رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
السفر والأسفار ما عرف العالمُ القديم السياحة كما نعرفها اليوم، ولكنّ عددًا من الناس كانوا يسافرون. وما يدلّ على ذلك الرسائل، الأخبار، الكتابات على جدران المعابد، والكتب التي تدلّ المسافر على طريقه وعلى المواضع التي يحب زيارتها. فالرومان، كما سبق وقلنا، تعلّقوا بأرضهم وما أرادوا أن يتركوها. ولكن منذ القرن الثاني ق. م.، اعتادوا على الانتقال إلى خارج بلادهم لضرورة سياسيّة أو اقتصاديّة، أو حبٌّا بالسفر. وإذا أخذنا بقول بْلِين الأصغر، كان هناك بعض »التفاخر، السنوبيسم« في القيام بأسفار خارج إيطالية. كتب في بداية القرن الثاني ب.م.: »هناك أمور عديدة في رومة وفي الجوار المباشرِ، لم نرَه أبداً ولم نسمع به، ولكنها تُعرَف وتصوَّر وتُزاد وتنال الأعجاب إن وُجدت في اليونان، في مصر، في آسية الصغرى أو في كل موضع يجتذب الزوّار والسيّاح«(31). يسافر وفدٌ من قبل رومة، أو والٍ من الولاة يرافقه الحرس »الإيطالي«، ولكنّ هذه الأسفار صارت مناسبة لاكتشاف عالم لم يعرفوا عنه سوى ما قرأوه في الكتب. مثلاً بول-اميل قهَر برسيه ملك مكدونية في معركة فدنة(32) سنة 167 ق.م.؛ وبعد ذلك قام برحلة سياحيّة إلى اليونان، »فجال في اليونان وزار جميع المواقع التي تتحدّث عنها الشهرة، ويُبرزها التقليد الشفهيّ، وتُجمّلها شهادةُ الذين رأوها«، بحسب كلام تيت ليف(33) . وهكذا مضى إلى دلفي، إلى معبد أبّولون(34)، وإلى هيكل جوبيتر ترو فونيوس في ليباديه(35). وراح إلى خلقيس حيث »شاهد أوريبي وأوباي(36)؛ فأوباي هذه الجزيرة الكبيرة »ترتبط بالأرض بواسطة جسر«. وزار أيضًا هيكل ديانا (إلاهة الصيد في أوليس) حيث ذُبحت إيفيجيني بيد والدها الملك أغاممنون قبل المضيّ إلى حرب طروادة. وزار أوروبوس مع »هيكلها القديم وهو موقع كلّه عذوبة بسبب الينابيع والسواقي«. ومرّ بشكل خاصّ في أثينة حيث أورد تيت ليف لائحة »بالأمور التي تستحقّ الزيارة«، والتي أعجب بها بول-إميل: »القلعة، أبنية الرؤساء الكبار، تماثيل الآلهة والرجال المشهورة بتنوّع المادة والفنّ، والأسوار التي تربط بيراي بالمدينة، والأحواض التي فيها تُصنع الفن«(37). سَفَرٌ مثلُ هذا خاصّ بالعظماء، لا بالفريق الرسوليّ؛ ففي البحر لا نجد مثل هذه السفن الفخمة، ولا الخطوط البحريّة المنظَّمة كما هو الأمر اليوم. مرّات كثيرة يصعد المسافر إلى »سفينة شحن«؛ فالسعر أرخص والراحة نادرة، أو إلى »سفينة حربيّة«. وهو لا يجد هناك غرفة خاصة. هو يقيم على خيمة، على جسر السفينة. يجب عليه أن يحمل طعامه وفراشه. والملاّحون لا يعطونه سوى الماء ليشرب، هذا إذا كان لا يدفع ثمنه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ينتقّل المسافر مرّات من سفينة إلى سفينة بحسب الظروف. مثلاً، في رحلة بولس إلى رومة. قال الراوي: »ركبنا سفينة (آتية) من أدراميت (قريبة من ترواس) متّجهة (= راجعة) إلى شواطئ آسية...« (أع 27: 2). انطلقنا من قيصريّة، »فوصلنا في اليوم الثاني إلى صيدا« (آ 3). توقّفٌ قصير، »ثمّ أبحرنا من هناك بمحاذاة قبرص لأنّ الريح كانت مخالفة لنا« (آ 4). وسارت السفينة قرب شواطئ تركيا الحالية: كيليكية، بمفيلية، ميسية. »ونزلنا إلى ميناء ميرة« (آ 5) (هي دمري في تركيا، على نهر ميرو المشهور بجمال موقعه). هنا يجب الانتقال من سفينة إلى سفينة. سجناء مربوطون بالجنود. »فوجد القائد يوليوس سفينة من الإسكندريّة مسافرة إلى إيطالية، فأصعدَنا إليها، وسارت بنا السفينة ببطء عدّة أيام« (آ 6-7). كانت النقليّات مؤمَّنة بعض الشيء، لأنّ مصر كانت ترسل قمحها إلى إيطالية. أمّا السفر في البرّ فهو في متناول الإنسان العاديّ، مع الطرقات الرومانيّة بجسورها وبالمحطّات التي يتوقّفون فيها. وكان »البريد« ينقل الموظّفين والجنود الكبار، ولا يحقّ له أن ينقل الأفراد ولو دفعوا المال. فالقانون يعاقبهم. »البريد« وحده يعطي الأمان في السفر. لهذا يحاول المسافر أن يؤمّن على حياته، فيرافق إحدى »القوافل« الرسميّة »من بعيد لبعيد«. ومن يدري؟ ربّما استفاد بولس من هذا الوضع، فحدّث الناس عن المسيح، كما فعل فيلبّس الذي سار قرب مركبة وزير ملكة الحبشة (أع 8: 26 ي). وأين يبيت المسافر؟ فإن هو بات في موضع ما، لا يستطيع أن يبقى أكثر من ثلاثة أيام. ومن هنا القول المأثور: »الضيف مثل السمك، بعد ثلاثة أيام بتطلع ريحتو«، أي يجب أن يترك المكان. ولكن ما العمل إذا كان »المسافر لا يستطيع أن يسافر«؟ أين يُقيم؟ في العراء؟ أو يبحث عن موضع آخر يستضيفه. ولا ننسَ أنّ المضافات كانت غالية الثمن، فكيف للفريق الرسوليّ الذين قالوا عن أنفسهم إنهم »فقراء«، إنّ »لا شيء لهم« (2 كو 6: 10)، أن ينزلوا حيث ينزل الأغنياء؟ هذا إذا كان السَفر في الصيف. أمّا في الشتاء، فالصعوبات والأخطار تتكاثر . تحدّثنا عمّا حصل لبولس ورفاقه حين أبحروا في الشتاء، وكيف تحطّمت سفينتُهم قرب مالطة. في هذا قال سينكيا، الفيلسوف الرومانيّ: »الإنسان سريع العطب، وهو لا يحتمل كلّ سماء« (بغيومها وشتائها). وهناك صعوبات أخرى يعرفها الغريب: يرفضه أهل البلد إذا كان من عِرق آخر، يسلبه، يقتله ولا من يدافع عنه. أمّا بولس فعرف بشكل خاصّ عداوة اليهود التي لاحقته من مدينة إلى مدينة، بل فرضت عليه مرّة أن يبدّل طريقه فيمضي في البرّ لا في البحر درءًا للخطر. منذ الانطلاقة الأولى، اليهود هم هنا. في أنطاكية بسيدية »اضطَّهدوا بولس ورفاقه وطردوهم من ديارهم« (أع 13: 50). في أيقونية استعدّوا لأن يرجموا المرسلين (أع 14: 5). في لسترة، كان الرجم (آ 19). ولم يكن الأمر أفضل في تسالونيكي (أع 17: 5 ي) وفي بيرية (آ 13). ونتخيّل أسفار بولس في مثل هذه الظروف، هذا مع العلم أنّ »الجمارك« توزّعت على الطرقات، فيؤخذ من المسافر ما يمكن أن يرغب فيه »الموظَّف الرومانيّ«، أو هو يدفع ويدفع، والويل له إن كان لا يحمل المال. بعد مثل هذه المحن، يعود المسافر الذي قطع المسافات الشاسعة في البرّ والبحر إلى بلده مثل »بولس« رجلاً علّمته الخبرةُ الكثيرَ، علّمته الفطنة والحذر بحيث يستطيع أن يعلّم قائد السفينة. ذاك ما فعله بولس حين نصح »القبطان«. قال: »كان يجب أن تسمعوا لي فلا تُبحروا من كريت، فتسلَموا من هذه الأخطار والخسائر« (أع 37: 21). الجميع خافوا، ارتعبوا. حاول البحّارة أن يهربوا على القوارب. والسجناء؟ بل نقتلهم لئلاّ يُفلتوا. تحلّى الرسول بالشجاعة وبُعْد النظر، فرتّب الأمور: »لن يفقد أحد منكم حياته، إلاّ أنّ السفينة وحدها تتحطّم« (آ 22)، »فأناشدكم أن تتشجّعوا«(38). قال العديدون إنّ بولس هو الذي فتح الطريق أمام المرسَلين في جميع العصور. علّمهم كيف يكتشفون البلاد التي ينطلقون إليها. في الظاهر، أسفاره لم تختلف عن أسفار الوجهاء في عصره؛ فهو لا يسير حيث الآخرون، بل يترك الفضول يفعل فعله. مثلاً، مضى إلى ليكونية، إلى »برابرة« يتكلّمون لغة لا يعرفها اليونان. وفي مالطة، كانت مغامرة خاصّة. ما بدا بولس »مبتدئًا« في فنّ السفر، بل عارفًا كلّ المعرفة؛ ففي الرحلة الرسوليّة الثانية، بدّل طريقه مرّتين ليمضي في النهاية باتجاه أوروبّا، ولكن هو عمل الروح. تحدّث سفرُ الأعمال عن »قيادة الروح القدس«. ولكنّ الروح يعمل معنا ويستفيد من مواهبنا. وكذا نقول في الرحلة إلى رومة. بدا هو قائدَ السفينة، أمّا القائد الرسميّ فبدا متقلّبًا لا يدري ماذا يعمل ولا كيف يتوجّه. في النهاية »رفعوا الشراع الصغير للريح« (أع 27: 40). إلى أين هم ماضون؟ لا يعرفون. أمّا بولس فيعرف: »في هذه الليلة جاءني ملاك من إلهي الذي أعبده وقال لي: لا تخف، يا بولس! فلا بدّ لك أن تحضر لدى القيصر« (آ 23). مسيرة بولس »محدّدة«، لا في المعنى المادّيّ، بل الروحيّ: انتقال من العالم اليهودي إلى المشرق الهلّينيّ. انطلاق من آسية إلى أوروبّا عبورًا في البحر ومخاطره. وفي النهاية، تركَ العالمَ اليونانيّ وتوجّه إلى رومة عاصمة الأمبراطوريّة التي منها سينطلق ليصل إلى اسبانية، كما قال في الرسالة إلى رومة. هَمُّ هذا الرسول أن يصل الإنجيل إلى كلّ مكان: البحر الأسود، هناك كان عمود أوّل يُسند الأرض. وفي جبل طارق (مضيق هرقل) العمود الثاني. وفي الليريكون حيث حدود العالم اليونانيّ؛ فهذا الذي لا يريد أن يبني على أساس غيره، ما أراد أيضًا أن يترك بقعة لم تصل إليها البشارة. حين »سافر« بولس، نظّم أسفاره بحسب اتجاهات مهَّد لها. ما كان ذلك المغامر الذي يترك الطريق تقوده. لا شكّ في أنّه توقّف في غلاطية دون أن يريد، لأنّ المرض أقعده. ولكنّه مع ذلك استفاد من هذا الظرف لكي يحمل الإنجيل إلى هذه المنطقة الجبليّة الوعرة. ولا كان ذاك الدارس والباحث عن الأمور الجديدة، ولا عن الآثار التي تركها الأقدمون. فتنقّلاته في آسية الصغرى واليونان اتّخذت شكل »الدورة« التقليديّة التي نعرفها اليوم. في الرحلة الأولى، انطلق من أنطاكية وعاد إلى أنطاكية. أرسلته الجماعة وزوّدته، فعاد وقدّم تقريرًا عن الرسالة: »كيف فتح الله باب الإيمان للأمم«! (أع 14: 27). وكذا نقول بالنسبة إلى أورشليم. سَفَرُ بولس من أجل الرسالة. وهو يسير خطوة خطوة ويعرف أن يتكيّف مع الظروف. بدأ فمضى إلى قبرص مراعاة لبرنابا ابن تلك الجزيرة. بعد ذلك، راح في آسية الصغرى. وتروي أعمال بولس وتقلا (المنحولة) أنّ برنابا عاد إلى قبرص على أثر الخلاف بينه وبين بولس. أخذ الطرق الرومانيّة، ونزل حيث الأصحاب يستقبلونه. مضى إلى المدن ومنها شعّ: من أفسس شعّ في آسية الصغرى. من كورنتوس بشّر أخائية... وفي النهاية حين صار شيخًا، خفّف الأسفار كما فعل في أفسس حيث لبث ثلاث سنوات. فالسَفَر هو في خدمة الرسالة وليس العكس، وإلاّ تحوّل الرسول إلى كشّاف في رحلة علميّة على مثال ما يفعل الباحثون الذين يمضون إلى القبائل البدائيّة(39). الخاتمــة ما كان بولس في أورشليم ليبقى معتزلاً فيها يأتي كلّ يوم إلى الهيكل مثل الرسل (أع 3: 1). ولا كان من أثينة ليسجن نفسه كما فعل سقراط، ولا كان من رومة ليشابه سينيكا أو شيشرون. هو من الشتات اليهوديّ، والسَفَرُ في دمه. لا يستطيع أن يتوقّف عن الانطلاق. وفي كلّ سفرة يفتح آفاقاً جديدة، مثل موج البحر الذي يتقدّم ويتقدّم حتى يصل إلى الشاطئ. ولماذا يخاف من السفر وهو متعدّد اللغات: اليونانية، اللاتينية، العبرية، الآرامية؟ ولماذا يخاف وهو ابن الجامعة الطرسوسيّة التي فتحته على الفلسفة والشعر، فاجتاح الأثينيّين في عقر دارهم، وهناك كلّمهم عن الإله المجهول؟ مع اليهود هو يهوديّ يعرف الشريعة وتفاسيرها، ومع الأمم هو أمميّ. عرف القوانين الرومانيّة فدافع عن نفسه، وعرف بعضَ الطبّ الذي مارسه في مالطة. وتكيّف مع المجموعات المختلفة. في فيلبّي، لا مجمع لليهود، فمضى إلى شاطئ النهر. في أنطاكية بسيدية عددٌ كبير من اليهود، فمضى إليهم. في أثينة، وقف في الأريوباغوس. في السفينة حمل الإنجيل، وكذلك على الطرقات الطويلة، فشابه المسيح الذي صوّره الإنجيليّون حاضرًا في المجمع، في البيت، في الساحة العامّة، في الهيكل. لا مكان مغلقًا على الإنجيل. وفي النهاية، مَن سافر؟ لا شكّ بولس. ولكن في عمق أعمال الرسل هي »الكلمة« مضت من أورشليم فوصلت إلى أقاصي الأرض، وهي تتواصل، مع أنّ بولس وُضع في السجن، ومات بقطع الرأس على طريق أوسيتا... ولا شيء يوقفها حتّى مجيء المسيح الثاني. |
|