بعد أن رأينا السماوات تتزلزل (معنويًا) من قداسة الجالس على العرش، نرى أيضًا أن الهيكل “المقدَّس” محل حضور الرب نفسه، يتجاوب هو الآخر «فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ (عوارض الباب) مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا» (إش6: 4). والإهتزاز يتحدث عن ضعف وهشاشة الهيكل بالنسبة لمجد الجالس على العرش. أما الدخان فمن سفر الرؤيا نفهم أنه يتحدث عن مجد الله وقدرته إذ يقول يوحنا: «وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَانًا مِنْ مَجْدِ اللهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ» (رؤ15: 8). وفي سفر الخروج أيضًا يكتب موسى «وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا» (خر19: 18). وذلك «لأَنَّ إِلهَنَا “نَارٌ آكِلَةٌ”». فمن فرط تفرد أو قداسة مجده؛ حتى الجبال ترتجف أمامه وتمتلئ من دخان حريقه.
ولكن نفهم من ذلك أنه حتى دينونة الله متفردة، أو هي دينونة مقدسة مخيفة لأنه فيها سيتقابل الخاطئ مع تفرد الله، أي قداسته، فهو متفرد في مقاييس مطاليب عدله ومتفرد في شدة عقابه للخطية وغضبه عليها، إذ يتحدث عنه الرسول فيقول عمن يرفض المسيح إن عليه «قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ» (عب10: 27)، «وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤ14: 11)؛ فتتجلى قداسة الله في الحكم على الخاطئ ويتجلى مجد الله حتى في الحكم بالعذاب الأبدي على الخطاة.
وفي ضوء هذا المشهد الجليل المهيب، ما كان من إشعياء إلا أن صرخ «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ» (إش6: 5). ها قد تحدث إشعياء عن نجاسة شفتيه. ولكن، لماذا الشفتين بالذات؟ هل كان النبي كذابًا أو شتامًا أو مجدفًا؟ بالطبع لا. ولكنه إذ رأى وسمع السرافيم، وأنهم يسبحون بقداسة الله ليلاً نهارًا، وليس على شفتيهم سوى ما يقدِّم له المجد والإكرام، شعر أنه نجس الشفتين. شعر أن شفتيه تم استخدامهما في أشياء كثيرة غير الأشياء التي تمجِّد الله وتكرمه. شعر أنه في ضوء محضر قداسة الله، أي تفرده وتميّزه كان على شفتيه أن تكونا خادمتين لمجد الله فقط. شعر أن أفضل ما فيه كنبي يتحدث بكلام الله (أي شفتيه) ناقص جدًا أمام ما يتطلبه الله ويستحقه من إكرام وتبجيل ومهابة وإجلال. فكيف له أن يقترب من الله وتقع عيناه على ذاك الذي من فرط تفرده وتميزه تُغطّي حتى الملائكة وجوهها حتى لا تنظره.