رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
وبِّخْ وأنذرْ وعظْ إلى مثل هذا العمل دعا بولس تلميذه تيموتاوس: »أناشدك أمام الله والمسيح يسوع الذي سيدين الأحياء والأموات عند ظهوره ومجيء ملكوته، أن تبشِّر بكلام الله وتلحَّ في إعلانه في وقته وفي غير وقته، وأن توبِّخَ وتُنذر وتعظ صابرًا كلَّ الصبر في التعليم« (2 تم 4: 1-2). فإن هو دعا تلميذه، فهو سوف يقوم به في كورنتوس أوَّلاً، وفي رومة ثانيًا من خلال هذه الرسالة التي بدأت فقدَّمت »التعليم الصحيح«. بعد لوحة قاتمة عن البشريَّة التي لا تقدر أن تعمل الأعمال الصالحة، هي دعوة إلى العالم الوثنيّ الذي لم تحفظه حكمتُه من الأصناميَّة ولا من اللاخلقيَّة. أمّا العالم اليهوديّ فلا يمكنه أن يكتفي ببرارة ظاهرة في عيون الناس، بل تُفرَض عليه الاستقامة قدَّام الله. إذًا على اليهوديّ أن يسأل نفسَه إذا كان »مختون القلب« مثل الوثنيّين الذين يعملون بالشريعة دون أن يعرفوها. الجميع هم خطأة، والجميع يحتاجون إلى الخلاص المجّانيّ ينالونه في الإيمان مثل إبراهيم. فوعدُ الله جعله أبًا لليهود وأبًا للوثنيّين، ومثالاً لجميع الذين يؤمنون بقدرة الله الخالق الذي يقدر أن يقيم الموتى. ويصوِّر الرسول في هذه الرسالة (ف 5-8) صراع الإنسان مع الخطيئة التي تحاول أن تسيطر عليه. وبفضل حبِّ الله، يسير المؤمن بحسب الروح الذي يحقِّق فيه ما لم يستطع العنصرُ البشريّ أن يفعل. وهذا الإنسان الروحيّ يختبر حرِّيَّة التعلُّق بمخطَّط الله بالرغم من آلام الحياة الحاضرة. وإذ يمتلئ رجاء، تتصوَّر فيه صورةُ الابن الذي مات وقام ودخل الآن في المجد. وهكذا يتجاوب مع حبِّ الآب الذي لم يوفِّر ابنه، فيستسلم بالمحبَّة إلى جميع الضيقات التي تولِّده الحربُ في هذه الحياة بحسب الروح: »ولكنَّنا في هذه الشدائد ننتصر كلَّ الانتصار بالذي أحبَّنا. وأنا على يقين أنَّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى الأرض ولا قوى السماء، ولا شيء في الخليقة كلِّها يقدر أن يفصلنا عن محبَّة الله التي هي في المسيح يسوع ربِّنا« (رو 8: 37-39). بعد هذا التعليم اللاهوتيّ يأتي التعليم الخلقيّ. فالرسول لا يجعل »بخطِّه« أخلاقيّات سطحيَّة فحسب، فيتوقَّف عند بعض الرذائل والخطايا وكأنَّه يُسرُّ بالكلام عنها. إمّا لضعف في العقيدة، وإمّا لسهولة بها يكرز الكاهن فلا يجُرُّ نفسه على التأمُّل في كلام الله والدخول في مكنوناته. بعد هذه النظرة إلى الإنسان الخاطئ والذي خلَّصه يسوع بموته وآلامه وقيامته، يبدأ التوبيخ والإنذار، ولاسيَّما على مستوى المحبَّة الأخويَّة. هنا يحملنا الرسول إلى القسم الثاني من الرسالة إلى أهل رومة، وبدايتها: »أناشدكم أيُّها الإخوة« (رو 12: 1). أوَّل تنبيه يكون على المحبَّة بين الإخوة »مفضِّلين بعضكم على بعض في الكرامة«، ثمَّ محبَّة الأعداء على مثال ما نقرأ في عظة الجبل (مت 5-7): »باركوا مضطهديكم، باركوا ولا تلعنوا« (رو 12: 14). فالمؤمنون يعيشون وسط الضيقات والاضطهادات، فهل يردُّون على الشرِّ بالشرّ؟ كلاّ. بل يتركون الأمر لله، ولا يسمحون للشرِّ أن يتغلَّب عليهم (آ26)، ولا للحقد أن يسيطر. أمّا المسألة الأساسيَّة التي جعلت الخلاف داخل جماعة رومة، فهو التعامل بين الآتين من العالم الوثنيّ والآتين من العالم اليهوديّ. هؤلاء كانوا الأكثريَّة في بداية كنيسة رومة، ثمَّ أخذ الوثنيّون »يطعَّمون« (رو 11: 18) شيئًا فشيئًا في الأصل. ولكن سنة 49، أمر الإمبراطور كلود (10-54ب.م.) جميع اليهود بأن يتركوا رومة بسبب الخلاف فيما بينهم حول »خرستوس« أو: المسيح. منهم من انتقل إلى المسيحيَّة ومنهم من لبث يهوديٌّا. غير أنَّ الإمبراطور ما فرَّق بين الاثنين. عندئذٍ صار العنصر اليهوديّ في الكنيسة أقلِّيَّة بالنسبة إلى العنصر الوثنيّ. فقال: »قُطعتْ تلك الفروع (الآتية من العالم اليهوديّ) حتّى أطعَّم أنا« (آ19)، أنا الآتي من العالم الوثنيّ. وجاء الصراع بين الأقوياء الذين هم الأكثريَّة وبين اليهود الذين هم الأقلِّيَّة. بين العائشين في حرِّيَّة المسيح، فلا يهتمُّون للطعام ولا للشراب، وبين المحافظين على الشريعة فبدوا »ضعاف الإيمان« (رو 14: 1) لأنَّهم لم يتجرَّدوا عن كلِّ شيء ليعرفوا أنَّ الخلاص بيسوع المسيح لا يحتاج إلى الختان ولا إلى الامتناع عن بعض الأطعمة. فاليهوديّ يأتي إلى يسوع من خلال الحالة التي هو فيها. والوثنيّ يأتي إلى يسوع من عالمه الذي لا يعرف الشرائع اليهوديَّة ولا فرائضها. هو لا يحتاج الختان لأنَّه لا يزيده شيئًا. وهكذا قسم الرسول الجماعة قسمين: »فمن الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء« (آ2أ). هؤلاء هم المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ. »ومنهم من هو ضعيف الإيمان فلا يأكل إلاَّ البقول« (آ2ب). كيف يكون التصرُّف؟ في المحبَّة. صاحب الحرِّيَّة لا يحتقر الآخرين فيقول: هم ما وصلوا بعد إلى ملء الحياة في المسيح. وصاحب الشريعة لا يدين أولئك الذين تحرَّروا من عادات صارت »بشريَّة« في نظر الحياة الجديدة في المسيح. عن الأوَّلين قال الرسول: »فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله« (آ3أ). وعن الآخرين قال: »وعلى من لا يأكل من كلِّ شيء أن لا يدين من يأكل كلَّ شيء« (آ3ب). إذا كان الله يقبل هؤلاء وأولئك، »فمن أنت لتدين خادم غيرك؟« (آ4)، خادم الربّ. هذا المناخ يجعلنا قريبين من مسألة عرفتها كنيسة كورنتوس: كلُّ اللحوم الآتية من ذبائح الأوثان. مع أنَّ الوثن ليس بشيء، ومع أنَّ اللحوم المذبوحة في عيد من أعياد المدينة لا تفترق عن اللحوم لدى قصّاب في المدينة، إلاَّ أنَّ المؤمن العائش في المحبَّة يمتنع عن أكل مثل هذا اللحم. وأعطى بولس السبب: »فإذا كان بعضُ الطعام سببًا لسقوط أخي، فلن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي« (1 كو 8: 13). وقال بولس في الرسالة إلى أهل رومة: »فإذا أسأتَ إلى أخيك بما تأكله، فأنت لا تكون سالكًا في طريق المحبَّة. فلا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (رو 14: 15). الطعام خيرٌ فلماذا يصبح سببًا للشرِّ وللخطيئة بحيث يتشكَّك أخي. الطعام شيء عابر فلماذا نعتبره جوهريٌّا في علاقتنا مع الإخوة والأخوات. فقال الرسول: »فما ملكوت الله طعام وشراب، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس. فمن خدم المسيح مثلَ هذه الخدمة نال رضى الله وقبول الناس« (آ17-18). أجل، الأقوياء يحتملون ضعف الضعفاء (رو 15: 1)، على مستوى الإيمان، على مستوى الطعام والشراب، على مستوى الأزمنة والأوقات. الحديث في الإيمان يستند إلى من سبقه فانضمَّ إلى كنيسة المسيح. واليهوديّ الذي صار أقلِّيَّة في الجماعة لا ينسى أنَّه »من الفروع الطبيعيَّة« (رو 11: 20). فيستطيع أن يعود إلى »زيتونة المسيح« لأنَّ مكانه محفوظ على مثال الابن الضالّ. يكفي أن يعود ليكون له استقبال البنين في بيت أبيهم. والوثنيّ الذي اعتبرَ نفسه أفضل من اليهوديّ بعد أن حلَّ محلَّه، يخاف لأنَّه يمكن أن يحصل له ما حصل لليهوديّ: هذا سقط فما أبقى الله عليه. والوثنيّ يسقط فلا يبقي الله عليه (آ21-22). فإذا كان الله يجازي كلَّ واحد بحسب أعماله (رو 2: 6)، فليتبرَّر كلُّ إنسان. إنَّه يجازى »بالحياة الأبديَّة لمن يواظبون على العمل الصالح ويسعون إلى المجد والكرامة« (آ7). من؟ »الذي يعمل الخير من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين (آ10). وهو يجازي »بالغضب والسخط على المتمرِّدين الذين يرفضون الحقَّ وينقادون للباطل« (آ8)، كلَّ إنسان يعمل الشرَّ من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين« (آ9). أيُّها الكاهن، تعلَّم من الرسول في عملك الرعائيّ. اهتمَّ بالضعفاء، داوِ الخطأة لأنَّ المسيح جاء من أجلهم. احمل البشارة إلى المساكين لأنَّهم أوَّل من يكون لهم ملكوت السماء. الخاتمة حاولنا أن نقرأ الرسالة إلى رومة بما فيها من تعليم عقيديّ ونظرة أخلاقيَّة، وتعرَّفنا إلى شخص بولس الذي افتخر أنَّه »عبد« ليسوع المسيح، التصق به مدى الحياة، بل بعد هذه الحياة فقال: »وإن متُّ فذلك ربحٌ لي« (فل 1: 22). وعرف بولس رعيَّته وكشف الشرور التي فيها وحاول أن يقتلع الزؤان من حقل الربّ على أساس كلام الكتاب: »يزول الشرّ من بينكم« (تث 21: 21). من أجل هذا، قام بولس بمهمَّة الوعظ والإنذار والتوبيخ مشدِّدًا على المحبَّة الأخويَّة التي يجب أن تسود داخل الجماعة وخارجها، بين الإخوة والأخوات كما مع الذين في الخارج وإن كانوا من المضطهدين. قال الرسول: »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم بعض. فمن أحبَّ قريبه أتمَّ العمل بالشريعة« (رو 13: 8). تلك هي صورة بولس ونحن الكهنة نحاول أن نقتدي به كما هو اقتدى بالمسيح (1 كو 11: 1). |