رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تابع سلسلة شرح الثالوث القدوس - الجزء الثاني الصعوبات التي تقف ضد فهم الإنسان للثالوث القدوس ؟ في الحقيقة والواقع الإنساني المعاش هناك مُعناه شديدة في معرفة سر الله الفائق كل القدرات الطبيعية للإنسان، لأن بالحقيقة أن أسرار الله لا تخضع لقدرات العقل البشري على التحليل والدراسة مهما ما بلغ من ذكاء وقدرة على البحث والاستنتاج، لأن الله ليس نظرية ولا فكرة عقلية فلسفية، ولا جدل عقلي مجرد من الخبرة على المستوى العملي المُعاش، لأن معرفة شخص حي تقتضي الاقتراب منه ومعرفته على المستوى الشخصي، فماذا ينفعني أن أتكلم وأتجادل حول شخص لا أعرفه على مستوى اللقاء، لأن ما هو درايتي به سوى معلومات أقرأها عنه، ولكني لا أدرك مدى حقيقتها وصدقها أن لم ألتقي بالشخص نفسه وأصنع معه شركة لأعرف طبيعته وفكره ويكون لي معه لقاء شخصي !!! هكذا هو الله، لذلك فالجدل والنقاش حول الله كمعلومات وفكر لا تُجدي نفعاً للإنسان، لأنه قد يمكن أن يغير فكره أو دينه حسب القناعة الشخصية التي وصل إليها حسب ظنه وفكره الخاص وقد يصل للإلحاد أن لم يقنع بكل فكر لم يدخل عقله ولم يستوعبه، لأن طالما هناك شيء يفوق العقل فأن شرحه عقلياً صعباً للغاية، وأن حدث حتى قناعة فممكن أن تُزحزح بل وتنتزع أن كان هناك قناعة أعظم وأقوى منها مدعمة بالحجة والبرهان... وقبل أن نخوض في معوقات فهم الثالوث لابد من أن نتعرف على غاية التعليم عن الله، وفي الواقع يا إخوتي أننا اليوم أمام جدل عقيم فيه مرارة، وقد أنتشر في كل مكان، وهو حول التوحيد وطبيعة الله، وهل هو واحد أم ثالوث، وأن كان واحد فلماذا هو ثالوث، وكيف يكون الواحد ثالوث، وكيف يدخل لعقلنا أن الثالوث واحد، وما هي المنفعة بالتعليم عن الثالوث؟ كل هذا النقاش والجدل والصراع ما بين مؤيد ومعارض يُظهر أنه لم يصل منهم أحد لغاية التعليم عن الله، لأن كل واحد يريد أن يثبت وجهة نظره بدون أن يصل لغاية عملية واضحة في حياته، لأن كل هؤلاء السائلين والمُجيبين لا يعرفون أن أي تعليم عن الله له غاية واضحة، وهي العبادة الحسنة، وأننا مهما ما عَلَّمنا عن الله، فإن غاية التعليم هو شركة في الحياة الإلهية، وبذلك نعرف أن تعليم الإنجيل هو بشارة بالحياة الأبدية، وأن هذه الحياة الأبدية هي التي كشف عنها ربنا يسوع المسيح ولنقرأ بتدقيق في الإنجيل المقدس لنستوعب ما هي الحياة الأبدية:
فهذا هو إعلان الحياة الأبدية في الكتاب المقدس والإيمان بالآب والابن والروح القدس، فالثالوث القدوس هو توحيد حقيقي يقود للشركة والحياة، فمعرفة الله الثالوث الواحد في الجوهر غايتها الشركة والحياة بإعلان وكشف إلهي... فما هو نفع الجدل حول طبيعة الله، إذا كان التعليم عن طبيعة الله لا ينتهي بالسجود لله الحي والدخول في علاقة شركة حياة ومنها نشهد لله [ فأن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا ] (1يوحنا1: 2)، [ الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح ] (1يوحنا1: 3). فنحن المسيحيين نعبد الله الواحد الوحيد الحي الذي أعلن لنا ذاته روح وحياة وقيامة وشفاء وقد رأيناه وسمعناه على المستوى الشخصي من جهة الخبرة في حياتنا، فقد كشف الله لنا عن ذاته إله واحد لا آخر معه وليس له آخر شريك في جوهره، ونحن نسجد للآب في ابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح بنعمة الروح القدس حسب كلمات الرب التي تُحيينا: [ الله روح والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ] (يوحنا4: 24). فنحن لا نسجد لفراغ ولا لفكر عقلي ولا جدلي، ولا بحسب ظن أو إيمان أعمى، ولا بحسب اعتقاد توارثناه من جيل لجيل وكأنه تراث مثل باقي الشعوب والحضارات، بل نحن نسجد لمن أعلن عن ذاته في جوهر واحد ولاهوت واحد وربوبية واحدة، وهكذا لا نسجد لإله مجهول، بل لمن أرسل ابنه الوحيد وأنار عقولنا بتجسده، ونقلنا من موت الخطية وعبادة الأوثان سواء الفكرية أو المادية، وحررنا من رباطات العبودية بموته المُحيي بالصليب محل فخرنا الخاص، وثبت فينا هبة الحياة الأبدية بالقيامة، ثم فتح لنا كنوز حياة الحق بروح الحق المُعزي الذي يقودنا نحو حق الله في ابنه يسوع المسيح، ويغرس فينا كلمة وشهادة الحق.
وبعد أن تكلمنا بإيجاز شديد عن غاية التعليم عن الله وأكدنا أنه ليس الجدل ولا إثبات الفكر إنما الدخول في شركة وعبادة بالمحبة، نأتي الآن لنحاول أن نكتشف ما هي الصعوبات التي تقف حائل بين الإنسان ومعرفة الله الثالوث القدوس؟
المشكلة الرئيسية هي أن خيال الإنسان وتصوراته تعوق معرفة الله وإعلانه عن ذاته، لأنه حينما يسمع عن الثالوث القدوس يتخيل شكله ويدخل في الإطار العددي الذي سنشرح خطأه فيما بعد، فكل من يُخضع الثالوث القدوس لخياله الخاص يعجز تمام العجز عن فهم أبسط الإعلانات عن الثالوث القدوس، وذلك بسبب أنه لا يوجد في الواقع العملي المُعاش أي شيء يُشبه الله الثالوث القدوس من قريب أو من بعيد. فكل محاولات الإنسان في تصوير الثالوث القدوس أو رسم صورة له هي خاطئة تماماً وتزيد من تعقيدات الفكر وقد تقود إلى اليأس، بل قد تصل لحد الهرطقات وشرح غير منضبط حسب إعلان الله عن ذاته يؤدي لنكران الله تماماً. فخيال الإنسان عموماً يعجز تماماً عن تصوير ثلاثة أقانيم كل منهم مثل الآخر تماماً في جميع الصفات رغم تمايزهم بدون اختلاط أو تغيير، وهم في نفس ذات الوقت جوهر واحد في طبيعة واحدة غير مجزأة أو منفصلة قط، ومن مستحيل توجد صفه في أقنوم لا توجد في آخر!!! وما يزيد من عجز الإنسان، هو كيف أن اقنوم الابن يتجسد ويبقى مع الله الآب في نفس ذات الجوهر غير منفصل عنه إذ قال [ أنا والآب واحد ] مع أنه على الصليب قال [ إلهي إلهي لماذا تركتني ]، وهنا تظهر عثرة العقل وتخبطه، وهيهات أن قدر إنسان على ان يقنعه، لأنه سيتجادل عقلياً ويحاول الإثبات بفلسفة فكرية، لا يستطيع العقل أن يقبلها إلا بصعوبة شديدة سريعاً ما سيتراجع عنها حتماً، لأنه فعلاً كلام غير منطقي ويستحيل منطق يقبله، مع ترك موضوع الإثبات الفلسفي والعقلي بموضوع الشمس والشعاع وغيرها من الإثباتات العقلية التي قد تُنتقد بسهولة ... وهنا يظهر عجز الإنسان عن معرفة الثالوث بالإدراك العقلي ورسم صورة في خياله تقرب له المعنى !!!
طبيعة عقل الإنسان أنه تدرب على مدى حياته على دراسة معظم الأشياء عن طريق المقارنات، لأن المقارنات هي أفضل الطرق لاكتشاف نقاط التشابه والاختلاف، فلو مثلاً تكلم عن الشموخ والعظمة يتبادر لذهن كل واحد شيء يصوره عنها بالمقارنة بغيرها، فتأتي مثلاً قوة الجبال وعلوها لتكون شبيه بالعظمة التي يريد ان يعبر عنها، فكل ما نريد ان نعبر عنه بالكلمات نتخذها مما هو حولنا. كما أن طبيعة عقل الإنسان أنه تدرب على دراسة كل ما يُحيط به عن طريق العلاقات، فهو لا يدرك أي شيء كما هو مستقل بذاته، بل يدرك مثلاً الهواء من خلال علاقته بغيره من الأشياء وعناصر الكون، فمثلاً لا نستطيع أن نتكلم عن الريح ومدى قوتها إلا باهتزاز الأشجار واقتلاعها، أو بسرعة موج البحر وعلوه، وحتى بالنسبة للمنهج العلمي التحليلي هو عبارة عن دراسة العلاقات، أي علاقة المواد ببعضها البعض وإجراء الفحوصات عليها، بوضع مادة على ماده وملاحظة النتيجة وربط العلاقة بينهما بنتائج محدده مفحوصة، وبذلك لا يكون لأي شيء معنى إلا من خلال علاقته بغيره. وقد اثر هذا – بالطبع – على حياة الإنسان وسلوكه، ولاسيما في القرون الأخيرة حيث اصبح الإنسان عادة ميالاً نحو الأسلوب التجريبي الذي يستحيل استخدامه في معرفة الله والحديث عنه.
أولاً من خلال علاقة الإنسان بغيره في المجتمع، وبحكم النشأة والتعليم، يأخذ عن غيره الأفكار والتصورات التي يقدمها له المجتمع ككل، وهي بالطبع تُساهم في خلق فكرة الإنسان عن نفسه، وتُساهم في تشكيل خيالات الإنسان وإدراكاته الشخصية وتعامله مع الآخرين وفق المجتمع الذي يعيشه!!! ثانياً أن الأفكار المنتشرة في المجتمع والسائدة فيه، تخلق في أغلب الأحيان عائق صد وحائط منيع يقف حائل عن فهم أو تصور فكرة غريبه عن هذا المجتمع. فلو نشأ الإنسان في مجتمع يقدس العبودية ويعتبرها أساس هذا المجتمع، فأن اقصى ما يصل إليه هو تصور الحرية كنقيض للعبودية، وهذا تصور ضعيف جداً للحرية تم بناءه على تجربة شخصية فيها قدر ضئيل من الموضوعية؛ وأيضاً لو ونظرنا للمجتمعات الشرقية التي نعيش فيها ونظرة الرجل للمرأة وايضاً المرأة للرجل، والصراع القائم على من هو الأفضل، ومن هو الأقل ومن هو الأعظم، ومن هو السيد على الآخر، وهكذا اكتسب شرح موضوع [ ضلع آدم ] (تكوين2: 21) بُعد غير سوي في الشرح والتقديم، كما نسمع من البعض أن الله خلق حواء من الضلع الأعوج في آدم وهي أصل السقوط، مع إغفال أن الله لا يخلق ما هو شر أو سبب للسقوط وأن الرجل والمرأة وجهين لعمله واحدة كل منهما يكمل الآخر، وهذا الشرح والتفسير مقبول في مجتمعنا ومرفوض من المجتمع الأوربي والأمريكي على سبيل المثال، وهكذا يختلف قبول وتفسير وشرح أي شيء من مجتمع لآخر ... وإذا طبقنا كل هذا الكلام على اللاهوت أي ما يختص بالله وطبيعته، فأننا كثيراً ما نجد أن الأفكار الموروثة هي أكبر المعطلات للفهم الصحيح عن الله، ولا مفر من عودتنا للينابيع الأولى للتسليم الآبائي الأصيل وخبرة الصلاة عن احتياج قلبي لإعلان الله وكشف ذاته لنا في داخل القلب بانفتاح الذهن بالروح لنعرفه إله حي وحضور مُحيي للدخول في علاقة شركة حياة مع شخصه القدوس. وسنكمل في الجزء القادم ونتكلم عن معوقات الأرقام التي شوهت معنى الثالوث |
|