04 - 12 - 2012, 10:20 AM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
شهود مبلاد المسيح (1)
إنَّ شهود الميلاد كثيرين.. فها العذراء التي حملتْ جمر اللاهوت في أحشائها ولم تحترق! ويوحنَّا المعمدان الذي ارتكض فرحاً بالمسيح، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه! وهناك سمعان الشيخ الذي حمله على ذراعيه! وحنّة النبية التي عاشت مترملة 84 سنة، ملازمة الهيكل لا تفارقه قط بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً! هؤلاء غير الرعاة أول من زُفتْ إليهم بشرى الميلاد! والملاك الذي حمل إليهم البشرى! والملائكة الذين سبَّحوه يوم ميلاده! والمجوس الذين قدَّموا له هدايا من ذهب ولبان ومر.
يقول القديس كيرلس الأورشليميّ:
" ولادة ابن الله الوحيد بالجسد من عذراء ولادة بلا دنس، ولو عارض الهراطقة فإنَّ الروح القدس يلومهم.. وسيثور عليهم غبريال الملاك يوم الدين، ومكان المذود سيفحمهم، والرعاة الذين بُشّروا بالفرح العظيم سيشهدون، وجيش الملائكة الذين سبحوا الله.. والهيكل الذي حُمل إليه في اليوم الأربعين، وزوجا الحمام اللذان قُربا، وسمعان الذي حمله على ذراعيه، وحنّة النبية التي حضرت تلك الساعة ".
يوحنَّا المعمدان
لست أعلم إن كان هناك قصصاً كثيرة، تُثير الإنسان وتهز مشاعره وتلهب ضميره، مثل قصص المتوحدين الذين شقّوا طريقهم في أماكن خطرة، في البراري حيث سكنوا المغائر والكهوف، وقد كان المعمدان واحد من قلة نادرة عاشت حياة الشظف والجوع والعطش॥ شهد له السيد المسيح بأنَّه أعظم مواليد النساء (مت11:11)، وكيف لا يكون عظيماً وقد اكتشف الحبل الإلهيّ وهو جنيناً في بطن أمه! فقد فسَّر الآباء ارتكاض يوحنَّا وهو جنين في بطن أُمه (لو41:1) على أنَّه سجوداً للمخلص، وهذا ليس بغريب إذ قيل أنَّه " مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ " ( لو15:1)। لقد أحس بالروح أنَّ ما تحمله العذراء في بطنها، هو المسيح الرب الذي ينبغي له السجود والإكرام، وفي هذا تبكيت لقلوبنا الصخرية وأفكارنا المشوشة، التي تطلب المزيد من الأدلة على تجسّد ابن الله! ومع هذا نقول: إنَّ سماء الكتاب المقدس مرصّعة بالنجوم، وهى تتلألأ لترشد التائه في القفر إلى الله!
والحق إنَّ سجود المعمدان كان بمثابة عظة صامتة، تُلقّن الإنسان درساً في قدرة الله العجيبة، على تحويل الحياة إلى صلاة وسجود! فإن كان أروع ما في الطبيعة صمتها الساحر وجلالها الخاشع: صمت الغيوم في القبة الزرقاء، صمت الثلوج على الجبال، صمت الينابيع داخل الصخور، صمت الندى على الزهور، فإنَّ أروع ما في دنيا الروح: صمت الحياة الخاشعة، والركب الراكعة، والأياديَّ الضارعة، والدموع الصامتة، والقلوب الهائمة التي تُصعد حبَّها بخوراً لله في زفرات متقطعة॥
لقد كان المعمدان أمير النساك، ونبي الأطهار، ولكن هذا العظيم وقف أمام المسيح مكشوف النفس، عارياً يطلب غطاءً يستتر به، يلح على الاعتراف والتوبة لنفسه " أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (مت14:3)، فنظرات يسوع قد نفذت إلى أعماقه برهبة وحلاوة، فانخفضت عيناه الناريتان، وانعقد لسانه الذي طالما وبّخ ملوكاً وعظماءً।
الرعــاة
على مقربة من بين لحم، وبينما كان الرعاة الأتقياء يعيشون في البادية بعيداً عن العالم وملذاته، ساهرين على قطعانهم لحراستها من الذئاب واللصوص، ظهر ملاك الرب بغتة ليزف لهم بشرى الميلاد المفرحة، فاضطرب الرعاة وكان لابد أن يضطربوا، لأنَّهم لم يروا من قبل منظراً مهيباً كهذا، زاده جلالاً حدوثه فى الليل والقفر واقترانه ببهاء الملاك وهيبته، ولهذا قال لهم الملاك: " لا تخافوا "، هكذا فعل مع زكريا الكاهن ومريم العذراء (لو1: 13،30)، ثم بدأ يُعلن لهم البشرى المفرحة، بهذا يكون الرعاة هم أول من بُشروا بميلاد المسيح، الذي قال: " أنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ " (يو11:10)، ولأنَّ الراعيّ أول من يعرف بميلاد الحمل، هكذا أيضاً الرعاة هم أول من بُشّروا بميلاد حمل الله، الذي جاء ليرفع يرفع خطايا العالم كله (يو29:1)। لكنَّ المسيح إن كان حملاً قدّم ذاته ذبيحة عنا، إلاَّ أنَّه كان أيضاً لا يزال راعياً يرعى البشرية بتعاليمه المقدَّسة في مراعى حبّه، ولابد أنَّ الرعاة كانوا أتقياء مثل: إبراهيم وإسحق ويعقوب وداود॥ وإلاَّ ما نالوا هذا الشرف العظيم! كما أنَّهم شابهوا الرسل الذين تعبوا في رعاية المؤمنين، وهكذا يبقى الراعي صالحاً إن قاد خرافه إلى المراعي الخضراء، ولم يدعها تهيم فوق الأراضي الجرداء!
ومما يُلفت النظر أنَّ الملائكة لم يحملوا بُشرى الميلاد للعلماء أو الملوك أو الأغنياء.. بل لرعاة! ما يُميّزهم هو سهرهم على القطيع! فقد انتهى الوقت الذي يوضع فيه ميزان للبشر! ألم يقل داود النبيّ: " والمَسَاكينْ يُبشَّرونْ " (مز4:72)، في بساطة ذهب الرعاة ليروا المولود (لو15:1)، فرجعوا مؤمنين مع أنَّهم لم يروا سوى طفلاً مُقمّطاً وموضوعاً في مذود حقير! ولكنَّهم أمام صوت الملاك الذي بشرهم سكتت عقولهم وتركوا إيمانهم يتكلّم، وبهذا أعطوا اليهود أعظم درس في الإيمان البسيط، الذي لا يعوقه فلسفات البشر، ويُقدّم لنا مارِ أفرآم السريانيّ، صورة مبهجة للقاء الرعاة بالطفل الراعيّ فيقول: " جاء الرعاة حاملين أفضل الهدايا من قطعانهم: لبناً لذيذاً ولحماً طازجاً وتسبيحاً لائقاً.. أعطوا اللحم ليوسف واللبن لمريم والتسبيح للابن.. أحضروا حملاً رضيعاً وقدموه لخروف الفصح، قدموا بكر للابن البكر، وضحية للضحية، وحملاً زمنياً للحمل الحقيقيّ.. ".
سمعان الشـيخ
مشت مريم على الدرب الطويل الصاعد من بيت لحم إلى أورشليم ، تُطوّق بذراعيها دُرّتها الثمينة، ويدخل المسيح الهيكل طفلاً لا تحمله مركبات ولا تواكبه جيوش، لكن كان في استقباله على مدخل الهيكل حشد كبير، من أنبياء وأبرار يمثلهم رجل صديق يُدعى سمعان الشيخ.
لقد جالس سمعان الكهنة والعلماء مستفسراً معاني التوراة الخاصة بالملك المسيح॥ وكم كانت أحلامه تسيل على الذبائح والقرابين، فرؤية مشتهى الأجيال حلم راوده مدى الحياة، وفى يوم ليس له نظير ولن يتكرر ثانية في التاريخ، يصعد إلى الهيكل ليرفع صلاته ويقرب بخوراً لله॥ وإذ به يُلاقي أُمّاً يشعْ من وجهها بريق طهارة عجيب، وتضم إلى صدرها طفلاً رضيعاً كأنَّه قطعة من نور، وإذا بالروح القدس يكشف له سر الوليد الإلهيّ ويكشف له عمَّا سيلقاه، فأحس سمعان بقوى الشباب تعود إليه ومعها شعلة الإيمان والرجاء، فأخذ الصبي بين يديه وراح يدهن بنور بهائه عينيه الضعيفتين اللتين أذابتهما الأيام، وكأنَّ عيون الآباء والأنبياء التي أغمضت على ذلك الرجاء، تنضم إليه لتكتحل هى أيضاً بذلك السناء، فلا عجب إن هتف البار مترنحاً بنشوة الظفر والخلاص، مترنّماً بعظائم الله (لو29: 2)، فكان نشيده شكر لله الذي أنجز وعده متجسّداً من عذراء وأصبح في حوزة يديه! ونشيد إيمان لأنَّ عينيه تكتحلان الآن بنور الأبدية، وتجعلانه ينظر مسبقاً خلاص الأمم الذي سيتم على يد هذا الوليد السماويّ، ونشيد تعزية لأنَّه انتصر على الخطية وقوات الجحيم وآمن أن نصيبه سيكون مع المفديين! وهو الآن ليس بنادم على عمر طواه فى خدمة الله، لقد أراق عمره سكيباً على مذبح الحُب الإلهيّ، وقد كافئه الله بمعاينة ابنه في غروب حياته! يُخيّل إلىّ أنَّ سمعان بعدما سبّح الله تغيّر وجهه، وامتد بصره إلى الأُفق البعيد وأطال الإمعان، وكأنَّه يقرأ سفراً عتيقاً، ثم دفع الطفل إلى أُمه وقال والحزن يتموج بين كلماته: وأنتِ سيجوز في نفسك سيف، يوم أن يُرفع ابنك على العود ويُصلب الحب على الصليب، فبين الحب والكراهية حرب، والعالم ظلمة فيها يعبث الأشرار وابنك نور ساطع البهاء، يكشف الأسرار ويقلق الأفكار... ولِذا سيكون نصيبه الموت! فأحنت مريم رأسها، وقدمت تقدمة حبّها لله وقالت: ها أنذا أمتك يارب لتكن مشيئتك।
|