علمتني سمكة - أهمية أن نحيا في هدوء
وقفت على شاطيء نهر الحياة أتأمّل، فرأيت أمواجاً تتلاطم ولا أعرف لماذا؟! وسفن تسير ولم أعرف إلى أي مكان هى تسير؟! أو على أي شاطيء سترسي؟! ولكن، لا الأمواج شغلتني كثيراً ولا السفن تملّكت فكري طويلاً، بل جذبني سمك البحر، وقادني من حيث لا أدري إلى تأملات عميقة، وتعاليم سامية قد أفادتنى كثيراً، وإليكم بعض ما تعلّمته:
أهمية أن نحيا في هدوء
نعلم أنَّ السمك يهرب من الضوضاء، فأيّ حركة تُعد مصدر خوف له، وهذا ليس ناتجاً عن حاسة السمع، فقد ثبت أنَّ هذه الحاسة معدومة لديّ الأسماك، ولكن حاسة اللمس قوية جداً فيه، فالذي يحدث هو أنَّ الحركة تُحدث تموُّجات هوائية، وهذه التموُّجات تتسبب في تحريك الماء، فيشعر السمك بالخطر المُحيط به، فيهرب إلى مكان آخر يكون أكثر هدوء!
هنا أتذكّر موقف رائع يَنُم عن ذكاء خارق، لصاحبة الإرادة القوية " هيلين كيلر ففي إحدي ندواتها عندما صفّق لها الحاضرون، رأوها وهى ترفع يدها، فتعجبوا! ليس لأنَّها بادلتهم التحية، بل لأنَّها عمياء وخرساء وصماء! فسألوها كيف عرفتي أنّهم يُصفّقون لكِِ؟ فقالت: عندما صفَّقوا تحرَّكت طبقات الهواء من حولي، فشعرت بحركة ذيل الفستان، فتوقّعت أنَّ الحاضرين يُحيونني ويجب علىّ أن أُبادلهم التحية!!
والحق إنَّ الإنسان الحكيم، وكل من يتمتع بمواهب روحية وثقافية.. لا يترك نفسه نهباً لصخب العالم وضوضائه، ولهذا ما أن يجذبه العالم بمادياته الفانية وتقاليده وعاداته البالية.. فسرعان ما ينسلخ ولو قليلاً ليرتد إلى ذاته، فيحيا فى عالمه الخاص الصغير، الذي يشعر فيه بالأمان والسلام.. هكذا عاش وأبدع قديسون وفلاسفة وعلماء.. بعد أن تحرروا من قيود المجتمع، وارتفعوا فوق مشاكله وهمومه، وتخلّصوا من صحبة أصدقاء السوء..
قصة
في الصباح الباكر انطلق الطفل مارك إلى أبيه، الذي كعادته حوّل وجهه إليه مبتسماً واحتضنه وقبَّله، لكنَّه لم يُداعبه كثيراً، لأنَّ مارك سأله عن سر تطلّعه كثيراً من النافذة؟ ففتح سؤال الابن قلب وعقل الأب للكلام والتأمل فقال: إنَّ منظر الطيور المُغرّدة يُبهرني، فهى تُغرد ثم تطير جماعاتً، وكأنَّها تبدأ يومها بالتسبيح لتنطلق بروح الفرح للعمل معاً، كما لو كان أسعد كائنات في الوجود، والعجيب أنَّها تقف على أسلاك التليفونات لتُثبِّت بمخالبها الصغيرة وقفتها وهى غير خائفة البتة، والأسلاك تحمل أحاديث كثيرة تَعبُر من بيت إلى آخر، وهى تحوي داخلها مشاكل وهموم وأسرار.. لكنَّ الأخبار تمر بسرعة تحت أقدام العصافير، وتظل محتفظة بهدوءها دون أن تفقد سلامها، أو تتوقّف عن تغريدها.. ونحن كمؤمنين أحبّوا الله نحيا وسط صخب العالم، وقد تلاطمنا أمواجه، ولكن بقلوب هادئة نحيا، مرتفعين كالعصافير فوق مشاكل ومضايقات البشر، هكذا تحيا السفينة في الماء دون أن يتسرّب الماء داخلها، لأنَّ دخول الماء إليها يعني غرقها! أتتذكَّرون قول معلَّمنا يعقوب الرسول: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبّاً لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُّو اًلِلَّهِ " (يع4:4).
قصة
في يوم ما انطلقت مجموعة من البط البريّ متَّجهة نحو الجنوب، وكان الكل يطير ويستريح معاً فى تناسق وانسجام عجيب، وحدث أن لاحظت بطة أثناء طيرها مجموعة من الطيور تأكلفى حقل، ففكّرت أن تهبط وتأكل معهم ثم تلحق بالسرب، وقد كان! إذ نزلت وملأت بطنها واشتهت أن تأكل أكثر فنالت شهوتها! والآن جاءت لحظة الانطلاق فوجدت نفسها عاجزة عن التحليق في السماء، لقد أثقلها الطعام ويجب أن تعيش في وحل الأرض، تعانى من الأصوات المزعجة، وتختبيء من الحيوانات المفترسة، لقد كانت تحيا حياة هادئة فماذا جنت من شهوة عابرة؟ لم تجنِ سوى الندم على حياة جميلة اختبرت أفراحها، وهكذا عاشت البطة غريبة بين طيور وحيوانات ليسوا من فصيلتها، تنتظر قدوم الشتاء لَعلَّها تجد من يرفعها وتطير مع رفيقاتها، لكنها لم تصمت بل كانت ترتل مع داود النبيّ قائلة: " لَيْتَ لِي جَنَاحاً كَالْحَمَامَةِ فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! "(مز6:55).