ثانياً: صفات المسيح
نجد عبر صفحات العهد الجديد الخصائص والصفات الإِلهية الثابتة للمسيح، وذلك لا يحدث على سبيل المجاملة كما في حالات امتداح مخلوقين أتقياء، بل أن ما ينسب إلى المسيح من صفات هو من النوع الذي لا يمكن أن يُنسب سوى للّه وحده. فيما يلي نعرض قائمة بتلك الخصائص:
1 - بلا خطية:
في الإنجيل بحسب يوحنا 6: 69 نجد إقراراً مهمّاً أعلنه الرسول بطرس عن المسيح الذي آمن به: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ». وفي رسالته الأولى يقول بطرس عن سيده: «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (2: 22). ويصرح الرسول بولس بدوره فيقول عن المسيح: «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2 كورنثوس 5: 21)، أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيقول في المسيح: «قُدُّوسٌ بِلا شَرٍّ وَلا دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ...» (7: 26) وقد تحدث المسيح نفسه عن قداسته وكماله. ففي يوحنا 8: 29 يقول مشيراً إلى كمال أخلاقه وعصمته عن الخطأ بالنسبة لشريعة اللّه: «لأنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ». وفي يوحنا 8: 46 تحدّى معارضيه الذين سعوا للتشكيك في نزاهته قائلاً: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» إضافة إلى ذلك فإن الإنجيل يحدثنا عن إقرار الشياطين، ألدّ أعدائه، فيقولون عنه: «قدّوس اللّه» (مرقس 1: 24). هذه كلها اعتبارات مهمّة، خاصة وإن الكتاب المقدس لا يسمح بأن تُضفى مثل هذه الصفات من الكمال على أي من خلائق اللّه.
2 - الأزلية:
مقدمة الإنجيل بحسب يوحنا لها مقامها الفريد من جهة الكشف عن أزلية المسيح. ففي العدد الأول نرى تعريفاً مهمّاً للمسيح ككلمة اللّه المتجسد: «في البدء كان الكلمة»، وفي نفس السفر نجد إعلانات واضحة من فم المسيح نفسه عن أزليته، فيقول عن نفسه: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58). ثم في صلاته الشفاعية الخاصة صلّى المسيح للآب قائلاً: «مَجِّدْنِي بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 17: 5)، «لأنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (العدد 24) بالإضافة إلى هذا نجد مضمون النبوات التي تحدثت عن المسيح في أسفار أنبياء العهد القديم قبل مجيئه بمئات السنين. فالنبي إشعياء دعاه في سفره «أباً أبدي» (9: 6) والنبي ميخا قال عنه: «مَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (5: 2). إذن المسيح هو ملك جميع الدهور.
3 - مصدر الحياة: خالقها ومبدعها:
تطرّق الوحي الإِلهي إلى وصف المسيح كما يلي في الإنجيل بحسب يوحنا:
«فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ» - 1: 4
«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلا بِي» - 14: 6
«أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» - 11: 25
«لأنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذٰلِكَ أَعْطَى ٱلابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ» 5: 26
فليس المسيح إذن مجرد مصدر للحياة فحسب، بل أنه هو الحياة الحقيقية ذاتها.
4 - الثبات المطلق وعدم التغيّر:
توجز الرسالة إلى العبرانيين وتحسم الأمر هكذا: «يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (13: 8). «وَأَنْتَ (إشارة إلى المسيح) يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلٰكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلٰكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى» (1: 10 - 12).
5 - القدرة المطلقة على كل شيء:
لم يتردد السيد المسيح مطلقاً في الكشف عما لديه من قدرة في الوقت المناسب. هذا لا يقتصر على مجرد إجراء المعجزات والعجائب، وكذلك لا غموض في تصريحاته عن هذا الموضوع: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18)، «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي» (متى 11: 27).
كتب الرسول بولس بوحي من الروح القدس في رسالته التعليمية إلى المؤمنين في أفسس: «وَأَخْضَعَ (أي اللّه الآب) كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ» (أفسس 1: 22). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فيعرّف المسيح أنه: «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (1: 3). وفي سفر الرؤيا يخبرنا الوحي أن المسيح هو «ٱلرَّبُّ ٱلْكَائِنُ... وَٱلَّذِي يَأْتِي، ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (1: 8)، والنبي إشعياء تنبأ عنه قائلاً فيه «الإِله القدير» (إشعياء 9: 6).
لكن الأمر لم يقتصر على مجرد بيانات. إنما ما قيل في المسيح، سواء على فمه هو أو على فم غيره، بوحي من اللّه، كان دائماً مدعَّماً بالأعمال الخارقة للطبيعة والتي أُجريت علناً وشهد لها الجميع، الأصدقاء والأعداء على السواء. فقد أقام الموتى (راجع يوحنا 11: 43، 44 ولوقا 7: 14 و15). وكشف أنه هو الذي سينجز عملية القيامة الأخيرة لجميع الأموات عندما قال: «إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنا 5: 28، 29).
6 - العلم المطلق بكل شيء:
قال التلاميذ للسيد المسيح: «اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ...» (يوحنا 16: 30)، والإنجيل المقدس يكشف لنا حقيقة عِلْم المسيح بما يجري في عقول وأفئدة البشر. فعندما صرح للمفلوج بغفرانه لمعاصيه كشف في نفس الوقت عن الاشمئزاز الصامت لمعارضيه بتصريحه هذا: «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِٱلشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟» (متى 9: 4).
وهذا ما يسجله أيضاً البشير يوحنا:
«لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (2: 24،25).
«لأنَّ يَسُوعَ مِنَ ٱلْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ ٱلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُسَلِّمُهُ» (6: 64).
«فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (18: 4).
وورد في رسالة بولس إلى كولوسي أنه «... ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (2: 3). وقال المسيح عن نفسه: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلا ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلا ٱلابْنُ» (متى 11: 27). إن ما يكشف عنه المسيح هنا هو في غاية الأهمية. فهو يفهمنا الحقيقة الأساسية في ألوهيته، وهي أن ذاته وكيانه اللاهوتييْن هما على درجة شاهقة من العظمة حتى أنه لا يمكن لأحد غير اللّه نفسه إستيعابهما. ليس ذلك فقط، بل أوضح المسيح لنا من جهة أخرى أن طاقة معرفته اللاهوتية هي غير محدودة كمعرفة اللّه الآب الكاملة والتامة.
كشف الإنجيل بكل تأكيد أن يسوع كان يتمتع بعلم وحكمة مطلقين لا حدود لهما. قال أحد المفكرين بهذا الأمر: «إن أعظم الدلائل على قدرة المسيح الخارقة في فحص وتحليل وقراءة ما يتضمنه قلب الإِنسان من أسرار هي ما كشف عنه بخصوص كل من نثنائيل، والمرأة السامرية، وتلميذه الخائن يهوذا، وتلميذه المغرور بنفسه بطرس. أخبر المسيح وأشار إلى وقائع المستقبل، فتحدث عن موته وقيامته وعودته إلى الأرض». إن مسيرة التاريخ كانت مفتوحة أمام عينيه، فهو قد تتبع متضمنات ما سبق وصار، وهو رأى مسبقاً الأعمال المعجزية الخارقة التي كان سينجزها تلاميذه، كما أنه أخبر عن هزيمة إبليس العتيدة وانتصار ملكوت اللّه الذي يلازم ذلك. فالأرض والسماء، الأزل والأبد، اللّه والإِنسان كل شيء مكشوف أمام عينيه.
7 - الوجود الكلي الذي لا يحده مكان ولا زمان:
عرّفت بشارة يوحنا المسيح على أنه «اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (1: 18). في ذلك تأكيد ليس فقط على أن المسيح ذو علاقة لاهوتية مباشرة باللّه، بل أيضاً هنالك تشديد على أنه بالرغم من تجسُّده ووجوده على الأرض بين البشر فإن صلته الوثيقة ولحمته الحميمة مع اللّه بقيت دون تغيير أو تحوير. فعند تجسده لم يكن يعبّر عن مجرد علاقته السابقة باللّه، أي أنه كان مع اللّه، بل أنه بقي أيضاً مع اللّه. هذا في الواقع ما يعنيه العدد الأول من بشارة يوحنا والذي يقول دون إبهام: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ (أي المسيح)، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ». فالمسيح إذن كان مع اللّه وبقي عند تجسده في صورة بشرية «كائن» مع اللّه. ويلقي يسوع نفسه ضوءاً على تلك الحقيقة في قوله: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلا ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (3: 13). قال المصلح الشهير يوحنا كالفن بصدد هذا النص من الإنجيل: «المسيح تجسد، ولكنه لم يُحصَر ولم تقلّ قيمته، فابن اللّه نزل من السماء بطريقة معجزية خارقة للطبيعة، في نفس الوقت الذي فيه بقي موجوداً في السماء. لقد اختار أن يولد من عذراء بطريقة عجيبة لكي يعيش على الأرض ويُعلَّق على الصليب. لكنه في الوقت ذاته لم يكفّ عن أن يملأ الكون بوجوده، كما كان الكون معمَّراً بوجوده منذ البداية».
ثم نلاحظ أن المسيح نفسه كشف عن حقيقة وجوده الكلي وغير المحدود عندما قال: «حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 20) وكذلك في قوله: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 20). إنّ نصّ الإنجيل الأخير هذا ورد على لسان يسوع عندما كان مجتمعاً برسله على جبل الزيتون بعد قيامته من الأموات. وهو هنا يطمئنهم ويؤكد لهم استمرارية وجوده وقوته معهم، حتى أنه أزاح الستار على أنّ تأثيره عليهم ومعهم لن يكون تأثير معلّم أو نبي ميت ومقبور، بل هو تأثير من هو حاضر وحيّ دائماً. أما كونه موجوداً في كل مكان فهذا يعني أنه يبقى دائماً قريباً، قادراً على حماية وتعزية شعبه حتى لا يصيبهم أذى أو أسى غير ما يراه هو ويسمح به لأجل صالحهم ومنفعتهم. لقد كان حضور المسيح مع تلاميذه بعد قيامته من الموت أكثر وضوحاً من وجوده الجسماني قبل موته. فبعد قيامته أصبح إيمانهم وعلاقتهم به قوة انتصارية دافعة، بينما كان اعتبارهم له قبل موته دائم التأرجح والتشكك. أشار الرسول بولس إلى حقيقة وجود المسيح المطلق في كل مكان بقوله: «مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (أفسس 1: 23).
8 - الخلق:
مرة أخرى نجد أن تقديم الإنجيل بحسب يوحنا للمسيح واضح ومختصر ومفيد: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (1: 3) - «كُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ» (1: 10). وما أوحى به الروح القدس عبر كتابة الرسول بولس ليس أقل شأناً في الشهادة للمسيح الخالق: «فَإِنَّهُ فِيه (في المسيح) خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لا يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ ٱلْكُلُّ» (كولوسي 1: 16 و17). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فكتب عن الأمر مذكِّراً بما كان أنبياء العهد القديم قد سبق وقالوه عن المسيح القادم إلى العالم: «وَأَمَّا عَنْ ٱلابْنِ (فقال اللّه على لسان داود): كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ...» (عبرانيين 1: 8). وهكذا كان قد ورد في المزمور 45: 6. وفي (1: 10 و11) يتابع كاتب الرسالة إلى العبرانيين اقتباسه من أقوال الأنبياء عن المسيح: «وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي ٱلْبَدْءِ أَسَّسْتَ ٱلأَرْضَ، وَٱلسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلٰكِنْ أَنْتَ تَبْقَى...» وهذا ما ورد في مزمور 102: 25. وكاتب هذه الرسالة هنا سعى ليس لمجرّد تذكيرنا بما يقوله العهد القديم في المسيح، بل أيضاً لإِيقافنا على حقيقة كون العهد القديم يقول في المسيح ما لا يُقال سوى في اللّه بالذات، فهو كان قد سبق وقال في المسيح: «حَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين 1: 3) وهذا ما ينطبق تماماً على ما ورد في رسالة الرسول بولس الأولى إلى المؤمنين في كورنثوس: «... وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بِهِ جَمِيعُ ٱلأَشْيَاءِ» (8: 6).
لقد كتب بصدد هذا الموضوع أحد كبار المفكرين المسيحيين يقول: «يخبرنا الكتاب المقدس أن المسيح هو خالق الكون بأسره، ما هو منظور وما هو غير منظور. هذا لا يتضمن فقط ما في الكون الطبيعي والمادي من شموس ونجوم لا تُحصى، بل أيضاً جميع أنواع الحياة الشخصية بما في ذلك الملائكة والبشر. الجميع مدينون له بوجودهم، وهو يشرف على كافة أرجاء الكون، حامياً له من التفكك والانحلال والخراب. وتفيدنا كلمة اللّه أن المسيح هو مصدر كل الأشياء ما يُرى وما لا يُرى، وهو الغاية النهائية لكل الخليقة. إذن ليس المسيح هو خالق كل الأشياء فقط، بل إنها جميعاً خُلقت لأجله هو، فهو الآخِر كما هو الأول، وهو النهاية كما هو البداية».
9 - السلطان والحق في مغفرة الخطايا:
عندما شفى يسوع المفلوج وغفر له خطاياه تململ الكتبة متسائلين في سرّهم: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هٰذَا هٰكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلا ٱللّٰهُ وَحْدَهُ؟» (مرقس 2: 7). لكن يسوع عرف ما في قلوبهم وبادرهم قائلاً: «وَلٰكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ ٱلإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا....» (مرقس 2: 10). وأما المفلوج فقد أمره يسوع، بعد أن غفر له خطاياه، أن يحمل سريره ويذهب إلى بيته. وهكذا فإننا نرى أن المسيح يربط بين صلاحيته لمغفرة خطايا البشر وقدرته الألهية على شفاء أمراضهم. وهو لم يتكلم عن مجرد السلطة على مغفرة خطية الآخرين، بل أكّد أنه هو نفسه البديل الذي يحمل عقاب الخطية عنهم. وأعلن لتلاميذه بعد قيامته من الموت «وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ» (لوقا 24: 47). أمّا شهادة يوحنا المعمدان الذي جاء ليمهد الطريق لمجيء المسيح فقد كانت واضحة وجلية أمام الجميع: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29)، وبشّر الرسول بطرس الأمم قائلاً: «لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا...» (أعمال الرسل 10: 43) وكتب بولس الرسول: «لَنَا فِيهِ ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَ» (كولوسي 1: 14). وكتب الرسول يوحنا في رسالته الأولى: «وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1: 7). ليسوع المسيح إذن المقدرة على مغفرة خطايا الآخرين، لأنه هو نفسه كان مزمعاً أن يدفع ثمن ذلك الفداء الثمين.
10 - مؤسس الخلاص:
لدينا مجموعة بيانات وتصريحات في الكتاب المقدس تعلّمنا أن السيد المسيح هو مؤسس ومنبع الخلاص. وهذه البيانات والتصريحات تدعو الناس إلى الإِيمان بالإله الحقيقي الوحيد. وغاية الإِيمان الحياة الأبدية. ورد في الإنجيل بحسب يوحنا 3: 36 «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ بِٱلابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ». هذه شهادة يوحنا للمسيح أنه في الإيمان الخلاص، وفي الخلاص الحياة الأبدية. أجاب بولس وسيلا في أعمال الرسل 16: 31 على رغبة سجَّانهما المتلهفة لمعرفة الحق: «آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ». أما المسيح نفسه فكلماته لم تكن أقل وضوحاً بهذا الشأن إذ يقول: «أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ فَآمِنُوا بِي» (يوحنا 14: 1).
يؤكد يوحنا أيضاً أن المؤمنين يرثون الحياة الأبدية، ولم يكن هذا ليحصل لولا محبة اللّه الآب. «لأنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ... اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لا يُدَانُ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يوحنا 3: 16 و18). ويخبرنا يوحنا أيضاً بلسان السيد المسيح عن السبب الجوهري للإيمان. فما هي المحبة وما هو الخلاص والحياة الأبدية إن لم يؤكد لنا يسوع أنه حي إلى الأبد؟ فالإيمان به هو الأمل الوحيد للانتصار على الموت، حيث يصرح لنا: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ...» (يوحنا 11: 25، 26).
ولهذا، فالإيمان بالمسيح مرتبط تماماً بالإيمان باللّه، وكلمة اللّه لا تفرق بينهما. ففي الإنجيل بحسب يوحنا 12: 44 يأتي قول المسيح: «ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي»، وفي 6: 28 - 40 من نفس الإنجيل المقدس ترى هذه العبارات: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «هٰذَا هُوَ عَمَلُ ٱللّٰهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ.. َأنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلا يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلا يَعْطَشُ أَبَداً... لأنَّ هٰذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ». وقال: «أَنَا ٱلْكَرْمَةُ (الحقيقية) وَأَنْتُمُ ٱلأَغْصَانُ. ٱلَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هٰذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأنَّكُمْ بِدُونِي لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَٱلْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي ٱلنَّارِ، فَيَحْتَرِقُ» (يوحنا 15: 5، 6). وأيضاً في 10: 9 يقول: «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى». وفي 10: 27 و28 يقول: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي». أما الصلاة الشفاعية المدوَّنة في يوحنا 17: 3 ففيها قال السيد المسيح: «و ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ».
راجع أيضاً هذه الآيات ذات البيان الواضح التي وردت في الإنجيل بحسب متى 10: 32 و11: 27، 28.
فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ.
لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلا ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلا ٱلابْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ.
تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.
ومن يوحنا 8: 24: «إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ».
ومن سفر الرؤيا 2: 10 «كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ».
ومن أعمال الرسل 4: 12 «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاصُ. لأنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ».
إنّ اسم «يسوع» هو من مصدر إلهي وهو يعادل «يشوع» بالعبرية ومعناه «يهوه المخلّص» أو «اللّه هو المخلصّ». فقبل أن يأتي المسيح إلى عالم البشر وصفه الملاك الذي بشّر به هكذا «تَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» تَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متى 1: 21) حتى أن يوحنا الرسول طرح بوضوح القصد الحقيقي من كتابته في قوله: «وَأَمَّا هٰذِهِ (أي الأمور المختصة بيسوع) فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31).
حمل هذه التصريحات أعظم وأثمن وأكرم الوعود. أنها بكل تأكيد لا تدع مجالاً للشك في أن الإيمان بالمسيح أمر ضروري للخلاص، وأنه بمعزل عنه لا يوجد أمل في الخلاص. ومن المستحيل على أحد أن يأتي بتصريحات ساطعة وباهرة كالتي صرح بها السيد المسيح بخصوص شخصيته وتأثيره على حياة الآخرين. لقد قال أحد عظماء اللاهوتيين: «من الواضح أن اللّه بالذات في عدم محدوديته لا يسعه أن يقدم شيئاً أعظم قدراً ولا أسمى منزلة مما يهب السيد المسيح لشعبه، فهم موجَّهون للتطلّع إليه كمصدر كل بركة وواهب كل عطية صالحة وخالصة الكمال. إنها لأروع الصلوات وأكثرها تعبيراً تلك التي ختم بها الوحي الإلهي الرسالة إلى مؤمني مقاطعة غلاطية والتي تقول: نعمة ربّنا يسوع المسيح مع روحكم أيها الإخوة. آمين».
11 - موضوع الصلاة والعبادة:
نقرأ بوضوح في الإنجيل عن مناسبات عديدة سجد فيها البشر للمسيح وعبدوه. فالبشير متى يذكر لنا أنه لما أرشد اللّه المجوس (حكماء المشرق) إلى مكان ولادة مخلّص البشر في بيت لحم بفلسطين، فإنهم «خَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ» بمجرد رؤيتهم للطفل يسوع (2: 11). وعندما مشى المسيح على الماء فإن الذين كانوا في السفينة سجدوا له قائلين: «بِٱلْحَقِيقَةِ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (14: 33)، سجدت له أيضاً المرأة الكنعانية قائلة: «يَا سَيِّدُ أَعِنِّي» (15: 25)، وكذلك تلاميذه عندما ظهر لهم في الجليل بعد قيامته «وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ» (28: 17).
ويذكر البشير لوقا في 24: 51 و52 عن صعود المسيح إلى السماء «ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ».
أمّا يوحنا فيخبرنا عن سجود الأعمى للمسيح بعد أن أعاد إليه بصره وأمره بالاغتسال في بركة سلوام (9: 38)، وأيضاً عن تلميذه توما عند رؤيته لسيده بعد قيامته من الموت إذ سجد له قائلاً: «رَبِّي وَإِلٰهِي» (20: 28). وهو هنا لم يكتف بالسجود له، بل أشار إليه كإِلهه وربّه الذي يتعبَّد له. وجدير بالذكر أن المسيح لم يوبّخه على ما تكلّم به، بل تجدر الإِشارة هنا إلى أن هؤلاء الناس من ملوك إلى تلامذة وأناس عاديين ومن كانوا بحاجة إلى شفاء من مرض أو علة جسدية، جميعهم قد تساووا في السجود له معترفين بألوهيته. ففي كافة الظروف والمناسبات لم يعترض يسوع المسيح بتاتاً على سجود البشر له وعبادتهم إياه، بل تقبّل تلك المواقف البشرية كأمور ضرورية ولائقة به.
أعطى يسوع شهادات مهمة جداً تتعلق بألوهيته وباستحقاقه للعبادة، وإذ أراد من المؤمنين به أن يضعوا ثقتهم به ويتّكلوا عليه اتكالاً كاملاً في كل أمور حياتهم جَاءهم بهذا التأكيد قائلاً: «حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 20)، وكذلك قبل صعوده إلى السماء قال لهم: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 20).
إن تصريحات كهذه لا يمكن أَخْذها إلاّ من منطلق رغبة المسيح في الكشف عن ألوهيته، فمَنْ غير اللّه يستطيع أن يكون في كل مكان؟ من هنا كانت محتويات أسفار العهد الجديد ومواقف الكنيسة المسيحية الرسولية الأولى التي اتفقت في إصرارها على تقديم الإكرام والعبادة المختصين باللّه وحده، ليسوع المسيح: «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لا يُكْرِمُ ٱلابْنَ لا يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ» (يوحنا 5: 23). وقد عبّر المؤمنون عن ذلك ليس أثناء ظروف حياتهم العادية فحسب، بل حتى تحت أشد ويلات الاضطهاد، كما دعا القديس إستفانوس في صلاته، عندما استشهد لأجل مناداته بالإنجيل، للمسيح: «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱقْبَلْ رُوحِي» (أعمال الرسل 7: 59).
إن السجود والتعبد للمسيح هما من ركائز المناداة بالإنجيل، ومن المتطلبات الرئيسية للذين ينتمون للمسيح وينالون خلاصه. من هنا طرح المسيح في الإنجيل أهمّ الأسئلة إطلاقاً: «ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟» وقد وردت عليه ردود كثيرة جميعها تفيد بضرورة الإيمان بالمسيح والتعبُّد له. وفيما يلي نسرد بعضاً منها:
«آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ» (أعمال الرسل 16: 31).
«إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، خَلَصْتَ» (رومية 10: 9).
«لأنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَخْلُصُ» (رومية 10: 13).
«لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَة... ٍوَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ» (فيلبي 2: 10، 11).
«وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين 1: 6).
ثم أن هناك التصريحات الرسولية التي يصعب عدّها والتي سجلها الوحي الإلهي، وكلّها تؤكد على ربوبية المسيح واستحقاقه أن يُعبَد. نورد منها على سبيل المثال ما يلي:
«رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (2 بطرس 3: 18).
«مُسْتَحِقٌّ هُوَ ٱلْحَمَلُ ٱلْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ ٱلْقُدْرَةَ وَٱلْغِنَى وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلْقُوَّةَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْمَجْدَ وَٱلْبَرَكَةَ.. لِلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ ٱلْبَرَكَةُ وَٱلْكَرَامَةُ وَٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (الرؤيا 5: 12، 13).
لقد شدد الرسول بولس على عقيدة الربوبية في بداية كل رسالة كتبها، وهو دائماً يذكر الاسمين «ابن اللّه» و«الرب يسوع المسيح» بطريقة عفوية على أساس كونهما متساويين في إشارتهما لألوهية المسيح. فإن الرب يسوع المسيح ابن اللّه هو الذي يهب النعمة والسلام. ومع ذلك فإن بولس لم يدع مجالاً للشك في أنه كان متمسكاً بوحدانية اللّه، فهو يقول: «لَيْسَ إِلٰهٌ آخَرُ إِلا وَاحِد»، (1 كورنثوس 8: 4-6). وهذا هو الإله الوحيد الذي قدّم بركته للمؤمنين بواسطة ما يُعرَف بالبركة الرسولية التي تقول: «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ» (2 كورنثوس 13: 14). وما هذه سوى صلاة موجهة إلى المسيح لأجل نعمته، وإلى الآب لأجل محبته، وإلى الروح القدس لأجل شركته المقدسة.
هذه الحقائق التي يضعها الوحي الإلهي بين أيدينا لا يوجد تفسير مفهوم لها سوى ذلك الذي تمسكت به الكنيسة المسيحية عبر العصور، أي أن اللّه هو في ثلاثة أقانيم، هم جميعاً واحد في الجوهر، ومتساوون في القدرة والمجد.
لكننا إذا قارنا تلك التعبيرات الإنجيلية التي تنسب الصلاة والعبادة للمسيح، مع الأخرى التي تُبرِز وحدة اللّه وجلاله، والمجد الذي ينفرد به دون سواه، لا يكون أمامنا مفر من التسليم بأن الوحي الإلهي إنما يكشف عن أن العبادة هي لإله واحد، وأن المسيح هو في نفس الوقت مَن يعبده المؤمنون. فكلمة اللّه تقول: «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لأنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرَ» (إشعياء 45: 22)، وجاء أيضاً في نبوة إرميا 17: 5 «مَلْعُونٌ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى ٱلإِنْسَانِ وَيَجْعَلُ ٱلْبَشَرَ ذِرَاعَهُ».
إضافة إلى ذلك هناك تصريحات الوحي الإلهي الكثيرة التي تدين الوثنية والتعبُّد لغير اللّه. من هنا كان الأمر بسيطاً للغاية. فهي واحدة من اثنتين: إمّا أن ألوهية المسيح التي يعلّمها الكتاب المقدس هي حق، أو أن الكتاب المقدس مضلّل وليس من اللّه.
تضع كلمة اللّه اعتراف الإِنسان بألوهية المسيح والارتكان له والإتكال عليه اتكالاً مطلقاً كالمخلّص الوحيد على مرتبة عالية جداً. وقد اعتبر هذا الاعتراف دليلاً على صدق انتماء الفرد للّه.
12 - ديّان كل البشر:
يشغل موضوع الدينونة النهائية مكاناً مهماً ضمن تعليم يسوع المسيح. فهو يشدد على أن دينونة البشر واقعة فحسب، بل أنه أكد على أن المسيح هو بالذات الذي سيقوم بدور الديان. فهو الذي سيصدر الأحكام النهائية على كل البشر، وهو الذي يقرر المصير الأبدي لكل منهم. فقد قال: «لأنَّ ٱلآبَ لا يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ... تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ... فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنا 5: 22-29).
ربما يكون الفصل الخامس والعشرون من الإنجيل حسب متى أهم نص في الوحي الإلهي فيما يخص التعليم عن نهاية العالم. وهو يوجه أنظارنا إلى كون المسيح الملك الديّان، فيقول: «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ ٱلْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَٱلْجِدَاءَ عَنِ ٱلْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ ٱلْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ... ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ ٱلْيَسَارِ: ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاعِينُ إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلائِكَتِهِ... فَيَمْضِي هٰؤُلاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَٱلأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (عدد 31-46).
لقد أكد السيد المسيح على أنه الرب الديان، الذي بيده مصير البشر، منذ بداية خدمته الجمهورية. فعندما ألقى عظته الرسمية الافتتاحية لتلك الخدمة (المعروفة بالموعظة على الجبل) قال لجماهير مستمعيه: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ» (متى 7: 21 - 23).
وأفادنا رسل المسيح بالحقيقة عينها، فالرسول بطرس قال عن يسوع: «هٰذَا هُوَ ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ» (أعمال الرسل 10: 42). والرسول بولس قال: «لأنَّهُ لا بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّ» (2 كورنثوس 5: 10). وهذه لم تكن قناعات الرسل فحسب، بل أن الكنيسة المسيحية تمسكت بها، مضيفة إياها إلى لائحة معتقداتها الأساسية.
لم يتردد الربّ يسوع أبداً أن ينسب إلى نفسه أسمى امتيازات الألوهية. فهو لم يعمل ذلك فقط، بل رحّب بما نسبه له الآخرون من ميزات الربوبية وألقابها الجوهرية مثل: القداسة، الأزلية، السلطان على مغفرة الخطايا، القدرة على افتداء حياة الناس، الحق في أن يُصلَّى إليه ويُعبَد، وسلطان الحكم النهائى على مصير البشر.