الروح
روح الله في العهد القديم
إنّ حضور الله في الكون والإنسان يتّخذ نوعًا آخر، إلى جانب حضوره بكلمته وحكمته، وهو حضوره بروحه. والروح، في العهد القديم، هو قدرة الله التي تظهر في الطبيعة وفي الإنسان، ولا سيّمَا في من يختارهم الله من ملوك وأنبياء وكهنة، على أن تشمل جميع الناس في الأزمنة الأخيرة.
أ) الريح
إنّ اللفظة العبرية للروح هي "رُوَح"، ترد 389 مرّة في العهد القديم، ولكنّها لا تعني فقط الروح القدس أو روح الله، بل أيضاً "الريح"، أي الهواء، أكان نسمة خفيفة أم ريحًا عاصفة. وتعني كذلك نَفَس الإنسان وروحه.
لقد اختبر الإنسان أوّلاً عمل الريح في الكون ونسبه إلى الله. " فالله هو الذي أرسل الريح على الأرض لتتناقص المياه بعد الطوفان" (تك 8: 1)، وهو الذي جعل الرياح تهبّ لينزل المطر مع إيليّا النبيّ (3 ملوك 18: 45)، وهو الذي "ساق ريحًا شرقية على الأرض" حملت معها الجراد إلى مصر، ثم "ردّ ريحًا غربية شديدة جدًا فحملت الجراد وطرحته في بحر القُلْزُم" (تك 10: 13، 19). وكذلك عندما مدّ موسى يده على البحر، أرسل الرب ريحًا شرقية شديدة جفّفت البحر الأحمر ليمر فيه العبرانيون (تك 14: 21). والريح خاضعة لسلطة الله، على غرار جميع الكائنات، يستخدمها متى شاء: "هو الذي صنع الأزض بقوّته... بصوته يجمع غمار مياه في السماء، وينشئ السحب من أقصى الأرض، ويحدث البروق للمطر، ويبرز الرّيح من خزائنه" (إر 10: 13). "الشعب قد يبس وزهره قد سقط لأنّ ريح الرب هبّت فيه" (أش 40: 1)
ب) روح الإنسان
فالمعنى الأوّل للفظة "رُوَح" متعلّق إذًا بقوّة في الطبيعة تعطيها الحياة. والمعنى الثاني مرتبط بقوة في الإنسان تعطيه الحياة. فالرُوَح هي نَفَس الإنسان وروحه، نفخها الله ذاته في الإنسان، حسب رواية سفر التكوين: "وإنّ الرب الإله جبل الإنسان من تراب من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا حيّة" (تك 2: 7).
لهذا نرى أن الروح في العهد القديم أمر واقعيّ يمكن الإنسان، وإن لم يره، أن يشعر به ويدرك فاعليّته. فكما يشعر بعمل الريح في الطبيعة، كذلك يشعر بذاته كائنًا يتنفّس وروحه فيه.
ج) روح الله
أمّا المعنى الثالث للفظة "رُوَح" فهو روح الله لنفسه، الذي يستطيع الإنسان أن يدرك وجوده من خلال عمله في الطبيعة وعمله في الإنسان.
إن روح الله هو روح القدرة، الذي يعطي الحياة لجميع الكائنات. فهو الذي خلق كلّ شيء، كما جاء في الآيات الأولى من سفر التكوين: "في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه المياه" (تك 1: 1-2)، وكما جاء أيضاً في المزامير: "الجميع يرجونك لترزقهم القوت في حينه... تحجب وجهك فيفزعون، تقبض أرواحهم فيموتون وإلى ترابهم يعودون. ترسل روحك فيُخلقون، وتجدّد وجه الأرض" (مز 103: 27- 30).
وتؤكّد مختلف أسفار العهد القديم أنّ روح الله هو الذي يعمل في الذي اختارهم ليقودوا شعبه، كالقضاة والملوك والأنبياء. فعن عشنيئيل يقول سفر القضاة: "وكان روح الرب عليه، فتولّى القضاء لإسرائيل" (قض 3: 10)، وعن شمشون، عندما برز أمامه شبل لبؤة يزأر في وجهه: "فحلّت عليه روح الرب، ففسخه كما يفسخ الجدي، ولم يكن في يده شيء" (قض 14: 6). وكذلك "حلّ روح الرب على شاول عندما مسحه صموئيل بالزيت، فأخذ يتنبّأ" (1 ملوك 10: 6). وعندما مسح صموئيل داود "حلّ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا... وفارق روح الرب شاول وزعجه روح شرّير من لدن الرب" (1 ملوك 16: 13، 14).
إنّ روح الرب يحلّ على الملوك فيمنحهم قوّة إلهيّة. وكذلك يحلّ على الأنبياء فيجعلهم يعملون ويتكلّمون باسم الرب، فنرى إيليا يقوده "روح الرب" (3 ملوك 18: 12)، وعند وفاته ينتقل روح الرب الذي كان حالاًّ عليه إلى أليشع: "ورآه بنو الأنبياء الذين في أريحا تجاهه، فقالوا: قد حلّت روح إيليا على أليشع" (4 ملوك 2: 15). وميخا النبي يرى في روح الرب قوّة لإعلان كلام الرب: "لكنّي قد امتلأت قوّة بروح الرب، وحكمًا وبأسًا، لأخبر يعقوب بمعصيته وإسرائيل بخطيئته" (ميخا 3: 8).
د) روح الله في الأزمنة الأخير
أمّا الذي سيحلّ عليه روح الرب بشكل دائم فهو المسيح، كما جاء في نبؤة أشعيا: "ويخرج قضيب من جذر يسَّى، ويَنمي فرع من أصوله. ويستقرّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح العلم وتقوى الرب" (أش 11: 1، 2). ويرى أشعيا الثاني روح الرب يحلّ على المسيح ليوصل رسالة الرب إلى جميع الأمم: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سارت به نفسي، قد جعلتُ روحي عليه، فهو يبدي الحكم للأمم، لا يصيح ولا يجلّب، ولا يُسمِع صوتَه في الشوارع. قصبة مرضوضة لا يكسر، وكتّانًا مدخنًا لا يطفئ. يبرز الحكم بحسب الحق. لا يني ولا ينكسر، إلى أن يجعل الحكم في الأرض، فلشريعته تنتظر الأمم" (أش 42: 1- 3)؛ "إنّ روح السيّد الرب عليّ، لأنّ الرب مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأجبر المنكسري القلوب، وأنادي بعتق للمسبيّين وبتخلية للمأسورين، لأنادي بسنة الرب المقبولة"
(أش 61: 1- 3).
وبواسطة المسيح سيحلّ روح الرب على جميع الناس ليسلكوا بحسب وصايا الله. وهذا ما يعلنه حزقيال، "نبي الروح": "أعطيهم قلباً واحدًا وأجعل في أحشائهم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمهم قلب الحجر، وأعطيهم قلبًا من لحم، لكي يسلكوا في رسومي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها، فيكونون لي شعبًا وأكون لهم إلهًا" (حز 11: 19، 20؛ راجع أيضاً 36: 26- 28).
وهذا ما يتنبّأ به يوئيل للأزمنة الماسياوية الأخيرة: "وسيكون بعد هذه أني أفيض روحيي على كلّ بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا. وعلى عبيدي أيضاً وإمائي أفيض روحي في تلك الأيام" (يوء 2: 28، 29).
وهكذا لن يعود حلول الروح هبة خاصة بالملوك والأنبياء، بل يعطى لشعب الله بأجمعه. وهذا الروح هو الذي سيجدّد قلب الإنسان من الداخل ليحمله على السلوك بحسب وصايا الله فالخاطئ يُحزن الروح القدس: "لكنّهم تمرّدوا وأحزنوا روَحه القدوس" (أش 63: 10). لذلك يطلب المزمور الخمسون: "قلباً طاهراً فيّ يا الله، وروحاً مستقيمًا جدّد في أحشائي. لا تطّرحني من أمام وجهك، ولا تنزع مني روحك القدوس" (مز 50: 13). ويقول سفر الحكمة في هذا الصدد: "من علم مشورتك لو لم تؤتِ الحكمة، وتبعث روحك القدوس من الأعالي؟" (حك 9: 17). وهذا الروح القدس يدخل إلى أعماق الإنسان و يملأه حكمة: "انّ الحكمة مهندسة كلّ شيء هي علّمتني. فإنّ فيها الروح الفهِم القدوس، المولود الوحيد ذا المزايا الكثيرة، اللطيف السرج الحركة، الفصيح الطاهر النيّر السليم، المحبّ للخير، الحديد الحرّ المحسن، المحبّ للبشر، الثابت الراسخ، المطمئن القدير، الرقيب الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة" (حك 7: 21- 23).
وهذا الروح لن يترك الإنسان: "هذا عهدي معهم، قال الرب: روحي الذي عليك وكلامي الذي جعلته في فمك لايزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب، من الآن وإلى الأبد" (أش 59: 21).
والروح الذي سيرسله الرب في الأيام الأخيرة سيُحيي الأموات، كما جاء في نبوءة حزقيال على العظام اليابسة:
"وكانت عليّ يد الرب، فأخرجني الرب بالروح، ووضعني في وسط البقعة، وهي ممتلئة عظامًا... وقال لي: تنبّأ نحو الروح، تنبّأ يا ابن البشر، وقل للروح: هكذا قال السيد الرب، هلمّ أيها الروح من الرياح الأربع، وهبّ في هؤلاء المقتولين فيحيوا. فتنبّأت كما أمرني. فدخل فيهم الروح، فحيوا وقاموا على أرجلهم جيشًا عظيمًا جدًّا جدّاً... هكذا قال السيد الرب: ها أناذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم... وأجعل روحي فيكم فتحيون" (حز 37: 1- 14).
خلاصة القول انّ الروح في العهد القد يظهر على ثلاثة أوجه يظهر أوّلاً كقدرة حياة تحيي كل خليقة، ويظهر ثانياً في كلام الأنبياء والمعجزات التي يقومون بها باسم الله، ويظهر أخيراً كوعد للأزمنة الأخيرة التي فيها سيأتي المسيح ممتلئًا من الروح القدس، وبواسطته سيحلّ الروح القدس على جميع الشعب وفي داخلهم، كقوّة قداسة وينبوع حياة جديدة.
وفي جميع هذه الوجوه، لا يبدو الروح كقدرة مستقلّة عن الله، بل كقدرة مرتبطة بالله. وحضوره هو حضور واقعي وسرّي في آن واحد، فالله يعمل بواسطة روحه القدوس في قلب العالم، ولكنّه يبقى متعاليًا عن العالم.
خلاصة
هكذا أوحى الله بذاته في العهد القديم: إلها أبًا يخلق العالم ويخلّصه بكلمته وروحه. وتلك هي التهيئة التي نجدها في العهد القديم لكشف سرّ الثالوث الأقدس في العهد الجديد. فمَا يجب تأكيده هو أن الله لا يكشف ذاته إلا من خلال علاقته بالإنسان. وقد ظهرت لنا تلك العلاقة علاقة ثالوثيّة: فالله هو الآب، والكلمة والروح هما قدرة الله وحضوره اللذان يتّصل بهما بالعالم فيخلقه ويرشده ويخلّصه ويحييه. إنهما، كما يقول القديس إيرناوس، "يدا الله".
وهكذا يتبيّن لنا ما قلناه في مستهلّ بحثنا أن أيّ محاولة لاهوتيّة للدخول في سرّ الثالوث الأقدس يجب ألا تنطلق من التأمّل النظريّ الفلسفيّ في الذات الإلهية لمعرفة تكوينها الباطنيّ، بل من وحي الله لذاته في تاريخ الخلاص. فالله في العهد القديم من تاريخ الخلاص أوحى بذاته أباً يخلق ويخلص. "وروحه. وفي العهد الجديد بلغ وحي الله كماله، إذ أرسل إلينا الله ابنه الوحيد، وبالابن عرفنا الآب وعرفنا الروح القدس.
يسوع المسيح يحب
الجميع