellenistai يعني "العيش وفق الطريقة اليونانية". راجع: O. Cullmann: The Significance of the Qumran Texts for Research into tne Beginning of Christianity، Journal of Biblical Literature 74: 4، Dec،1955، 200. لكن "سيفنستر" يبرهن على نحو مقنع، أن المعنى الأصلي لهذا الفعل هو "التكلم باللغة اليونانية" دون أن يستثني معناه الثاني أل وهو "العيش وفق الطريقة اليونانية". إذن فالهلينيون Hellenistai لا يمثلون طريقة خاصة في الحياة والفلسفة، إنما هم الذين يجيدون اللغة اليونانية. ويضيف سيفنستر أنه من الممكن أن يتكلم الهلينيون "اليونانية فقط، وقلما يفهمون لغة أخرى" وأنه من الجائز أن يكون العبرانيين أي اليهود المتكلمين الآرامية قد تكلموا اليونانية أكثر مما تكلم الهلينيون الآرامية" . راجع: J.N. Sevenster: Do you know Greek? How much Greek Could the First Jewish Christians Have Know? Leiden، E.J. Brill، 1968، p. 37. (7) هذا هو منظار ديفيد ستانلي في: David M. Stanley: The Gospel of St. Matthew، 2nd، ed.، rev. and enlarged، Collegeville، Minn،. The Liturgical Press، 1963، p. 6. وفقاً لرأي بونسيرفين J. Bonsirven هناك أكثر من 1100 كلمة يونانية مستعملة في التلمود، وأن السبعينية كانت معروفة في فلسطين نفسه، وقد وجدت مقاطع منها في مكتبة قمران وكان الربابنة يزعمون أنه لا يمكن ترجمة التوراة ترجمة إلا إلى اليونانية. راجع: W.D. Davies: Paul and Rabbinic Judaism، New York، Harper Torchbooks، 1965، pp. 5ff. قبل هدم الهيكل كان بالإمكان تلاوة الصلاة اليهودية باليونانية. ولكن بعد السنة 70 م ومع انتشار الدعوة المسيحية منعت السلطات اليهودية تعليم اللغة اليونانية. (راجع المصدر نفسه ص 6). راجع أيضاً: J.N. Sevenster، op. cit.، p. 178f. يعطي هذا التحريم دلالة على مدى انتشار اللغة اليونانية بين اليهود في فلسطين. (8) راجع: Robert H. Gundry: The Language Milieu of First-Century Palestine: Its Bearing on the Authenticity of the Gospel Tradition، Journal of Biblical Literature 83: 4، Dec. 1964، pp. 404-408. J.N. Sevenster، op. cit.، pp. 96 ff. (9) هنالك بعض المعلومات المهمة قد يمكن اقتباسها من هذا الاكتشاف: فاسم رئيس المجمع قد ذكر على أنه ثيودوتوس وهذا اسم يوناني. وكان لأبيه وجده علاقة بالمجمع نفسه وكانا يشغلان المنصب ذاته. إن هذا المجمع بني لأجل دراسة الناموس والوصايا. لذلك فمن المحتمل أن تكون اللغة اليونانية هي التي كانت تستعمل لقراءة الناموس وتعليم الوصايا. من أجل المزيد عن هذه المخطوطة ودراستها راجع: J.N. Sevenster، op. cit.، pp. 96 ff. (10) في حين يزيد استعمال اللغة الآرامية في حدث ما من احتمال تاريخيته، فإن عدم وجودها لا يقلل من أصالة هذا الحدث، لأنه من المحتمل "أن يكون العديد من أقوال يسوع الموجودة في النص اليوناني الحالي للأناجيل أقرب بكثير من كلامه الأصلي مما كان يظن سابقاً". راجع: R.H. Gundry: op. cit.، pp. 404، 408. (11) راجع: Norman Perrin: Rediscovering the Teaching of Jesus، London SCM Press، 1967، pp.39. (12) من الممكن العثور على أقوال مشابهة لأقوال يسوع في الأدب الرباني. قال الربابنة مثلاً: "السبت جعل لكم وجعلتم أنتم للسبت"، بينما قال يسوع: "السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت. إذن ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً". (مرقس2: 27-28). مع ذلك يختلف يسوع عن الربابنة، لأنه وضع تعليمه بشأن السبت في حيز التنفيذ. أضف إلى ذلك الحرية التي كان يتعامل بها مع الناموس: "سمعتم أنه قيل ... أما أنا فأقول لكم". يقول شناكنبورغ بهذا الصدد أن كلام يسوع هذا يختلف عن أية صيغة كان يستعملها الربابنة لأنه جابه بقوة كل التقليد الذي كان يعلم للأجيال السابقة ... بفهم جديد وصارم لإرادة الله وبتعليم جديد ذي سلطة. راجع: R. Schanckenburg: The Moral Teaching of the New Testament، New-York، Herder and Herder، 1965، pp. 64-65. لقد تكلم يسوع وعمل "كمن له سلطان وليس كالكتبة". لابد من وجود مقاطع مشابهة ومتطابقة بين أقوال يسوع والأدب الرباني. لكن كما يقول جيرمياس، أحد كبار البحاثة في حقل الأدب الرباني، "كلما ازداد عدد هذه التشابهات كلما اتضح أنه لا يوجد أي تشابه مع مضمون رسالة يسوع، ولا يوجد أي تعليم يوازي تعليمه القائل بأن الله مهتم بالخطأة وليس بالأبرار وحسب، وأنه يهبهم في الحياة الحاضرة نصيباً من ملكوته". راجع: J. Jeremias: The Problem of the Historical Jesus، Philadelphia، Fortress Press، 1964، pp. 20-21. كتب مونتيفيوري بهذا الصدد أن عظمة يسوع وفرادته "فتحا فصلاً جديداً من موقف الناس من الخطيئة والخاطئين". راجع: C.G. Montefiore: The Synoptic Gospels، New-York، ktav Publishing House، 1967، I، p.55. كان الفريسيون ينتظرون مجيء ماسيا الذي "سوف ينقذ الخطأة بقوة كلمته" (مز: 17: 36). هؤلاء المنبوذون والمعتبرون "معاقبين من الله كانوا مدعوين أن يبشرهم يسوع ويقترب منهم ويشفي مرضاهم. "يرتبط سر فرادة يسوع وقوته ارتباطاً قوياً بمن هو وبما حققه من أجل أتباعه". راجع: Bruce M. Metzger: The New Testament، Its Background، Growth and Content، New York، Abingdon Press، 1965، p.166. (13) راجع: O. Cullmann: Salvation in History، New York، Harper and Row، 1967، p. 192. (14) راجع المرجع نفسه ص 192-193. (15) يؤكد هنتر أنه، في حال تطبيق هذه القاعدة على الإنجيل الرابع، نستطيع اكتشاف عدد أكبر من أقوال يسوع التي لا يمكن "اختراعها". يعبر قوله: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يوحنا5: 17) عن موقف يسوع الجريء تجاه الكتاب المقدس (تكوين2: 3)، ولا يمكن البتة أن يكون هذا القول من خلق الكنيسة الأولى. راجع: A.M. Hunter: According to John: A New Look at the Fourth Gospel، Philadelphia، Westminster Press، 1968، pp.93-94. (16) يعتقد البعض بأن الفرق بين الدين المسيحي والعلم له علاقة بهذه المشكلة. يعتبرون أن المسيحية مشحنة بالفرضيات بينما العلم لا يقبلها اطلاقاً. ولذا يقولون بأن العلم أسمى من أي نوع من الديانات. بالطبع لا يستطيع أي عالم أن يوافق على أن العلم ينبذ كل الفرضيات، لأن "العلم بدون فرضيات" يصبح "وصفاً سطحياً لنظامنا". راجع: Theodore Mommsen، quoted by C.A. Coulson in Science and Christian Belief، New-York، Oxford University Press، 1955، p. 54. (17) راجع: The Predicament of the Christian Historian in W. Leibrecht، ed.، Religion and Culture: Essays in Honor of Paul Tillich، New York، Harper and Bros.، 1959، pp. 148-149. (18) راجع: Contra Gentes، 1، 1.. ومن أجل الرجوع إلى نص رسالة اثناثيوس التاسعة والثلاثين انظر: Edgar Henneche، ed.، New Testament Apocrypha، Philadelphia، Westminster Press، 1963، I، pp. 59-60. (19) راجع: Georges Flocovsky: Scripture and Tradition: An Orthodox point of View، Dialog: A Journal of Theology 2، Autumn 1963، pp. 298 ff. يعتبر فلاديمير لوسكي أن التقليد "بشكله الأصلي هو حياة الروح القدس في الكنيسة"، إنه حقيقة المسيح المعلنة بالروح القدس. راجع: V. Lossky: Tradition and Traditions in L. Ouspensky and V. Lossky: The meaning of Icons، Boston، Boston Book and Art Shop، 1952، pp.17 ff. (20) راجع مقالي حول علاقة الكتاب المقدس والتقليد والخلافات التي تثار بصددها بين الأرثوذكس والبروتستانت. وحول المل الذي لا يزال موجوداً "لإخضاع التقليد للكتاب" حتى عند البروتستانت الذين اقتنعوا بوجهة النظر الكاثوليكية. "Criticism، the Gospel and the Church"، St.Vladimir´s Seminary Quarterly 10: 3 (1966)، pp. 156-157. (21) راجع: A. Richardson and W. Schweitzer، eds: biblical Authority for today، London، SCK Press، 1951، pp. 240-243. (22) المسيح هو رأس الجسد (كولوسي1: 18 وأفسس 4: 15) وكرأس للكنيسة يخلصها (أفسس5: 27). وللكنيسة كجسد المسيح "هي بالنسبة إليه في علاقة مشابهة لعلاقة البناء بالأساس والساق بالجذر والكائن الحي بالحياة التي تحركه. الكنيسة تمد المسيح وتعبر عنه ... بدونها يكون المسيح كرأس بلا جسد ... بالطبع لا يضيف هذا الكمال شيئاً جديداً على المسيح لأن الجسد يستمد نموه كلياً منه". راجع: Emile Mersh: The Whole Christ. The Historical Development of the Doctrine of the Mystical Body in Scripture and Tradition، Milwaukee، Bruce Publishing House، 1936، p. 121. يلخص هذا الكتاب تعليم الرسول بولس حول علاقة المسيح بالكنيسة. الرأس يعلو الجسد، لكنه لا ينفصم عنه أبداً. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:09 AM | رقم المشاركة : ( 4 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل الثالث الإنجيل والأناجيل عندما نستعمل كلمة "إنجيل" تتبادر إلى ذهننا فكرة كتاب منسوب إلى أحد الإنجيليين. وقراءة الإنجيل في الكنيسة أثناء الخدمة تعني قراءة من أحد الكتب الأربعة المدعوة بالأناجيل. بيد أن هناك معنى آخر، وهو أن الفصل الذي يتلى يحمل الإنجيل، أي البشارة ورسالة الخلاص للذين يصغون إليها. إذن، كلمة إنجيل تدل على معنيين: النص المدون والبشارة التي حملها يسوع إلى كل العالم. تاريخ كلمة "إنجيل" لقد حافظت الكنيسة على هذين المعنيين واستعملتهما منذ القرن الثاني الميلادي. أما في القرن الأول، وبالتحديد في الفترة التي كتبت فيها الأناجيل، فكلمة إنجيل لم تستعمل للدلالة على كتاب. ولا يوجد مثل واحد على ذلك الاستعمال في العهد الجديد كله. وسواء استعملت الكلمة بصيغة "الإنجيل" وبصيغ أخرى مثل: "إنجيل الرب" و"إنجيل المسيح"، فإنها كانت تدل دائماً على البشارة التي أعلنها يسوع وأتى بها إلى العالم، والتي حققها في حياته وموته وقيامته. هذا المعنى الأخير لكلمة إنجيل يوازي معنى (Kerygma) أي الكرازة الرسولية عن يسوع (1). هناك صيغة أخرى لهذه الكلمة ألفْناها بالرغم من عدم وجود أي شاهد عليها في العهد الجديد. هذه الصيغة هي صيغة الجمع أي "الأناجيل". ولكن كتّاب العهد الجديد لم يستخدموا أبداً هذه الصيغة لأنهم لم يستعملوا إطلاقاً كلمة إنجيل للدلالة على كتاب. بولس الرسول كتب إلى الأعضاء الجدد في كنائس غلاطية موصياً بألا ينصرفوا عن الإنجيل الذي أعلنه لهم إلى "إنجيل" آخر لأنه لا يوجد "إنجيل آخر". ويتابع قائلاً: "إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن مبسلاً". ويؤكد مؤلف الرسالة إلى أهل غلاطية أنه لا يكرز بالإنجيل الذي "على سنة البشر"، لكن بالإنجيل الذي "قبله بإعلان يسوع المسيح" (غلا1: 6-9). أول دليل على استخدام كلمة إنجيل في صيغة الجمع يوجد في كتابات القديس يوستينوس في أواسط القرن الثاني. ويستعملها للدلالة على الكتب الأربعة التي دونت فيها أقول يسوع وأعماله (2). بالرغم من أن كلمة "إنجيل" لم تستعمل في العهد الحديد بمعنى "الكتاب"، فقد استعملها القديس مرقس في مطلع إنجيله قائلاً: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (مر1: 1). لكنه لا يقصد بداية كتاب إنما ابتداء "بشارة الخلاص" التي انطلقت بكرازة يوحنا المعمدان في البرية ودعوته إلى التوبة. ما هو أصل كلمة "إنجيل"؟ هذه الكلمة كغيرها من العبارات الكثيرة الواردة في العهد الجديد، كانت متداولة في العالم الروماني وكانت تشير إلى ميلاد الملك Euaggelion، ولم تبتكرها الكنيسة الأولى. يوجد نقش مهم يعود إلى السنة التاسعة قبل الميلاد يحمل العبارات التالية: {لقد حمل ميلاد "الملك" الإله العالم بشائر الفرح (Euaggelia) الملازمة دائماً له". كذلك كانت تستعمل الكلمة ذاتها للإشارة إلى قصة حياة الملك (3). وكانت ترد هذه الكلمة في العالم الروماني بصيغتي المفرد والجمع بخلاف العهد الجديد حيث لم ترد بصيغة الجمع. لقد أخذ الإنجيليون وكتاب (بتشديد التاء) العهد الجديد الآخرون عبارة متداولة ووضعوها في سياق جديد فاكتسبت منه معناها الجديد. وهذا المعنى حدده العهد القديم ويسوع نفسه الذي لم يكتف بإعلان بشارة الخلاص بل أصبح هو نفسه محتواه ومضمونها. وقد يكون المعنى الذي نعطيه لكلمة "إنجيل" مستقى من نصوص العهد القديم وخاصة (أشعيا 40-66). يقول النبي "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر، المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون: قد ملك إلهك" (52: 7). نلاحظ في هذا المقطع أن الفعل العبري Bissar قد ترجم إلى السبعينية بفعل (euagelizomai)، الذي يعني "بشّر" بالأخبار السارة. ومع أن العهد القديم لا يستخدم إطلاقاً الاسم العبري المرادف لليوناني Euaggelion فمن الأرجح أن يكون معنى هذه الكلمة في العهد الجديد قد اشتق من النص العبري للكتاب المقدس أكثر منه من الطقوس الرومانية الخاصة بالإمبراطور. فإنجيل مرقس الذي يقدم يسوع وعمله الخلاصي كتحقيق لوعود الله ولأماني الشعب يستخدم عبارة "إنجيل" ليشير إلى الموضوع الأساسي لبشارة يسوع (4). في الآرامية اسم مرادف لكلمة (Euaggelion)، ومع ذلك يميل البحاثة، الذين ينكرون على يسوع وعيه أنه ماسي، إلى الجزم بأن يسوع لم يستخدم هذه الكلمة أبداً. أما البحاثة الذين يؤمنون بأن الأناجيل وثائق تاريخية فلا يجدون صعوبة في إسناد الكلمة إلى يسوع. إذا كان يسوع واعياً أنه ماسيا –كما تشهد الأناجيل- فلا بد أن يكون عارفاً بأنه افتتح ملكوت الله وأن رسالته هي رسالة الخلاص. لذلك من الصعوبة بمكان القول بأنه لم يستعمل الكلمة الآرامية المرادفة لكلمة (Euaggelion) (5). خلافاً لكلمة "إنجيل"، فالإنجيل المكتوب هو من وضع الجماعة المسيحية الأولى وشكله الأدبي غير مقتبس عن العالم الهليني. ولا يوجد في العالم أناجيل تشابهه. وهذا يعني أن المسيحيين الأولين باقتباسهم كلمة "إنجيل" لم يقتصروا على إعطائها معنى جديداً بل صاغوها في أدب فريد متوافق مع فرادة شخص يسوع (6). لقد ظهر الإنجيل المكتوب جواباً لاحتياجات الكنيسة. وقد حان الأوان في النصف الثاني من القرن الأول لاستخدام الشكلين الشفهي والكتابي من أجل نشر الخلاص. وكذلك تطلّب ازدياد المد المسيحي إيجاد نصوص لتعليم المهتدين وللعمل التبشيري. وقبل كل شيء، قوى غياب التلاميذ عن المسرح التاريخي رغبة الجماعة المسيحية بالأناجيل، تلك الكتب التي تحمل طابع السلطة الرسولية. لم يترك يسوع كلماته مكتوبة بل أودع رسالته تلاميذه الإثني عشر الذين لازموه وتتلمذوا عليه. وبعد حوالي 30 سنة من الكرازة والتعليم الرسوليين ظهر أول إنجيل مكتوب. ومقدمة إنجيل لوقا (1: 1-4) توحي بقوة أن هناك ثلاث مراحل في نمو الأناجيل: أولاً: أحداث حياة يسوع وأعماله، هذه "الأحداث التي جرت بيننا". ثانياً: قبول هذه "الأشياء" ونقلها بواسطة الشهود العيان وخدام الكلمة، وهذا ما كان عمل الرسل بعد القيامة. وفي هذه الفترة أصبح الاثنا عشر رسلاً بكل ما في الكلمة من معنى. أما الخطوة الثالثة والأخيرة فكانت كتابة الإنجيليين لأناجيلهم. الأناجيل والإنجيليون لقد نسبت الكنيسة الأولى الإنجيل الأول إلى متى والإنجيل الرابع إلى يوحن، وهذان تلميذان ليسوع. وأما الإنجيلان الآخران الثاني والثالث فهما لمرقس ولوقا اللذين لم يكونا من التلاميذ الإثني عشر بل من مسيحي القرن الأول. ولا يختلف البحاثة المعاصرون كثيراً حول زمن ومكان تأليف الأناجيل. فإنجيل متى كتب (بضم الكاف) بعد سقوط أورشليم السنة 70م، وقد يكون ذلك في أنطاكية حيث كانت الجماعات المسيحية تتألف من اليهود والأممين. وإنجيل مرقس، تلميذ بطرس، كتب في روما قبل سقوط أورشليم وبعد موت بطرس السنة 64. أما لوقا رفيق الدرب لبولس، فكتب إنجيله بعد سقوط أورشليم بما يقارب العشر والخمسة عشر سنة، وشهد جنوب اليونان ظهور هذا الإنجيل. ولنأت إلى يوحنا بن زبدى، حبيب الرب والشاهد العيان لأعمال يسوع وتعاليمه فنجد أنه كتب إنجيله قبل نهاية القرن الأول ويظن أن ذلك تم في أفسس (7). كل إنجيل من الأناجيل الأربعة كتب لهدف معين. متى وجه إنجيله إلى المسيحيين من أصل يهودي. لذلك شدد على أن المسيح هو ماسيا المنتظر. لا بل هو أعظم منه لأنه بالإضافة إلى كونه "ابن داوود" فهو ابن الله الوحيد. وبما أن الكنيسة اعترفت به وقبلته فهي إذن إسرائيل الحقيقي. أما إنجيل مرقس فيشدد على أن يسوع (((هو ماسيا المنتظر. لا بل هو أعظم منه لأنه بالإضافة إلى كونه "ابن))) (*) للأمميين نجده مليئاً بالإشارات إلى العهد القديم، هذه الإشارات التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار للوصول إلى فهم صحيح لأجزاء عديدة من هذا الإنجيل. وثمة إنجيلي آخر كتب للأمميين. هذا الإنجيلي هو لوقا مؤرخ الكنيسة. ولوقا في كتابيه، الإنجيل وأعمال الرسل، قسم تاريخ الخلاص إلى مراحل ثلاث: المرحلة الأولى هي التحضيرية تليها مرحلة عمل يسوع وأخيراً يأتي زمن الكنيسة الذي يبدأ بالعنصرة ويدوم إلى اليوم الأخير. ولقد أكد هذا الإنجيلي بشدة على أن يسوع هو مخلص العالم. أما الإنجيل الرابع فقد وصفه إسرائيل ابراهامس بأنه "الأكثر يهودية بين الأربعة"، غير أنه بمعنى من المعاني، الإنجيل الأقل يونانية والأقل يهودية بين الأربعة. فلا اليهودي ولا اليوناني يمكن أن يكونا قد كتبا هذه العبارة: "و الكلمة صار جسداً" (يو1: 14). إنجيل يوحنا يكشف لنا هوية المسيح ومعنى مجيئه بالنسبة للعالم والكنيسة والإنسان. يجب ألا نغالي في التأكيد على الصفات المحلية والتقاليد التي استقى منها كل من الإنجيليين أثناء تأليف إنجيله. فالأناجيل الأربعة تشهد كلها ليسوع، وكلها تؤكد أنه حقق كل مرجوات العهد القديم. يعترف الإنجيليون كلهم بأن يسوع هو ابن الله المتجسد، إلا أن كلا منهم يتناول هذا الاعتراف على نحو مختلف. فحسب روايتي متى ولوقا للبشارة، الآتي هو ماسيا الإله المتجسد بين البشر. "هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا". وهذا نجده في (متى1: 22). وفي (لو1: 32): "هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب كرسي داوود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية". وتتكلم مقدمة إنجيل يوحنا عن ظهور كلمة الله وعن سر التجسد. وهذا ما يظهره كذلك مرقس في كلامه عن معمودية يسوع، فيقول: "وللوقت، وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلاً عليه. وكما صوت من السماء يقول: أنت ابني الحبيب الذي به سررت" (مر 1: 10). لم يتبنَ الله يسوع في المعمودية إنما أعلن أن يسوع هو ابنه الأزلي. فيوم معمودية يسوع هو يوم الظهور الإلهي (8). وهكذا يتضح أن الإنجيليين الأربعة يشتركون في إظهار فعل التجسد لكن كل واحد منهم يعبر عنه بطريقته الخاصة. وهكذا فإن اختلف الإنجيليون في طرحهم للأمور والتعبير عنه، فإنهم متحدون في اشتراكهم بتقليد الكنيسة والإيمان بإيمانه، واتخاذهم إيمان وحياة الكنيسة مرجعاً لهم في كل ما يختص بانتقاء ورصف موادهم. لا نستطيع أن نعتبر الإنجيلين مؤلفين لأناجيلهم بالمعنى الحديث للكلمة لأن المؤلف المعاصر مسؤول كلياً عن شكل عمله ومحتواه. أما مسؤولية الإنجيليين فهي من نوع آخر، لأنهم استقوا نماذجهم من الكرازة الرسولية واقتبسوا معلوماتهم من التقاليد المتعلقة بيسوع. كانوا أعضاء في الجماعة المسيحية وعبروا عن إيمان الكنيسة. فكتب كل منهم إنجيلاً من أجل الكنيسة، فأصبح الإنجيل كتاب الكنيسة الذي فيه يتجسد إيمانها. غير أن الإنجيليين لم يكونوا ناقلين للتقليد وحسب بل كانوا (شهود عيان للإيمان). وبالرغم من إلهام الروح القدس لهم عبروا بمصطلحات مختلفة. كتب القديس باسيليوس الكبير: "الروح القدس لا يحرم أحداً قدرته على التفكير ولا حريته. فالشيطان وحده يفعل ذلك". إذاًَ تؤكد الاختلافات بين الأناجيل في آن صحة إلهام الإنجيليين وقوة استجابتهم الشخصية للإعلان الإلهي (9). المسألة السينابتية تُعرف الأناجيل الثلاثة الأولى بالأناجيل السينابتية (00)، لأننا إذا وضعنا محتوياتها في ثلاثة أعمدة نلاحظ توافق هذه المحتويات إلى درجة استخدام الكلمات عينها في وصف أعمال يسوع وتدوين أقواله. ويشكل مدى التوافق والاختلاف بين موادها (المسألة السينابتية) بالذات. ويوافق معظم علماء الكتاب على أن إنجيل مرقس هو الأول بين الروايات المدونة عن يسوع وأن متى ولوقا عرفا هذا الإنجيل وكان أحد مصادر إنجيلهما. واستناداً إلى المواد المشتركة بين متى ولوق وغير الموجودة في مرقس، قال العلماء بأن متى ولوقا استخدما مصدراً آخر يدعى Q (الحرف الأول من كلمة Quelle الألمانية التي تعني مصدراً). هذا المصدر فُقِدَ فور إفادتهما منه، ولا يزال الخلاف قائماً حول محتوياته. يضاف إلى ذلك أن متى اعتمد مصادر خاصة يرمز لها بالحرف M. وكذلك لمرقس مصادره الخاصة ويمز لها بالحرف L. ومع أن معظم نقاد العهد الجديد يأخذون بأهم فرضية في هذه النظرية، أي بأسبقية الإنجيل الثاني، فإن بعض العلماء الكاثوليك يسلمون بأسبقية النص الآرامي لإنجيل متى. ويقولون بأن متى وضع إنجيله بالآرامية حوالي السنة 50 م مباشرة قبل ظهور أول مجموعة آرامية لأقوال يسوع، ولم يطل الوقت حتى نقل الإنجيل الآرامي وكذلك المجموعة إلى اليونانية. ومن المفروض أن تكون قد ظهرت في وقت قصير ترجمات عدة يونانية لإنجيل متى، فعرف مرقس واحدة منه واستخدمها في كتابة إنجيله. لكنه لم يكثر من أقوال يسوع الموجودة في الإنجيل الأول كما أنه لعدم إطلاعه على المجموعة الخاصة لم يلجأ إليها. وبعد إكمال إنجيل مرقس، لجأ أحد المسيحيين المجهولي الهوية والذي قد يكون تلميذ لمرقس، إلى ترجمة النسخة العبرية إلى اليونانية. وفي عمله هذا استخدم انجيل مرقس معيداً إليه الأقوال التي كان مرقس قد حذفها ومضيفاً أقوالاً مستقاة من المجموعة الخاصة Q، فكان إنجيل متى بشكله الحالي. أما لوقا فاستخدم مرقس والمجموعة الآرامية الأولى (10). إن الرأي القائل بأسبقية النص الآرامي لإنجيل متى يبدو نظرياً أكثر من الرأي القائل بأسبقية إنجيل مرقس. اعترض، جدي، في السنوات الأخيرة على نظرية المصدرية لأنها لا تعطي التقليد الشفهي حقه ولأنها تعتبر عملية تكوين الأناجيل مشكلة أدبية صرفية. وقد ظهرت نظرة جديدة إلى تكوين الإنجيل، وهي لا تزال في طور النمو، تعتمد التقليد الشفهي والتقليد الكتابي، دعاها أصحابها ب "نظرية الوثائق المتعددة". وهذه النظرية تستند إلى الفرضية القائلة بأن مجموعات أقوال يسوع وأعماله قد ترجمت إلى اليونانية في وقت مبكر وأن الإنجيليين اعتمدوا هذه المجموعات. المهم في هذه النظرية أنها تؤكد على وجود اتصالات بين المصادر الإنجيلية قبل تأليف الأناجيل. وبالتالي فإن التأثيرات والاحتكاكات الأدبية حصلت قبل كتابة إنجيل مرقس وليس بعده، أي "بين وثائق سابقة للمواد المستعملة في الأناجيل السينابتية والتي كانت قد انتظمت آنذاك على نجو منهجي تقريباً" (11). وقصارى القول، إن نظرية المصدرين مبنية على مبدأ الاقتباس وبالتالي فآن متى ولوقا اقتبسا من مرقس. أما المتمسكون بنظرية الوثائق المتعددة فيعتبرون أن نظرية المصدرين ذات اتجاه واحد وصارم ويرفض كل الحلول المبنية عليها. وهم يعتقدون بوجود مصادر سابقة للأناجيل، ومهمة النقد الكتابي تمييز هذه المصادر وتحديده، ولكن هذا العمل لا يزال بعيداً عن التحقيق. يشترك إنجيل يوحنا مع الأناجيل السينابتية في التصميم العام المنبثق من الكرازة الرسولية المتعلقة بأعمال الله الخلاصية. بيد أن هذا الإنجيلي قد وضع هذا التصميم بمعزل عن الأناجيل السينابتية، مدرجاً في إنجيله تقاليد خاصة، لا تعتمد المصادر السينابتية، ولكنها ليست أقل أصالة منه، بل قد تقترب من الأحداث الأصلية أكثر منها. كذلك فالتقليد الذي ارتكز عليه الإنجيل الرابع منفصل عن التقليد الذي أخذ منه متى ومرقس ولوقا معلوماتهم ولكنه مشابه له. لقد أمعن الإنجيليون النظر جيداً في مصادرهم وصبغوا أناجيلهم بصبغتهم الخاصة وقد فاق يوحنا أقرانه بذلك. وقبل عن إنجيله أنه "بحسب الروح"، ونعتت الأناجيل الباقية بأنها "بحسب الجسد". لكت من الخطأ الاستنتاج من هذه النعوت أن الإنجيل الرابع لا قيمة تاريخية له. فقوله: "و الكلمة صار جسداً" يظهر أن ما كان يعلن عنه ذا مغزى لاهوتي وتاريخياً على حد سواء إذ لا بد للأحداث الإنجيلية أن تكون حقيقة، أي أن يكون بالإمكان إثباتها تاريخياً لكي تكتسب معنى لاهوتياً. هل تعد الأناجيل سيراَ؟ تعرض صورة المسيح في الأناجيل من خلال عناصر تاريخية وسيرية. ومع ذلك لا يمكننا تصنيف الأناجيل كسير وترجمات لحياة يسوع. فالسيرة الحديثة لا تكتمل بدون كشف الدافع الداخلي عند الإنسان الذي تكتب سيرته. في الأناجيل لا توجد أية مادة يمكن استخدامها لتحليل النمو النفسي ليسوع. فمعمودية يسوع، مثل، لم تأتِ نتيجة لاستيقاظ الوعي الماسياني عنده ولإدراكه أنه قد اختير ليكون ماسيا بل كإعلان وكشف للتجسد وإشارة إلى حضور الله على الأرض وتحطيم الحجاب بين الله والإنسان. لم تحاول الكنيسة أبداً أن توجد سيرة ليسوع، لأن "سيرة" كهذه محكوم عليها بالفشل، هذا الفشل لا يعود فقط إلى عدم توافر المصادر بل إلى صعوبة الشخص الذي تعكسه لنا. كتابة سيرة يسوع تعني رسم الوجه الإنساني لشخص يسوع وهذا يفترض بالتالي فصل يسوع الإنسان عن يسوع الإله. وهذا الأمر مستحيل وباطل في ذاته إذ لا انفصل في المسيح بين الإنسان والإله(12). إن فصلاً كهذا أدى على الصعيد اللاهوتي إلى النسطورية، وعلى الصعيد الكتابي إلى ما يسمى "بسير يسوع" التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين. الكنيسة تؤمن بأن كلا من النسطورية و"سير يسوع" قدمتا صورة مباينة لصورة المسيح الإنجيلية. هكذا يسوع لم يطلب قط من تلاميذه أن يدونوا سيرة حياته. لقد أعطاهم سلطاناً لطرد الشياطين (مر3: 14-15) ولشفاء المرضى (مر6: 12-13) ولإعلان بشارة ملكوت الله (متى10: 7،لو9: 1-2). وطلب منهم بعد القيامة أن يعمدوا كل الأمم: "اذهبو وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به" (متى28: 19-20). وعندما سأله تلاميذ يوحنا المعمدان: "هل أنت الذي يجيء أم ننتظر آخر؟" (متى11: 3) لم يقدم لهم أية معطيات عن ماسيانيته بل لفتهم إلى أعماله: "ارجعو وأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يتلقون البشارة" (متى11: 4-5). هذا ما نجده في الأناجيل وليس سيرة منهجية ليسوع. ربّ قائل بأن "السيرة" لم تكن أسلوباً من أساليب الكتابة التي أولاها اليهود اهتمام ونحن نعلم بأن التلاميذ جميعاً كانوا يهود، وأن الإنجيليين ما عدا لوق، كانوا من أصل يهودي. كَتَبَ غرانت بهذا الشأن: "لم يحظ أي نبي وحكيم وكاتب وربان بسيرة كاملة"(13). لكن بسبب تأثير يسوع على أتباعه ولكتابة الأناجيل خارج فلسطين حوت بعض عناصر السيرة لكنها لا تعتبر إطلاقاً سيرة. لا تقدك وثائق العهد الجديد سوى وصف موجز لشخص يسوع لأنه، أصل، لم تكن تبغي العناية بالوصف الأدبي ولا برسم صورة فوتوغرافية ليسوع، بل إظهار وجهه الحقيقي، مخالفة بذلك الكتب الأبوكريفية التي يظهر فيها الوصف الأدبي واضحاً (14). وكذلك الأناجيل فإنها لا تقدم لنا صورة فوتوغرافية لأن صورة كهذه تظهر الشخص في لحظة معينة من حياته فقط، أي أنها صماء بكماء عما حدث قبل وبعد تلك الهنيهة. كما أنه يمكن استخدام الصورة الفوتوغرافية "لتثبيت ونفي رواية الشاهد العيان دون أن تتمكن من الحلول محلها" (15). وكثيراً ما شبهت الأناجيل بالأيقونة حتى دعيت ب "الأيقونة الكلامية" للمسيح. وهذه الأيقونة ليست من إبداع مواهب الإنجيليين بل نتيجة إتباع التقليد الذي به كانوا ملمين وفيه مشاركين ومنه استقوا كل مواد إنجيلهم. مهمة الإنجيليين المزدوجة لقد اعترض الكثيرون على تحيز هذه الروايات عن حياة يسوع وشككوا في قيمتها من الوجهة التاريخية. ولا يخفي الإنجيليون تأثر أناجيلهم بالقيامة. ولولا قيامة المسيح لما كان هنالك كنيسة ولا أناجيل. وتسجل لنا أحداث الماضي في ضوء القيامة. هذه هي نظرتهم ولا يمكن التأريخ بدونها. ويقول الأب جورج فلورفسكي: "إننا لا نقدر أبداً أن نتذكر ماضينا القريب كما عشناه تماماً لأنه لو كنا نتذكر ولا نحلم لكنا تذكرنا الأحداث الماضية بمنظار التحولات الكثيرة التي طرأت علينا بعدها" (16). القيامة هي التي أعطت للأحداث معناه وهي التي غيرت البشر وحولت المؤسسات. فحل محل فريضة السبت الاحتفال بيوم القيامة وأضحى يوم الأحد، وليس السبت، اليوم "الذي صنعه الرب" وصار يعتبر هو تاج الأسبوع. كل شيء أصبح جديد وتغير بعد القيامة. فالرسل الذين أظهروا الجبن في أسبوع الآلام، غدوا بعد القيامة شهدوا لا يهابون أحداً. وقد دهش رؤساء اليهود وشيوخ الشعب من جرأة بطرس ويوحنا (أعمال4: 13). ألم يعلن بطرس بكل جرأة أمام المجلس أنه "يجب أن نطيع الله لا الناس" (أعمال: 29) وهو الشخص الذي وبخه يسوع قبل القيامة لأن أفكاره هي "أفكار البشر لا أفكار الله" (مر8: 32 وما يوازيها). وما كتبه بولس الرسول عن حياته الخاصة يمكن أن ينطبق على الإثني عشر: "إلا أن ما كان في كل ذلك من ربح لي عددته خسراناً من أجل المسيح. بل أعد كل شيء خسراناً من أجل الربح الأعظم، ألا وهو معرفة ربي يسوع المسيح. من أجله خسرت كل شيء وعددت كل شيء نفاية لأربح المسيح وأكون فيه ...وإذا تم لي ذلك عرفته وعرفت قوة قيامته وشاركته آلامه. فتمثلت به في موته لعلي أبلغ القيامة من بين الأموات" (فيليبي3: 7-11). ومع أن البشائر كتبت في ضوء القيامة بيد أنها حافظت على الكثير مما يتعلق بتاريخ يسوع قبل القيامة. وهذه المعلومات التاريخية لم تعرض كمجرد حقائق تاريخية خالصة بل أعطي لها المعنى الذي اتضح بعد القيامة. إذ أنه بعد القيامة فقط انكشفت أحداث بشارة يسوع، وكل حدث أخذ معناه الكامل، وأصبح ملتصقاً بتفسيره، غير أن هذا المعنى لم يكن من استنباط الإنجيليين بل نتيجة التقليد الذي يستمد جذوره من يسوع نفسه. تبقى مهمة علم التاريخ أن يكشف، بقد الإمكان، عما حدث فهل ويفسر كيفية دمج الأحداث ومعانيها من قبل الإنجيليين. يساعد في ذلك وجود أربع مدونات لأقوال وتعاليم يسوع مما يتيح للمؤرخين تحليل ومقارنة المعلومات الواردة في المصادر الأساسية والسعي للتمييز بين الأحداث التي وقعت قبل القيامة وبعدها. اعترف بطرس بإلوهية المسيح الوارد عند الإنجيليين الأربعة (متى 16: 13، مر8: 27، لو9: 18، يو6: 68 ...) هو مثال لهذه المشكلة في البحث التاريخي. سأل يسوع تلاميذه: "ومن أنا في رأيكم أنتم" (17)، فكان جواب بطرس مختلفاً في الأناجيل الأربعة. فحسب مرقس كان الجواب: "أنت المسيح" (مر8: 19) وحسب لوقا: "أنت مسيح الله" (لو9: 20). أما عند متى فيجيب: "أنت المسيح ابن الله الحي" (متى 16: 16). وهنا يرد السؤال: ماذا قال بطرس بالفعل؟ وما هو الشكل الصحيح لاعترافه؟ وهل يجب قبول راويتي مرقس ولوقا المتشابهتين ورواية متى التي تختلف عنها بشكل ملحوظ، فتضيف "ابن الله الحي"؟ يعترف بطرس عند لوق ومرقس بان يسوع هو الماسيا المنتظر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ماسيا ذاك لم يكن يعتبره اليهود كائناً إلهياً. أما شهادة بطرس في إنجيل متى فإنها تدل على أن بطرس والرسل الآخرين كانوا قد فهموا آنذاك سر يسوع. وهذه الفرضية تناقض الصورة عن الإثني عشر في الأناجيل لأنهم لم يكونوا يعرفون هذا السر قبل القيامة. كذلك لا تتوافق هذه الفرضية مع رفض بطرس لتعليم يسوع عن آلامه وتوبيخ يسوع له: "ابتعد عن يا شيطان فأنت عقبه دوني لأن أفكارك ليست أفكار لله بل أفكار البشر" (متى 16: 23). إن رفض بطرس للآلام وتوبيخ يسوع له يردان مباشرة بعد الاعتراف به. وذلك يدل على أن بطرس اعترف بيسوع، حسب رواية مرقس ولوق، انه المسيح المتمم لوعد العهد القديم. إذن، كيف يمكننا أن نفسر الكلمات: "ابن الله الحي". فمتّى عندما دون هذه الكلمات في إنجيله لم يحرف ويسئ فهم ما حدث في قيصرية فيلبي، لكنه بتدوينه الكلمات سجل بكل بساطة اعترف بطرس مفسراً في ضوء القيامة. الوحيد الذي اعترف به بطرس على انه الماسيا هو ابن الله المتجسد. واعتراف بطرس، كما هو مدون في متى، يبرز بقوة أن يسوع التاريخ هو نفسه يسوع الإيمان، وأن كليهما واحد، وأن من تعبده الكنيسة ليس سوى الذي أكد بطرس انه الماسيا. فما أضافه متى هو المعنى الذي انكشف كاملاً بعد القيامة. فمتى لم يفرق بين تاريخ يسوع وتاريخ السيد في الكنيسة في حين اتضح الأول جيداً في ضوء الثاني. ولقد اتضح الحدث وانجلت معانية فقط عندما نظر إليه من خلال نهايته التي هي في الوقت ذاته بداية جديدة. هذا هو ما يسمى بمهمة الإنجيليين المزدوجة التي تكمن في تدوين "ما حصل" ونقل معناه في آن. دور الشهود وقد وعد يسوع تلاميذ قبل صعوده إلى الآب بأنهم سيتلقون قوة عند حلول الروح عليهم وسيكونون "شهوداً" Martyres له "في أورشليم واليهودية كم والسامرة حتى أقاصي الأرض" (أعمال 1: 8). وقد شهد الاثنا عشر ليسوع "منذ أن عمده يوحنا إلى يوم رفع عنا" (أعمال 1: 33). وفي اليوم الخمسين، فيما كان بطرس واقفا مع التلاميذ، أعلن أن "يسوع هذا قد أقامه الله، ونحن بأجمعنا شهود Martyres على ذلك" (أعمال 2: 32). وهكذا لم ينسب بطرس ولا التلاميذ أية كلمة خاصة إلى أنفسهم بل أكدوا فقط أنهم شهود ليسوع. يجب التمييز بين كون الاثني عشر شهود عيان (autoptai) (لوقا 1: 2) قبل القيامة وحلول العنصرة وكونهم شهود Martyres بعد ذلك. كشهود عيان أصغوا إلى تعليم يسوع وكانوا على استعداد لترك "العالم" ليتبعوه (لو14: 25)، في حين كان يوجد شهود عيان كثيرون غيرهم فضلوا العالم على إتباع يسوع. لأنهم وجدوا كلامه عسيراً لا يطابق، "فتخلى عنه عندئذ كثير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته" (يو6: 52). أما بصفتهم شهوداً فقد شهدوا على بشارة يسوع: ماذا قال، وماذا فعل. فكانوا مسؤولين عن نقل أحداث حياة يسوع وبالوقت نفسه عن تفسيرها. كانوا مسؤولين عن تفسير العهد القديم بواسطة يسوع نفسه. وقبل كل شيء فقد شهدوا لقيامته وكل ما تعنيه: لقد كانوا شهوداً Martyres على أن السيد الناهض هو نفسه يسوع. وشهادتهم هذه هي أساس الأناجيل. كل الشهود لقيامة المسيح أبدوا اهتماماً بيسوع التاريخي فبولس الرسول لم يكن شاهد عيان لحياة يسوع الأرضية ولكن الرب اختاره ليكون له شاهداً (أعمال22: 15، 26: 16). ومع أن كل رسائله إلى الأمم كانت موجهة إلى الجماعات المسيحية التي كانت مطلعة على أحداث حياة يسوع، كشف بولس الرسول اهتمامه الشخصي بتفاصيل هذه الحياة عندما تعدى الأحداث التاريخية الموجودة عادة في الكرازة الرسولية وكتب، مثل، عن ذرية يسوع في الجسد وعلاقته بشعب إسرائيل (رو1: 3، 9: 5). كذلك أكد على طبيعة يسوع الإنسانية كابن الله مولود من امرأة (غلا4: 4). وأظهر بولس معرفته لحياة يسوع وتواضعه وطاعته الكاملة للآب (فيلبي2: 7-8). ويدل المقطع التالي من الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (8: 9): "وتعلمون جود ربنا يسوع المسيح، كيف افتقر لأجلكم وهو الغني لتغتنوا بفقره"، إن تاريخ حياة يسوع قد بث "على الأقل في خطوطه الكبرى" في التعاليم التي كانت الكنيسة تلفتها لأعضائها الجدد (18). وكثيراً ما كان يرجع بولس الرسول في رسائله إلى كلمات يسوع. فأصداء الموعظة على الجبل تسمع في رومية 2: 14 (متى 5: 44، 12: 17) (متى 5: 39)، 14: 10(متى 7: 1). ويستهل رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (7: 10، 9: 14) بكلام يسوع. "لو لم يكن وجه يسوع التاريخي كما يظهر من خلال أقواله وأفعاله وآلامه يشكل الخلفية الحية والركيزة الأساسية" لرؤيته اللاهوتية لما استطاع بولس أن يكتب أكثر مقاطع رسائله إلهاماً (19). إن وجه المسيح التاريخي ومجده الذي أعلن على طريق دمشق كانا حاضرين دائماً أمام عيني بولس، ولذا لم يعرف أي انفصام بين يسوع التاريخي والرب المتجمد. أخذ بولس الرسول معلوماته عن يسوع التاريخي عن الشهود العيان لحياة يسوع وآلامه، وعن الشهود لقيامته. وشهادة هؤلاء متجسدة في الأناجيل التي هي المصدر الوحيد لمعرفتنا عن يسوع الناصري ولا نملك وسيلة أخرى لنقل الحقائق التاريخية إلا في حاملي الشهادة. ومن شهادة كهذه بزغت الأناجيل. --------------- (*) إن هذا السطر مكرر مرتين في الكتاب. والمقصود من الكاتب -حسب اعتقادي- هو أن مرقس قد شدد على أن المسيح هو ابن الله وهذا التعبير في إنجيل مرقس لا نراه يستخدم من الناس وإنما من الله في حوادث معينة (المعمودية، التجلي...). حواشي الفصل الثالث (00) من "Synoptiques". ويمكن استعمال أيضاً عبارة (المتماثلة). (1) توجد في أعمال الرسل (مثلاً في 10: 36-43) وفي رسائل القديس بولس (خاصة في 1 كو 15: 3) خلاصة الكرازة الرسولية. إن ما فعله يسوع وقاله هو رسالة الخلاص. هذا هو الإنجيل الذي من يسوع. أما ما أعلنه بعد موته وقيامته الذين عايشوه أثناء حياته الأرضية، فهو الإنجيل عن يسوع. هناك صلة جوهرية بين هذين الإنجيلين، لأن يسوع التاريخي هو الرب الناهض من القبر ذاته. (2) راجع: Justin: First Apology، 66-67 (3) راجع: w. Schneemelcher: << Gospel>> in Edgar Hennecke New Testament Apocerypha I، p. 72. (4) فيما يختص بخلفية العهد القديم لاستخدام مرقس لكلمة (إنجيل)، راجع: Edwyn Hoskyns and Francis Noel Davey: The Riddle of the New Testament، London، Faber and Faber، 1947، pp. 74 ff يعتقد المؤلفان أن الإنجيلين السينابتيين الآخرين قد أبرزا ناحية معينة من معنى هذه الكلمة. والإنجيل Euaggelion عند متى ولوقا هو قبل كل شيء إنجيل ملكوت الله حتى قبل شخص يسوع كتحقيق لوعد الله. لكن هذين الوجهين لمعنى كلمة (إنجيل) لا يتناقضان بل يتكاملان. فعند الإنجيليين الثلاثة ماسيا هو المعلم، وملكوت الله لا يتجلى في حياته وموته وقيامته فقط بل أيضاً في تعليمه. عند الثلاثة ملكوت الله هو تحقيق لآمال العهد القديم (ص 96). (5) "إذا أدرك يسوع أنه ابن الله الذي آتى لكي يموت ويقوم، فلا بد أن يكون قد أدرك أيضاً أنه هو مضمون رسالة تلاميذه ... كل ما أعطى مع شخص يسوع يؤلف فحوى الإنجيل. إذن توحي كلمة to euaggelion ضمنا للتلاميذ كشف السر الماسياني". راجع: Kittel: Theological Dictionary of the New Testament، II، p.727. (6) تعني كلمة يسوع "الرب يخلص" و"يهوه هو الخلاص". قال الملاك ليوسف أن مريم ستحمل ابن وأن يوسف سيسميه "يسوع، وهو الذي يخلص شعبه من خطاياهم" (متى1: 22). في العبرية والآرامية كلمة يسوع و"سيخلص" تتشابهان من حيث الشكل. راجع: Oxford Annotated Bible، Revised Standard Version، on Matt. 1: 21. (7) إن البحاثة الذين يقولون بأن إنجيل يوحنا كتب في وقت متأخر، هم بالضبط الذين يعتبرون أن له أهمية لاهوتية أكثر مما له قيمة تاريخية. لأن لاهوته المتطور جداً يوحي لهم بأنه كتب في وقت متأخر، وهو ليس من أعمال شاهد عيان لحياة يسوع. غير أن هذا الإنجيل أخذ يدرس في الأبحاث والدراسات الحديثة من منظورية جديدة. يقول "أولبرايت"، أحد كبار علماء الآثار المعاصرين، أن "المحتوى الفكري" للإنجيل الرابع يعكس الفترة التاريخية التي عاش فيها يسوع ويوحنا المعمدان وليس فترة لاحقة. راجع: W.F. Albright: Religion in Life 21، 1952، 550. وفي مؤلف آخر يتابع فكرته قائلاً: "إننا واثقون بأن الإنجيل الرابع يحتوي على مذكرات الرسول يوحن وذلك بصرف النظر عما إذا توفي في أورشليم وفي أفسس، علماً أن أفسس هي المكان الأكثر احتمالاً لوفاته كما يشهد التقليد بقوة". راجع: W.F. Albright: Discoveries in Palestine and the Gospel of St. John، in: W.D. Davies & D، Daube، eds: The Background of the New Testament and its Eschatology، Cambridge University Press، 1956، p. 171. (8) من أجل المقارنة مع النظرات اللاهوتية المتشابهة الموجودة في مرقس 1: 1-13 ويوحنا 1: 1-18. راجع: R.H. Lightfoot: The Gospel Message of St. Mark، Oxford، Clarendon Press، 1950، pp. 30f. كتب تيلور: "أن خريستولوجية مرقس هي سامية جداً وهي تعادل أسمى خريستولوجية في العهد الجديد بدون استثناء إنجيل يوحنا". راجع: Vincent Taylor: The Gospel According to St. Mark، London، Macmillan Co.، 1966، p. 121. إن ابن الله عند مرقس كائن ليس من هذا العالم، وألوهيته وإنسانيته هما حقيقتان كاملتان. (9) يشير الذهبي الفم إلى أنه لو اتفق الإنجيليون في التفاصيل كلها لاتهموا بالتآمر لجعل قصصهم متماثلة. ولذلك نستطيع اعتبار اختلافاتهم برهاناً على استقلال كل إنجيلي عن الآخر وعلى أن رواياتهم هي أصيلة وحقيقية. (10) راجع: "Introduction to the Synoptic Gospels"، Jerusalem bible، pp. 7-9. لكن الباحث John L. Mackenzie يجد مع عدد آخر من العلماء، أن البراهين المقدمة لإثبات وجود نص لمتى آرامي غير مقنعة. راجع: "The Gospel According to Matthew"، Jerome Biblical Commentary 43: 13-14. (11) العالمان الشهيران الكاثوليكيان سيرفو وليون دوفور هما من أشهر العلماء الممثلين لهذه النظرية. راجع: Léon-Dufour: The Gospels and the Jesus of History، New-York، Desclee، 1967. راجع أيضاً مقالة: "The Synoptic Gospels" in A. Robert and A. Feuillet: Introduction to the New Testament، New-York، Desclee، 1965، pp. 140-324. وراجع أيضاً: Frederic Gast: "Synoptic Problem" in Jerome Biblical Commentary 40: 23-24. (12) راجع: Bishop Kassian: Christ and the First Christian Generation، Paris، YMCA Press، 1950، p. 3، in Russian. (13) راجع: Frederic C. Grant: The Gospels: Their Origin and Their Growth، New York، Harper and Brothers، 1957، p. 27. (14) في أعمال بولس الأبوكريفية يوجد هذا الوصف لبولس الرسول: "رجل قصير القامة، أصلع الرأس، مقوس الرجلين، قوي ... مليء بالجمال، يظهر حيناً كإنسان وحيناً بوجه ملاك". (15) راجع: H. Palmer: The Logic of Gospel Criticism، New-York، St. Martin's Press، 1968، p.38. (16) راجع: Georges Florovsky: "The Predicament of The Christian Historian"، in W. Leibrecht، ed.، Religion and Culture: Essays in Honor of Paul Tillich، p. 150. (17) يوضح يوحنا الإنجيلي رواية الأناجيل السينابتية عندما يشير إلى الأسباب والظروف التي حثت يسوع إلى طرح هذا السؤال. فعنده، يرتبط اعتراف بطرس بحادثة إشباع الخمسة آلاف وبمحاولة اختطاف يسوع وإقامته ملكاً (يوحنا6: 1-15) فقاوم يسوع هذه التجربة بابتعاده مع التلاميذ عن الجموع. لذلك أصيب الكثير من أتباعه بخيبة أمل لأنهم أرادوه ملكاً أرضي وماسيا محققاً لتوقعات الشعب. في هذا الوقت المتأزم بالذات سأل يسوع تلاميذه: "ومن أنا في رأيكم أنتم؟" وكما في الأناجيل الأخرى، يؤكد إنجيل يوحنا أن بطرس هو الذي أجاب عن هذا السؤال بالاعتراف المعروف مضيفاً إليه كلمات: "أنت هو قدوس الله" (يوحنا6: 68-69). يعتبر دود، بشأن المناسبة التي أدت إلى اعتراف بطرس، أنه ربما تكون رواية يوحنا مستقاة من "تقليد أغنى وأكثر شمولية". راجع: C.H. Dodd: Historical Tradition in the Fourth Gospel، Cambridge، Cambridge University Press، 1963، p. 428. (18) راجع: John J. O'Rourke: "The Second Letter to the Corinthians"، Jerome Biblical Commentary 52: 28> (19) انظر المقال: "Jesus، St. John and St. Paul"، in Anton Fridrichsen and others، The Root of the Vine: Essays in Biblical Theology، New-York، Philosophical Library، 1953، pp. 50-52. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:10 AM | رقم المشاركة : ( 5 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل الرابع التسلسل الزمني والترتيب اللاهوتي في الأناجيل كتبت الأناجيل لتحمل الشهادة للمسيح وفيها أبرز وجهه التاريخي على ضوء القيامة. وهكذا رتب الإنجيليون مواد كتبهم بحيث تبرز معنى حياة يسوع وتعليمه ولو أدى هذا العمل إلى التضحية بالترتيب الزمني. وسواء اتبعوا التسلسل الزمني أم ل، فإن المادة الإنجيلية وضعت ضمن حدود البشارة الرسولية ناقلة بعمق أن الأحداث تتحرك في اتجاه واحد غاية في الأهمية. إن القديس لوقا كنت إلى العزيز ثيوفيلوس "قصة في الأمور المتيقنة" ليعرف صحة الكلام الذي تعلمه (لو1: 3-4). ويخبرنا بابياس، الأب الرسولي الذي عاش في أوائل القرن الثاني، أن مرقس "كتب ... بدقة ولكن بدون تسلسل زمني". ويضيف "أنه سعى إلى عدم حذف وتزييف شيء مما كان قد سمعه". لا رواية عن يسوع بدون لاهوت بالرغم من الصعوبة في تعيين زمن حدوث بعض أعمال يسوع يبقى خاطئاً الافتراض أنه لا يوجد تسلسل زمني في الأناجيل. وأصعب من ذلك إسناد أقواله إلى أوقات محددة بالضبط. غير أن الأحداث الهامة في حياة يسوع تأخذ مكانها الصحيح في التسلسل الزمني. فالمعمودية، مثلاً حصلت قبل التجربة، والتجلي تلا اعتراف بطرس وسبق الرحلة الأخيرة إلى أورشليم. ويمكن التأكد من هذا التسلسل الزمني بتسلسل أوضح يبدو في سرد أحداث الآلام، وهكذا يمكن القول أنه يوجد بشكل عام تسلسل زمني للأحداث الواردة في الأناجيل وأن سرد حياة يسوع لا يخلو من النظرة التاريخية. إن مسألة التسلسل الزمني في البحث الإنجيلي ليست من المسائل الثانوية. فالنقاد يزعمون بأن الأناجيل من صنع الجماعة المسيحية الأولى يشكون بإمكانية الترتيب الزمني لحياة يسوع. وبالمقابل نرى أن الذين يعتبرون الأناجيل مذكرات لشهود عيان يبدون اهتماماً أكبر بالترتيب الزمني في الأناجيل.. ويجدون أن معرفة ترتيب الأحداث هو أمر مهم للوصول إلى فهم أفضل لحياة يسوع وعمله الخلاصي. فيعتقد دود مثلاً أن ترتيب مرقس لإنجيله يتبع أساساً سياق الأحداث (1). إن الترتيب الزمني غالباً ما يحمل في طياته ترتيباً لاهوتياً. كذلك سرد قصة يسوع لا يكون بدون لاهوت. حتى الخبر التاريخي لا بد له من أنم يحمل حقيقة لاهوتية. مثال ذلك قصة معمودية يسوع التي حصلت قبل التجربة. كان يسوع أثناء معموديته محاطاً بأناس من سلالة إبراهيم يهيئون أنفسهم لمجيء ماسي ومملكته. ولقد كشف معنى المعمودية الصوت السماوي: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مر1: 11). هذا الإعلان الإلهي الذي يجمع المزمور الماسياني (2: 7) إلى النشيد الأول لخادم الرب المتألم (أشعيا42: 1) يكشف لنا هوية يسوع. إنه ماسيا ابن الله الذي كان على وشك تحقيق الدور المعطى للخادم الحامل الأوجاع في أشعيا 53: 2 . لا يمكن فهم كل المعنى اللاهوتي لحادثة التجربة إلا إذا ربطت بالمعمودية. والشيطان، في التجربة، طلب من يسوع أن يكون غير الماسيا الذي أعلن في المعمودية، ذلك الماسيا الذي يختصر الطريق إلى الفردوس بدون الآم. لكن يسوع تخطى التجربة ورفض أن يسلك طريقاً تبعده عن الآلام وتفصله عن الشعب الذي، من أجل خلاصه، ظهر في معموديته. وفي التجربة أشار يسوع إلى أن دور ابن الله المتألم المعلن عنه في المعمودية سيكون دوره هو (2). لكن الترتيب الزمني لا يمثل دائماً المرتبة الأولى في الأناجيل. فالأفضلية تعطي، عادة، للترتيب حسب المواضيع. فنرى الإنجيليين يجمعون أقوالا نطق بها يسوع في مناسبات عدة وربما في فترات زمنية متفاوتة ويجعلونها في مجموعة واحدة. مثال ذلك الموعظة على الجبل والأمثال والعجائب. فمن الواضح أن عجيبة الشفاء التي تلي الموعظة على الجبل والتي تفتتح مجموعة من العجائب في الإصحاحين الثامن والتاسع من إنجيل متى لم تحدث آنذاك. والمشكلة ليست فيما إذا حدثت هذه الأعجوبة أم لا ولكن في التأكيد من المكان والزمان اللذين حصلت فيهما (3). لقد استخدم الإنجيليون هذا النوع من الترتيب بحسب المواضيع بغية إيصال أقوال يسوع وأفعاله إلى تلك الجماهير التي لم يكن تهتم لسياق الأحداث. ولان هاجس الإنجيليين كان دائماً إيضاح معنى بعض الأحداث وربط كل شيء بالظهور الإلهي في المسيح يسوع وفي شرح معانيه وليس معرفة زمان ومكان الحدث، فقد عمد الإنجيليون في بعض الأحيان إلى التضحية بالتسلسل الزمني. لقد كتب اوريجانس انه لا يجب إدانة بعض الإنجيليين حتى ولو عدلوا بعض الأشياء. "كانوا يتكلمون عن شيء حصل في مكان ما وكأنه حصل في مكان آخر وعن أمر حدق في زمن ما وكما لو أنه حدث في وقت آخر ويدخلون بعض التغيرات في الكلمة التي نطق بها فعلاً. كان قصدهم قول الحقيقة بوجهيها المادي والروحي، وفي حال استحالة ذلك كانوا يفضلون قول الوجه الروحي. والحق يقال بان الحقيقة الروحية كانت تنتقل أحيانا بما يسمى الكذب المادي " (4). إن حادثة طرد الباعة من الهيكل (متى 21: 12-13، مر 11: 15-19، لو 19: 45-48، يو 2: 13-25) وضعت حسب الترتيب الزمني في الأناجيل السينابتية وحسب الترتيب اللاهوتي في الإنجيل الرابع. فيوحنا وضعها في بداية إنجيله بينما وضعتها الأناجيل السينابتية في أواخر حياة يسوع الأرضية. الطريقتان لهما مغزى لاهوتي ولكن إنجيل يوحنا يعطي المعنى الأكثر عمقاً. تورد الأناجيل الثلاثة الأولى هذه الحادثة قبل الصلب بقليل. عندما أتم يسوع تعليمه في الهيكل بعد طرد الباعة أخذ الكهنة والكتبة يتشاورون كيف يقتلونه (مر11: 18، لو 19: 47). قد يكون الإنجيليون الثلاثة مصيبين في ترتيبهم الزمني هذا ولكن، في هذه الحال كيف يمكننا أن نفسر وضع يوحنا، الشاهد العيان، هذه الحادثة في بداية إنجيله؟ لقد كتب يوحنا إنجيله، كسائر الإنجيليين، بعد القيامة وهكذا نظر إلى حياة يسوع في ضوء القيامة. ولعله اختار حادثة طرد الباعة عملاً رمزياً يشير إلى أن حياة يسوع هي في خطر منذ البداية وأن ظل الصليب كان مخيماً على كل عمله الخلاصي. معنى آخر يبرز مع هذا الترتيب إذ في هذا العمل كشف يسوع عن هويته وهذا ما قاده إلى الموت. إنه اتخذ لنفسه حقاً إلهي وأتى إلى بيته كرب للهيكل ولكن خاصته رفضته (5). موعد العشاء الأخير إن معظم المحاولات لتأريخ بعض الأحداث المدونة في الإنجيل ليست ذات قيمة كبيرة لأنها محاولات فردية تجري بطريقة عشوائية وعلى أسس غير واضحة. بالرغم من أن معنى أحداث حياة يسوع لا يعتمد تحديد موعد حدوثه، فإن معنى العشاء الأخير يتأثر كثيراً بزمان حدوثه ومكانه. خصوصاً وأن الأناجيل الأربعة ذكرت الحادثة إلا أن الأناجيل السينابتية تختلف عن إنجيل يوحنا بتحديد يوم الفصح. يتفق الإنجيليون الأربعة على أن العشاء الأخير أقيم مساء الخميس وأن الصلب تم يوم الجمعة، إلا أنهم لا يتفقون فيما إذا كان العشاء الأخير فصحياً أم لا. وفقاً للأناجيل السينابتية، كان العشاء الأخير طعام الفصح وأقيم في يوم الفصح، الذي يبدأ في التقويم اليهودي من الغروب وينتهي في غروب اليوم التالي. لذلك كان يؤكل العشاء الفصحي بعد الغروب، مع العلم أن ذبح الخراف في الهيكل كان يحصل قبل يوم واحد. أما الإنجيل الرابع فيؤكد أن العشاء الأخير وبالتالي تأسيس الأفخارستي، قد تم نهار الجمعة (أي الخميس مساءً)، وأن الصلب قد حصل يوم الجمعة. ولكن هذا اليوم لم يكن يوم الفصح حسب الواقع التقويمي اليهودي في 15 نيسان الذي هو يوم ذبح الخراف الفصحية. فالصلب، حسب يوحن، حصل عشية الفصح لأن الذين أتوا بيسوع صباح الجمعة من عند قيافا إلى بيلاطس "لم يدخلوا دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيمتنعوا عن أكل الفصح" (يو18: 28). وكان هذا اليوم "يوم التهيئة" وكان يوم السبت الذي يليه "يوماً عظيماً" (يو19: 14، 31). وهكذا فإن عيد الفصح في تلك السنة، حسب شهادة يوحن، كان يوم السبت وليس يوم الجمعة. لقد قدمت حلول عديدة لتفسير هذا التعارض بين الأناجيل السينابتية وإنجيل يوحنا. يعتقد بعض البحاثة أن مصطلحات يوحنا ذات دوافع لاهوتية لأنها تجمع بين صلب المسيح وذبح الخراف لكي تظهر أن المسيح هو الحمل الفصحي الحقيقي "الرافع خطايا العالم". اقترح مؤخراً جوبير حلاً أخر لهذه المشكلة (6) إذ افترض تسلسلاً زمنياً جديداً لأسبوع الآلام لا يكون فيه العشاء الأخير مساء يوم الخميس (يوم الجمعة) بل مساء يوم الثلاثاء (يوم الأربعاء). أما يوم الصلب فيبقى يوم الجمعة. يرتكز هذا التفسير الخاص على تقويميين يهوديين كانا يستخدمان في أيام يسوع. نعرف من كتابات اليوبيلات (7) أن جماعة قمران كانت تستعمل تقويماً شمسياً تتألف فيه السنة من 364 يوم وفيه تقام الأعياد الرئيسية في اليوم نفسه من الأسبوع. فلربما بقي هذا التقويم متداولاً من اليهود حتى السنة 152ق.م . إذ وصل المكابيون إلى رئاسة الكهنوت وتبنوا التقويم القمري الذي كان سائداً في العالم الهليني، فإذا ما أقيم الفصح حسب التقويم الشمسي لوقع سنوياً مساء الثلاثاء (يوم الأربعاء) وهذه ليست هي الحال في التقويم القمري. ولقد أوضح جوبير نظرته بالقول بأن يسوع ربما اتبع التقويم الشمسي المستعمل في قمران واحتفل بالفصح يوم الثلاثاء مساءً. هذا الحال يخصص ثلاثة أيام لإلقاء القبض على يسوع ومحاكمته وصلبه وليس يوماً واحداً كما ورد في الأناجيل. لقد وجد بعض العلماء هذا الحل مفيداً بيد أن البعض الآخر انتقده لأنه يخالف الرواية الإنجيلية، ولا ينسجم مع سردها لأحداث الآلام. إن رؤساء الكهنة أرادوا اعتقال يسوع مع تحاشي إثارة أتباعه. لذلك لجأوا إلى السرعة والفعالية. ولو دامت المحاكمة بالفعل ثلاثة أيام لما استطاع اليهود تحاشي الاضطراب. وهنالك صعوبة أخرى تقف أمام هذه النظرية. إذ كيف يمكن ليسوع أن يحتفل بالفصح حسب التقويم القمراني ما دام قد احتفل بكل الأعياد حسب التقويم الأورشليمي؟ نعلم تماماً أنه زار أورشليم في العيد، كما فعل كل السكان الذين لا ينتمون إلى جماعة قمران. ولا توجد أية إشارة تدل على أن أحد اتهمه بإتباع تقويم جماعة قمران "الهرطوقي". ولو اتبع يسوع التقويم القمراني لاستخدم أخصامه هذا ضده محاولين عزله عن الجماهير. والجدير بالذكر أن يسوع كان في أورشليم في عيد تجديد الهيكل كما ورد في يوحنا (10: 22)، وفي هذا العيد كان يحتفل بذكرى إعادة تكريس الهيكل زمن الحروب المكابية السنة 165ق.م. بعد أن دنسه أنطيوخيوس ابيفانوس.ولم يكن يقام حسب التقويم الشمسي المتبع آنذاك من الأسانيين لأنهم كانوا يرفضون ويمقتون كل ما من شأنه أن يذكرهم بالمكابيين حتى إذا كان ذا صلة بتجديد الهيكل (8). هناك نظريات أخرى قدمت للتوفيق بين الأناجيل السينابتية وإنجيل يوحنا. فواحدة تقول بأن اليهود الجليليين كانوا يأكلون الفصح قبل يهود أورشليم بيوم واحد. وأخرى تذكر أن يهود أورشليم وكل فلسطين احتفلوا في تلك السنة بالفصح يوم السبت بينما احتفل به يهود الشتات يوم الجمعة. فإذا صحت هذه النظرية يكون إنجيل يوحنا هو الذي يذكر الموعد المحدد الصحيح فيما يحور إنجيل مرقس هذا الموعد لكي يلائم تقليد كنيسة روما (9). كل هذه التفاسير قد تكون ممكنة ولكن لا يستطاع دعمها بحقائق لا يرقى إليها الشك. ينزع علماء العهد الجديد اليوم إلى قبول الترتيب المتبع في إنجيل يوحنا لأسبوع الآلام، بمعنى أن يسوع أقام العشاء الأخير يوم الخميس مساءً- ولم يكن ذلك اليوم يوم الفصح- لكي يجعله بمثابة عشاء تذكاري (10). هذا الترتيب لا يدحض ما ورد في الأناجيل السينابتية إنما يعطي تفسيراً مقبولاً لروايتهم التي تجعل من العشاء الأخير عشاء الفصح. وأما بالنسبة ليسوع وتلاميذه فقد كان هذا العشاء طقساً فصحياً وفيه تأسس طقس الأفخارستيا الجديد. ووصف العشاء الأخير في يوحنا 13 وكذلك معنى الأفخارستيا في يوحنا 6 يشهدان لذلك. وكذلك فالمناخ العام في الإصحاح 13 يوحي بالفصح: فالذهاب إلى أورشليم كان بعد الغروب (يو13: 30)، وكان الطاعمون متكئين (يو13: 23). كل هذه الدلائل تشير إلى أن العشاء كان عشاء الفصح. كانت فيما مضى الأناجيل السينابتية، وعلى الأخص إنجيل مرقس، موضوع تقدير في الأوساط العلمية من حيث دقتها التاريخية. وكلما تعارضت مع إنجيل يوحنا كان العلماء يقفون إلى جانبها. والآن بدأت القيمة التاريخية لإنجيل يوحنا تبرز وتزداد وأصبح من المسلّم به أن التقليد المتجسد في إنجيل يوحنا مستقل عن الأناجيل السينابتية إلا أنه بنفس القدم والأصالة إذا لم يبزها في بعض أقسامه (11). محاكمات يسوع المسألة الأخيرة التي ينبغي إثارتها في موضوع التسلسل الزمني وتاريخية الأحداث هي فيما إذا كانت المحاكمة أمام مجلس اليهود تاريخية أم لا. وهل سبقت المحاكمة السياسية التي جرت أمام بيلاطس؟ بكلام آخر، هل نجد في الأناجيل سرداً ذا تسلسل تاريخي يمتد من العشاء الأخير وحتى إعلان بيلاطس عن حكم الموت على يسوع؟ ولقد أبدت الأناجيل اهتماماً عظيماً لتسلسل الأحداث في هذه الحقبة القصيرة من الزمن. فقد ألقي القبض على يسوع ليلاً تحاشياً لإثارة الشغب بين الشعب. كما أن استعداد يهوذا لقيادة الجنود إلى الجثمانية جعل من مساء الخميس الوقت الأكثر ملائمة لمجلس اليهود ليقبضوا على يسوع، لأن اليهود كانوا منهمكين بتعييد الفصح. ثم أُخِذَ يسوع إلى حنانيا رئيس الكهنة المعزول من الحاكم الروماني السابق لبيلاطس والذي كان تأثيره على شؤون الشعب اليهودي لا يزال قائماً. حنانيا هذا سأل يسوع عن تعليمه وعن تلاميذه (يو18: 12-14، 20-21) إلا أن المحاكمة الحقيقية ابتدأت حين اقتيد يسوع إلى رئيس الكهنة قيافا. ووصلت المحاكمة إلى قمتها عند سؤال قيافا له: "أأنت المسيح ابن الله الحي؟" (مر14: 61 وما يوازيها). فكان جواب يسوع بعد صمت مطبق: "أنا هو وسترون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله وآتياً على سحاب السماء ..." (مر14: 62 وما يوازيها). هذا الجواب كان كشف المسيح عن سر شخصه. وهذا ما فهمه قيافا لذلك "مزق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهود؟ ". وبعمله هذا أظهر قيافا أن يسوع وجد مذنباً بجرم التجديف. وإعلان يسوع نفسه ابن الله كان خطيئة لا تغتفر، لذلك قال لأعضاء المجلس اليهودي: "قد سمعتم تجديفه، فما هو حكمكم؟ ". فكان الجواب: "إنه مستوجب الموت (مر14: 63، متى 26: 65". عند ذاك حكم عليه بالموت لأن "من جدف على اسم الرب يقتل، ترجمه كل الجماعة رجماً. الغريب كالوطني عندما يجدف على الاسم يقتل" (لاويين 24: 16). لكن تنفيذ حكم الإعدام لم يكن من صلاحيات المجلس اليهودي: "لا يجوز لنا أن نقتل أحداً" (يو18: 31). هذا الشأن، أي محاكمة يسوع أمام مجلس اليهود، شكك فيه بعض البحاثة واللاهوتيون المعاصرون وضربوا صفحاً عما ذكره يوحنا عن عدم استطاعة مجلس اليهود من تنفيذ حكم الإعدام، بيد أن بعض علماء التاريخ المعاصرين يعتقدون العكس تماماً. والسؤال يصبح: إذا كان مجلس اليهود لا يملك هذا الحق فما هو هدف المحاكمة اللاهوتية المدونة في الأناجيل؟ هل حصلت فعل، أم كانت، كما يدعي النقاد، من خلق الكنيسة الأولى لأجل تبرئة الرومان من موت يسوع وإلقاء اللوم على السلطات الدينية اليهودية؟ يحاول بول ونتر، وفي كتابه "حول محاكمة يسوع"، البرهان على عدم اشتراك السلطات اليهودية مباشرةً في محاكمة يسوع. وأن ما فعلته بهذا الصدد كان نتيجة الضغط الروماني، وأن الكنيسة والإنجيليين شوهوا هذه الحقائق لاتهام أورشليم وإرضاء روما. صحيح أنه يوجد في الأناجيل مظهر عدائي للكهنوت اليهودي، ولكن هذا العداء غالباً ما يعكس الوضع التاريخي وتخوف الأوساط الحاكمة في أورشليم من يسوع ومقاومتها له. وبما أن بول ونتر وهانس ليتزمان وغيرهما من العلماء يؤكدون حق السلطات اليهودية في إنزال عقوبة الموت، فهم يشككون بالتالي بما ورد في الإنجيل بهذا الشأن ويتساءلون: إذا كان مجلس ليهود قد حكم على يسوع بالموت، كما زعم النص الإنجيلي، فلماذا لم يقم هو بتنفيذ ذلك الحكم؟ من جهة أخرى ترى شروين وايت يدافع بقوة وبكثير من الإقناع عن المحاكمتين الواردتين في الأناجيل. فيقول أن الدولة الرومانية كانت تعطي حق الحكم الذاتي الكامل للمدن وللمقاطعات التي قدمت لها خدمات جمة، وكانت تعتبرها مقاطعات و"مدناً حرة" (12). وبما أن أورشليم لم تحظ بدرجة "المدينة الحرة" فلم يعط لليهود حق إنزال عقوبة الإعدام، بل ما كان يسمح به هو ممارسة معتقداتهم الدينية. وأما حكم الإعدام، فكان يمكن أن ينزلوه فقط بالذي يدخل إلى الهيكل رومانياً أم يهودياً. لذلك كان يوجد على باب الهيكل إعلان يقول: "لا يحق لأي أممي أن يدخل رواق الهيكل. من يقبض عليه هناك يكون قد ارتكب خطيئة مستوجبة الموت". وكان هذا نتيجة اتفاق بين الرومان ومجلس اليهود، كما يقول يوسيفوس. ولم يكن للسلطة الدينية اليهودية الحق في إنزال عقوبة الإعدام في الحالات الأخرى (13). كتب يوسيفوس أن يعقوب أخي الرب أعدم على نحو غير قانوني نتيجة فريق متطرف من مجلس اليهود دون موافقة السلطات الرومانية. ولكن عدم وجود سلطة لمجلس اليهود على حياة رعاياه لا يعني عدم تمكنه من إجراء المحاكمة دون التنفيذ. فالحاجة كانت ملحة لفصل يسوع عن الجماهير. لذلك أجريت له محاكمة أمامه لإظهاره أمام الجماهير مجرم ومستوجباً الموت وفق الشريعة. فالمحاكمة كانت ضرورية إذا ما أراد مجلس اليهود تغيير موقف الشعب من يسوع. وجه الذين اقتادوا يسوع أمام بيلاطس اتهامات عديدة لم يكن بينها التجديف. لأنهم كانوا عارفين بأن بيلاطس لن يتصرف بحزم تجاه خطأ لاهوتي صرف، لذلك أضافوا الاتهامات السياسية التي ارتكز عليها قرار بيلاطس. فزعموا أنهم وجدوا يسوع "يثير الفتنة في الشعب"، وأنه "يمنع أن تدفع الجزية لقيصر"، وأنه "يدعي بأنه المسيح الملك" (لو23: 2-3). كل هذه الاتهامات تحمل معنى سياسياً ولكن الاتهام الأخير كان الأشد خطورة مما أثار انتباه بيلاطس وجعله يسأل يسوع: "أأنت ملك اليهود؟" (متى27: 11، مر15: 2، لو23: 3، يو18: 33). في جوابه كشف يسوع عن طبيعة ملكه قائلاً أن مملكته ليست من هذا العالم، أي أنه ليس ملكاً بالمعنى الذي يفهمه بيلاطس. وبالتالي فإنه ليس صاحب ثورة ومثيراً للشغب بل هو ملك أتى إلى العالم "ليشهد للحق" (يو18: 37-38). ولأول مرة تقدم رؤساء اليهود "بالاتهام الديني" قبل أن يعلن بيلاطس الحكم الرسمي: "لنا ناموس وبحسب الناموس يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله" (يو19: 7). هذا الناموس نجده في اللاويين 24: 16. ومن ثم لجأوا إلى اتهام آخر ذي طابع سياسي: "إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر"(يو19: 12). يرى شروين وايت أنه لا يوجد في تلك الممارسات أي شيء يتعارض مع ما نعرفه من العادات الرومانية في المحاكمات. كما أنه يجد وصف يوحنا للمحاكمة مقنعاً وكذلك قبول بيلاطس الحكم تحت ضغط الشعب (14). إذن خضع يسوع لمحاكمتين، واحدة لاهوتية وأخرى سياسية. ووجد في كلتيهما مذنباً (15). ويميل عدد من البحاثة المعاصرين أكثر فأكثر إلى اعتماد ترتيب الأحداث التي تلي العشاء الأخير كما هي واردة في الأناجيل. ولكن بالإضافة إلى قصة الآلام، تمدنا الأناجيل المدونة بدلائل قلة لتحديد موعد الأحداث في حياة يسوع. إن سرد الأحداث يسير إلى حد ما وفق التسلسل الزمني. ولكن، كما رأينا سابق، نجد قسماً منها رتب وجمع حسب الأهداف اللاهوتية. ولقد اتخذت بعض الأحداث المنفلتة من إطارها التاريخي أهمية فريدة في ضمير الكنيسة. وجمعت الأحداث من التقليد الشفهي الواسع الانتشار إلى مواد تقليدية أخرى. ولذلك علينا الآن النظر في كيفية قبول الكنيسة للأناجيل ودفاعها عنها. -------------- حواشي الفصل الرابع (1) "مع أن محاولة الجدل استناداً إلى سياق الأحداث الموجودة في مرقس تنطوي على مجازفة، توجد أسباب كافية للاعتقاد أن هذا السياق يمثل، من حيث الخطوط العريضة تسلسلاً حقيقاً للأحداث، يمكن من خلاله معرفة سير الأحداث وتطورها" . راجع: C.H. Dodd: << The Framework of the Gospel Narrative>>، in New Testament Studies، Manchester، Manchester University Press، 1953، p.11 لقد انتقد كثير من العلماء هذه النظرة، لكن هذا النقد لم يغير رأي دود في بنية إنجيل مرقس بطريقة أساسية. راجع: C.H. Dodd: Historical Tradition in the Fourth Gospel، Cambridge، Cambridge University Press 1963، pp.233-234، fn.2. يجب الإشارة إلى أن الكرازة الأولى اتبعت أيضاً مخططاً زمنياً (أعمال 10: 37 ...) فإذا كانت أساس الأناجيل، فلا بد للأناجيل أن تتبع المخطط نفسه. (2) إن معمودية يسوع لا تشير إلى آلامه فحسب، بل إنها تلخص، في حدث واحد العمل الخلاصي الذي قام به ابن الله الذي هو في الوقت ذاته، الخادم. لا يبرز كل ما تحقق في المعمودية دفعة واحدة، بل تدريجي، أثناء حياة يسوع وموته وقيامته. فالروح الذي استقر على ماسيا يشير إلى الدهر الآتي. كذلك السماء المفتوحة وحلول الروح وصوت الآب والماسيا الحاضر "تشير إلى أن الأيام الأخيرة قد بزغت وأن الخلاص أصبح قريباً". ليست المعمودية بالتالي، قبول يسوع للموت فحسب، بل "فجر الخليقة الجديدة ووعد الحياة والخلاص من الموت". راجع: G.R. Beasly-Murray: Baptism in the New Testament، London، MacMillan، 1962، p.61. يشير أيضاً خروج المسيح من الماء إلى صعوده إلى السماوات، لأن العبارة نفسها (anabaino) "استخدمت سبع مرات للدلالة على صعوده (يوحنا 1: 51،3: 13، 6: 62، 20: 17، أعمال 2: 34، رومية 10: 6 أسس 4: 8-10)". راجع: G.W.H. Lampe: The Seal of the Spirit: A Study in the Doctrine of Baptism and Confirmation، in the New Testament and The Fathers، London، SPCK Press، 1951، p.43. (3) "ولما نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة. وإذا أبرص قد جاء وسجد له" طالباً منه الشفاء، "فمد يسوع يده ولمسه قائلاً: أريد فاطهر". وللوقت شفي المريض. وتنتهي الرواية الإنجيلية لهذا الحدث بتحذير يسوع: "انظر أن لا تقول لأحد" (متى 8: 1...) . هناك مشكلتان في هذا النص تشيران إلى الوضع الأصلي الذي حصلت فيه هذه المعجزة لم يسجل. أول، كان البرص يعيشون في مستوطنات بعيدة عن العالم، أما في هذه الرواية فالأبرص دنا من يسوع المحاط بجموع كثيرة. أما المشكلة الثانية فهي أنه إذا كان الشفاء قد حصل على مرأى من الجمع، فمن غير المعقول أن يقول يسوع له: "انظر أن لا تقول لأحد ". إذن هذه الرواية لا تنسجم مع الإطار الخارجي الذي وضعت فيه. راجع: Xavier Leon-Dufour: The Gospels and the Jesus of History، London، W. Collins Sons، 1968، pp. 163 f. (4) راجع: Comm. In Ioann. X، 5 quoted by R.L.P. Milburn، Early Christian Interpretation of History، London، Adam and Charles Black، 1954، p. 49. (5) "يجب فصل (حدث كهذا) عن إطاره الزمني، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لإعطاء معناه اللاهوتي حقه". راجع: E. Hoskyns: The Fourth Gospel، London، Faber and Faber، 1947، p.126. يعتقد هسكنس أن، فقط أتباع يسوع الذين رأوا مجده (يو 1: 14) وآمنوا به (يو 17: 20) يستطيعون أن يتكلمو ويكتبوا بجرأة وثقة عنه (رجع المصدر نفسه أعلاه). (6) راجع: A. Jaubert: The Date of the Last Supper، Staten Island، New-York، Alba House، 1965. (7) هذا الكتاب هو من الكتب الأبوكريفية اليهودية. لقد وجدت نسخ عديدة منه في مكتبة قمران. وقد اعتبرته هذه الجماعة جزءاً من الكتاب المقدس. آلف هذا الكتاب في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، وربما بعد إدخال التقويم القمري إلى الهيكل. وقد يكون القرار بإدخال التقويم هذا سببا في انفصال الأسانيين عن أورشليم وكهنوتها. بما يختص بجماعة قمران راجع الفصل السادس. (8) راجع: Raymond E. Brown: New Testament Essays، Milwaukee، Bruce Publishing Co.، 1965، pp. 166 f. (9) ترتبط النظرية الأولى باسم Julian Morgenstern والثانية باسم M.H. Shepherd. راجع: Sherman E. Johnson: The Gospel According to St. Mark، New York، Harper and Brother، 1960 p. 227 f. (10) "لقد أراد أن يجعلها مائدة تحل محل فصح الخروج". راجع: A.Feuillet: << Some Major Themes of the New Testament>>، in A. Robert and A. Feuillet، eds.، Introduction to the New Testament، New-York، Desclee Co.، 1965، pp.794 f. (11) أصبحت النظرية المرقسية اليوم موضع شك وتساؤل. هناك بعض النقاط التي يضيفها يوحنا إلى الخطوط الكبرى لحياة يسوع الموجودة في الأناجيل السينابتية. فتلاميذ يسوع كانوا من تلاميذ يوحنا المعمدان سابقاً (يوحنا 1: 35- 43). كما أن يسوع، وفقاً ليوحن، لم يبدأ عمله في الجليل، إنما في أورشليم واليهودية. كذلك يبدو من خلال إنجيل يوحنا أن عمل يسوع في اليهودية قبل موته وقيامته دام مدة أطول مما توحيه الأناجيل السينابتية. (12) راجع: A.N. Sherwin-White: Roman Society and Roman Law in the New Testament، Oxford، Clarendon Press، 1963، p.36. ونرى هذه الحجة موسعة في مقالته: << The Trial of Jesus>>، in D.E. Nineham and others، Historicity and Chronology in the New Testament، London، SPCK، 1965. (13) راجع: يوسيفوس: الحرب اليهودية، 6: 2، 4، وأيضاً: Sherwin-White: <<The Trial of Jesus>>، pp. 107، 109 يضيف هذا الكاتب أن استفانوس الشهيد الأول قتل من غير محاكمة قانونية (صفحة 107 وما يليها) (14) راجع: Sherwin-White: Roman Society and Roman Law، pp.46-47. (15) لقد خلقت قصة الآلام صعوبات للمسيحيين ولليهود معاً. فوجد النساخ المسيحيون الأول صعوبة في قبول القول بان يسوع صلى من أجل المسؤولين عن موته، ولذلك حذفوا في بعض الأحيان الكلمات التالية: "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34). ويواجه المفسرون اليهود للعهد الجديد مشاكل من نوع آخر. فيميل بعضهم إلى تبرئة الزعماء اليهود وفي سعيهم هذا يتجاهلون الشواهد الإنجيلية ويعتبرونها غير جديرة بالثقة. وقد أدت هذه التحريفات من قبل الطرفين إلى جعل المشكلة أكثر صعوبة وإلى خلق جو من سوء التفاهم والعداوة بينهما. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:11 AM | رقم المشاركة : ( 6 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل الخامس قبول الكنيسة الأولى للأناجيل لم تكتب الأناجيل بشكل يشمل كل المعلومات التي كانت معروفة آنذاك عن يسوع (يو20: 30). وصار تأليفها في وقت كان فيه التقليد الشفهي غنياً جداً بالروايات المنقولة عن الرسل والشهود العيان الآخرين. لذلك ظل التقليد الشفهي حتى منتصف القرن الثاني محتفظاً بسلطة معادلة لسلطة الأناجيل وتعايش التقليد الشفهي والتقليد الكتابي في الكنيسة. وقد اعتمد آباء الكنيسة هذين التقليدين فالقديس اغناطيوس الأنطاكي الذي عاش في أوائل القرن الثاني ذكر معرفته بمواد موجودة في إنجيلين وثلاثة. بيد أنه من الصعب التأكد في ما إذا كانت معرفته تنبع من الأناجيل أم من التقليد الشفهي الذي سمعه ممن عرفوا تلاميذ الرسل ومن ذكريات بقيت بعد قراءته للأناجيل (1). وفي منتصف القرن الثاني استشهد القديس يوستينوس بالإنجيل واعتمد كذلك على التقليد الشفهي. فكتب في حواره مع تريفن (47: 5) على لسان يسوع: "سأحاكمكم على النحو الذي أجدكم فيه". هذا القول لا يرد في الأناجيل الأربعة ولذلك يغلب الظن على أنه استقي من تقليد شفهي (2). بالرغم من أن كتاب (بتشديد التاء) القرن الثاني المسيحيين كانوا يعتبرون للتقليد الشفهي سلطة معادلة لسلطة التقليد المكتوب، فإنهم أخذوا يظهرون ميلاً متزايداً إلى الاعتماد على الروايات الإنجيلية المدونة. هذا الميل حصل نتيجة لانتشار المسيحية في العالم الهليني ولقيام أدب هرطوقي ولبروز أولى المحاولات لوضع قانون العهد الجديد. وسوف ندرس في هذا الفصل طريقة إقرار قانونية أسفار العهد الجديد. الأناجيل الأبوكريفية لقد وجد إلى جانب الأناجيل الأربعة عدد من الكتب الأخرى التي ألفت هي البرهة نفسها بهدف نقل حياة يسوع وتعاليمه. جل هذه الكتب دوّن إما لملء ثغرات الكتب القانونية بواسطة قصص غالباً ما سادها الطابع الخيالي ولنشر بعض التعاليم الغنوصية. والذي يقرأ الأناجيل الأبوكريفية بعد قراءة الأناجيل القانونية يجد نفسه في عالم مختلف جد، مليء بالمعجزات والأساطير، خال تقريباً من التفاصيل التاريخية (3). تحاول أناجيل الطفولة مثلاً مدّنا بمعلومات عن طفولة يسوع غير موجودة في الأناجيل القانونية. هذه النصوص لا تعكس الجو الحقيقي لحياة يسوع ولا تصف يسوع كطفل حقيقي كما كان (4). كذلك تتعارض صورته في هذه الأناجيل مع التي تعطينا إياها الأناجيل الأربعة. فهو كطفل يجترح العجائب. وهنا يخطر لمن يؤمن بالعجائب الواردة في أناجيل الطفولة السؤال: لِم لمْ يحول يسوع الحجارة إلى خبز ولماذا لم يقذف بنفسه من جناح الهيكل؟ نجد في النصوص الأبوكريفية للعهد الجديد هذا النوع من العجائب التي طلب الشيطان من يسوع اجتراحها. فيستجيب يسوع مظهراً قدرته الإلهية أمام كل الشعب، ويفعل ذلك كلما تحداه أحد (5). لقد استعاضت أناجيل الطفولة عن التجسد التاريخي الظاهر في الأناجيل القانونية بتجسد خرافي ذي طابع دوسيتي (6). يوجد في إنجيل توم، كما في عدد من الأناجيل الأبوكريفية الأخرى، تأثير المفاهيم الغنوصية. ولقد أوجد الغنوصيين نظاماً معقداً جداً لوصف بنية العالم السماوي المنفصل عن العالم المادي. ولم يبدوا أي اهتمام بيسوع التاريخي. وكانوا أول من فصل "يسوع" عن "المسيح"، وبنوا كل تفسيرهم للكتاب المقدس على هذا الفصل الصارم. واعتبروا أن المسيح الإلهي الذي هو فيض من الألوهة الأزلية قد حل على يسوع الإنسان أثناء المعمودية وتركه قبل الآلام. ولا يوجد في إنجيل توما أي إطار قصصي وتاريخي بل يتألف فقط من أقوال يسوع السرية. ويبتدئ الكتاب هكذا: "هذه هي الأقوال السرية التي نطق بها يسوع الحي والتي دونها ديدموس يهوذا توما. قال يسوع: من يجد تفسيراً لهذه الكلمات لن يذوق الموت" (7). يتبع هذه المقدمة بأكثر من مائة قول سري ليسوع. وإذا ما قارنا بعض الأقوال بالأقوال المماثلة التي حفظتها الكنيسة وأدخلتها في أناجيلها القانونية نراها معكوسة تماماً. فعل الغنوصيين هذا لينشروا تعاليمهم. يورد إنجيل متى على لسان يسوع قوله: "متى صنعت صدقة فلا تهتف قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون" (6: 2). "ومتى صليتم فلا تكونوا كالمرائين" (6: 16). نفهم من ذلك أن يسوع كان يتوقع من أتباعه أن يتصدقو ويصومو ويصلوا. لم يقل يسوع "إذا" فعلتم كذ وكذا بل "متى" فعلتم. هذا يعني أنه لم يترك الأمر لاختيارنا بل جعله أمراً مفروغاً منه. وعلى خلاف ذلك فإن الرسل في إنجيل توما يسألون يسوع عما إذا كان يريدهم أن يصلو ويصومو ويتصدقو، فيجيبهم قائلاً: لا تتكلموا بالكذب ولا تفعلوا ما تكرهونه" (القول الخامس). وفي القول الرابع عشر يتلكم بطريقة أكثر وضوحاً ويذهب إلى رفض الصوم والصلاة والصدقة كلياً حين يقول: "إذا صمتم فستخطئون إلى أنفسكم وإذا صليتم تدانون وإذا تصدقتم تؤذون أنفسكم". وعندما طلب إليه أتباعه أن يصوم ويصلي أجابهم: "أية خطيئة ارتكبت وأي اثم سيطر علي" (القول 101). وهذا يوضح تماماً أن هذا الإنجيل لا يشهد للمسيح بل للغنوصيين وتعاليمهم. هنالك أناجيل أبوكريفية أخرى يصعب تحديد هويتها لأننا لا نملك نصوصها الكاملة بل أجزاء منها. ولأن هذه الأجزاء تماثل كثيراُ بعض المواد الموجودة في الأناجيل السينابتية، يرحج أن يكون مؤلفو هذه الأناجيل قد اعتمدوا على الأناجيل القانونية أكثر من اعتمادهم على التقليد الذي يسندها. يبدو إنجيل بطرس، الذي كتب في منتصف القرن الثاني، أنه معتمد على الأناجيل القانونية. لكن الأحداث التي يرويها لا تتوافق مع المحتوى التاريخي للأناجيل السينابتية. وتتعدى حدود فلسطين القرن الأول ويمكن أن تكون قد حصلت في أي مكان آخر. وفي حين أن الأحداث في الأناجيل القانونية ترتبط بمكان وزمان معينين، نجدها لا ترتبط ارتباطاً كلياً في إنجيل بطرس. مع ذلك يبقى أن الفرق الأساسي بين هذا الإنجيل وأناجيل الكنيسة يكمن في لهجته الدفاعية، فيستعيض عن الشهادة للمسيح التي هي الميزة الرئيسية للأناجيل القانونية "ببرهان مباشر للحقيقة" (8). وبينما لا يوجد في كتاب الكنيسة وصف حي للقيامة نجد في إنجيل بطرس الوصف المفصل التالي: {في الليلة التي بزغ فيها يوم الرب وفيما كان الحراس يتناوبون الحراسة اثنين اثنين سمع صوت عظيم فرأوا السموات مفتوحة ورجلين يهبطان منها بنور عظيم ويقتربان من القبر. أما الحجر الذي كان على بابا القبر فأخذ يتدحرجا جانباً حتى أصبح القبر مفتوحاً ودخله الرجلان... ورأيا أيضاً ثلاثة رجال خارجين من القبر، وكان اثنان منهم يسندان الثالث ويتبعهم صليب. وكان رأسا الرجلين يناطحان السماء بينما رأس الثالث الذي يقوده الاثنان يتجاوز السماء. وإذا بهما يسمعان صوتاً من السموات صارخاً: "هل بشرت النيام؟ "، فأتى الجواب من الصليب: "نعم"}(9). لا بد وأن يكون استخدام وضع كهذا لأغراض دفاعية ولإشباع فضول الناس. تختلف الأناجيل الأبوكريفية كثيراً عن الأناجيل القانونية من حيث الشكل الأدبي، فلا يحتوي إنجيل توما الذي نملك نصه الكامل على فرادة الشكل الأدبي الذي للأناجيل القانونية. فالأناجيل الغنوصية أعادت إحياء الأشكال الأدبية القديمة التي كانت مستعملة قبل بزوغ المسيحية. لقد اكتسبت الأناجيل القانونية بنيها من الكرازة الرسولية التي تجاهلها الغنوصيون الذين وضعوا مؤلفاتهم لنقل آرائهم وخلق صورة ليسوع تخدم مآربهم. ولقد رفضت الكنيسة الكتب الأبوكريفية لأنها روايات أسطورية لا أسس تاريخية لها عن حياة يسوع وأعماله (10). الكنيسة ومركيون لقد أثارت محاولة مركيون (سنة150م) لوضع لائحة من قِبله بكتب العهد الجديد المقبولة تحدياً جدياً للكنيسة. وحتى ذاك الحين لا يوجد أي برهان قاطع على أن الكنيسة كانت قد وضعت قانوناً للكتاب المقدس، بل كانت تقبل الأسفار المطابقة لإيمانها. أما مركيون فحذف من قانونه أسفار العهد القديم كله وأبقى من العهد الجديد على إنجيل لوقا باستثناء فصليه الأولين، وعلى عشر من رسائل بولس الرسول. مما لا ريب فيه أن مركيون قام بعمله هذا تحت تأثير غنوصي، فبدون فصص الطفولة يبدو يسوع في إنجيل لوقا وكأنه منحدر مباشرة من السماء، وبدون العهد القديم ليس كمحقق لوعود الله في التاريخ بل كفيض من العلى. توصل ترتليانس إلى القول بأن مركيون "يجزئ الكتاب المقدس إلى أجزاء حتى تتوافق مع أفكاره الخاصة" (11). إن تحدي مركيون أجبر الكنيسة، وفقاً لرأي بعض البحاثة، على وضع لائحة بالكتب المقدسة المقبولة لديها والتي يمكن اعتبارها مرجعاً لحياتها وتعاليمها. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل كان وضع قانون العهد الجديد لولا الضغط الخارجي؟ سؤال مثيل يمكن أيضاً طرحه حول عقيدة الثالوث التي جاءت كرد على الأريوسيين. من المؤكد أنه لم يكن هناك دور للتأثير الخارجي في تحديد قانونية سفر من الأسفار. والتزمت الكنيسة بكتبها التي كانت قد قبلتها دائماً. وبعملها هذا حددت الكنيسة الأساس الذي بموجبه تحدد قانونية أسفار الكتاب المقدس. وكما أجابت الكنيسة عن السؤال حول هوية يسوع، كذلك عبرت عن إيمانها في عقيدة الثالوث. وأنها لم تبتدع إيماناً جديداً بل أعطت صيغة وتعبيراً ذاتياً عما كانت تعتقد به نتيجة الإعلان الإلهي. فقبل أن يأتي مركيون بقانونه الجديد، كانت الكنيسة تعتمد على أناجيلها. لكنها احتاجت بعد ذلك إلى أكثر من مائتي سنة كي تمهرها بخاتم الاعتراف القانوني النهائي. ولم تختر الكنيسة كتبها على نحو اعتباطي، بل اعتمدت بعض المقاييس لتحديد قانونية تلك الأسفار. منها أن يكون السفر مكتوباً من قبل الرسل أنفسهم ومن قبل تلاميذهم، وأن تكون تعاليمه من أصل رسولي واستخدمت في العبادة الجماعية. وبينما كانت المطابقة لمقياس واحد تعتبر غير كافية لإدراج أي كتاب في قانون العهد الجديد، لم تكن المطابقة لكل المقاييس هي الشرط للإدراج. فلم يكن سفر الرؤيا من الأسفار التي تقرأ في الخدم الإلهية –كما هي الحال اليوم أيضاً- بالرغم من كونه من أصل وتأليف رسوليين. وعندما برزت في الغرب بعض التساؤلات حول قانونية الرسالة إلى العبرانيين انبرى القديس ايرونيموس للدفاع عن قانونيتها استناداً إلى استخدامها في العبادة. ومادام السفر من إنتاج الكنيسة ويتلى فيها فليس من الضروري معرفة مؤلفه (12). والغرب، مع أخذه حجج القديس ايرونيموس في الدفاع عن الرسالة إلى العبرانيين بعين الاعتبار، كان يعطي للسلطة الرسولية الأهمية القصوى في كتاب متنازع على قانونيته، على عكس الشرق الذي كان يميل دائماً إلى التشديد على محتوى الكتاب أكثر منه على مؤلفه. إن السلطة الرسولية المنوطة بالأناجيل سبقت قانونيته، إذ أن الكنيسة لم تعط الأناجيل سلطة بل اعترفت فقط بسلطتها الذاتية. عوامل عدة ساهمت في تكوين العهد الجديد، ولكن العامل الأكثر أهمية هو إلهام الروح القدس. والروح الذي ألهم الإنجيليين في كتابة أناجيلهم هو نفسه الذي ألهم الكنيسة في قبول هذه الأسفار. لم يستطع مركيون، وهو يعارض تقليد الكنيسة، أن يميز بين الأسفار الملهمة والأسفار غير الملهمة. والملهم (theopneustos) هو "الموصى به من الله" (2تيمو3: 16) الذي لا يرتكز على إدراك بشري بل على عمل الله. فسلطة الأناجيل وأي جزء من العهد الجديد، ليست في الكتب نفسه، ولا ترتكز على سلطة الكنيسة التي فيها وجدت، بل تأتي من المسيح الذي تشهد له الأناجيل الملهمة من الروح وتعلنه في حياة الكنيسة. لم تقبل الكنيسة قانون مركيون ليس فقط لأنه ناقص بل لأن جامعه هو غنوصي سعى إلى تحوير النص لكي يعكس الصورة التي يرغبها هو عن يسوع. واعتمدت الكنيسة في حربها ضد مركيون الأناجيل الأربعة كي تظل صورة يسوع غير مشوهة. "الإنجيل الرباعي" (Diatessaron) وال (Euaggelion tetramorphon) في النصف الثاني من القرن الثاني برز السؤال: لماذا توجد أربع روايات عن حياة يسوع وتعاليمه؟ ولماذا كل هذا الصراع القائم حول الفروقات والمصاعب فيما بينها؟ فلماذا لا توجد رواية واحدة متجانسة تعتمد الروايات الأربع؟ هذا السؤال طرح نفسه على تاتيانوس المناضل المسيحي الذي ولد في منطقة ما بين النهرين وعاش في روما زمناً طويلاً. فوضع كتاب "من خلال الأربعة" و"الإنجيل الرباعي" حوالي سنة 170م. استخدمت بعض الكنائس الشرقية هذا الكتاب وبقي مستخدماً في الكنيسة السريانية حتى القرن الخامس حين استبدل أسقف رخا رأبوله الأناجيل "المدمجة" بالأناجيل "المنفصلة" الأربعة. يشكل وجود هذا الكتاب دليلاً قاطعاً على أن كنيسة القرن الثاني كانت قابلة للأناجيل الأربعة. أما النجاح الذي حظي به "الإنجيل الرباعي" في الكنائس الشرقية فيعزى إلى كونه عرضاً للرواية الإنجيلية خال من التناقضات التي غالباً ما تظهر عند مقارنة الأناجيل الأربعة. فقد النص الأصلي لكتاب تاتيانوس. لذلك لا نعلم حتى الآن ما إذا كان قد وضعه أصلاً بالسريانية أم باليونانية. واستناداً إلى ترجمات متأخرة نعلم أنه بدأ إنجيله وأنهاه بآيات من إنجيل يوحنا. وهذا لا يعني أنه اتبع تصميم الإنجيل الرابع بل يعتقد أنه فضل ترتيب الأحداث حسب الأناجيل السينابتية مستثنياً قصة الآلام حيث أوردها كما في الإنجيل الرابع (13). وقد أثبت البحث الإنجيلي الحديث صحة هذا الرأي. هل أظهر تاتيانوس ميولاً غنوصية في مؤلفه؟ يشهد القديس ايريناوس بأن تاتيانوس كان تلميذاً ليوستينوس الشهيد وأنه ترك روما بعد استشهاد معلمه. ولعله وقع بعد ذلك تحت تأثير بعض الأوساط الغنوصية. فهل وضع كتاب "الإنجيل الرباعي" قبل وبعد قبوله لأراء فئة الأنكراتيين (الممسكين) الغنوصية التي كانت تنكر للزواج قدسيته وتحرم استعمال الخمر في سر الشكر؟ ينزع بعض العلماء اليوم، إلى القول بأن كتاب تاتيانوس، بصرف النظر عن تاريخ كتابته، خال من الميول الغنوصية، لكن المراجع القديمة تخالف هذا الرأي. فثيودوريتوس أسقف قورش (393-466)، الذي عرف نصاً يونانياً لكتاب تاتيانوس، يشير إلى أن هذا قد حذف سلسلة الأنساب الدالة على أن يسوع هو من سلالة داوود حسب الجسد نحت تأثير التعليم الغنوصي. وسواء كان "الإنجيل الرباعي" ذا ميول غنوصية أم لا. فلا يمكن اعتباره عملاً إلهياً – إنسانياً كالأناجيل بل وثيقة من صنع بشري. ناهيك عن فقدان التنوع الموجود في الأناجيل الملهمة والإخفاق في إظهار كل غنى المواد الإنجيلية، وذلك نتيجة عملية التنسيق التي أجريت والتي تفرض حدوداً لا يمكن أن يتعداها المرء في اختيار النصوص. إن كل إنجيل، بالرغم من توافقه في الأساس مع الأناجيل الأخرى، يعطي تفاصيل خاصة به. وفي قراءة الأناجيل الأربعة تظهر صورة المسيح أوضح. فلا يغني كتاب "الإنجيل الرباعي" عن الأناجيل الأربعة لأنه لا ينقل كل ما تنقل. وانتهت الكنيسة إلى رفض كتاب تاتيانوس واعتباره عملاً إنساني وفضلت البقاء على تعددية الأناجيل الأربعة. كتب القديس ايريناوس في أواخر القرن الثاني أن الأناجيل هي "ركيزة الإيمان وعموده" التي بشر بها الذي "ألبسوا قوة من العلا عندما حل الروح القدس عليهم وملئوا بالمعرفة الكاملة". لقد نقل متى ومرقس ولوق ويوحنا الإيمان "بإله واحد صانع السماء والأرض الذي تكلم عنه الناموس والأنبياء، وبمسيح هو ابن الله الوحيد" (14). وهكذا لم يفصل ايريناوس بين الأناجيل واعتبر أن الهراطقة بشروا بآرائهم الخاصة فافسدوا بذلك "قانون الإيمان". لم يكن لديهم بشارة خلاصية فعارضوا التقليد واعتبروا ذواتهم أكثر حكمة من شيوخ الكنيسة ومن الرسل أنفسهم. وتابع ايريناوس القول بأنه حتى لو لم تكتب الأناجيل لكنا ملزمين ب "قانون التقليد" الذي "سلمه الرسل للذين جعلوهم مسؤولين عن الكنيسة" (15). يشدد القديس ايريناوس على وجود أربعة أناجيل "دون زيادة ونقصان" (16). يقول: هنالك، في الواقع، إنجيل واحد "بأربعة وجوه من حيث الشكل يجمعها روح واحد"، أما الذين يغيرون نمط الإنجيل ويقدمون أكثر وأقل من أربعة أشكال له (Euaggelion Tetramorphon)، فهم أناس متهورون يقطعون أنفسهم عن الأناجيل والكنيسة وعن "شركة الأخوة". وقال ايرنياوس عن الغنوصيين أنهم "أتوا بتآليفهم الخاصة متباهين بامتلاكهم أناجيل تفوق العدد الموجود" (17). وأكد على أن هذه الأناجيل لا تمت بصلة إلى أناجيل الكنيسة التي تتضمن وحدها إلهام الروح القدس. وكما أشرنا سابقاً حوّر الغنوصيون النص الكتابي حسب ميولهم الخاصة لأنهم تجاهلوا الكرازة الإنجيلية التي هي بمثابة "المسودة الأصلية" لكل تعليم إنجيلي. لقد دافع ايريناوس عن تقليد الكنيسة ضد هجمات مؤلفي الأدب الأبوكريفي وكذلك ضد مركيون وتاتيانوس اللذين لم يثقا كلياً بالأناجيل وأرادا الإنقاص من موادها للوصول بها إلى المستوى المقبول منهما. فيتضح إذن أن الكنيسة قد ألتزمت بكتبها ودافعت عنها معتبرة إياها معبرة عن إيمانه وحياتها. كذلك رفضت بحزم إنقاصه وحافظت عليها كاملة. فالأناجيل كتبت لإعلامنا عن طبيعة المسيح الإنسانية وطبيعته الإلهية. وهي تستمد سلطتها من المسيح نفسه الذي وجدت لتشهد له. حرصت الأناجيل كل الحرص على تحديد زمان ومكان وقوع الأحداث التي وصفتها. وأظهرت كيف أصبح الله إنساناً ودخل التاريخ وعاش بيننا ومات كإنسان، وذلك خلافاً للغنوصيين الذين خلطوا بين الإلهي والإنساني ورفضوا الإقرار بإمكان إتحادهما. --------------- حواشي الفصل الخامس (1) للحصول على بحث مفصل لهذه الاحتمالات راجع: Robert M. Grant: Formation of the New Testament، New-York، Harper and Row، 1965،pp.100-102. (2) لقد جمع جيرمياس أقوال يسوع الموجودة خارج الأناجيل القانونية وحللها في كتابه: J. Jeremias: Unknown Saying of Jesus، London، S.P.C.K. Press، 1957. وقد زودنا أيضاً بمجموعة من 11 قول في مقاله: "Isolated Saying of Jesus" in E. Hennecke، pp. 85-90. هناك قول آخر لا نجده في الأناجيل القانونية، ولكنه منسوب إلى يسوع من قبل يوستينوس وهو "ستقوم فتن ونزاعات" (حوار 35: 3). هذا القول مدون أيضاً في النص السرياني ل "تعليم الرسل الاثني عشر" (6، 5) وعظات اكليمندوس (2، 17 و16، 21)، وفي إنجيل توما القبطي،(القول 16). هذه المصادر مستقلة عن بعضها البعض.(راجع: E.Hennecke،p.85). لعل يسوع أراد أن يشير إلى الخلافات التي ترافق عمل الأنبياء الكذبة (متى 24 ومرقس 13). (3) "إذا كانت هذه المصادر بمعنى ما غير صالحة كمصدر فهي صالحة بمعنى آخر. فهي تسجل تصورات كتابه وآمالهم ومخاوفهم، وتعرض ما كان مقبولاً لدى البسطاء من مسيحيي القرون الأولى مشيرة إلى مراكز اهتمامهم وإعجابهم وإلى المثل العليا التي كانوا يتبعونها في سلوكهم في هذا العالم، وآرائهم بما سيجدون في العالم الآخر" راجع: Montague Rhodes James: The Apocryphal New Testament، Oxford، Clarendon press، 1926، p. XIII. وقال أيضاً القديس ايرونيموس، هذا الناقد القوي لكتب العهد الجديد الأبوكريفية، أنه بالإمكان وجود "ذهب" في وسط "وحل" الأناجيل الأبوكريفية. إن المعنى الأصلي لكلمة "Apocryphos" هو "المختبئ" وقد ربط القديس ايرونيموس هذه الكلمة "بالملفق" وترتليانوس "بالزائف". (4) راجع: Edgar Hennecke and Wilhelm Schneemelcher، New Testament Apocrypha I، pp. 81-84. نجد في كتاب "طفولة الرب يسوع" المعروف أيضاً باسم "قصة الطفولة لتوما" رواية عن يسوع حين كان في الخامسة يلعب قرب غدير. "فجبل طيناً ناعماً وصنع منه اثني عشر عصفوراً. وفعل ذلك في يوم السبت". فشكاه أحد اليهود إلى يوسف لأنه يدنس السبت. وبعد تأنيب يوسف له، صفق يسوع بيديه وصرخ قائلاً للعصافير: "طيري!" فابتعدت العصافير وهي تزقزق. هناك قصة أخرى عن يسوع في هذا الإنجيل، وهي أن أحد الأولاد كان يلعب ذات مرة مع يسوع، فسقط من الطابق الأعلى للبيت ومات. فاتهم أهل الولد يسوع أنه هو الذي دفعه إلى أسفل. دافع يسوع عن نفسه ولكن أهل الولد أصروا على اتهامه. آنذاك رمى يسوع بنفسه أسفل واقترب من الصبي الميت منادياً إياه باسمه وقائلاً: "انهض وأخبرني، هل رميت بك إلى الأسفل؟ " فعاد الولد إلى الحياة وقال: "كلا يا سيد، انك لم ترم بي إلى أسفل بل أنهضتني". لقراءة قصص وعجائب كهذه راجع: The Account of Thomas the Israelite Philosopher concerning The Childhood of the Lord، in Hennecke and Schnemelcher، pp.392-399. تجدر هنا الإشارة أن هذا الإنجيل الخاص بطفولة يسوع لا يمت بصلة إلى إنجيل توما الغنوصي. يفتقر يسوع في هذه الأناجيل إلى الطبيعة الإنسانية فيخبر يوحنا الرسول أخوته، في "أعمال يوحنا" الأبوكريفية (93) أنه عندما كان يحاول لمس يسوع كان يحس أنه يمسك أحياناً جسماً مادي، وأحياناً أخرى جسداً غير هيولي كما لو أنه غير موجود. "وعندما كنت أسير معه، كثيراً ما رغبت في رؤية اثر رجليه على الأرض فلم أجد هذا الأثر. ولكن رأيته كما لو أنه كان يرفع جسده عن الأرض". راجع: M.R. James: pp. 252-253. (5) انظر مقالتي: "Chris's Temptation in the Apocryphal Gospels and Acts" in St. Vladimir's Theological Quarterly 5: 4، 1961m pp. 3-9. (6) التجسد الدوسيتي ليس تجسداً على الإطلاق، إذ أن الله في رأيهم، لم يتأنس أبد، بل تراءى وكأنه فعل، ولكن لم يحدث أي شيء من هذا في الحقيقة التاريخية، وهذا هو معنى كلمة "دوسيتي". فتشبه القصص الأبوكريفية من حيث نوعيتها روايات الإله كريشنا في الهندوسية، الذي هو منحدر (avatar) من الإله الأسمى فيشنو. فمفهوم ال (avatar) هذا يدل على ظهور إله ذي طبيعة دوسيتية. "فيشير إلى ما قد يكون التجسد لو ابتع المنطق ولو كان بالإمكان تصور الجواب الإلهي لتطلعات الإنسان الروحية. أما صورة المسيح المصلوب المميزة فتكشف عن ماهية التجسد عندما يشاء الله أن يحققه". راجع: Jacques-Albert Cuttat: The Encounter of Religions، New York، Desclee Co.، 1960، p.58. إن الأناجيل وأعمال الرسل الأبوكريفية، التي هي من إنتاج المخيلة الإنسانية والأساطير، تعطي لنا أمثالاً عديدة عن طبيعة "التجسد" الدوسيتي. (7) هناك ترجمة انكليزية لإنجيل توما مع شرح وتعليق في: Robert M. Grant and David Noel Freedman: The Secret Saying of Jesus. The Gnostic Gospel of Thomas، New-York، Doubleday، 1960، pp. 115-191. (8) راجع: E. Hennecke and Schneemelcher، op. cit.، p. 81. (9) راجع المرجع نفسه ص 185-186 (10) تستخدم كلمة "mythos" في العهد الجديد للدلالة على الانفصام التام عن الحقيقة التي أعلن عنها تاريخن وعلى الأخص في التجسد (1تيمو 1: 4، 4: 7، 2تيمو 4: 4، تيط 1: 14 و2بطرس 1: 16). راجع: C.F.D. Moule: The Birth of the New Testament، London، Adam and Charles Black، 1962، p. 143. (11) راجع: De praescr. 38.. (12) لم يواجه سفر الرؤيا في الغرب صعوبة في الدخول في لائحة الكتب القانونية. كذلك قبلت الرسالة إلى العبرانيين، في الشرق، بسهولة على الرغم من النقاش الحاد حول هوية مؤلفها. وما كتبه أوريجنس في القرن الثالث حول هذه المسألة لا يزال صحيحاً. فقد شك أن يكون القديس بولس هو كاتب هذه الرسالة، ولكنه اعترف بأن لاهوتها هو لاهوت الرسول بولس، مع أن "التعابير وأسلوب الكتابة هما لشخص تذكر أحاديث الرسول وأعاد سبك كلمات معلمه" بطريقته الخاصة. فيكون إذن كاتب الرسالة هو أحد تلاميذ بولس، "ولكن الله يعلم من" كما يقول أوريجنس. يوجد تعليق أوريجنس على قانون العهد الجديد في "تاريخ الكنيسة" لأفسابيوس. (13) لمناقشة كل ما نعرفه عن Diatesseron راجع: Robert M. Grant: The Earliest Lives of Jesus، New York، Harper and Row، 1961، pp. 23-26. (14) راجع: ضد الهرطقات: 2، 2 (15) راجع: ضد الهرطقات: 3، 4 (16) راجع: ضد الهرطقات: 3، 8 (17) راجع: ضد الهرطقات يبحث جورج فلورفسكي في مقاله: "The Function of Tradition in the Ancient Church"، Greek Orthodox Theological Review، 9: 2، 1963، pp. 184-185. في تشبيهين يستعملهما القديس ايريناوس (ضد الهرطقات 1، 8: 1 و9: 4) يظهر "سوء الاستعمال الغنوصي للكتاب المقدس". إن التشبيه الأول ذو صلة وثيقة ببحثن، إذ أنه يتعلق بصورة ملك مصنوعة من حجارة كريمة كسرها أحد الأشخاص وأعاد ترتيب المجوهرات بشكل مختلف تماماً جاعلاً منها صورة حيوان. هذه هي الطريقة التي عالج بها الغنوصيون الكتاب المقدس. فتبدو عندهم الكلمات والتعابير صحيحة ولكن التصميم والصورة المعطاة هما جديدان واعتباطيان (ضد الهرطقات1، 8: 1). ويعلق فلورفسكي على هذا قائلاً: "إن ما حاول القديس ايريناوس إثباته هو أن الكتاب المقدس له تصميم خاص وبينة داخلية مميزة. أما الهراطقة فقد تجاهلوا هذا التصميم لا بل أحلوا تصميمهم الخاص محله. بكلام آخر إنهم أعادوا ترتيب الشواهد الكتابية وفق نموذج غريب كل الغرابة عن الكتاب المقدس نفسه" (185). |
|||
30 - 01 - 2013, 10:12 AM | رقم المشاركة : ( 7 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل السادس يسوع واليهود والأمم تعكس الأناجيل المقبولة من الكنيسة حياة فلسطين في القرن الأول وتعطي معلومات واضحة عن الزمان والمكان اللذين عاش فيهما يسوع. فلوقا الإنجيلي مثلاً يصف بدقة الجو الديني الذي نشأ فيه يسوع وذلك عند عرضه لطفولته. ويظهر جلياً أن يسوع نهض برسالته العامة في وسط شعبه وانه وجه بشارته إليهم قبل أن يوجهها إلى الأمم. أما الأحداث المدونة في إنجيل بطرس الأبوكريفي فيمكن أن تحصل في أي مكان. كذلك يمكن نسبة أقوال يسوع المدونة في إنجيل توما الغنوصي إلى أي معلم من معلمي العصر الهليني ما عدا يسوع. ومع ذلك فلا تعطي الأحداث المدونة في إنجيل بطرس ولا الأقوال المسجلة في إنجيل توما صورة كاذبة عن الجو التاريخ في وطن يسوع والتقاليد الرائجة فيه. لم يكن لليهود أيام يسوع نظام موحد، إذ أصبحت اليهودية فقط بعد سقوط أورشليم وخراب الهيكل السنة 70 تعرف حصراً بالنظام الرباني (1). وقبل ذلك كان يوجد جماعات متعددة وميول مختلفة وكان النظام المتبع منفتحاً على التأثيرات الخارجية. وهذا ما تؤكده مخطوطات البحر الميت؟ حتى الأسانيون أنفسهم، بالرغم من انعزالهم عن الجماعات الأخرى، تعرضوا لتأثيرات خارجية ولم يكونوا منعزلين كلياً عن العالم المحيط به. يسوع والحركات الدينية اليهودية كان يقطن في فلسطين، زمن يسوع، حوالي نصف مليون يهودياً. ونعرف من شهادة المؤرخ يوسيفوس، معاصر تلك الفترة، أن ستة آلاف منهم كانوا ينتمون إلى الفريسيين وحوالي الأربعة آلاف كانوا أسانيين، وإن الصدوقيين كانوا أقل من جماعة قمران عدداً. وعلى الرغم من صغر هذه الجماعات فإنها كانت تمثل أقوى الحركات الدينية المسيطرة في اليهودية. وكانت تلك الشيع في منازعات مستمرة فيما بينها مع الحفاظ على الانتماء التام إلى اليهودية. وكان احتقار "شعب الأرض" (am-haz-arez) جامعها. وكان معلمو الشريعة والمفسرون يتخذون موقف المتكبر المتعالي من الشعب الجاهل الأمي. وكان الفريسيون يعتبرون أن "هؤلاء العامة من الشعب الذين يجهلون الناموس هم ملعونون" (يو7: 49). كذلك شبه التلمود ابن "شعب الأرض" ب "ذاك الذي يأكل خبزه في حالة عدم الطهارة" (2). إننا نتعرف على الفريسيين والصدوقيين من خلال الأحداث الواردة في الأناجيل. فنجد الفريسيين ينتظرون مجيء ماسي ويؤمنون بقيامة الأموات ويحافظون على تقليد الشيوخ، فيما نجد الصدوقيين يخالفونهم في كل هذه المعتقدات: فلا انتظار لماسي ولا قيامة للأموات، ولتعلقهم بالحرف رفض لكل تقليد شفهي. لذلك هاجم يسوع تمسك الفريسيين بحرفية الشريعة وسفسطتهم، وانتقد الصدوقيين لعدم معرفتهم الكتاب المقدس وقوة الله (متى22: 23-38 وما يوازيها) (3). وفيما استمر وجود الفريسيين بعد تدمير الهيكل، اختفى الصدوقيين عن المسرح التاريخي بعد سنة 70م دون أن يتركوا أي أثر أدبي. ولأنهم لم يكونوا على اتصال بالأفكار الجديدة قبل سقوط أورشليم فبقوا بعد سقوطها غير مستعدين للتناغم مع الأوضاع التاريخية الجديدة. وكونهم ينتمون إلى فئة كهنوتية وعلى الفئات الميسورة جعلهم ينكرون فعالية الله في التاريخ. لذلك لم يكن لهم أي رجاء ماسياني يساعدهم على مقاومة تلك الأوضاع الجديدة كما فعل الفريسيون. أوضح ستيفن ليبرتي، في كتاب له بعنوان "العلاقات السياسية في عمل يسوع"، أن يسوع حينما رفض تجربة الشيطان الأولى أنكر "محبة الراحة" التي يمثلها الصدوقيون وفي رفضه الثانية أنكر "التكبر أمام الله" الذي كان يظهره الفريسيون (4). كذلك رفض تجربة ثالثة هي الماسيانية القومية التي كانت تتمثل في "الغيورين"، النجاح الثوري المتطرف لفئة الفريسيين. فقد رأى يسوع في اقتراح الشيطان أن تكون له من كل ممالك العالم وعظمتها المثل الأعلى للغيورين الذين كانوا يؤمنون بأن ملكوت الله لا يقوم إلا بإعادة الملك إلى إسرائيل. وكان مبتغاهم السيطرة السياسية وليس الاهتداء الديني. لذلك لم يترددوا في استخدام العنف من أجل تحقيق أهدافهم القومية، فغدا من الطبيعي أن يعتبر يسوع مفهومهم سياسة هيرودس انتيباس (الهيروديين) أن يوقعوا بيسوع عندما حاولوا إظهاره متعاطفاً مع الغيوريين، وذلك عندما وجهوا إليه السؤال: "هل يجوز أن نعطي الجزية لقيصر أم لا" (مر12: 13، متى 22: 17). وكانت صورة قيصر تطبع على العملة الرومانية. فقال يسوع: "أعطوا ما لقيصر لقيصر"، وبما أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله أكمل: "أعطوا ما لله لله". وكان الغيورون يرفضون دفع هذه الضريبة ويعرفون بالحزب المعادي لروما. وجه الفريسيون والهيروديون السؤال ليسوع "لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالي وقضائه" (لو20: 20)، كل ذلك قصده اتهام يسوع بأنه واحد من الغيورين لإبعاده عن حياة الشعب (5). بيد أن جواب يسوع أذهلهم واضطرهم إلى التفرق دون التعرض له بالرغم من رفضه رفضاً قاطعاً مناصرة القومية اليهودية (6). يسوع والأسانيون ما هي العلاقة بين يسوع والأسانيين الذين لم يرد ذكرهم في العهد الجديد؟ حسب يوسيفوس وفيلون وما اكتشف حديثاً من مخطوطات البحر الميت، يمكننا رسم خط فاصل بين يسوع وجماعة قمران التي يعتقد بعض العلماء أنها تكونت من الأسانيين. لقد تأسست مستعمرة قمران حوالي 140-130 ق.م. أسسها أناس يعتقد بأنهم ينتمون إلى "جماعة الأتقياء" (Hassidim) التي عاصرت فترة المكابيين. وكان طموح المكابيين السياسي في الاستيلاء على السلطة والاستئثار برئاسة الكهنوت وإدخال التقويم القمري إلى الهيكل قد اضطر الكثير من الأتقياء على انسحاب إلى الصحراء ليشكلوا جماعة منفصلة عن كهنوت أورشليم (7). وبالفعل أعطت جماعة قمران الكهنوت أهمية بالغة ولقبوا أنفسهم بأبناء صادوق تأكيداً لشرعية كهنوتهم ورفض ادعاءات الكهنة الذين كانوا يعيشون ويحكمون في أورشليم (8). تختلف الأناجيل اختلافاً جذرياً عن مخطوطات البحر الميت في بعض المواضيع. يكمن الخلاف الأول في النظرة إلى ماسيا. ففي حين تؤكد الأناجيل على أن ماسيا قد أتى بشخص يسوع الناصري مانحاً الخلاص بموته وقيامته، نجد مخطوطات البحر الميت تشير إلى وجود شخصين يحملان اسم ماسيا: ماسيا الكهنوتي الذي يأتي من قبيلة هرون، وماسيا السياسي الذي هو ماسيا إسرائيل. وهنالك وثيقة قمرانية تدعى "كتاب الطاعة" تتحدث عن مجيء نبي آخر غير هؤلاء الاثنين اللذين ذكرنا يعرف زعيم جماعة قمران ب "معلم العدل"، وكان غالباً ما ينتمي إلى الصدوقيين. يقال أنه استشهد على يدي "الكاهن الشرير" دون استطاعة تأكيد ذلك. ولكن حتى إذا صح ذلك فعلاً فجماعة فمران لا تعتبر عمله هذا خلاصي، تمت محاولات عديدة لكشف هويته كالقول مثلاً أنه ماسيا المصلوب والسابق للمسيح، لكن كبار علماء الكتاب لا يقبلون أيّاً من هذه الادعاءات (9). وكان "معلم العدل" معلم ومفسراً للناموس ولربما كان يعلم بأن طاعة الناموس هي طريق الخلاص. وكانت آفاق الأسانيين ضيقة. وكانوا جماعة منغلقة على نفسها تحصر تعاليمها بالمختارين فقط، على عكس يسوع الذي لم يأتِ من أجل الصالحين بل الخطأة. وكان ضيق أفق الأسانيين يظهر في نظرتهم للناموس. فقد قطعوا كل صلة بأورشليم لأنهم اعتقدوا أنها لم تحافظ بأمانة ودقة على الناموس. وجماعة قمران قامت على الناموس مثلها في ذلك مثل الفريسيين، لكن أعضاءها فاقوا الفريسيين تعلقاً بالحرف حتى دعاهم البعض بحق "الفريسيون من الدرجة الأولى" (Super pharisees). وكذلك موقفهم من التقويم لا يختلف عن موقفهم من الناموس. وقد دعوا ب "أخصائيي التقويم"، إذ أنهم كانوا يؤمنون بأن تعييد عيد ما وفق التقويم "الصحيح" له صلة وثيقة بالخلاص. وكونهم "حرفيين" في نظرتهم إلى الناموس جعلهم يتعلقون أيضاً بحرفية الطقوس. فكل شيء بالنسبة لهم يعتمد على القيام بالطقوس الصحيحة وفقاً للتقويم الصحيح (10). هذا الموقف بعيد أشد البعد عن جعل يسوع "السبت من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت" (مر2: 27). زعمت تلك الجماعة أنها تمثل إسرائيل الحقيقي وأنها شعب الموعد وأن أعضاءها أولاد النور الذين سيتجاوزون المحن التي سترافق نهاية هذا الدهر ومجيء الدهر الآتي. هذا الانشغال بحدوث "الأزمنة الأخروية" صبغ كل نظرتها إلى الأمور. لذلك سلخت نفسها عن التعاليم بغية التطهر قبل حدوث الأزمنة الأخروية. ولكننا لا نجد في الأدب القمراني تعليماً مشابهاً لتعليم يسوع بأن ملكوت السموات قد أتى فعلاً. ولا يوجد في مخطوطات البحر الميت تعليمها عن ألوهية المسيح. وهنالك مفارقة واضحة في التعليمين فيما يخص المناقب. فالإنجيلي متى دون كلمات يسوع: "سمعتم أنه قيل أحبب قريبك وأبغض عدوك أما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم ... وصلوا لأجل من يسيئون إليكم ويضطهدونكم لتكونوا بني أبيكم الذي في السموات" (متى5: 42-45). تجدر الإشارة إلى أن عبارة: "أبغض عدوك" لا توجد في العهد القديم ولا في الأدب الرباني بل في مخطوطات البحر الميت (11). فمن الجائز القول بأن يسوع عندما تفوه بهذا المقطع من الموعظة على الجبل كان يجول في خاطره تعليم جماعة قمران، فأدان تعاليمها (12). وهناك مقطع آخر قد ذكر لمعارضة تعليم الأسانيين واعتقاداتهم، هذا المقطع هو مثل "العشاء العظيم" الوارد في (لو14: 15-24). عندما اعتذر الكثيرون عن تلبية الدعوة الموجهة إليهم للمشاركة في ملكوت الله، قال رب البيت لعبده: "أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقته وأدخل إلى هنا المساكين والجدع والعميان والعرج". أما في الأدب القمراني هناك نص يقول: "لا أحد من الحمقى والمجانين والسذج والمعتوهين والعمى والجدع والعرج والطرش والقصر يستطيع الدخول إلى وسط الجماعة لأن الملائكة القديسين (في وسطها)" (13). كانت جماعة قمران مؤلفة من كهنة ذوي أصل كهنوتي فقط، وكانت معروفة بتصلبها تجاه الآثمة فلا تبدي لهم أي اهتمام وشفقة. فدعى يسوع إلى ملكوته كل من كانت ترفضه هذه الجماعة. بالإضافة إلى هذين المثلين توجد في الأناجيل أمثلة أخرى قد تكون موجهة ضد بعض آراء هذه الجماعة (14). وقد أنهى متى مثل فعلة الكرم بقوله: "هكذا يصيرون الآخرون أولين والأولون آخرين" (متى20: 16). هذا القول يستشف منه أنه ليس موجهاً ضد الفريسيين فقط وإنما ضد الأسانيين كذلك لأن جماعتهم كانت شديدة التنظيم وتفصل تماماً بين رؤسائها وأعضائها الآخرين. على الرغم من الفروقات الجوهرية بين تعليم يسوع وتعليم الأسانيين، فإن الوثائق المكتشفة مؤخراً ذات أهمية بالغة في الدراسة الإنجيلية. إذ أنها تلقي ضوءاً على المحيط الذي زود الإنجيل الرابع بمفردات ومصطلحات استعملها للتعبير عن بعض آرائه الدينية. فعبارة "الحياة الأبدية" كانت شائعة في جماعات فلسطينية كهذه. قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت كان بعض البحاثة يميلون إلى الفرضية القائلة بأن إنجيل يوحنا كتب في القرن الثاني تحت التأثير الهليني. ولكن هذه الفرضية أسقطت بعد اكتشاف المخطوطات وأصبح بالإمكان الرجوع بكتابة الإنجيل إلى وقت اسبق. ولا بد من التنويه هنا بأن أهمية هذه المخطوطات بالنسبة للأناجيل السينابتية أقل بكثير منها بالنسبة للإنجيل الرابع (15). وبالرغم من أن الأناجيل لم تأتِ على ذكر الأسانيين إطلاق، فمعرفة هويتهم وتعاليمهم تساعد على فهم أفضل وتقدير أكثر شمولية لبعض أقوال وأمثال يسوع الواردة في الأناجيل السينابتية. مجمل القول أن اكتشاف هذه المخطوطات أفسح لنا المجال للاستزادة من معلوماتنا عن خلفية حياة يسوع، وأن نعي بشكل أفضل جدة تعاليمه وفرادته. يسوع والسامريون والأمميون لو أراد يسوع الانتماء إلى إحدى الحركات الدينية لاستطاع ذلك دون التسبب في أية فتنة وإثارة غضب السلطات الدينية في أورشليم. حتى ولو ابتغى تأسيس حركة دينية خاصة به لما تعرض للاضطهاد ولا عرض حياته للخطر. والتاريخ يثبت أن يسوع لم يلتحق بأية فئة دينية قائمة ولم ينشئ فئة جديدة لأنه أتى إلى شعب إسرائيل بأكمله وأشفق على جماهير الشعب المزدري من قبل السلطات والمثقفين. و"لأنهم كانوا كخرفان لا راعي لها طفق يعلمهم أشياء كثيرة" (مر6: 34). بالطبع أتى من أجل "شعب الأرض" ومن أجل العارفين بالناموس. كذلك يوحنا المعمدان لم يسع إلى تنظيم جماعة رهبانية كجماعة فمران لأن هاجسه لم يكن إيجاد شيعة دينية يهودية (لو3: 10-14)، بل تحضير إسرائيل لمجيء الماسيا. والسامريون كانوا جماعة تحتقرها جماهير الشعب ومرفوضين من كل الفئات اليهودية الأخرى. وكانوا منفصلين كلياً عن جماعة اليهود. فالسامري بالنسبة لليهود ينتمي إلى جنس مختلط وممقوت ظهر بعد سقوط المملكة السنة 722ق.م.، وهو أسوأ من الأممين. وهناك مثل يهودي شائع يقول: "إن ماء السامريين أكثر قذارة من دم الخنزير". وكلمة "سامري" كانت تستعمل للدلالة على الأعداء (يو8: 48). أما يسوع فقاوم هذه النزعات القومية بشدة. وقد تعجبت المرأة السامرية كيف يطلب منها يسوع، وهو اليهودي، أن يشرب "لأن اليهود لا يخالطون السامريين" (يو4: 9). وللذي سأل يسوع من هو فريبي أجاب بإعطائه مثل السامري الرحيم (لو10: 29)، كما أنه مر بالسامرة في طريقه إلى أورشليم، لكن السامريين "لم يقبلوه لأن وجهه كان متجهاً إلى أورشليم". وعندما طلب منه ابنا زبدى أن ينزل ناراً من السماء فتأكلهم، "التفت وزجرهما" (لو9: 51-55). وفي مكان آخر شفى يسوع أحد السامريين وغبطه على كثرة إيمانه (لو17: 11). وهكذا تظهر الأناجيل بوضوح أن يسوع لم يستثن السامريين من الخلاص وبالرغم من أن رسالة يسوع الخلاصية لم تكن محصورة بجماعة معينة بيد أنها وجهت أولاً إلى شعب إسرائيل. فكانت لشعب الله المختار الأولوية في سماع كلام يسوع ومشاهدة أعماله. وأوصى تلاميذه قائلاً: "إلى طريق الأمم لا تتجهو ومدن السامريين ولا تدخلوا بل انطلقوا بالحري إلى الخرفان الضالة من آل إسرائيل، وإذا ذهبتم فاكرزوا قائلين قد اقترب ملكوت السموات" (متى10: 5-7). وأجاب يسوع المرأة الكنعانية الأممية التي طلبت منه أن يرحمه ويرحم ابنتها المريضة: "لم أرسل إلا إلى الحرفان الضالة من آل إسرائيل" (متى15: 24). هذان المقطعان لم يردا إلا في إنجيل متى. ولكننا لا نستطيع الإدعاء بأنهما ليسا ليسوع بل من اختلاق الكنيسة الأولى. لأنها لو فعلت ذلك لجلبت إلى نفسها المتاعب لأن البشارة قد وصلت إلى الأمميين وكان عدد منهم دخل الكنيسة عندما كتبت الأناجيل. وهكذا يكون متى قد دون هذين المقطعين وحافظت عليها الكنيسة لاعتقادها بأن يسوع مصدرها. لدينا أمثلة عديدة تشير إلى أن رسالة يسوع كانت موجهة لجميع الأمم فبعد أن قال للأممية: "ما جئت إلا للخرفان الضالة من آل إسرائيل" (متى15: 14)، شفى لها ابنتها. وكذلك شفى خادم رئيس المائة (متى8: 5 وما يوازيها). ويسوع نفسه أعلن أن "كثيرين يأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات وأما بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانية" (متى8: 11-12). إن موقف يسوع من الأمميين ظهر أيضاً في حادثة طرد الباعة من الهيكل الواردة في الأناجيل الأربعة. وأخذت هذه العملية صفة الشمولية لليهود والأمميين. لم يكن يسوع ضد العبادة في الهيكل إنما ابتغى تغييراً يتيح للأمميين الاشتراك مع اليهود في تمجيد الله وأعماله. فقال للباعة: "أليس مكتوباً إن بيت أبي بيت صلاة يدعى لجميع الأمم وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (مر11: 17).الهيكل الجديد هو هيكل جسد المسيح (يو2: 21) وهو يضم "جميع الأمم" حسب أشعيا (56: 7). ويبتدأ الزمن الماسياني عندما يشترك الأمميون مع اليهود في العبادة. فعند مجيء ماسيا ستتحول العبادة اليهودية إلى عبادة تشمل جميع الأمم. وإذا كان يسوع قد طرد الباعة من القسم المسمى "باحة الأممين"أ التي كانت مفصولة عن باقي باحات الهيكل والتي كان اجتيازها محصوراً باليهود، فإنه قصد هدم الحائط بين اليهود والأمم وجعل الباحة جزءاً من بيته. بموت يسوع وقيامته تهدم الجدار الفاصل بين اليهود والأمم، هذا الجدار الذي بد، بمجيء المسيح، يتصدع. وقد أرسل يسوع الناهض من القبر تلاميذه ل "يتلمذوا كل الأمم" (متى28: 18-20). ولم تشكل هذه الدعوة تغييراً مفاجئاً في مخططاتهم لأن يسوع سبق وهيأهم لهذه الحملة التبشيرية الواسعة النطاق عندما قال: "أن يكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم" (مر13: 10). وعندما سكبت المرأة قارورة الطيب على رأس يسوع في بيت عني، أشار إلى أن الرسل سوف ينشرون الرسالة في كل العالم وأن الشهادة بين الأمم لن تكون سهلة وأنهم سوف يُضطهدون من أجل اسمه (متى10: 18). وعلّمهم أنه في مجيئه الثاني وفي يوم الدينونة ستجتمع الأمم كافة ولن يكون التمييز بين الخراف والجداء على أساس عرقي وقومي، ولا على أساس امتيازات واستحقاقات، بل على أساس علاقة الفرد بابن الإنسان وبقريبه (متى25: 31)، وأن اليهود والأمميين سيكونون على حد سواء تحت حكم الله ورحمته (16). وبإيجاز نقول: لم ينتمِ يسوع إلى أية حركة دينية في إسرائيل. ولم يؤسس حزباً دينياً خاصاً به. ولم يكرس في رسالته الانقسامات الموجودة في اليهودية بل تجاوزها كلها في تحقيق الوعود التي قطعها الله للآباء والأنبياء. لقد أتى يسوع ليوجد جماعة جديدة لا يساير فيها الدين القومية والتقاليد الوطنية بل يشارك فيها اليهود والأمميين العبادة الواحدة ويستفيد الجميع من النعم الممنوحة لكنيسة المسيح. هو الذي " جعل الاثنين واحد ونقض في جسده حائط السياج الحاجز ... ويصالح كليهما في جسد واحد مع الله بالصليب" (أفسس2: 14-16). فيكون الهدف الرئيسي من تجسده تخطي الحاجز الذي كان قائماً بين الله والإنسان وكشف الله ومشيئته لكل إنسان. لقد كانت بشارة يسوع لإسرائيل علامة لوعيه الماسياني وسلطانه الإلهي. لقد أتى ماسيا المنتظر متجاوزاً بأعماله وأقواله وتعاليمه التقاليد اليهودية في عصره، محققاً الآمال الماسيانية كل التحقيق. وهذا يجرنا إلى السؤال التالي من هو يسوع؟ ----------- حواشي الفصل السادس (1) أثناء الثورة التي حدثت بين سنة 66 و70 م عانى اليهود والمسيحيون عناءً شديد، حتى أجبر المسيحيون على ترك أورشليم وفلسطين "حاملين إلى الشتات ذكريات حياة يسوع والظروف الحياتية في فلسطين التي نجدها مدونة في الأناجيل". راجع: Addison G. Wright، R.E. Murpyh، Joseph A. Fitzmyer: "A History of Israel". The Jerome Biblical Commentary 75: 164. انتقلت السلطات اليهودية الحاكمة من أورشليم إلى جمني، حيث أقيمت مدرسة حتى قبل سقوط أورشليم. لكن لم تحتل هذه المدرسة مركزاً قيادياً إلا بعد سقوط أورشليم، حيث مارس المنضمون إليها دوراً قوياً في تعزيز شأن اليهودية بعد أحداث سنة 70 م المأسوية تحت إدارة الحاخام يوحنا بن زكا الذي أسس المدرسة في جمني، ومن ثم تحت قيادة الحاخام جملائيل الثاني. أصبح الدين اليهودي متخوفاً من أية تعددية فكرية بين أعضائه فوضع آنذاك قانون الكتاب المقدس العبري وأدخل تقويماً متكاملاً كما أن "صلاة جديدة أدخلت في الخدم الطقسية لمنع المسيحيين من أصل يهودي من المشاركة في العبادة اليهودية". راجع: W.D. Davies: The Sermon on the Mount، Cambridge، Cambridge University Press، 1966، p. 85. كذلك ابتدأوا بجمع الشريعة الشفهية وتنسيقه وظهرت اليهودية وكأنها تبني "سياجاً حول نفسه". (2) موقف كهذا "ساهم مساهمة فعالة في تقوية الجماعات المسيحية الجديدة إذ أن "شعب الأرض" وجدوا فيها ترحيباً محباً في حين أنه كان يقابل بمقت عنيف من قبل المثقفين"أ. راجع: Encyclopedia Judaica، in Henri Daniel Rops: Daily Life in The Time of Jesus، New York، The New American Library، 1964، p. 152 (3) كان الصدوقيون يقبلون كتب موسى الخمسة الأولى فقط ويشككون في كل إضافة جديدة عليها. واعتبروا أن كل تعليم وإعلان جديد تهديد لقوتهم السياسية والاقتصادية لكن يسوع أظهر لهم بأن الإيمان بالقيامة تعبر عنه الأسفار المقبولة لديهم. "و أما من جهة قيامة الموتى أما قرأتم ما قال لكم الله: أنا إله إبراهيم وإله اسحق، وإله يعقوب". وذكر إياهم أن "الله ليس إله أموات بل إله أحياء" (متى22: 31-32). (4) راجع: Stephan Liberty: The Political Relations of Christ's Ministry، New York، Oxford University Press، 1916، p.57. في هذا الكتاب تفسير حادثة التجربة بأنها "بالأساس تلميح إلى المسائل القومية اليهودية" وأنها بمثابة تأمل ليسوع في مسائل شائعة في أيامه. فتفهم التجربة الأولى بالإشارة إلى الصدوقيين والثانية إلى الفريسيين والثالثة إلى الهيروديسيين لأنهم، يقول ليبراتي، يجسدون "الاستعداد الدائم للمساومة مع العالم الوثني". ومع أن الكاتب اهتم أولاُ بالأوضاع السياسية السائدة أيام يسوع، فقد كان واعياً أن معرفة هذه الأوضاع لا تستنفد معنى تجربة يسوع. "إن إيجاد تلميح إلى الوضع القومي زمن يسوع في رواية تجربته لا يؤثر على الأهمية الأخلاقية والخريستولوجية العميقة التي يحتوي عليها هذا الحدث لكل زمان". لكن يبدو رأي أوسكار كولمان أكثر إقناعاً عندما يربط التجربة الثالثة بالجدل بين يسوع وفئة الغيورين التي كانت تمثل القوميين المتطرفين. اعتبر يسوع، يقول كولمان، أن أراء الغيورين تمثل نظرة شيطانية لماسيا. ويشير كولمان إلى "أن المرء مجرب فقط بالأمور التي على مقربة منه". راجع: Oscar Cullmann: The State in The new Testament، New York،أوذأول Charles Scribner s Sons، 1956. (5) من بين الكتب الصادرة حديث والمهتمة بعلاقة يسوع مع الغيورين، هناك كتابان مهمان جداً بالنسبة للمشكلة التي نبحث ولكن للمؤلفين مواقف متعارضة. يدافع براندن بمهارة وعلم رفيع المستوى عن الفرضية القائلة بأن يسوع كان ثوروياً. بالطبع إنه لا يزعم أن يسوع كان من الغيورين، بل يقول بأنه نظر إلى عمل الغيورين بعطف كبير وتفهم ... وربط عمله بهم وكان على اتفاق معهم. ة يتابع براندن قائلاً: حتى لو لم ينتم يسوع إليهم فمن الصعب أن نرى اختلافاً بين أهدافه وأهدافهم. ويضيف أنه لم يرد في الأناجيل أي شجب واتهام مباشرين للغيورين من قبل يسوع. راجع: S.G.E. Brandon: Jesus and the Zealots، New Yofk، Charles Scribner's Sons، 1967. أما أوسكار كولمان فيخص فصلاً كاملاً من كتابه عن "يسوع والثورويين" لبحث علاقة يسوع بالغيورين. أما عنوان هذا الفصل فهو: المشكلة السياسية. يحاول كولمان أن يبرهن ويفعل ذلك بإقناع أن يسوع لم ينضم إلى الغيورين "لأن أهدافهم ومناهجهم لم تكن تلائمه". كما أنه لم يعلن أي عصيان مسلح ضد روم، "مقصياً أي استخدام للقوة بعكس تعاليم الغيورين". كذلك إن تعليمه "بمحبة الأعداء" (متى 5: 43) جعله بعيداً عن الصراع السياسي الثوروي الذي تورط به أولئك. ويذهب كولمان إلى القول أن يسوع قد سبب خيبة أمل كبيرة للغيورين. "ولعل هذا لعب دوراً في خيانة يهوذا له". وبما أن تعليم الغيورين كان يشابه تعليم الفريسيين، حسب شهادة يوسيفوس، فيكون سبب عدم مهاجمة يسوع لهم مباشرةً كما فعل بالفريسيين يكمن في كونهم يشاركونهم التعاليم الدينية، وهكذا يكون قد شملهم في حديثه عن الفريسيين. راجع: Oscar Cullmann: Jesus and the Revolutionaries، New York، Harper and Row، 1970. (6) " يمكن أن تعني جملة <أعطوا ما لقيصر لقيصر >: < إذا أردتم الأمن الروماني، Pax Romana فلا بد لكم أن تتكبدوا المصاعب التي تقتضي>. كذلك إن جملة أعطوا ما لله لله <تعني أن تحقيق المتطلبات القانونية لقيصر لا يشكل أي مساومة مع ما يطلبه الله من شعبه...> لكن هناك شيئاً واضح، وهو أن يسوع لم يدعم القومية اليهودية ضد الامبريالية الرومانية". راجع: T.W. Manson: Only to the House of Israel، Philadelphia، Fortress Press، 1964، p. 11. (7) إن الحسيديم الأتقياء "اختاروا الموت بدل أن يدنسوا العهد المقدس، وأنهم ماتوا فعلاً " (1مكابيين 1: 63). إن هاجسهم كان ديني، فلم تجذبهم مطامع المكابيين السياسية. وقد حدث فعلاً مع تأسيس المملكة اليهودية، انقسام ديني. وهناك في عهد المكابيين ثلاث جماعات يهودية تعود إلى الحسيديم: أولها حركة الغيورين التي قضي عليها ثورة باركوشبا سنة 132 م. أما الجماعة الثانية فهي جماعة الفريسيين – والكلمة قد تعني المفصولين– الذين استمر وجودهم إلى ما بعد دمار الهيكل السنة 70 م وانهزام باركوشبا. ويمكن اعتبارهم كآباء لليهودية المعاصرة. أما الجماعة الثالثة فهي مؤلفة من الأسانيين الذين شاركوا الغيورين إيمانهم القوي ولكنهم رفضوا اللجوء إلى العنف. وقد انتهى وجودهم مع تدمير الرومان لمستعمرتهم السنة 68 م. كلمة أساني ربما تشتق من الكلمة الآرامية Hasayya التي تعني "الأتقياء". (8) يبحث هذا الرأي مرسيل سيمون. راجع: Marcel Simon: Jewish Sects at the Time of Jesus. Philadelphia، Fortress Press، 1964، p.56. (9) على سبيل المثال، يعتبر ريمون براون "أن لا أساس لها من الصحة". راجع: Raymond E. Brown: Apocrypha. Dead Sea Scrolls، Other Jewish Literature، Jerome Bible Commentary، 68: 85 (10) يشير ستوفير بشيء من التهكم إلى أن يسوع لم يقل أبداً: "اتبعوني وتبنوا تقويمي". راجع: Ethelbert Stauffer: Jesus and the Wilderness Community at Qumran، Philadelphia، Fortress Press، 1964، p.16. (11) في مطلع "كتاب الطاعة" و"قانون الجماعة" نجد ذكراً لبغض الأعداء: "كل من أراد الانضمام لجماعة يجب أن يأخذ على نفسه عهداً باحترام الله والإنسان ... وأن يسير بدون عيب أمام الله، يحافظ على كل ما أعلن له ... وأن يحب أولاد النور كلا بحسب دعمه لجماعة الله وأن يبغض أولاد الظلمة كلا حسب مقياس أثمه الذي سيجازيه الله عليه". (12) راجع: W.D. Davies: The Sermon on the Mount، p.83، (13) راجع: J.T. Milik Ten Years of Discovery in the Wilderness، London، SCM Press، 1959، pp. 114 ff. (14) راجع: W.D. Davies: Christian Origins and Judaism، Philadelphia، Westminster Press، 1962، p. 117. (15) "إن أهمية هذه الوثائق بالنسبة إلى الأناجيل السينابتية تشابه حبتي "قمح مخبأتين في كيس من العصافة، فستبحث النهار كله قبل أن تجدهم، وعندما تجدها تجد أنهما لا يستحقان كل هذا التفتيش". راجع: Francis Wright Beare: The Earliest Records of Jesus، New York، Abingdon Press، 1962، p. 16. (16) "كلما تكلم يسوع عن قوة وجبرؤوت وملكوت ابن الإنسان العائد فإنه يشمل الأمم". راجع: J. Jeremias: Jesus' Promise to the Nations، London، SCM Press، 1959، p.70. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:13 AM | رقم المشاركة : ( 8 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل السابع من هو يسوع؟ سؤال لا يمكننا التغاضي عنه إذ بجوابه بتعلق تفسيرنا للأناجيل. إحدى الطرق التي تمكننا من وصف يسوع تكمن في تحليل الأسماء التي أطلقها عليه الآخرون والتي أطلقها هو على نفسه. وهنالك طريقة أخرى تعتمد دراسة أقوال يسوع وأفعاله. سنتناول في هذا الفصل معنى أمساء يسوع وفي الفصل التالي تعليمه كما وصل إلينا بالأمثال والعجائب. عندما حاول معاصرو يسوع الكشف عن هويته، كانوا يتحدونه بإحدى الشخصيات المرتبطة بالتوقعات الماسيانية التي كانت منتشرة بين اليهود. فظنه أناس بأنه يوحنا المعمدان وظنه آخرون بأنه إيليا وذهب البعض الآخر إلى أنه "أحد الأنبياء" (مر 8: 27 وما يوازيها). قطع هيرودس انتيباس ابن هيرودس الكبير رأس يوحن، ولكن "الكل آمنوا أن يوحنا كان نبياً" (متى 21: 26) وإنسان "بار وقديساً" (مر 6: 20). وكان من المتوقع أن يأتي إيليا ثانية قبل ظهور ماسيا. وحسب تقليد العهد القديم هناك رجلان لم يموت، هذان الرجلان هما إيليا واخنوخ. فاخنوخ سار مع الله و"أخذه الله" دون أن يمر بتجربة الموت (تكوين 5: 24).وأما إيليا "فصعد في مركبة إلى السماء" (2ملوك 2: 11). هذا التقليد قوي الاعتقاد بأن ابليا سيرجع "قبل أن يأتي يوم الرب العظيم والمخيف" (ملاخي 4: 5) (1). ومما اعتقده اليهود أن يسوع هو النبي الذي كان موعوداً به في الأيام الأخيرة، عندما يقيم الله نبياً مثل موسى (تثنية 18: 15) يكون "النموذج الأول للنبي الحقيقي" (تثنية 34: 10-11). لذلك أعتقد الشعب أن يسوع كان ذلك النبي وموحداً مع يوحنا القائم من بين الأموات وإيليا. وبالتالي فليس هو الماسيا بل إشارة إلى أن العصر الماسياني آت قريباً. سأل يسوع تلاميذه: "وأنتم من تقولون إني هو" – والتشديد هنا على "أنتم" (hymeis) – فأجاب بطرس الناطق باسم الجماعة: "أنت المسيح" (مر8: 29) أي أنت المنقذ المنتظر. هذا الاعتراف الذي جرى في قيصرية فيلبس يمثل تحولاً أساسياً في حياة التلاميذ. فإذا كانوا مقربين إليه، رأوا فيه أكثر مما رأى الآخرون واعترفوا به أنه المسيح. لكن هذه التسمية وحدها لم تكن كافية لوصف شخص المسيح وعمله. وبدون أن يرفض أقرانه بالملك الماسياني الذي كانت تتوقعه الأوساط اليهودية الشعبية، أخذ يسوع يعلم حقيقة ماسيانيته، فاختار وجمع وحول أسماء ماسيانية قديمة ليخرج منها شيئاً جديداً (2). المسيح (في اليونانية Christos والعبرية Mashiah) كلمة "مسيح" تعني الممسوح أي المنتظر الذي سيأتي من نسل داوود. فالله وعد داوود بأن بيته ومملكته وعرشه سيقومون إلى الأبد (2صموئيل7: 12 ...). وسيعود إسرائيل إلى سابق عهده، فتتحد الأرض المقسومة مرة ثانية ويحكمها ملك واحد. "سيكون خادمي داوود ملكاً عليهم، وسيكون لهم جميعاً راع واحد" (حز37: 24)، أي سيكون داوود ملكاً على إسرائيل الموحد إلى الأبد (حز 37: 25). فيما بعد وعندما قوى التعلق بالقومية اليهودية، وخاصة في العصر الهليني، أخذ الرجاء الماسياني معانٍ سياسية. فكان معاصرو يسوع يتوقعون مجيء زعيم قومي وملك قوي يلعب دور مسيح الرب ويخلص شعبه من النير الروماني ويعيد الملك إلى إسرائيل. وكانت الجموع التي تقبلت بغبطة كلام يسوع وتلاميذه تشارك في هذا المفهوم لمجيء ماسيا. وقد استمرت في هذا الفهم وهذا الرجاء حتى نهاية. عندما دخل يسوع أورشليم على ظهر الحمار، الحيوان المسالم، أوضح للجميع أنه ملك لا يريد استخدام السيف، لكنه يحمل للعالم سلام وسيوجد علاقة جديدة بين الله والإنسان. لكن الجموع كانت ما تزال تتطلع إلى ملك من نوع آخر. ولقد أشار الإنجيليون إلى التوتر بين التوقعات الماسيانية للشعب والماسيانية التي حققها يسوع. وقد انعكس هذا التوتر في تصرفات الجمهور تجاهه والهتافات التي استقبلوه بها. "والجمع الكثير فرش ثيابه في الطريق ... وكانوا يهتفون قائلين اوصنا لابن داوود، مبارك الآتي باسم الرب" (متى21: 8-9). فالجموع أرادت ملكاً يختلف عن ذاك الذي يمثله يسوع الراكب على أتان (زخريا9: 9). وتوقعت أن يكون يسوع ملكاً مثل ياهو (2ملوك9) الذي فرش الجمع أمامه ثيابهم ونفخوا بالبوق وصرخوا "ياهو هو ملك" (2ملوك9: 13). كان ياهو هذا ملكاً ثورياً دموياً. وهذا ما أرادته الجماهير أن يكون يسوع ملكاً لا يتردد في استعمال السيف لتحقيق أحلامها القومية. هذا الشعور شارك به التلاميذ. وبطرس الذي اعترف بأن يسوع هو المسيح لاقى صعوبة في فهم تعليم يسوع عن ابن الإنسان وآلامه. وبما أن التوقعات الماسيانية آنذاك لم تكن تربط الآلام والألوهة بماسي، هكذا فعل التلاميذ بالنسبة ليسوع. أنا يسوع فظهر مسيحاً متألماً ومتآلهاً بآن وبالتالي كشف عن نفسه بطريقة غير متوقعة. وحتى في اليوم "الأول من الأسبوع" الذي هو يوم قيامة المسيح، كان رجاء الخلاص القومي مازال يدور في خلد التلاميذ. وكان اثنان منهم في حالة من اليأس جعلتهما غير قادرين على تصديق النسوة اللواتي وجدن القبر فارغاً بأن يسوع حي كما قال الملاك. "وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كله وفيما هما يتحادثان ويتساءلان، دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما. ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته". فأخبره أحدهم وهو كليوباس عن إدانة يسوع الناصري وصلبه وعن خيبة الآمال التي كانت معلقة عليه: "كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل" (لو24: 13). الإيمانبالقيامة وحده يمكنه التغلب على هذه "الآخروية القومية" ويضمدها. يفترض البعض أن السؤال التالي الذي وجه إلى المسيح قبل صعوده بقليل: "يا رب أفي هذا الزمان ترد الملك إلى إسرائيل؟" (أعمال1: 6)، يتعلق أيضاً بمطامع قومية. لكن جواب المسيح: "ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي جعلها الآب في سلطانه" (أعمال1: 7) يعيد السؤال إلى يوم الدينونة الأخير وليس إلى إعادة السلطة السياسية إلى إسرائيل. وهكذا أراد يسوع إفهامهم أن السؤال لا يمت بصلة إلى إعادة الملك الأرضي لإسرائيل بل إلى مجيء المسيح الثاني (3). ويكون بالتالي قد استفاد من المناسبة لتصحيح آراء تلاميذه الماسيانية ونقلهم عن معتقداتهم التقليدية إلى المفهوم جديد وأرفع لماسيا. لقد ارتضى يسوع أن يطلق عليه لقب المسيح. ومع المرأة السامرية قبل اللقب دون تحفظ (يو4: 25-26). لعل ذلك يعود إلى أن مفهوم السامرية للماسيانية لم يكن يحمل معاني سياسية وإن حمل فقليلاً جداً (4). فكلمة "المسيح" كما كانت تستخدم أيام المسيح لم تكن تعبر بشكل صحيح عن ماسيانية يسوع وشخصه، لكن الكنيسة استخدمت هذه الكلمة، بعد العنصرة، دون أي تخوف من أن تحمل معنى سياسياً. ابن الإنسان وخادم الرب المتألم استخدم يسوع عبارة "ابن الإنسان" ليبين معنى كلمة "المسيح". ووحد بين "ابن الإنسان" و"خادم الرب المتألم" ليحمل إلينا فكرة الآلام والسيادة بآن، وعندما سأله رئيس الكهنة "هل أنت المسيح؟"، أجاب: "أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة" (مر14: 61-62). إن عبارة "ابن الإنسان"، في تعليم يسوع، لها الأولوية على عبارة "المسيح". ومن المهم الملاحظة أن تعبير "ابن الإنسان" ورد في الأناجيل الأربعة وفي كل مصادر التقليد (مرقس، L،M،Q) وأن يسوع وحده استعمل هذا التعبير. وقد وردت هذه العبارة أكثرة من 82 مرة على لسان يسوع. فعندما كان يتكلم عن عذابه وآلامه وموته كان دائماً يشير إلى كونه "ابن الإنسان". ولما وصف وضعه الإنساني المتواضع استعمل عبارة "ابن الإنسان": "للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أعشاش، وأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند إليه رأسه" (لو9: 58، متى8: 20). هذا أحد معاني عبارة "ابن الإنسان". ويمكن استنتاج معان أخرى في أقوال يسوع التي تشير إلى سلطانه على مغفرة الخطاي وسيادته على البشر وأخيراً مجيئه الثاني: "ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة معه فحينئذ يجلس على عرش مجده"أقةو (متى25: 31). لقد كان مجيء ابن الإنسان الأول متواضع، لكن مجيئه الثاني سيكون بمجد. هذان الحضوران يجمعهم ويوحدهما شخص واحد عاش في فقر مدقع لكنه يجلس الآن "عن يمين الآب" وسيأتي في ملء مجده. إذن فلقب "ابن الإنسان" يعبر عن ناسوت يسوع وعن ألوهيته. تشير الأناجيل إلى أن يسوع لفت انتباه أتباعه إلى بعض الآيات في العهد القديم التي تساعدهم على فهم دوره ومكانته في تدبير الله الخلاصي. في تنبؤ عن موته وقيامته دمج يسوع نصين في العهد القديم هما الإصحاح 53 من أشعي والإصحاح السابغ من سفر دانيال. لعل هذين النصين أكثر النصوص أهمية في العهد القديم لفهم رسالة يسوع وشخصه. الإصحاح ال 53 من أشعيا يتألف من 12 آية، واحدة منها فقط غير مستخدمة في العهد الجديد. أما الآيات الأخرى فإما أن تكون مستشهداً به ومشاراً إليها في الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل بولس ورسالة بطرس الأولى. وفيما يتعلق بالإصحاح السابع من دانيال فهناك رجوع إليه في كل الأناجيل ورسائل بولس وسفر الرؤيا بالإضافة إلى التلميح غير المباشر في مقاطع أخرى (5). أما الآيات الأساسية في الإصحاح السابع من دانيال فهي: "ورأيت في رؤى الليل. فإذا بمثل ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء فبلغ إلى قديم الأيام وقرب إلى أمامه، وأوتي سلطاناً ومجداً وملك، فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه وسلطانه سلطان أبدي لا يزول وملكه لا ينقرض" (7: 13-14) ولكن ابن الإنسان الذي ينصر "قديسي العلي" (7: 18) يعطى ملكاً أبدياً. وابن الإنسان هذا هو ملك الملك الأبدي وماسيا. وفي الكتب الأبوكريفية اليهودية وخاصة أخنوخ الأول المعاصر لدانيا (160 ق.م.) يصور "ابن الإنسان" على أنه فرد أكثر منه شخصية جماعية. وسواء أكان التشديد على الجماعة أم على الفرد فإن ابن الإنسان يظهر كائناً متعالياً وسماوياً. كل هذا يناقض التوقعات الماسيانية الشعبية في أيام يسوع بالرغم من تأكيد يسوع في جوابه لبيلاطس أن مملكته "ليست من هذا العالم" (يو18: 36). الانتقال من الشخصية الجماعية إلى الشخصية الفردية يرى (بضم الياء) في أناشيد خادم الرب المتألم (أشعيا42: 1-4، 49: 1-6، 50: 4-9، 52: 13-53، 53: 12). من هو هذا الخادم المتألم؟ إنه شعب الله وفرد في آن. فهو أحياناً واحد مع إسرائيل وأحياناً أخرى فرد يتجاوز دوره دور الأمة وإمكاناتها وحتى دور "البقية المقدسة". في هذه الأناشيد نجد تقلصاًَ مضطرداً للشخصية الجماعية يرافقه تعاظم متزايد للشخصية الفردية. في الأناشيد الثلاثة الأولى لا تعرف متى يقصد النبي في حديثه الأمة ومتى يقصد الفرد. ففي النشيد الأول يطغى الطابع الجماعي أما في الثاني والثالث فيتضاءل هذا الطابع تدريجياً إلى أن تذوب شخصية الجماعة كلياً في النشيد الثالث في شخصية فردية. أما النشيد الرابع فيتكلم بوضوح عن شخص آلامه جزء رئيسي في رسالته وليست نتيجة لها (6). لقد أطلق يسوع على نفسه لقبي "ابن الإنسان" و"الخادم المتألم" مماثلاً نفسه مع الصورة الرفيعة لابن الإنسان ومتمماً دور خادم الرب المتألم. بيسوع ظهر إلى الوجود شعب جديد لله. وأصبح يسوع بداية ورأس وممثل هؤلاء الذين يتبعونه ويشاركون في مصيره. هذا هو الشعب المتألم والخادم المتألم الذي سينصره الله في النهاية. وقد وحد يسوع في حياته على الأرض بين "ابن الإنسان" و"الخادم المتألم". وكان هو ابن الإنسان الذي أتى ليتألم. أما في دانيال وأخنوخ فلا يقدم لنا ابن الإنسان كشخص. وأما في الأناجيل فهنالك إشارات ضمنية عديدة إلى آلام يسوع المستقبلية وإلى موته، وكذلك تنبؤاته العلنية عن رذله وآلامه وموته وقيامته. في النبوءات الثلاث عن الآلام نجد أن "ابن الإنسان" هو "الذي سيتألم كثيراً" (مر8: 31) و"سيسلم إلى أيدي الناس" (مر9: 31) و"إلى رؤساء الكهنة والكتبة" (مر10: 33). وفي هذه النبوءات يتكلم يسوع عن آلامه الشخصية. فهو كالخادم المتألم "رذل ورفض من الناس" وصار "رجل أوجاع، جرح من أجل معاصينا" (أشعيا53: 3-5). وكالخادم "أذل وأهين لكن لم يفتح فاه" (53: 7). مشيئة الرب أن يُضرب الخادم ويحزن وهي أيضاً في أنه "سيرى ذريته وستطول أيامه" (35: 10). وهذا ما حصل لابن الله المتجسد. فقد "طالت أيامه"لأن الله أقامه وحرره من سلطان الموت "إذ لم يكن ممكناً أن يمسكه الموت" (أعمال2: 42). ومجرى الأحداث في أشعيا 53 من إهانات وإدانة وطول العمر نجدها تنعكس تماماً في النبوءات الثلاث عن آلامه. ففي كل منها يشير يسوع إلى آلامه وموته وقيامته (7). ولقد استخدم يسوع نفسه في تفسير رسالته الماسيانية صورة ابن الإنسان الذي أتى من العلى وصورة خادم الرب الذي "حمل خطايا كثيرين، وابتهل من أجل العصاة" (أشعيا53: 12). في الإنجيل الرابع وفي الأناجيل السينابتية يتحدث يسوع عن إدانته وقيامته. وفي الإنجيل الرابع نجد الأقوال الثلاثة التالية تتنبأ عن الآلام: "و كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان " (3: 14)، "إذا رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تعرفون أني أنا هو ولست أفعل شيئاً من عندي ولكن كما علمني الآب كذلك أقول" (8: 28)، "إذا ارتفعت عن الأرض جذبت إلى الجميع" (12: 32). المقاطع الثلاثة تشير إلى أن ابن الإنسان مزمع أن يدان ويتمجد. ويستخدم الإنجيل فعل ارتفع hypsothenai بمعنيين مختلفين، الأول يدل على صليب يسوع والثاني يعني تمجيده الذي سيكتمل بالقيامة والصعود. ويشير المقطع الأخير وكذلك الاثنان الأولان إلى أن ابن الإنسان بالرغم من أنها لم تسمه. فيبدأ المقطع هكذا: "قد أتت الساعة التي يمجد فيها ابن الإنسان" وينتهي: "تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى عنهم" (12: 36). وبعدما تكلم يسوع للمرة الثالثة عن "رفعه"، أضاف يوحنا: "إنما قال هذا ليل على أية ميتة كان مزمعاً أن يموتها" (12: 33). فاحتجت الجموع: "قد سمعنا من الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد (8) فكيف تقول أنت أنه ينبغي، يرتفع ابن الإنسان. من هذا ابن الإنسان؟" (12: 34). لقد فهمت الجموع أن يسوع يتحدث عن موته وفي ذهنها يستحيل الربط بين ماسي والموت. لا تكشف نبوءات يسوع عن آلامه أية رغبة مرضية في الاستشهاد لأن هدفه كان أن يعمل مشيئة الآب ويتمم الرسالة التي أرسله الآب من أجلها (9). لقد أراد يسوع ما أراده الآب جاعلاً مشيئة الآب مشيئته. "إن الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما يرى الآب يعمله لأنه مهما يعمله ذلك فهذا يعمله الابن أيضاً على مثاله" (يو5: 19). عندما تنبأ يسوع عن موته أشار في الوقت ذاته إلى قيامته. فكانت حياته رحلة تبدأ من الآب وتنتهي إليه. كذلك تكلم عن النصر الذي سيحرزه على الصليب وبواسطة الصليب. والقيامة كشفت عما تحقق على الصليب. أما الجموع فلم تستطع أن تعي بأن موت يسوع سيكون ذروة رسالته العامة وبداية نوع جديد من الحياة. ابن ورب لم تقتصر ألقاب يسوع على "المسيح" و"ابن الإنسان" و"الخادم المتألم"، بل تجاوزتها إلى ألقاب منها لقبان يكشفان أمور جديدة عن يسوع وماسيانيته وهما: "الابن" و"الرب". تحتل البنوة الإلهية مكانة بارزة في إنجيل القديس يوحنا. فالله الآب بذل ابنه الوحيد لأجل خلاص العالم، "لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما يعمل وسيريه أعظم من هذه الأعمال لتتعجبوا أنتم لأنه كما أن الآب يقيم الموتى ويحييهم كذلك الابن يحيي من يشاء لأن الآب لا يدين أحد بل أعطى الحكم كله لابنه" (يو5: 20-22). والابن يمجد الآب الذي "لم يراه أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر" (يو1: 18). وكما في إنجيل يوحنا نجد في الأناجيل السينابتية أن موضوع البنوة الإلهية قد طرق. "كل شيء قد دفع إلي من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن يريد الابن أن يكشف له" (متى11: 17، لو10: 22) (10). لقد عبر يسوع عن يقينه المطلق (متى11: 27) بأنه يعرف الله معرفة كاملة (11)، معرفة تفوق كل ما ادعاه أنبياء العهد القديم. فهؤلاء قالوا بأنهم "رأواأ" يهوه "وسمعوه" لكنهم لم يدعوا إطلاقاً بأنهم "عرفوا" يهوه (الله). معرفة يسوع هذه لم تكن تاريخية ولا فلسفية ولم تأتِ نتيجة إلهام بل نتيجة إتحاد شخصي: "أن والآب واحد" (يو10: 30). لقد ظهرت بنوة يسوع الإلهية في أحداث حياته ومن خلال أمثاله. فدعاه الآب أثناء المعمودية والتجلي ب "ابنه الحبيب" (مر1: 11، 9: 7). وسمى نفسه في مثل الكرّامين الأشرار "الابن الحبيب" (مر12: 6). وكان لهذا المثل طابع السيرة الذاتية، ولم ينقض أسبوع على إعطائه حتى حكم على "الابن الحبيب" بالموت. عندما كان يسوع يعلم في الهيكل استشهد بالمزمور 110 سائلاً: "كيف يقول الكتبة أن المسيح هو ابن داوود؟"، ما دام داوود نفسه قد قال: "قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك". ثم أضاف قائلاً: "فداوود نفسه يدعوه رباً فكيف يكون هو ابنه؟" (مر12: 35-37). يظهر من تساؤل يسوع أن لقب "ابن داوود" الذي كانت له جذور عميقة في التوقعات الماسيانية الشعبية لم يكن كافياً للتعبير عن ماسيانية يسوع ولم يعطِ الطريق الصحيح لإيجاد جواب قاطع عن هوية يسوع وهدفه عمله الخلاصي. فمن دون أن يرفض يسوع لقب "ابن داوود" قاد سامعيه إلى الإيمان بأن ماسيا هو أرفع من ابن داوود لا بل أنه رب داوود. وبجمعه لقبي "ابن داوود" و"الرب" يكون قد رفض الصبغة السياسية التي كانت تحيط بكلمة "ابن داوود". وكذلك حذت الكنيسة الأولى حذو يسوع في هذا التفسير معرفة يسوع "بالرب وأنه ابن داوود "بحسب الجسد" كان لقب "رب" أقدس اسم يمكن للكنيسة أن تطلقه على المسيح القائم من بين الأموات (12). وأولى الصلوات الآرامية كانت تحوي العبارة: "ماران أث، أيها الرب تعال" (1كور16: 22). فباستعمالها كلمة "رب تكون الكنيسة في أورشليم ألحقت بالمسيح المجد الإلهي الذي كان يخص في السابق يهوه وحده. لكن بعض علماء العهد الجديد يؤيدون الرأي القائل بأن لقب "الرب" (كيريوس) قد أطلقته على المسيح الكنائس اليونانية وليست كنيسة أورشليم. وبالتالي فالكنائس ذات الأصل اليهودي لم تستعمل هذا اللقب إطلاقاً. ولكن أسفار العهد الجديد كلها لم تشر إلى أي جدل قام بين الكنيسة الأم والجماعات المسيحية اليونانية الأصل حول منح يسوع لقب كيريوس (13). ليس مستغرباً أن يكون اليهود المتدينون في العالم الهليني آخر من يستطيع الاعتراف بأن المسيح هو "رب". وكان لا بد من حدوث شيء فوق العادة في حياتهم وأوساطهم حتى يؤدي بهم إلى مثل هذا الاعتراف. وعندما قبلوا بيسوع واتخذوه رباً أصبح اليهود مؤمنين مسيحيين. وعليه فالبحاثة الذين يعتقدون أن "اليهود قساة الرقاب" لم يطلقوا على يسوع لقب "الرب" قد تجاهلوا إيمان هؤلاء اليهود بالمسيح (14). ولقد اتخذت الكنيسة تفسير يسوع للإصحاح السابع من سفر دانيال وللإصحاح الثالث والخمسين من سفر أشعيا النبي. أن مجرى الأحداث المدونة في الإصحاح 53 من أشعيا يوجد أيضاً في نشيد الكنيسة الأولى الآرامية. وقد أدرج بولس الرسول هذا النشيد الذي يتحدث عن يسوع في إطار يجمع بين "ابن الإنسان" و"خادم الرب المتألم" ويعلن "أن يسوع المسيح هو رب" (فيلبي2: 5-11). كذلك وحدت الكنيسة في عبادتها بين "ابن الإنسان" و"الرب" كما فعل يسوع أثناء حياته الأرضية (15). السر الماسياني لقد لفت يسوع الناس إليه كابن لله في أفعاله ومن خلال أقواله، ولكنه في نهاية بشارته كشف نفسه كلياً. مع ذلك يؤكد مرقس على أن يسوع حاول جاهداً معظم حياته أن يبقى ماسيانيته سراً. فعندما صرخ الرجل الذي فيه روح نجس قائلاً: "ما لن ولك يا يسوع الناصري أأتيت لتهلكنا؟ قد عرفتك من أنت، أنك قدوس الله"، انتهره يسوع قائلاً: "اخرس واخرج من الرجل" (مر1: 24). "و أخرج شياطين كثيرة ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه" (مر1: 34). "وكانت الأرواح النجسة إذا رأته تخر أمامه وتصرخ قائلة: إنك أنت ابن الله. فينتهرها كثيراً ألا تظهره" (مر3: 11-12). وعندما أقام ابنة يايرس: "أوصاهم كثيراً بأن لا يعلم أحداً بهذا" (مر5: 34). وكذلك أوصى تلاميذه "أن لا يقولوا عنه لأحد" (مر8: 30)، وبعد التجلي "أوصاهم ألا يخبروا أحداً بعد إلا متى قام ابن الإنسان من بين الأموات" (مر9: 9). كانت لهذه الحيطة أسبابها الموجبة. فوجود شهود غير مستحبين كان الباعث على طلب يسوع أن يلزموا الصمت. وهكذا تجنب إثارة حماس الجماهير كان وراء منع أي كلام عن إقامة ابنة يايرس. ولأنه كان يعلم ما يدور في خلد الشعب عن الاعتقادات الماسيانية طلب إلى تلاميذه عدم البوح بأنه المسيح. لقد رفض دور ماسيا السياسي لأنه أتى ليخلص الشعب من خطاياه ويدخله ملكوت الله، لا ليقيم مملكة أرضية لإسرائيل بعصيان منظم ضد السلطة الرومانية. ومع أن ظل الصليب كان حاضراً عند التجلي (16)، ولكن معناه الحقيقي لن يتضح قبل القيامة، وجب على التلاميذ الثلاثة أن يلزموا الصمت حتى يوم انتصاره على الموت. بين علماء العهد الجديد من يزعم أن يسوع لم يعلن أبداً أنه ماسي وإنما الكنيسة اخترعت بعد القيامة "السر الماسياني". ويقولون بأن العبارات الماسيانية المدونة في الأناجيل ليست ليسوع بل من وضع الكنيسة محاولة بذلك تفسير عدم اعترافها قبل القيامة بيسوع كماسيا. ويضيف العلماء أن الكنيسة آمنت بأن يسوع هو ماسيا. ولكن بما أنها لم تجد في أقواله ما يدعم إيمانها لجأت إلى وضع العبارات الملائمة له وادعت بأن يسوع طلب من تلاميذه أن يبقوا خبر ماسيانيته سراً. ويقول ويرد "إن لمرقس حصة الأسد في ابتداع هذا "السر". بيد أن هذا الابتداع ليس عملاً فردياً بل انجاز جماعي" (17). لو كان السر الماسياني بالفعل من خلق "دوائر معينة" في الكنيسة الأولى لتوقعنا تطبيقاً دقيقاً لهذه النظرية في كل ما يتعلق "بتاريخ يسوع". ولكننا لا نجد هذا التجانس في التطبيق في إنجيل مرقس، فنجد في بداية الإنجيل يسوع يعطي صلاحيات إلهية عند شفائه المخلع، فيقول: "يا بني مغفورة لك خطاياك" (مر2: 5). وقد اعتبر الكتبة ذلك تجديفاً إذ "من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده" (مر2: 7). وهكذا لم يخفِ يسوع ذاته في هذا المقطع ومقاطع أخرى بل أعلن هويته. ويبدو جلياً أن يسوع كان يكتم أحياناً سر ماسيانيته ويظهر هذا السر في أحيان أخرى. ولعل الإنجيليين نقلوا منن المصادر التي اعتمدوها كل ما يتعلق بماسيانية يسوع، وتبدو لأول وهلة هذه المواد على شيء من التناقض. إعلان حين وإخفاء حيناً! ولكن هذا الأمر يطابق كثيراً سر الإعلان الإلهي الذي لا نستطيع التعبير عنه بدقة بواسطة الأحداث والكلمات. ماسيا أتى ولن يستطيع العيش حتى النهاية وكأنه ماسيا "سري"، فكان لا بد له من أن يكشف عن نفسه بطريقته الخاصة ويعلن أنه "أكثر" من ماسيا الذي كان ينتظره الشعب. ------------------ حواشي الفصل السابع (1) تعتبر الأناجيل السينابتية أن إيليا قد آتى في شخص يوحنا المعمدان. فعندما سأل الرسل يسوع بعد التجلي: "لماذا يقول الكتبة آن إيليا ينبغي آن يأتي أولاً؟" أجابهم يسوع قائلاً: "ايليا آتى، فعملوا به على هواهم، كما جاء عنه في الكتب" (مرقس 9: 13). ونجد أيضاً في إنجيل متى تماثلاً واضحاً بين يوحن وايليا: "فإذا شئتم أن تصدقو، فاعلموا أن يوحنا هو ايليا المنتظر" (متى 11: 14). إن المعمدان أتم رسالة ايليا (لوقا 1: 17، 26)، وكان مصيره مشابهاً لمصير ايليا: "وكان كلام الرب إليه يقول له ما لك ههنا يا ايليا؟ فقال قد غرت غيرة للرب اله الجنود لأن بني إسرائيل تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها " (1 ملوك 19: 10). من الطبيعي أن ايليا لم يرجع بصورة حسية (متى 17: 10 ومرقس 9: 9 ...)، ولذلك يستطيع يوحنا المعمدان أن يقول عن نفسه أنه ليس هو ايلي، كما ورد في الإنجيل الرابع (يوحنا 1: 19). فيوحن، وفقاً للأناجيل السينابتية، لم ينسب إلى نفسه دور ايلي، لكن يسوع هو الذي نسب إليه هذا الدور، لأنه كان يعرف دور يوحنا في تاريخ الخلاص لكن يوحنا لم يكن يعرف ذلك. وهناك تفسير آخر لإنكار يوحنا أنه ايليا. فبالنسبة لبعض النقاد "ايليا كان صورة أخروية معادلة لصورة ماسي، إذ يجب أن نتذكر ما ورد في سفر ملاخيا (4: 5) بان ايليا لا يسبق ماسيا بل يسبق يوم الرب. فايليا ليس السابق لماسيا بل المساوي له: أنه المرشد في يوم الرب". لذلك رفض المعمدان قبول "دور مساو للدور الماسياني" . راجع: C.F.D. Moule: The Phenomenon of the New Testament، Naperville، Ill.، A.R. Allenson، Inc.، 1967، p.71. (2) راجع: Harald Riesenfeld: "The Mythological Background of New Testament Christology"، The Gospel Tradition، Philadelphia، Fortress Press، 1970، pp. 3-49. يبحث هذا الكتاب في موقف يسوع من الرجاء الماسياني. فقد حرر يسوع نفسه من الفكرة القومية المتعلقة "بالملك المثالي" واستعمل لقب "ابن الإنسان". لكن "لا نجد في الأناجيل شيئاً من إنتاج الخيال كما كانت الحال في الأدب الرؤيوي اليهودي" (ص 44). لقد قبل بعض عناصر الكتاب المقدس وقسماً من الأدب اليهودي المتأخر، ورفض البعض الآخر، معلماً عن ذاته بالاستناد إلى خليط من عناصر وأفكار تقليدية. فصورة "ماسيا" وصورة "ابن الإنسان" وصورة "خادم الرب المتألم" جمعت في صورة واحدة، وبذلك تغيرت. "وهذا التغير هو بالحقيقة أساس الخليقة الجديدة التي تسمى بلغة العهد القدين "الملء". المسيح هو الملك، ومجده ليس نتيجة لقوته بل لخدمته. ولقد حقق النصر ... بطاعته وآلامه" (ص 46). (3) أوضح هذه النقطة Richard J. Dillon and Joseph A. Fitzmyer in Acts of The Apostles، Jerome Biblical Commentary 45: 11. الآب وحده يعرف "ذلك اليوم وتلك الساعة"، هذا ما قاله يسوع لتلاميذه (مر13: 23). وقد عكس الرسول بولس تعليم يسوع هذا في رسالته إلى أهل تسالونيكي عندما قال: "وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم، أيها الأخوة، أن أكتب إليكم عنه، لأنكم تعرفون جيداً أن يوم الرب يجيء في الليل" (ا تسا 5: 1-2، متى 24: 43-44). (4) راجع: R.E. Brown: The Gospel According to St. John، Anchor Bible Commentary، New York، Doubleday، 1966، p.84. (5) راجع: C.H. Dodd: The Old Testament in The New، Philadelphia، Fortress Press، 1963، pp. 12، 14. (6) راجع: H.H. Rowley: The Servant of the Lord and Other Essays، London، 1952، pp. 50-53. بناء على هذه الدراسة، النشيد الأول هو أقرب ما يمكن إلى "المقاطع المتعلقة بإسرائيل التي هي خارج نطاق الأناشيد". يسيطر فكر النبي هنا "الخادم الجماعي أعني إسرائيل الذي اختير ليحمل نور الدين الحقيقي إلى كل العالم". وفي النشيد الثاني يبدو وكأن النبي مكتشف أن البقية الأمينة المتطهرة من إسرائيل فقط تستطيع تأدية هذه الرسالة. فلذلك ستمتد الرسالة ليس فقط إلى جميع الأمم من خلال إسرائيل بل إلى إسرائيل نفسه أيضاً. يتكلم النشيد الثالث عن الآلام التي سيتحملها خادم الرب المتألم في تأدية رسالته. "وليس واضحاً إذا كان يفكر النبي هنا بشخص جماعي وبممثل فرد قائد". أما في النشيد الرابع فيظهر أن "الخادم هو "بكل تأكيد فرد أحد". ويضيف روليه قائلاً: "يبدو لي بوضوح أن الصورة ليست سوى صورة مستقبلية" (ص50-53). (7) للإطلاع على هذا التحليل راجع: A. Feuillet، p. 775. ولمعرفة المراجع في إنجيل يوحنا راجع: A.M. Hunter، p. 92. (8) يستند هذا التصريح إلى المزمور (89: 3) القائل: "قطعت عهداً مع مختاري، حلفت لداوود عبدي، إلى الدهر اثبت نسلك وابني عرشك إلى دهر الداهرين" وإلى نبوءة أشهيا (9: 6-7) المتعلقة بحكم ماسيا الأبدي وبعهد السلام والازدهار الذي سيبدأه والذي يدوم إلى الأبد. (9) هذا ما بحثه "مرش" (في الصفحة44) فيلاحظ أن الأناجيل الأربعة تبدأ بقصة حياة يسوع ومن ثم تركز على قوته، لأنها تعتبر "موت يسوع قمة حياته" وبداية حياة جديدة. (10) في رأي جرمياس إن الآية 17 من الفصل الحادي عشر من متى "تتضمن تصريحاً أساسياً ليسوع عن رسالته"، إذ أنه باستعمال كلمة "أبي" أشار إلى "الإعلان الفريد والسلطة الفريدة" اللذين أعطيا له. J. Jeremias: The Prayers of Jesus، Naperville، Ill.، Alec R. Allenson، Inc. 1967، pp. 51، 53-56. {فتنقل إذن كلمة "أبي" إعلان، يمثل التعبير الأساسي عن رسالة يسوع}(ص53). خاطب يسوع نفسه الآب بكل بساطة بعبارة "آبا" (أب). يشير جيرمياس إلى أن اليهود لم يخاطبوا قط في أيام يسوع الله بكلمة "آبا"، في حين أن يسوع كان يستخدمها دائماً ما عدا في (مرقس15: 34) حيث استشهد بالمزمور (22: 1) قائلاً: "ايلي ايلي لما شبقتني؟" (متى 17: 46، مرقس 15: 34). في استعمال يسوع لكلمة "آبا"، نملك بدون شك علامة واضحة عن صوت يسوع الحقيقي (ص 57). هذا الاستعمال يشير أيضاً إلى "التسليم الكلي من قبل الابن لمشيئة الآب" (مرقس14: 36، 11: 25) (ص62). "آب، يا أبي أنت قادر على كل شيء، فابعد عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أريد بل كما أنت تريد" (مرقس14: 36). استطاع المسيحيون فقط بعد إتمام يسوع لعمله الخلاصي وحلول الروح القدس على التلاميذ أن يدعوا الله آبا. لذلك كتب بولس إلى أهل رومية قائلاً: "والذين يقودهم روح الله هم جميعاً أبناء الله، لأن الروح الذي نلتموه لا يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل جعلكم أبناء الله وبه نصرخ إلى الله: آبا أيها الآب، وهذا الروح نفسه يشهد مع روحنا أننا أبناء الله" (رو8: 14-16). إن الإنسان لا يستطيع بروحه مخاطبة الله كأب له، ولكن "الله أرسل روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً أيها الآب" (غلا4: 6). (11) مع أن يسوع هو ابن الله الوحيد فيبدو من خلال الأناجيل وكأن معرفته محدودة بشأن بعض الأمور. نذكر هنا بصورة خاصة، ما قاله عن عدم معرفته بموعد نهاية الأزمنة(مرقس13: 32). لكن آباء الكنيسة يرون في هذه الأقوال علامة على عظمة تنازله الإلهي وعلى حقيقة التجسد الذي مع ذلك لم يلغ وعيه المستمر بأنه ابن الله، (12) إن اسم الله في العهد القديم، أي "يهوه" يتألف في اللغة العبرية من أربعة أحرف ساكنة YAWY وبالتالي لم يكن يلفظ. فاليهودي كان يقول أدوناي (أي السيد) بدل "يهوه"، لأن اليهود كانوا يحترمون اسم الله كثيراً. نقلت الترجمة السبعينية هذا الاسم إلى اليونانية مستخدمة كلمة "كيريوس" الاسم الذي أعطي ليسوع بعد القيامة. يقول كولمان في هذا الصدد: "إن المسيحيين الأول أعطوا يسوع لقب "كيريوس" مؤكدين بذلك أنه لا ينتمي إلى الماضي في تاريخ الخلاص وليس فقط المبتغي في المستقبل بل إنه حقيقة حاضرة وفاعلة، يمكن لنا الاتصال به، والتوجه إليه بالصلاة وتقدر الكنيسة أن تتوسل إليه في عبادتها". راجع: O. Cullmann: The New Testament: An Introduction for the General Reader، Philadelphia، Westminster Press، 1968، p. 42. لقد عنى دائماً الاعتراف بيسوع كرب الإيمان به وعبادته. (13) راجع في هذا الموضوع: Arthur W. Wainwright: The Trinity in New Testament، London، SPCK، 1962، p. 87. (14) راجع: R.E. Brown: Jesus: God and man، Milwaukee، Bruce Publishing Co.، 1967، p. 29. يبدو أن استعمال يسوع لعبارة "أنا هو" في الإنجيل الرابع (يوحنا 6: 20،28،56، 13: 19، 18: 5، 6، 8) هو إشارة إلى (خروج3: 13- 14) حينما أعلن الله لموسى أن اسمه هو: "أنا هو الذي أنا هو" وهذا هو المعنى الاشتقاقي لكلمة "يهوه". ولكي نفهم استخدام يسوع لعبارة "أنا هو" يجب العودة إلى (اشعيا 43: 25): "أن، أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها"، وإلى (51: 12): "أن، أنا هو معزيكم"، و(52: 6): "لذلك يعرف شعبي اسمي، لذلك في ذلك اليوم يعرفون أني أنا هو المتكلم، هاءنذا". السبعينية ترجمت كل هذه العبارات "بأنا هو" (ego eimi). راجع: David M. Stanley and Raymond E. Brown: "Aspects of New Testament Thoughts"، "Jerome Biblical Commentary"، 78: 58. إن اسم "أنا هو" و"أنا الذي هو" هو اسم الله وهو اسم يسوع أيضاً. ولا يعبر هذا الاسم عن ألوهيته فحسب، بل يؤكد أن الحضور الإلهي لم يفارقه في وضعه البشري. "فإنه فيه يحل ملء اللاهوت جسدياً" (كولوسي 2: 9). (15) لا يوجد "سبب منطقي لرفض" الدليل الإنجيلي على أن يسوع قد "جمع بين الرب الجالس عن يمين الآب وبين "ابن الإنسان" الموصوف في سفر داني، الذي بدا غاية في الأهمية في الفكر المسيحي". راجع: C.H. Dodd: According to the Scripture، New York، Charles Scribner's Sons، 1953، p. 110. (16) لقد وافق الله، أثناء التجلي على الاعتراف بيسوع في قيصرية فيليبس، وعلى تنبوئه الأول عن الآلام. إذ أن ما اعترف به بطرس وجد صحيح، وما تنبأ به يسوع عن آلامه العتيدة كان حقيقياً كذلك. يورد الإنجيلي لوقا في روايته عن التجلي، أن موسى وإيليا اللذين ظهرا معه، "تكلما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم" (لوقا 9: 31). الكلمة اليونانية للخروج هي exodus، وقد قصد بها لوقا الموت كما كان يقصد (بضم الياء) بها في الأدب المسيحي الأول. ومعنى هذا القول أن يسوع سيقوم "بخروج" آخر في أورشليم، ومن خلال موته سيخلص شعبه من عبودية الخطيئة. إذن في اللحظة التي أظهر فيها عن مجد ماسيا’، كشف أيضاً عنه أنه سيتألم. بعد التجلي، علم يسوع تلاميذه عن آلامه. ولكن التلاميذ، بدون رفض هذه الفكرة لم يتجرأوا هذه المرة أن يسألوه شيئاً (مرقس 9: 31-32). ولما أعلن ثالثة عن نوع الميتة التي كان مزمعاً أن يموته، "لم يفهم الرسل من ذلك شيئاً وكان هذا الأمر مخفياً عنهم ولم يعلموا ما قيل" (لوقا 18: 34)، لأنهم لم يزالوا تحت تأثير المفاهيم الماسيانية، ولم يستطيعوا القبول بأي نوع من أنواع الآلام الماسيانية. لذلك ملأ التعليم عن موت ماسيا قلوبهم حزناً وعقولهم "بالهواجس المظلمة، فلم يعد عقلهم يتحرك إلى ابعد من هذه الفكرة". راجع: A.M. Ramsey: The Resurrection of Christ، London، Collins Press، 1961، p. 41. (17) يوجد وصف مفصل لكتاب: Wrede: The Messianic Secret in the Gospels، 1901. في كتاب Albert Schweitzer: The Quest of the Historical Jesus، New York، Macmillan، 1961، pp. 330-348. قبل أكبر ممثلين لحركة النقد الحديثة المعروفة بنقد الأشكال الأدبية، بولتمان وديبيليوس نظرية ويرد. يعتقد بولتمان أن المسيح لم يؤمن أنه هو الماسيا. هذه النظرة أصبحت "عقيدة مدرسة بولتمان"، وتبين الكثير من طريقة تفسيره للإنجيل. يعتقد أتباع بولتمان أن "السر الماسياني" لا يمت بصلة إلى حياة يسوع وتعاليمه "بل أنه يمثل نتيجة تأمل وتفسير الكنيسة بعد الفصح". راجع: Gunther Bornkamm: Jesus of Nazareth، New York، Harper and Row، 1960، p. 171. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:14 AM | رقم المشاركة : ( 9 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الفصل الثامن ملكوت الله كان يسوع يكرز في الجليل قائلاً: "قد تم الزمان واقترب ملكوت الله فتوبو وآمنوا بالإنجيل" (مر1: 15). وأعلن يسوع أن حكم الله الجديد قد أتى وأن قدرة الله وسلطانه سيتجليان في مملكة الله الجديدة. لقد استخدم يسوع عبارة "ملكوت الله" ليعبر عن حكم الله وملكه، وعن سيادة مملكته. وعندما صرخ يسوع بأن ملكوت الله قد اقترب عنى أنه أصبح حاضراً (1)، وأن التوقعات القديمة قد تحققت بمجيئه. فالله الذي كان يفعل في العالم منذ بدء الخليقة أصبح على وشك ممارسة حكمه بشكل مختلف. فلم يترك الله للتاريخ أن يأخذ مجراه الطبيعي بل حركه وأكمل تاريخ الخلاص بإرساله ابنه الوحيد إلى العالم. إن تعليم يسوع عن ملكوت الله يضعه على طرفي نقيض لبوحنا المعمدان وكل الجماعات والحركات الدينية في اليهودية القديمة. فيوحنا كان يكرز بأن ملكوت الله، وهو يوم الدينونة، سيأتي قريباً. أما الربابنة الأقدمون فاعتقدوا بأن الملكوت لن يكون في هذا الدهر بل في الدهر الآتي. ولم يتصوروا أبداً أنه يمكن للدهران أن يتداخل، في حين أعلن يسوع أن الدهر الآتي قد دخل في الدهر الحاضر. فملكوت الله "أتى" و"سيأتي" في آن. وأنه "تحقق" و"سيتحقق" وأن اللحظة الحاسمة قد أتت ولكن النهاية لم تأتِ بعد (2). الصبغة الآخروية في تعليم يسوع كان يسوع آخروياً أكثر منه رؤيوياً. إن الفكر الرؤيوي يتعاطى الشؤون المستقبلية دون الماضي والحاضر في حين أن الفكر الآخروي يدخل في حسابه الماضي والحاضر والمستقبل. فمع يسوع دخل الزمن المستقبلي وغدا الناس أمام تحدياته وصار عليهم أن يقرروا ما سيفعلونه الآن في حياتهم الحاضرة. أما الراؤون اليهود (200 ق.م.- 200 ب.م.) فقد صوروا المرحلة الأخيرة من التاريخ الحاضر. صوروها على أساس أن الله لن يتدخل في الشؤون البشرية ولكنه سيظهر في النهاية مجده وقدرته وقضاءه على العالم. كان همهم الأول توضيح الخطوط العريضة لأحداث وحساب المراحل التي تسبق النهاية. وشغلوا أنفسهم بتحديد متى وكيف وماذا سيفعل الله ناسين أنهم بذلك يحدون من حرية الله وقدرته. أما يسوع فلم يحدد أبداً موعداً لنهاية العالم بل أنكر معرفته "بذلك اليوم وتلك الساعة" (مر13: 32)، مع يقينه بأن ذلك اليوم آتٍ حتماً. وكتهيئة لذلك الحدث الأخير علم يسوع "الفضائل الآخروية"، حاثاً الناس على الاستعداد الدائم واليقظة، وأن يتجلوا بالصبر والثقة مؤكداً على أن الإنسان سيبقى حتى بعد مجيئه مسؤولاً عن الأعمال التي يفعلها في هذا العالم. الفكر الرؤيوي حتمي الطابع. فيه المستقبل غير مرتبط بالحاضر بل يقتحمه اقتحاماً. ولم يكن في هذا الفكر مكان لإيمان الإنسان ولا لتوبته وهما العلامتان الدالتان إلى استجابة الإنسان لإعلان الملكوت. ويختلف الراؤون في رسمهم للأحداث المستقبلية اختلافاً جذرياً عن أنبياء العهد القديم. فالنبي، عندما كان يتنبأ. كان يأخذ بعين الاعتبار حالة إسرائيل الحاضرة والعهد الذي قطعه لشعبه. وكانت النبوءة ترتبط عادةً بسلوك الإنسان وتصرفاته. مثلاً كلام الرب إلى ارميا: "أما استطيع أن أصنع بكم كهذا الخزاف يا آل إسرائيل يقول الرب، هوذا مثل الطين في يد الخزاف مثلكم في يدي يا آل إسرائيل، إني بغتة أتكلم على أمة وعلى مملكة لأقلع وأهدم وأهلك فإن رجعت تلك الأمة عن شرها الذي من أجله تكلمت عليها فإني أندم على الشر الذي فكرت في صنعه بها" (ارميا18: 5-6). هنا يظهر إله ارميا النبي إلهاً حياً وشخصياً يهتم بكل الناس والأمم. تحقق ملكوت الله بمجيء ابن الإنسان. إنه هو الملكوت حسب تعبير اوريجنس (autobasileia). وعندما أرسل يوحنا المعمدان تلميذيه ليسألا يسوع: "أنت الآتي أم ننتظر"، أجاب يسوع: اذهب وأعلما يوحنا بما سمعتم ورأيتما: "العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (متى 11: 3-5). وعندما سأله تلميذا يوحنا عما إذا كان هو ماسيا المنتظر كان جوابه أن ملكوت الله قد أتى وهذا الملكوت هو الحقيقة الحاضرة. الجواب بحد ذاته يدل على تحقيق وعود الله ويشير إلى أن ملكوت الله قد أتى. طردت الشياطين إذ "قد اقترب منكم ملكوت الله" (لو11: 20). في الوقت نفسه نجد إشارات أكيدة إلى أن ملكوت مستقبلي. أكثر هذه الإشارات وضوحاً ما ورد في صلاة يسوع: "ليأت ملكوتك" (متى6: 10، لو11: 20). ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذا الملكوت والملكوت الذي أتى بمجيء يسوع. في مجيئه الأول أخذ يسوع صفة عبد وبدأ ملكوت الله في الظلمة، ولكن في النهاية عند المجيء الثاني سيظهر ابن الإنسان وملكوته في كامل المجد والقدرة. ولن يبقى شيئاً مخفياً بل سيعلن كل شيء وسيتضح للجميع سر يسوع وسر ملكوته ولن تكون هنالك ظلمة في الإعلان الإلهي الأخير. وابن الإنسان الذي أتى هو نفس ابن الإنسان الذي سيأتي وهنالك ارتباط عضوي بين الملكوت الحاضر والملكوت الآتي. وقوى الدهر الآتي تفعل منذ الآن في الدهر الحاضر والتفاوت الظاهر بين المجيئين ليس توتراً فكرياً بل تاريخي. فابن الإنسان هو في حضوريه بيد أن عمله سيكتمل في المجيء الثاني ويصبح واضحاً للجميع. وهذه هي قاعدة الفكر الآخروي في العهد الجديد. لقد قامت عدة محاولات لتفسير التضاد الظاهر في تعليم يسوع حول الملكوت منها نظريتان متطرفتان تزيلان كل "توتر" بين الحاضر والمستقبل. النظرة الأولى تعبر عنها نظرية "الآخروية المحققة" (بضم الميم وفتح القاف). والثانية توضحها نظرية "الآخروية المستقبلية". أصحاب النظرية الأولى يعتقدون أن الملكوت قد تحقق بيسوع وخدمته ولا يوجد ما نتوقعه في المستقبل. أما القائلون بالنظرية الثانية فيغالون في التشديد على أهمية الإعلان الجديد الذي سيتم أثناء الحضور الثاني (Parousia)، ويزعمون أن خدمة يسوع لم تحقق شيئاً. يوجد قاسم مشترك بين النظريتين وهو الفصل التام بين الحاضر والمستقبل وبين الملكوت "التاريخي" والملكوت "الكوني"، ولكن واحدة منها لا تعبر وتنقل تعليم يسوع حول ملكوت الله. نجد في الأناجيل آخروية تحققت وآخروية مستقبلية. فالحياة الأبدية، وهي نوع جديد من الحياة، يمكن عيشها الآن (يو3: 36، 5: 24، 6: 47و54). وفي الوقت الذي يشدد فيه يوحنا على أن يسوع قد أتى بالملكوت نجده يظهر أن الملكوت يستلقي في المستقبل. وستكون الدينونة الأخيرة خاتمة لعمل يسوع: "تأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوت ابن الله فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (يو5: 28-29). وكذلك يظهر هذا النوع من الآخروية في الخطاب الوداعي ليسوع: "أنا أمضي لأعد لكم مكان، وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتى وآخذكم إلى" (يو14: 2-3). الذين يقولون بأن التعليم الإنجيلي عن الملكوت هو بمثابة "آخروية ابتدأ تحقيقها" (3) (inaugurated eschatology) هم فقط الذين أخذوا بعين الاعتبار الصعوبة الكامنة في النص الإنجيلي بهذا الشأن والتضاد الموجود بين "ما أتى" و"الآتي". هذان المفهومان للملكوت مختلفان لكنهما لم يكونا يوماً منفصلين. فالإيمان بأن المسيح قد غلب، وبأن الحياة الجديدة فيه معطاة بالأسرار في الكنيسة ينزع عن المسيحيين كل شعور بالقلق تجاه المستقبل ويعطيهم الصبر والثقة لانتظار المستقبل. الملكوت كما تكشفه الأمثال نجد تعليم يسوع عن الملكوت في عدد من أمثاله (4). "يشبه ملكوت السموات حبة خردل أخذها رجل وزرعها في حقله. فإنها أصغر الحبوب كله، فإذا نمت صارت أكبر من جميع البقول ثم تصير شجرة" (متى13: 31). لا تتحدث أمثال يسوع عن نمو الملكوت كتطور طبيعي ونمو ذاتي وتغيير سحري بل تؤكد أنه نمو عجائبي وتحول يحصل بقدرة الله وبهديه. وكما أن الإنسان عاجز عن اجتلاب ملكوت الله الحاضر إلى الوجود كذلك لا يمكنه تجاه ملكوت المستقبل إلا الصلاة والرغبة في الدخول فيه وأن يهيئ نفسه لأجل ذلك. تدعو أمثال يسوع المتعلقة بالملكوت إلى التوبة التي عبر عنها يسوع في بدء خدمته الخلاصية (مر1: 15). كثيرون سمعوا أمثاله لكن قلة قبلت دعوتها. قال يسوع لتلاميذه الاثني عشر: "قد أعطيتم معرفة سر ملكوت الله وأم أولئك الذي في الخارج فكل شيء لهم بأمثال لكي ينظروا نظر ولا يرون ويسمعوا سمع ولا يفهموا لئلا يتوبوا فتغفر لهم زلاتهم" (مر4: 11- 12). هذه الآية صعبة التفسير، لذلك لم يشك إلا القليل من النقاد بصحتها. ويبدو للوهلة الأولى أن يسوع استعمل هذا الشكل من الأمثال ليخفي مضمون رسالته عن "الذين في الخارج". لكن تعليم يسوع لم يكن أبداً سرياً أي أنه لن يعط "معرفة سرية" كالغنوصيين بل درب تلاميذه وعلمهم وأعطاهم بأقواله وأفعاله "سر ملكوت الله". وهذا وحده كاف لتعريفهم أن نهاية الأزمنة حلت عليهم. "سر" الملكوت لم يبق محصوراً بقلة من المختارين بل أعلنه يسوع لتلاميذه ومن خلالهم إلى الشعب الإسرائيلي كله. إن المثل بالنسبة للذين هم في الداخل مع يسوع واستجابوا لندائه بالتوبة (Metanoia) إعلان "لسر ملكوت الله". أما بالنسبة للذين هم "في الخارج" فالأمثال ألغاز وأحاج وليست إعلاناً بأن الملكوت قد أتى. وكلمة مثل في العبرية والآرامية يمكن ترجمتها "بأحجية" (5). أما استشهاد يسوع بقول أشعيا "اذهب وقل لهذا الشعب ستسمعون سمع ولا تفهمون، وتنظرون نظر ولا تبصرون" (6: 9) لا يعني أن الأمثال قد أعطيت لتغلق أعين الناس ولا لتقودهم إلى الدينونة إنما لتظهر المسؤولية الملقاة على عاتقهم من جراء رفضهم قبول الرسالة التي تتضمنها الأمثال. سيعاقب الأشرار من أجل نمط حياتهم، هذا ما حذر منه أشعيا. الله لا يريد أن يكون الناس أشرار، ولكنه لسابق عمله بما سيكونون عليه حذرهم بلسان النبي. هذه الجملة من أشعيا هي الأسلوب المميز في العبرية للتعبير بصيغة الأمر عن نتيجة رسالة النبي (6). ومهمة أشعيا كانت فتح عيون الشعب الإسرائيلي ليروا الأعمال التي صنعها الله نيابة عنهم. الهدف من الأمثال كان نفسه والنتيجة كانت متشابهة. فعندما قال يسوع: "توبو وآمنوا بالإنجيل"، لم يستجب له الشعب. وعلى الذي يريد أن يكشف له "سر ملكوت الله" أن يرفض الانتماء إلى "الذين في الخارج" وأن يتعلم بالتوبة والإيمان أنه حيث يكون يسوع فهنالك يكون الملكوت. تشير الأمثال إلى يسوع على أنه الماسيا. أما الصور التي استخدمها يسوع في أمثال الملكوت فهي ليست مجرد لوحات عن الحياة اليومية في فلسطين. صحيح أنه رأى الشعب يزرع ويحصد ولكن هذه الصور موجودة أيضاً في أسفار العهد القديم بعين الاعتبار (7). لقد استخدمت الأمثال لغرض ماسياني لتعلن أن كل ما كان متوقعاً تحقق في أقوال يسوع وأفعاله. أن نفهم مثلاً يعني أن نتعرف على ماسيا المنتظر في يسوع الناصري. الملكوت كما تكشفه العجائب وكما أعطي تعليم يسوع في أمثاله، كذلك أعطي في عجائبه. فطرده للشياطين شهد على أن ملكوت الله قد حضر (لو11: 20، متى 12: 18) وأن قوة الشيطان قد خضعت دون أن يقضي عليها كلي، وأنه بالرغم من اعتراف الشياطين بالهزيمة (مر1: 24) ظلت على مقاومتها ليسوع (مر5: 1-20 وما يوازيها). لقد غزا الله مملكة الشياطين ولكن القوة الشيطانية لم تستسلم بل تطلعت إلى ضحايا جديدة، إذ أن كراهيتها ليست موجهة ضد الإنسان فقط بل ضد كل شيء مخلوق من الله. ففي عجائب طرد الأرواح الشريرة نجد صراعاً بين قوى الشيطان وقوة الدهر الآتي. ولا تتضمن بعض العجائب الواردة في الروايات الإنجيلية والمتعلقة بشفاء الأمراض الجسدية عنصر الصراع بين قوة متضادة، ومع ذلك فكل واحدة منها رمز للملكوت وإعلان عنه. ولم تكن عجائب الشفاء أمثلة للإيمان الشافي ولا نتيجة لانتصار العقل على الجسد، ولا نتيجة لقوة سحرية (8)، بل اجترحها يسوع على أساس طاعته الكاملة للآب واتحاده به. لذلك فهي أيضاً تظهر الملكوت وتدل على أن الله ليس غائباً عن العالم الذي خلقه ولا عن الإنسان نفسه. كانت المعجزات كالأمثال تدعو إلى التوبة. "الويل لك يا كوزين، الويل لك يا بيت صيدا لأنه لو صنع في صور وصيدا ما صنع فيكما من القوات لتابتا من قديم بالمسوح والرماد ... وأنت يا كفرناحوم ولو ارتفعت إلى السماء فإنه يهبط بك إلى الجحيم لأنه لو صنع في سدوم ما صنع فيك من القوات لثبتت إلى اليوم" (متى11: 20-24). وهذه الأعمال الخارقة (Dynameis) ليست عجائب (Terata) بل علامات (Semeia) للملكوت ولأعمال (erga) يسوع (9). ولم يفعل يسوع العجائب ليرضي فضول الناس ويثير إعجابهم ولكن لكي يستجيبوا لدعوته بالتوبة، تلك التوبة التي تؤدي إلى تغيير داخلي يشمل الذهن والقلب ويترجم في نمط حياتي جديد موجه إلى إتباع يسوع وقبول مصيره الماسياني. أشار يسوع إلى عجائبه فقال: "هذه الأعمال عينها التي أعملها تشهد لي بأن الآب قد أرسلني" (يو5: 36). وقال أيضاً: "لكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي" (يو10: 26). وبكشف العجائب عن هوية يسوع أظهرت الملكوت الذي دشنه بمجيئه وقد مجدت يسوع لا كفاعل للمعجزات بل كحامل للملكوت. تخبرنا العجائب بطريقة ملموسة أن زمان الوعد قد انقضى وأن العصر الماسياني قد حضر. وتؤكد أعمال الشفاء التي اجترحها يسوع وخاصة في أيام السبوت على الطابع الآخروي للعجائب (مر1: 21-27، 29-31، 3: 1-5، لو13: 10-16، يو 5: 2-6، 16-18، 9: 13 ...). وبقيامه بتلك الأعمال في السبت أكد يسوع صلاحياته الإلهية وربط هذه العجائب بالقيامة. "ها أنا أخرج الشياطين وأجري الشفاء واليوم وغد وفي اليوم الثالث أكمل"(لو13: 32)(10). فقيامته حققت ما كان ملمحاً به في عجائبه أعني انتصار الحياة على الموت. لذلك نستطيع فقط في ضوء القيامة أن نفهم بعمق تعليمه من خلال العجائب أن ملكوت الله قد أتى فعلاً. الملكوت والكنيسة ما هي العلاقة القائمة بين الملكوت الذي تحقق بيسوع وبين الكنيسة التي ظهرت يوم العنصرة؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الإجابة عن السؤال الهام التالي: هل أسس يسوع الكنيسة، أم هي جاءت نتيجة غير متوقعة لرسالته؟ عندما نتكلم عن مصدر الكنيسة وخلقها فلا يخطرن لنا أن عملاً واحداً من أعمال يسوع قد أتى بها فجأة إلى حيز الوجود، لأن الأناجيل تعطينا صورة مختلفة. فما دونته من أعمال يسوع وأقواله يدل على أنه كان يصبو إلى تأسيس الكنيسة. إذ حالما بدأ عمله الخلاصي، بعد المعمودية والتجربة على الجبل، جمع حوله الاثني عشر الذين اصطفاهم لإعلان أسرار الملكوت. واختياره هذا العدد بالتحديد لم يكن عبثاً لأن في إسرائيل كان يوجد اثنا عشر سبطاً. وهذا يعني أولاً أن تلك الأسباط تخصه. وقد يفهم البعض أيضاً من هذا الاختيار أن يسوع كان في وده أن تقتصر البشارة على إسرائيل فقط. لكن هذا التفسير لا يتطابق مع ما ورد في الأناجيل. ففي أيام يسوع كانت الأمة اليهودية تتألف من سبطين وثلاثة فقط وليس من اثني عشر سبطاً (11). فيكون اختيار يسوع للاثني عشر لا يتعلق بإسرائيل المعاصر له بل هو علامة نبوية تشير إلى أن إسرائيل الجديد الآخروي أي إلى الكنيسة التي تشارك في الملكوت وتنتمي إليه. وتشير كذلك إلى أن ماسيا كان موجود، وأنه ألف جماعة خاصة به وهي جماعة ماسيانية. لم يأت يسوع ليعيش حياة العزلة والانفراد بل ليفتتح ملكوت الله و"يدعو الاثني عشر" (مر3: 14) الذين سيدعون بدورهم الشعب الإسرائيلي والأمم كافة ليتقبلوا مواهب الملكوت. لم يختر يسوع الاثني عشر، هذا "القطيع الصغير" ليكونوا في عزلة كما كان الأسانيون، بل "ليتلمذوا كل الأمم" (متى28: 19)، ويشكلوا جماعة ماسيانية على رأسها ماسيا بالذات. كان اختيار الاثني عشر تلميذاً عملاً فريداً أن في العهد الجديد والقدين. فإيليا تنفيذاً لأمر الرب، مسح اليشع "ليكون نبياً مكانه" (1ملوك19: 15 ...). ويوحنا اصطفى تلاميذ له ولكنه لم يفكر إطلاقاً بجعلهم جماعة خاصة به، بل كان يتوقع منهم أن يعودوا إلى أعمالهم السابقة (لو3: 10-14). إذن لا يوجد دليل واضح على أن يوحن وغيره من القادة قد اختار تلاميذاً بالطريقة نفسها التي اصطفى بها يسوع تلاميذه (12). واللقب الخاص "ابن الإنسان" الذي أطلقه يسوع على نفسه كان القصد منه تأسيس كنيسة تحمل رسالته عبر العصور. هذا اللقب يشمل عمل يسوع في ناحيتيه الجماعية والفردية ويشير إلى أصل وسر الجماعة الآخروية المتجذرة في العالم السماوي. وقد "نمت" الكنيسة انطلاقاً من علاقة المسيح بعائلته (مر3: 31-35 وما يوازيها). وعائلة يسوع هي الجماعة المجتمعة باسمه أي الكنيسة. وكل الصور التي أعطاها السيد عن تلاميذه مثل "القطيع الصغير" و"ملح الأرض" و"نور العالم" تدل على أن جماعة آخروية ستوجد. يؤكد النقاد المتطرفون على أن المسيح لم يؤسس الكنيسة وأنها لم تكن أبداً أحد أهدافه. لكن جواب يسوع لبطرس بعد الاعتراف به يؤكد على أن يسوع كان يريد تأسيس كنيسة: "أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى16: 18) (13). وقد وعد يسوع بأنه سيوجد شعباً جديداً لله، وإسرائيل الجديدة، وذرية مختارة وأمة مقدسة (1بطرس2: 9). شعب الله هذا هو الكنيسة (ekklesia) أي جسد المسيح ومكان حضور الله. كذلك الكلمات التي فاه بها يسوع في العشاء الأخير تدل بوضوح على أن فكرة الكنيسة كانت حاضرة في ذهنه. وكان حضور يسوع عند تأسيس سر الشكر بحالتين: منظورة وسرية، إذ كان "مع" التلاميذ و"في" داخلهم. وأما الفصح القديم الذي كان يعيد (بضم الياء وتشديد الياء وفتحها) له كذكرى للخروج فغدا فصحاً جديداً يعيد فيه لذكرى يسوع (14). وما تأسيس سر الشكر إلا لأن يسوع أراد أن يكون حاضراً مع تلاميذه وأن يبقى معهم "إلى انقضاء الدهر". فلو كان يظن بأن النهاية أصبحت وشيكة لما كان بحاجة إلى تأسيس سر الشكر ما دام لن يكون للكنيسة متسع من الوقت للعيش في التاريخ. لقد افتتح يسوع الملكوت وأسس الكنيسة. وتشير الشواهد الإنجيلية على أنه توقع أن يبشر (بفتح الشين) بالإنجيل بعد موته وقيامته (15)، وأن قوة ملكوت الله التي انبعثت من أقواله وأعماله ستبقى فاعلة في الكرازة الإنجيلية وأسرار الكنيسة، وأن ملكوت الله سيكون حاضراً بطريقة جديدة خلال الفترة الزمنية الممتدة بين العنصرة والمجيء الثاني. والكنيسة لا تؤلف بعد ملكوت المجد لكنها الجماعة الآخروية التي تعيش مرحلة الوصول إلى هذا الملكوت. فالكنيسة تشارك منذ الآن في الدهر الآتي وتختبر مجد الملكوت في الوقت الذي تتوقع فيه مجيء هذا الملكوت. ستثبت الكنيسة حتى مجيء الملكوت و"قوات الجحيم لن تقوى عليها" (متى16: 18). في هذه الكنيسة التي هي ملك المسيح القائم من بين الأموات كتبت الأناجيل وحفظت صورة المسيح ونقلت عبر الأجيال ولا نزال نسترشد فيها بأقواله وأفعاله. ------------------ حواشي الفصل الثامن (1) يستعمل مرقس الإنجيلي في 1: 15، الفعل اليوناني eggizo في الماضي الذي يمكن أن يعني (eggiken) شيئين: "اقترب" و"حضر". فعندما أعلن يسوع عن مجيء الملكوت هل قصد أن ملكوته لم يأتِ بعد، بل هو قريب جد، أم قصد أن مجيئه هو قد حقق الملكوت؟ فيكون تحليل الفعل اليوناني بدون جدوى، "لأنه يحمل المعنيين". فالطريقة الوحيدة لحل هذه المشكلة هي في تفسير هذا المقطع من (مرقس1: 15) على ضوء تعليم يسوع بمجمله. راجع بهذا الصدد: Francis Wright Beare، op. Cit.، pp.44-45. أم، في متى 11: 4- 5 مثل، فنجد أن الملكوت حاضر في الزمان وأنه يرتبط بشخص يسوع، إذ لم يستعمل متى عبارة "ملكوت الله" ولا الفعل eggizo . مثل آخر نجده عند لوقا (11: 20) حيث يرد استعمال عبارة "ملكوت الله". "وأما إذا كنت باصبع الله أطرد الشياطين، فملكوت الله أقبل عليكم". أما متى فقد استبدل في المقطع الموازي في إنجيله (12: 18) عبارة "إصبع الله" التي تعني في (خروج 8: 19) قوة الله، بعبارة "روح الله". ولكن استخدم متى ولوقا للفعل اليوناني phthano (ephthasen)، الذي يعني "أقبل" و"وصل"، ولا يتحمل أي تأويل آخر، يوضح أن ملكوت الله لا يتعلق فقط بالمستقبل بل هو حاضر الآن وهنا. ولا بد من الإشارة أن جميع النقاد يعتبرون هذين القولين في متى 11: 4- 5 ولوقا 11: 20 (متى 12: 28)، أصيلين . راجع: Xavier Leon Dufour: The Gospel and the Jesus of History، London، W.Collins Sons، 1968، p.230. يورد متى أن يوحنا المعمدان كان يبشر بأن "ملكوت السماوات" قد "اقترب" (متى 3: 2). فعبارة "ملكوت السماوات" لها نفس مدلول عبارة "ملكوت الله"، لكن بما أن متى يتوجه بإنجيله إلى المسيحيين من أصل يهودي، فقد تحاشى استعمال كلمة "الله". في تدوينه لكرازة المعمدان، استخدم متى الفعل نفسه eggiken الذي استعمل للتعبير عن تعلي يسوع في (متى 4: 17) و(مرقس 1: 15). بالرغم من استعمال الفعل نفسه بالنسبة إلى يوحنا ويسوع، فإن المعنى يختلف بين النصوص، إذ أن قصد يوحنا في قوله أن ملكوت الله وملكوت السماوات قد "اقترب" يعني أنه لم يأت بعد ولكنه سيأتي قريباً. هذا التفسير ينبثق من تعليم يوحنا كما ورد في الأناجيل. (2) راجع: Oscar Cullmann: Christ and Time، 3rd ed.، London، SCM Press، 1962. يقول كولمان أن زمن الخلاص، بالنسبة للمؤمنين لم يعد في المستقبل، لأن مجئ المسيح أدخل ترتيباً جديداً للزمن. فالنهاية لم تأت بعد، لكن قوة العالم الآتي تفعل منذ الآن في هذا العالم. فالرجاء المسيحي بالمستقبل يمكن دعمه بالإيمان بالماضي. لقد ربحت (بضم الراء) المعركة الحاسمة، ولا يوجد أي مجال للشك بالنتيجة النهائية، غير أن معاهدة السلام لم توقع بعد. وبالتالي تبقى الصور عن العلاقة القائمة بين ملكوت الله المحقق وبين الملكوت الذي ما يزال ينتهي إلى المستقبل. (3) الأب جورج فلورفسكي هو الذي استعمل لأول مرة عبارة "أخروية ابتدأ تحقيقها " (inaugurated eschatology) راجع: C.H. Dodd: The Interpretation of the Fourtn Gospel، Cambridge، Cambridge University Press، 1953، p.447، fn 1. (4) عرف فن الأمثال واستخدم قبل يسوع. ويورد العهد القديم بعض الأمثال في (2 صموئيل 12: 1- 4، 1ملوك 20: 35- 42، أشعياء 5: 1- 7). أما يسوع فقد أوصل هذا الفن إلى الكمال، وقد اختلفت مواضيع أمثاله عن مواضيع سابقيه، كما أنه حصر هذه المواضيع حول شخصه وأراد من خلالها جلب الناس إليه وحثهم على مواجهة تحديه بطريقة إيجابية. لا يقصد من الأمثال أبداً تسلية الناس بل إعلان ملكوت الله، بشأن م، وقد أعلن يسوع، من خلال أمثاله طبيعة الملكوت. (5) الكلمة العبرية (mashal) والكلمة الآرامية (mathla) الموازيتان لكلمة "مثل" يمكن أن تعنيا أيضاً لغز ورمزاً. لذلك نستطيع تفسير الآية القائلة "إن كل الذي في الخارج أعطي لهم كل شيء بالأمثال"، بأن كل شيء "أعطي لهم بالألغاز". راجع: Joachim Jeremias: The Parables of Jesus، New York، Charles Scribner's Sons، 1963، p. 20. المثل ليس بالضرورة استعارة ورمز، لأن الاستعارة تشير إلى نقاط عديدة، وهذا ما يضفي عادة عليها صفة اصطناعية بينما المثل يؤكد على نقطة واحدة. لكن لا نستطيع دائماً التمييز بوضوح في الأناجيل بين المثل والاستعارة، لأن بعض أمثال يسوع تحمل صوراً استعارية. هذه هي الحال مع مثل الكرامين الأشرار(مرقس12: 1-12)، الذي يعرض كل تاريخ الخلاص، واضعاً يسوع في محوره. ليس من الضرورة اعتبار هذا النوع من الاستعارة من صنع الكنيسة التي تكون قد حورت مثلاً بسيطاً من أمثال يسوع، إذ أنه يوجد نشيد رمزي عن الكرمة في سفر اشعيا (5: 1-7)، ولربما يكون يسوع قد فكر بهذه السابقة عندما وضع مثله. قاوم النقد الحديث التفسير الرمزي للأمثال الذي أكثر منه المفسرون القدامى أمثال أوريجنس وأوغسطين. نجد مثالاً جيداً على هذا الإفراط في التفسير، في شرح أوغسطين لمثل السامري الشفوق، حيث كل جملة لا بل كل كلمة عنت له شيئاً مختلفاً عن المعنى الظاهر. راجع: C.H. Dodd: The Parables of Kingdom، rev. ed.، New York، Charles Scribner's Sons، 1951، pp. 1-2. انتقد اودولف جوليخر، الذي نشر كتاباً سنة 1898 عن الأمثال، بشدة هذا التفسير الرمزي، وقد أيده الكثيرون في هذ، ولكن جوليخر ومؤيدوه تطرفوا في انتقادهم عندما رفضوا كل أنواع التفسير الرمزي، إذ لا تخلوا أمثال يسوع كلياً من العناصر الرمزية. يعتبر جرمياس، من حيث المبد، في كتابه القيم عن أمثال يسوع، أن العناصر الرمزية فيه، لها قيمة ثانوية. وعلى الناقد أن يحدد هذه العناصر ويضعها جانباً للوصول إلى المعنى "الأصيل" للمثل. لكن ريزنفلد أشار إلى نواقص كتاب جرمياس في مقال له بعنوان: The Parable in the Synoptic and in the Johannine Traditions، " The Gospel Tradition"، pp. 148 ff. غالباً أنه لم يكن يوجد فرق واضح بين "المثل" و"الاستعارة" في زمن يسوع. قيل أن المثل يتميز ببساطة الأفكار الواردة فيه والاستعارة بتعقيد الأفكار الواردة فيها. ولكن الأبحاث التاريخية النقدية لم تعتبر الأمثال البسيطة كما كان يظن سابقاً (ص149). لقد تذكر الناس أمثال يسوع واستعملوه وكيفوها وفق الوضع الجديد الذي حدث بعد موته وقيامته. لا شك في أن بعض التغيرات قد وقعت أثناء نقل الأمثال وتطبيقها على ظروف جديدة ومستمعين جدد. ولكنه من الصعب تحوير قصة موفقة. كل ما يمكن حدوثه، إذ كثر تداوله، هو إضافة بعض العناصر الجديدة عليها وهذه يمكن تحديدها. يقول وليدر، "إن قصة تستعمل بنجاح الصور الرمزية غير قابلة للتغيير، لأنه لا يوجد إلا طريقة واحدة لقولها كما هو الحال في الشعر". راجع: Amos Wilder: The Language of the Gospel: Early Christian Rhetoric، New York، Harper and Row، 1964، p. 90. (6) راجع: E.F. Sutcliffe: The Monks of Qumran، London، Burns and Oates، 1960، p 73. Vincent Taylor: The Gospel According to St. Mark، London، Macmillan Co.، 1959، p. 256. (7) راجع: E. Hoskyns and N. Davey: The Riddle of the New Testament، pp. 130-133 يورد الكاتبان مقاطع عديدة من العهد القديم استعملت فيها استعارات الزرع والحصاد. أهم هذه المقاطع هي الآتية: ارميا 13: 27، هوشع 2: 12-23، اشعيا 55: 10، يوئيل 3: 12 ومزامير 126: 5. "هناك أمثال أخرى تظهر الدقة في اختيار التشبيه والاستعارة. ويوجد شبه بين الأمثال المتعلقة بالأعراس وانتظار العذارى للعروس، الذي يرمز إليه بإنزال المن في الصحراء" (ص132). (8) الإيمان ليس سبباً للشفاء بل شرطاً له. تظهر الأعجوبة في الأناجيل كمكافأة على الإيمان. فالمسيح لم يجترح العجائب أمام قليلي الإيمان، الذين لا يدركون معناها الحقيقي(مرقس6: 1-6). بيد أن قلة الإيمان لم توقف عمله في "تخفيف المصائب" كما يعلق بوباير في تفسيره لمرقس 6: 5-6. لم يكن يسوع يمارس الشفاء بواسطة الإيمان غير أن "عدم الإيمان قد يعرقل إنجيل الله". لم يستطع أن يفعل في وطنه، "أعمالاً عظيمة" سوى أنه وضع يده على بعض المرضى فشفاهم. "وكان يتعجب من قلة إيمانهم" (مرقس 6: 5-6). راجع: G.H. Boobyer and others: The Miracles and the Resurrection، London، SPCK، 1964، p، 56. (9) استعمل يسوع كلمة (ergon) أي "عمل" لوصف عجائبه في الإنجيل الرابع، ولكن يوحنا الإنجيلي استخدم كلمة semeion و"علامة". أما في الأناجيل السينابتية فاستعمل يسوع والإنجيليون اللفظة نفسه وهي dynamis أي "القوات". في استخدام يسوع للفظة "عمل" (erga) لوصف عجائبه، ربط عمله الخلاصي الذي وصفه يوحنا الإنجيلي بأنه هو أيضاً "عمل" (to ergon)، بأعمال الآب في خلق العالم وفي تاريخ الخلاص. راجع: A.M. Hunter، p.70. (10) كان الربابنة يقبلون، زمن يسوع، ممارسة بعض الأعمال يوم السبت شرط أن تكون هذه الأعمال ناتجة عن وضع قاهر. لكن لا توجد إشارات كافية في رواية مرقس (3: 1-6)، للتأكيد أنه كان ضرورياً إجراء هذا الشفاء يوم ذاك وأنه لم يكن ممكناً تأجيله. فعندما دخل يسوع المجمع، "وجد رجل، يده يابسة" وكان هناك جماعة من الكتبة والفريسيين "يراقبون ليروا هل يشفيه في السبت،فيتهموه". كذلك في حادثة شفاء الإمرأة "التي فيها روح شرير"،غضب رئيس المجمع "لأن يسوع شفي المرأة في السبت وقال للجمع: عندكم ستة أيام ينبغي العمل فيه، فتعالو واستشفو، وليس في يوم السبت" (لوقا13: 14). (11) راجع: C.F.D. Moule: The Phenomenon of the New Testament، p. 69. (12) راجع: Charles H.H. Scobie: John The Baptist، Philadelphia، Fortress، 1964، Charpter 8: "Disciples of John". فيما يتعلق بالطريقة الفريدة التي دعى فيها يسوع تلاميذه، انظر: J.W. Bowman: "The Life and Teaching of Jesus" In Peake's Commentary on the Bible، 1962، p. 737. (13) حول المشكلة المتعلقة بتفسير متى 16: 17-19، راجع: Veselin Kesich: "The Problem of Peter's Primacy" in St. Valdimir's Seminary Quarterly، 4: 2، 3، 1960، pp. 2-25. (14) في روايتين من أصل الروايات الأربعة عن تأسيس سر الشكر، يقول يسوع: "اصنعوا هذا لذكري" (لوقا22: 20، 1كور 11: 24-25). هذا يعني أنه يأمر بتكرار الأفخارستيا في الفترة التي ستلي موته وقيامته. فمع أن مرقس ومتى لا يوردان هذه الكلمات، فإنهما يشهدان أيض، بطريقة أخرى، أن يسوع أراد أن تعاش الأفخارستيا في الكنيسة. قال يسوع: "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يهرق من أجل كثيرين" (مرقس14: 24 ومتى26: 28). "من أجل كثيرين"، تعبير سامي يعني "الكل" أي لعدد كبير من الناس، لا نستطيع إحصاءه. ويعني أن يسوع شمل في تفكيره اليهود والأمم. هذا كله يعني أن سر الشكر يعطي خلاصاً للعالمين وأن يسوع وضع نصب عينيه الكنيسة عندما تفوه بتلك الكلمات (15) أعطى يسوع الرسل قوة الكرازة وطرد الشياطين وشفاء المرضى (مرقس6: 12-13) ووعدهم أن هذه القوات لن تتزعزع بعد الصلب. لا نستطيع فهم تعليم الموعظة على الجبل والتي تضم بعض المتطلبات المناقبية، إلا إذا اعتبرنا أن هذه التعاليم يجب أن تعاش بعد الصلب. فأقوال يسوع المجموعة في متى 5-7 لم تكن موجهة إلى التلاميذ لكي يستفيدوا منها لفترة وجيزة قبل موته، إنما لكل المؤمنين به في زمن الكنيسة. |
|||
30 - 01 - 2013, 10:15 AM | رقم المشاركة : ( 10 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب المسيح في الأناجيل والكنيسة والنقد الكتابي الحديث
الخاتمة ومراجع مختارة إن نور القيامة يضيء كل صورة المسيح التي في الأناجيل، لأن الإنجيليين رأوا كل شيء في منظار القيامة معبرين بذلك عن اعتقادهم بأن المسيح الناهض من القبر هو نفسه يسوع التاريخي. وقد زودتنا الأناجيل بالمادة التاريخية التي تخولنا التمييز بين يسوع أثناء خدمته العامة ورب الكنيسة بعد القيامة. لكن هذه المادة نفسها تحظر علينا أي فصل بينهما لأن "يسوع" هو "المسيح". هذه وجهة نظر من النقاد المعاصرين. لكن ينزع البعض الآخر منهم إلى التشكيك بالرواية الإنجيلية، ويذهب إلى مواقف متطرفة. وهؤلاء غالباً ما يرتكزون على ما يبدو لهم معقولاً مما هو خلقي ولاهوتي ولربما نفسي. ويفرقون بين يسوع الناصري ومسيح الإيمان. هذا النوع من النقد عامة ينطلق من رغبة الناقد في التخلص من كل عنصر فائق الطبيعة ومن نفي أي تدخل لهذه العناصر في التاريخ. المنهج النقدي المطبق حالياً لم يبلغ حد الكمال ولكنه رغم محدوديته يبقى الأفضل بين المناهج الموجودة حالياً. ولا يوجد منهج معصوم من الخطأ. فالمنهج التفسيري الآبائي الذي يبحث في التماثل الداخلي بيت بعض الشخصيات والأحداث التاريخية في العهدين القديم والجديد قد أدى أيضاً إلى بعض التطرف. فتماديهم في البحث عن هذه العلاقات الداخلية أضعف الميزة التاريخية لكل من العهدين القديم والجديد وقلل من شأن الإطار التاريخي للإعلان الإلهي. لكن بالرغم من هذا فإن بعض نتائج التفسير الرمزي للكتاب تبقى ذات قيمة ثابتة. فقد حدد آباء الكنيسة العلاقة بين العهدين وأظهروا في تفاسيرهم وحدة الكتاب المقدس كما عبروا عن المعنى اللاهوتي لأحداث حياة المسيح. وهكذا كان نهجهم ضرورياً من الناحيتين التاريخية واللاهوتية. أما إدخال المنهج الحديث في التفسير الكتابي فلا يعني رفضاً لمنهج التفسير الرمزي بل تشجيع للنقاد الحديثين كي يعتمدوا نتائجه ومنجزاته. فآباء الكنيسة أساتذة لن وعلينا أن نتبنى موقفهم من الكتاب المقدس. لقد تأملوا الكتاب المقدس جيداً وأحبوه فتمكنوا أن يكتشفوا لأبناء عصرهم ولنا الكثير من أسراره ومعانيه. غير أننا لا نستطيع استخدام منهجهم للإجابة عن أسئلة تاريخية تثار اليوم. وهكذا فإن كان منهجهم لا يلائمنا دائماً فعلينا أن نتبنى مواقفهم ورؤيتهم وأن نقترب من الكتاب المقدس بروح أولئك الذين كرسوا حياتهم من أجل الوصول إلى فهم صحيح له. وتجدر الإشارة إلى أن موقف الآباء من الكتاب المقدس لا يتعارض بالضرورة مع الدراسات التاريخية التي يقوم بها العلماء المعاصرون. تضطرنا الأناجيل إلى إثارة تساؤلات تاريخية، وعقيدة التجسد نفسها: "الكلمة صار جسداً وحل فينا" (يو1: 14) تستدعي البحث الكتابي. إذ أننا لا نستطيع أن نعلن عن عمل الله في التاريخ ونهمل في الوقت نفسه البحث التاريخي في مدونات هذا الإعلان الإلهي أي الكتاب المقدس. ورفض لبحث كهذا يقود إلى التقليل من أهمية التجسد التاريخي ويؤدي إلى إحياء الميول الدوسيتية وإلى تشجيع التعلق الأعمى بالحرف في الكنيسة على نحو خفي (crypto-fundamentalism) لقد جعلنا النقد الكتابي نتأكد من أن الهم الأوحد للأناجيل هو الشهادة بأن يسوع هو الرب، علماً بأن الذين يستخدمون المنهج النقدي لا يستطيعون أن يبرهنو ويدحضوا صحة هذا التأكيد. وعندما اعترف بطرس بألوهية المسيح قائلاً: "أنت هو المسيح ابن الله الحي"، أجابه يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. فإنه ليس لحم ولا دم كشف لك هذ، لكن أبي الذي في السموات" (متى16: 16-17). لا يستطيع النقاد أن يبرهنو ويدحضوا أن يسوع هو ابن الله الحي، لكنهم يستطيعون التأكيد أن تلاميذ المسيح الذين عايشوه وتقبلوا تعاليمه، فأرسلهم ليبشروا به، هؤلاء آمنوا به وتعبدوا له. إننا نعرف يسوع بواسطة شهادتهم. أما الوثائق التي تضم هذه الشهادة فهي تمدنا بالمادة الضرورية التي تصلح لا للتأمل فقط، بل للبحث التاريخي. مراجع مختارة Arseniev، Nicholas، "Revelation of Life Eternal: An Introduction to the Christian Message"، St. Vladimir's Seminary Press، n. d. Brown، Raymond E.، "Hermeneutics"، "Jerome Biblical Commentary"، 71: 3-120. Charlier، Celestin، "The Christian Approach to the Bible"، Westminster، Md. Newman Press، 1961. Cullman، Oscar، "Salvation in History"، New York: Harper & Row، 1967. Cullman، Oscar، "The State in the New Testament"، New York: Charles Scribner's Sons، 1956 Davies، W.D.، "The Sermon on the Mount"، Cambridge: Cambridge University Press، 1966. Dodd، C.H.، "According to the Scripture: The Substructure of New Testament Theology"، New York: Charles Scribner's Sons، 1953. Fedotov، G.P.، "Orthodoxy and Historical Criticism"، in E.L. Mascall (ed.)، "The Church of God: An Anglo-Russian Symposium"، London: SPCK، 1934، pp. 91-104. Florovsky، Georges، " Scripture and Tradition: An Orthodox Point pf View"، "Dialog: A Journal Of Theology"، 2 (Autumn، 1963)، 288-293. Florovsky، Georges، "The Predicament of the Christian History"، In W. Leibrecht، ed.، "Religion and Culture: Essays in Honor of Paul Tilich"، New York: Harper & Bros.، 1959، pp. 140-166. Grant، Robert M.، "Formation of the New Testament"، New York: Harper & Row، 1965. Hennecke، E. and W. Schneemelcher (eds.)، "New Testament Apocrypha"، Philadelphia: Westminster Press، 1963. Hoskyns، Edwyn and Francis Noel Davey، "The Riddle of the New Testament"، London: Faber & Faber، 1947. Jeremias، J.، "The Problem of the Historical Jesus"، Philadelphia: Fortress Press، 1964. Jeremias، J.، "The Prayers of Jesus" (Studies in Biblical Theology، 2d series، No.6)، Naperville، Ill.، A. R. Allenson، 1967. Kaiser، O. and W. G. Kummel، "Exegetical Method: A Student's Handbook"، New York: Seabury Press، 1967. Mersh، Emile، "The Whole Christ: The Historical Development of the Doctrine of the Mystical Body in Scripture and Tradition"، Milwaukee: Bruce Publishing House، 1963. Milik، J. T.، "Ten Years of Discovery in the Wilderness" (Studies in Biblical Theology، No. 26)، London: SCM Press، 1959. Leon-Dufour، Xavier، "The Gospels and the Jesus of History"، London: W. Collins Sons، 1968. Nineham، D.E. and others، "Historicity and Chronology in the New Testament"، London: SPCK Press، 1965 Riesenfeld، Harald، "The Gospel Tradition" Philadelphia: Fortress Press، 1970. Sevenster، J. N.، "Do You Know Greek? How Much Greek Could the First Jewish Christians Have Known?"، Leiden: E. J. Brill، 1968. Sherwin-White، A. N.، "Roman Society and Roman Law in the New Testament"، Oxford: Clarendon Press، 1963. تم طبع هذا الكتاب في 15/4/1981 لحساب منشورات النور ص.ب. 112966- بيروت- لبنان |
|||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
المسيح في الأناجيل والرسائل |
الأناجيل الأربعة يذكرون صلب المسيح |
ولادة المسيح بالجسد حسب الأناجيل الأربعة |
إعلان الأناجيل عن ولادة المسيح |
كتاب المسيح حياته - أعماله كتاب للأب المتنيح القمص متى المسكين |