رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
زمن الصوم أحد الابن الشاطر ::: مقدّمة ::: تضع أمّنا الكنيسة المارونية قراءة إنجيل الابن الشاطر بعد قراءتيّن للإنجيل تتعلقان بالشفاءات. فبعد الايمان تأتي التوبة، ونحن في زمن الصوم الّذي هو مسيرة توبة. هذه التوبة يجب أن تتمّ اليوم والآن وكلّ تأخير عنها هو من الشرير الّذي يدفعنا إلى التأجيل أو التأخير، إن كان بالصلاة أو بعمل الخير أو وهنا الأهمّ، بالتوبة. فان كنت خُلِقْتُ لأرث الملكوت المعدّ لي، وبخطيئتي ابتعدت وأنا ضعيف فالربّ حنون ويقبل ضعفي وتوبتي ويعطيني الغفران. فلماذا لا أعلن توبتي؟ لنتأمل بقراءات هذا الأحد و تعالوا نعود إلى البيت الأبوي أخوة مجتمعين ولنشجع بعضنا بعضاً ولتكن المحبّة حافزنا إلى العودة بعضنا لبعض فيزداد فرح الرب فينا، آمين. ::: صلاة ::: صلاتنا في هذا الأحد المبارك، الّذي نتأمل فيه عظمة حنانك الأبوي، مع لوحة الإبن الضال، هي من أجل كلّ شخص منّا يعيش حالة الإبن الأصغر أو حالة الإبن الأكبر، لتقوده بحنانك ليكتشف عظمة رحمتك ومحبتك للخاطئ، الّذي تجسد ابنك الحبيب من أجله وسفك دمه على الصليب ليخلّصه وليعيده إلى البيت الأبوي السليب أي الفردوس المعدّ منذ أزل الدّهور. أعطنا الّا نستغلّ رحمتك ومغفرتك لنبقى في خطيئتنا، بل لكي نحوّل حياتنا لحياة أكثر إنسانيّة وحبّ. نصلّي أيضاً على نيّة جميع الضالّين الذين لم يكتشفوا أو يعرفوا طريق البيت الأبوي ولم يسمعوا صوتك في آذانهم ولم يختبروا حنانك في حياتهم فنفرح معك بعودتهم لأننا أخوة وما أجمل أن يجتمع الإخوة، آمين. ::: الرسالة ::: 5 إِخْتَبِرُوا أَنْفُسَكُم، هَلْ أَنْتُم رَاسِخُونَ في الإِيْمَان. إِمْتَحِنُوا أَنْفُسَكُم. أَلا تَعْرِفُونَ أَنَّ الـمَسِيحَ يَسُوعَ فِيكُم؟ إِلاَّ إِذَا كُنْتُم مَرْفُوضِين! 6 فأَرْجُو أَنْ تَعْرِفُوا أَنَّنا نَحْنُ لَسْنا مَرْفُوضِين! 7 ونُصَلِّي إِلى اللهِ كَيْ لا تَفْعَلُوا أَيَّ شَرّ، لا لِنَظْهَرَ نَحْنُ مَقْبُولِين، بَلْ لِكَي تَفْعَلُوا أَنْتُمُ الـخَيْر، ونَكُونَ نَحْنُ كَأَنَّنا مَرْفُوضُون! 8 فَإِنَّنا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا ضِدَّ الـحَقّ، بَلْ لأَجْلِ الـحَقّ! 9 أَجَلْ، إِنَّنا نَفْرَحُ عِنْدَما نَكُونُ نَحْنُ ضُعَفَاء، وتَكُونُونَ أَنْتُم أَقْوِيَاء. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا نُصَلِّي لِكَي تَكُونُوا كَامِلِين. 10 أَكْتُبُ هـذَا وأَنا غَائِب، لِئَلاَّ أُعَامِلَكُم بِقَسَاوَةٍ وأَنا حَاضِر، بِالسُّلْطَانِ الَّذي أَعْطَانِي إِيَّاهُ الرَّبّ، لِبُنْيَانِكُم لا لِهَدْمِكُم. 11 وبَعْدُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، إِفْرَحُوا، وَاسْعَوا إِلى الكَمَال، وتَشَجَّعُوا، وكُونُوا عَلى رَأْيٍ وَاحِد، وعِيشُوا في سَلام، وإِلـهُ الـمَحَبَّةِ والسَّلامِ يَكُونُ مَعَكُم! 12 سَلِّمُوا بَعْضُكُم عَلى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَة. جَمِيعُ القِدِّيسِينَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكُم. 13 نِعْمَةُ الرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح، ومَحَبَّةُ الله، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَكُم أَجْمَعِين! (2قور 13/5-13) ::: أفكار من الرسالة ::: - في رسالته الثانية الى الكورنثيين يظهر بولس الرسول كيف كان يعمل جاهداً من أجل أبناء المناطق التي يبّشرها، مؤكّداً أنّه لا يفكّر بفخر له أو بمجدٍ له أو بإعلاء شأنه. بل إنّه يقبل الضعف من أجل القوة التي بالمسيح، ويقبل بالضيق ويفرح في ضيقه لأن هذا يعطي ثمار (راجع الفصل السابق) . - يقول إختبروا أنفسكم إن كنتم تؤمنون. فالّذي عنده إيمان بحجم حبة الخردل يفعل المعجزات لانه يكون قد أصبح مسيحاً آخر وسفيراً للمسيح، يعمل ويوقّع بتوقيعه. -واليوم، إذا ما حذفنا كلمة كورنتس ووضعنا كلمة الشرق، تصبح الرّسالة موجّهة إلينا، نحن الشرقيين، لتقول لنا إنّ الخطر الذي كان يتربص بالمسيحيين في تلك الفترة ما زال قائماً سواءً من الخارج أو من الداخل. فلنكن إذاً واحداً وهكذا نزيل الخطر الناجم عن خلافاتنا وانقساماتنا فنواجه سويّةً أيّ خطر خارجيّ. - والرسالة تدعونا أيضاً لتكون القبلة بيننا علامة محبة وإكرام وتضحية لا قبلة يهوذا، أي قبلة الرياء والمصالح والأنانيّات الصالحة فقط لمدّة ساعة أو لحين تحقّق الطلب وانتفاء الحاجة . - ونلاحظ أيضاً أنّ سلام القديسين موجود دائماً في رسائل مار بولس، "فأنت كمان فيك تكون قديس ( تريزيا الطفل يسوع )". فالمؤمن، سفير المسيح، لا بدّ من أن يكون قديساً ويفسّر بعض الآباء أنّ كلمة "قديسون" كانت تعني المحتاجين الّذين كان يجمع لهم مار بولس التبرّعات خلال جولاته . لذا اليوم هو فرصةٌ للعودة إلى الذّات: هل أنا مسيحيّ مؤمن؟ كيف أختبر ذاتي؟ فلست أنا الحي بل المسيح حيٌّ في، وعندها عليّ أن أردّد: لا ضيق، لا ألم، لا ... يفصلني عن محبة إلهي، له المجد إلى الأبد، آمين. ::: الإنجيل ::: 11 وَقَالَ يَسُوع: "كانَ لِرَجُلٍ ابْنَان. 12 فَقالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيه: يَا أَبي، أَعْطِنِي حِصَّتِي مِنَ الـمِيرَاث. فَقَسَمَ لَهُمَا ثَرْوَتَهُ. 13 وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَة، جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ حِصَّتِهِ، وسَافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعِيد. وَهُنَاكَ بَدَّدَ مَالَهُ في حَيَاةِ الطَّيْش. 14 وَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيء، حَدَثَتْ في ذـلِكَ البَلَدِ مَجَاعَةٌ شَدِيدَة، فَبَدَأَ يُحِسُّ بِالعَوَز. 15 فَذَهَبَ وَلَجَأَ إِلى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذـلِكَ البَلَد، فَأَرْسَلَهُ إِلى حُقُولِهِ لِيَرْعَى الـخَنَازِير. 16 وَكانَ يَشْتَهي أَنْ يَمْلأَ جَوْفَهُ مِنَ الـخَرُّوبِ الَّذي كَانَتِ الـخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، وَلا يُعْطِيهِ مِنْهُ أَحَد. 17 فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَال: كَمْ مِنَ الأُجَرَاءِ عِنْدَ أَبي، يَفْضُلُ الـخُبْزُ عَنْهُم، وَأَنا هـهُنَا أَهْلِكُ جُوعًا! 18 أَقُومُ وَأَمْضي إِلى أَبي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. 19 وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ! 20 فَقَامَ وَجَاءَ إِلى أَبِيه. وفِيمَا كَانَ لا يَزَالُ بَعِيدًا، رَآهُ أَبُوه، فَتَحَنَّنَ عَلَيْه، وَأَسْرَعَ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ طَوِيلاً. 21 فَقالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا... 22 فَقالَ الأَبُ لِعَبيدِهِ: أَسْرِعُوا وَأَخْرِجُوا الـحُلَّةَ الفَاخِرَةَ وَأَلْبِسُوه، واجْعَلُوا في يَدِهِ خَاتَمًا، وفي رِجْلَيْهِ حِذَاء، 23 وَأْتُوا بِالعِجْلِ الـمُسَمَّنِ واذْبَحُوه، وَلْنَأْكُلْ وَنَتَنَعَّمْ! 24 لأَنَّ ابْنِيَ هـذَا كَانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد. وَبَدَأُوا يَتَنَعَّمُون. 25 وكانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ في الـحَقْل. فَلَمَّا جَاءَ واقْتَرَبَ مِنَ البَيْت، سَمِعَ غِنَاءً وَرَقْصًا. 26 فَدَعا وَاحِدًا مِنَ الغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هـذَا؟ 27 فَقالَ لَهُ: جَاءَ أَخُوك، فَذَبَحَ أَبُوكَ العِجْلَ الـمُسَمَّن، لأَنَّهُ لَقِيَهُ سَالِمًا. 28 فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُل. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه. 29 فَأَجَابَ وقَالَ لأَبِيه: هَا أَنا أَخْدُمُكَ كُلَّ هـذِهِ السِّنِين، وَلَمْ أُخَالِفْ لَكَ يَوْمًا أَمْرًا، وَلَمْ تُعْطِنِي مَرَّةً جَدْيًا، لأَتَنَعَّمَ مَعَ أَصْدِقَائِي. 30 ولـكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هـذَا الَّذي أَكَلَ ثَرْوَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ العِجْلَ الـمُسَمَّن! 31 فَقالَ لَهُ أَبُوه: يَا وَلَدِي، أَنْتَ مَعِي في كُلِّ حِين، وَكُلُّ مَا هُوَ لِي هُوَ لَكَ. 32 ولـكِنْ كانَ يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَعَّمَ وَنَفْرَح، لأَنَّ أَخَاكَ هـذَا كانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد". (لو15 /11-32) ::: أفكار على ضوء والإنجيل ::: في الأحد الثالث من الصوم تستوقفنا في الإنجيل أفكارٌ كثيرة ومنها النقاط التالية: - رغبة الابن الأصغر في العيش بعيداً عن البيت الأبوي دون أن يفكر بعواقب بعده، فقد سئم العيش تحت سقف بيت أبيه, وملّ الخضوع للوصايا الأبويّة, ورغب في الحرية والاستقلال والتمتع. كان هذا الصبي معجبا بنفسه مغرورا جدّاً بقدرته، فأصبح الفراق أمراً أسهل وأسرع. ألا يقول الإبن أو الابنة لاوالدين: "أنتم غير قادرين على فهمي! عقليتكم قديمة! وأنا من جيلٍ جديد! لم أعد قادراً على احتمال التقييد! أودّ أن أرى عالماً مختلفاً عن عالمكم التقليدي! أن أكون حراً في كلّ شيء! وأعاشر من أشاء! وأقضي عمري كما أشاء. أريد أن أعيش!!! فالحياة تأتي مرّة واحدة"؟؟؟ هذا ما يقوله العديد من شبابنا هذه الأيام. ألا يتكرر مثل الابن الشاطر، الذي رواه السيد المسيح منذ أكثر من ألفي سنة، في كلّ يوم في مجتمعاتنا؟؟ - كثيراً ما يعترض البعض قائلين إن الأب أعطاه نصيبه وقبل الانفصال. نعم فالحرية هي من أعظم عطايا الله للإنسان لدرجة قيل إنّ الله يقف عاجزاً عن التدخل فيها. ولكن الأب اعطاه نصيبه بألم وهو لم ينفكّ عن السهر والألم والتفكير بهذا الابن. لقد رضي بأن يتألم ويسهر ويتعب وينتظر ... بدل من أن يقول له لا أو أن يقف بوجه هذه الحريّة-العطيّة. بمعنى آخر: لم يُرِد أن يسلبه إيّاها. فإلهنا هو إله الحبّ وليس إله التسلّط! وربما رأينا ما يظهر في بعض العائلات نتيجة تسلّط الأهل المفرط. إنّ الأب يعطي ويتحمذل مسؤولية عطاءه. - والسؤال المطروح هل لم نزل نعي قيمة للحرية ؟ أنت حرّ يعني أنّ هناك أمرين وعليك الاختيار بينهما. فالحريّة إذن، قبل كلّ شيء، تعني وجود الخيار والاختيار والتفضيل بين أمرين على معايير يحدّدها العقل والحكمة البشريّة... بينما الابن الأصغر لم يفكر بأنه حرّ بل فكر بما هو مباح له، من وجهة نظره. وهذا العصر هو عصر الإباحية المفرطة. وعندما نقول الإباحية، لا نعني فقط على المستوى الجنسي كما يفسّر الإباحيّ حريّته، بل أيضاً التحرّر من كلّ قيد أو عقيدة أو عادة أو عرف أو تقليد! علينا أيّها الأحبّاء أن نتذكّر بأن للحرّية ضوابط فهي تنتهي عندما تبدأ بإيذاء الآخر. أمّا الإباحية فهي بلا ضوابط و بلا نهاية، لا همّ لها سوى اشباع حاجاتها على أساس غرائزي ، أنانيّ ، دون التفكير بالكرامة الشخصيّة والإنسانيّة وبكرامات الآخرين. - البعد عن البيت الأبوي كان القرار الخاطئ الّذي ولّد الشعور بالذنب وبالحاجة. وما رعي الخنازير، الّتي تعتبر حيوانات نجسة، سوى للدلالة على الحالة المذرية التي وصل إليها، فقمّة العار، في المجتمع اليهودي، هي العمل في رعي الخنازير. وبالتالي فإنّ هذه الحالة تشكّل قمّة الانفصال عن الجماعة وعن الآخرين. ونذكّر بما ورد في الاسبوع المنصرم عن أن الخطيئة هي، قبل أن تكون موجهة الى الله وانفصالاً عنه، فإنّها موجّهة إلى الجماعة وتفصلنا عنها. وهذا ما كان ليستمرّ إلى الأبد لولا الثقة التي نضعها في الأب بأنّه حنون ورؤوف، وبأنّ ابنه يسوع أتى من اجل المرضى وليس للأصحاء. فعندما عرف الابن الشاطر قيمة حبّ وحنان أبيه قال: "أمضي إلى أبي..." وأتى إلى أبيه الّذي بادر إلى لقائه وحنا عليه وسارع إلى إعادته، ليس فقط إلى حالة البنوّة العاديّة، بل إلى بنوّة أبناء الملوك الّذين يرثون الملك! - كثيرون منّا يقفون حجر عثرةٍ أمام العائدين إلى الحضن الأبوي فالويل لهم لأن كبرياءهم وأنانيتهم تقفان حاجزاً أمام دخول وتوبة الكثيرين! لهذا الابن الأكبر استاء من تصرّف الأب ولم يفرح بعودة أخيه. والّذي لا يفرح بل يستخدم أنانيّته لا يحبّ. ومن لا يحبّ أخاه الّذي يراه لا يستطيع أن يحبّ أخاه الذي في السماوات فالويل لمن يقف عائقاً أمام النازفة لعدم لمس ثوبه والويل لمن يحاول إسكات صوت أعمى أريحا كيلا يسمعه المعلم. في الختام، المهمّ أن نعرف من نكون من شخصيات هذا النص، وأن نعرف من هو إلهنا، فإلهنا إله المساكين والبسطاء والمهمّشين والخاطئين, وهو عاش مثلنا، أكل وشرب على أرضنا، وحرم في طفولته من الكثير من الأمور، ككثير من أطفالنا في هذا الشرق. أحبّ الحياة ولو كان بإرادته وبحبّه بذلها من أجلنا. كلّ هذا يستوجب علينا أن نضع ثقتنا بحبه وحنانه فيقول كلّ منّا: "أقوم وأمضي إلى أبي"، إلى منبع بحر الحنان! ::: تأمّل روحي ::: نزهة إلى الذات توقّف يسوع برهةً على مفرق طريقٍ، على مدخله "محدثة" كُتِب عليها "مدينة الحبِّ، شارع: فرح العودة"، فقام والجموع بنزهة إلى ذلك المكان القائم في أعماق الّذات، وراح يكشف لهم خفاياه، مُظهرًا وجه الآب الحقيقي في قصّة تلك المدينة وأبطالها: الإبن الأصغر: أراد اختبار الحياة وتنسُّم الحرّيّة، فانطلق باحثًا عنهما، ظانًا أنّهما يكمنان خارج البيت الوالديّ. لكن سرعان ما انطفأت شعلة الفرح والطأنينة داخله، يوم فَقَدَ كلّ ماله، حتّى باتت الخنازير أرفع منه شأنًا. تألّم واكتوى بنار النّدامة، وانجلت صورة الأب المحبّ أمام عينيه، فاجتاحته الرّغبة في العودة تائبًا إلى الحضن الّذي طالما غمره بحنانه، رغبةٌ أقوى من اليأس والخجلِ وتأنيب الذّات، فعاد إلى أبيه نادمًا، عاد إلى الحياة ثانيةً. الإبن الأكبر: المُلازم لأبيه يفاجؤنا بردّة فعله. لقد غضِب من تصرّف والده تجاه أخيه "المُبَدِّد"، ورفض المشاركة في فرح عودته، مهدِّدًا، معاتبًا متوعّدًا، وكأنّ "الملكوت" لم يُكْتَب إلاّ لأمثاله، مُمْلِيًا على من أوجده، ما عليه أن يفعل، متسلّحًا بذهنيّة "الطاعة للأوامر تُكْسِب الميراث". لم يدرك أنّ الّذي كان ميّتًا ببعده عن منبع الحياة، عاد تائبًا طيّعًا طائعًا مسلِّمًا بأن رجاءه في أبيه، بل سجن نفسه في المادّة وقيمتها المحدودة "بأشبارٍ من التراب، وأوزانٍ من اللحوم". أمّا الحسد والغيرة والأنانيّة، فقد أماتت في قلبه وعقله الحبَّ والصّفْحَ والفرحَ. الأب: المحبّة الكاملة، ما كان هدفه إلاّ أن يدرك الأخوة كيف يجب أن يعيشوا، على اختلاف مشاربهم، في عائلةٍ تحبّ، وتصفح، ويساند بعضها بعضًا ، تحت سقفٍ واحدٍ، فيه من العاطفة والفرح والثقة ما يسمح للحياة بأن تزهر وتثمر عطاءً ومحبّةً، منتصرة على الموت الدّاخلي. كما أنّه أراد أن يُفهنا، مِن سلبية الأخ الأكبر، أنّه يحبّنا لشخصنا، لا لما لدينا من مال وجمال، وما نؤدّيه من استسلامٍ جاهل(غير واعٍ) لمشيئته. فمن هو هذا الآب؟ أيّة صورة نعطيها لشخصه؟ كيف ننظر إليه من حولنا، وماذا نكتشف فيه؟ هل نُبَسِّط الأمور إلى درجة الإستهتار، عندما نتخيّل بأنّه قد ينظر إلينا كما نظر إلى "الإبن الضال"، لأنّه محبّة، فنرتكب الحماقات والزلاّت؟ وإن واجهنا حقيقتنا، ألا نكتشف أنّنا في أغلب الأحيان، نشبه "الإبن الأكبر"، ذاك الّذي لم يتخطَّ إطار الجسد (المادّة) في علاقته مع أخيه وأبيه، ولم يتخطَّ مفهوم العالم لطريقة التّعامل مع الآخر؟ مَن منّا يستطيع ادّعاء الكمال لنفسه، وأنّه خالٍ من كلّ عيب؟... إنّنا لواهمون! خطيئتنا، أنّنا نظنّ أنفسنا مُنَزَّهين مَصُونين من كلّ عيب، وأنّ حكمتنا تفوق كلّ حكمة... يل ليتنا نفسح المجال لتعمل البصيرة، لَكُنّا وجدنا أنّ كلّا منّا يتقلّب بين الموت والحياة، بين الضلال والهداية، مئة مرّةٍ كلّ يوم... ولأدركنا أنّ هناك يدًا ممدودة لنا، يدًا تغفر وترحم، منتظرةً ثقتنا كي تعيدنا إلى "الطريق والحقّ والحياة". فلنتعلّم أن نسامح كما فَعَلَ هو بالذّات. وهل علينا أن نسامح حتّى للأكثر إساءةً؟ أخاف الإجابة! لكنّي واثقة بأنّ الألف ميل تبدأ بخطوة. فلنبادر، على قدر ما أُعطينا، إلى السير في هذه الطريق، عندها نشعر بالانتصار على ضعف الذات، فنتهلّل. ربّما فعل المسامحة يبدو لنا جنينًا في رحم حياتنا الأرضيّة، لكنّه موجود. وبقدر ما نغذّيه بالتواضع والصّلاة والثّقة بعمل الروح فينا، ينمو سليمًا إلى أن يبعثنا في حياةٍ أبديّة حيث الكمال في كلّ شيء. لنثق إذًا بالآب، ولتكن حياتنا جوابًا على نداء الحبّ المعطى لنا بالمجّان. ولا نقلقنّ أبدًا، ممّا لدينما من طباعٍ وطريقة عيش. فكلّنا نحمل من ذات "الأخوين". المهمّ أن ندخل تلك "المدينة" ونستقرّ في "شارع: فرح العودة"، حيث التسامح، فتندمل الجراح، ونكسب المعركة ضدّ الموت، وندخل فرح الآب الّذي يدعونا مبتسمًا فَرَحَا. ::: قراءة خاصّة بزمن الصوم ::: روحانية الصوم من ليتورجيا الأقباط الصوم ليس مجرّد فضيلة جسديّة، إنه ليس امتناعاً عن الطعام لوقت معيّن، وليس انقطاعاً عن لحمٍ أو دَسَمٍ، إنما في الصوم عنصرٌ روحي يستفيق أثناء ضعف الجسد. أوّل عنصر روحيّ في الصوم، هو السيطرة على الإرادة، لأنه بنفس الإرادة التي تتحكّم في الطّعام، يمكن لها أيضاً أن تسيطر على الكلام، خاصةً (غير اللائق)، ويمكن للإرادة أيضاً أن تسيطر على نوعيّة الفكر والمشاعر. فلا نفكّر إلا بما هو مرضي لدى الله، وألاّ نَتْبَعْ إلاّ المشاعر النبيلة والصالحة. قال مار اسحق السرياني: صوم اللّسان خيرٌ من صوم الفم، وصوم القلب عن الشهوات (غير المرتّبة) هو خيرٌ من صوم الفم واللسان معاً. ثاني عنصر في الصوم الروحي هو التوبة، ونلاحظ في صوم أهل نينوى أيام يونان النبي، أنهم لم يكتفوا بالصوم وحده، إنما رجع كل واحد عن طريقه الشرّيرة، وعن الظلم أيضاُ (يونان3/8-10) وأن الرّب نظر إلى هذه التّوبة أكثر مما نظر إلى الصوم وسامح أهل مدينة نينوى وخلّصها من عقاب أليم. العنصر الثالث في الصوم هو التذلّل وانسحاق الروح أمام الله، لبس أهل نينوى المُسوح (اللّباس الخَشِن) ونادى الملك بصومٍ لمدة ثلاثة أيام للكبار والصّغار، حتى للبهائم، وقصَّ الملك شعر رأسه، ولبس المسح وخلع نعليه وافترش الرّماد. العنصر الرابع في الصوم، لا يقتصر على حرمان الجسد من الطّعام، بل تقديم الغذاء الواجب للروح، من أجل هذا نجد الترابط بين الصوم والصلاة، وما إذلال الجسد بالصوم إلا مجرّد وسيلة، أما الهدف فهو إعلاء شأن الروح، وذلك بالصلاة والتأمل والقراءات الروحية، (خاصة الكتاب المقدس) وممارسة الفضائل: كالطاعة والعفّة والفقر، والعطاء والتواضع والغفران... إلى ما هنالك. وإنّ كلّ صوم غير روحي (أي لا يقرّبنا من الله) فهو مرفوض لديه. لأنه ربما يكون لتخفيف الوزن، أو لرشاقة الجسم، أو مبنيّ على الرياء، أما أنت فمتى صمت فطيّب رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر صيامك للناس بل لأبيك السماوي (متى6/17). أو مثل صوم الفريسيّ المبني على الكبرياء، إني لست كسائر الناس، إني أصوم مرتين في الأسبوع (لوقا18/11). أو مثل صوم الشعب الخاطئ في (أشعيا58/4) إنكم للخصومة والمشاجرة تصومون.... كما نجد أيضاً في النبي أشعيا، تحديداً دقيقاً لمعنى الصّوم: (أشعيا58/6-7) أليس الصوم الذي أريده: هو حلّ قيود النّفاق، وفكّ رُبُط النّير (نير الخطيئة)، أليس هو أن تكسِر للجائع خُبزك، وأن تُدخِل البائسين المطرودين بيتك، وإذا ما رأيت العريان تكسوه، وأن لا تتوارى عن لحمك؟ (أن لا تهمل قريبك). العنصر الخامس في الصوم، هو القيام بأعمال الرحمة والمحبّة والتسامح. نرحم الآخرين ليرحمنا الله، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون وبالصّوم نتعلّم الشفقة على الفقراء والجائعين، بعد أن اختبرنا الجوع في أجسادنا. العنصر السادس في الصوم، هو الزُّهد بالماديّات وكل تعلّق بها، ومنها عدم الاهتمام بأصناف الطّعام، وما هو الأطيب منها. لم آكل طعاماً شهياً في صيامي ولم يدخل فمي لحم ولا خمر، إلى تمام ثلاثة أسابيع (دانيال10/3) وما الزهد في الطّعام والانقطاع عن الشهيّ منه، إلا دلالة على انشغال الروح بما هو نافع للخلاص، واستحقاق الحياة الأبديّة. |
|