رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
غاية كتابته عاش ابن سيراخ في عالم ساده الفكر والثقافة الهيلينية. إذ لم يكن اليهود وَهُم في وطنهم أحرارًا سياسيًا، إنما كان يسيطر على مجتمعهم الأفكار الهيلينية سواء كانوا تحت سيطرة مصر أو سوريا. كانت أرض الموعد تُعانِي من الصراعات سواء في عصر البطالمة أو السلوقيين. كان البطالمة غالبًا ما يتبنُّون النظام الفارسي في الإدارة، حيث كان رئيس الكهنة اليهودي ليس قائدًا روحيًا فحسب، بل ويشبه أميرًا يجمع الجزية لحساب مصر. خضع النصيب الأكبر من اليهود ودفعوا الجزية للعرش المصري فعاشوا في سلامٍ نسبي، وانتفعوا بخبرة المصريين في الزراعة والتجارة. أما بعد خضوعهم للسلوقيين، فقد رحَّب رئيس الكهنة سمعان الثاني بالسوريين، فساعدوه على إصلاح الهيكل. عاصر ابن سيراخ الصراع المُرّ بين البطالمة Ptolemy والسلوقيين Seleucid. كل من الفريقين يودّ السيطرة على إسرائيل. ولم يكن الفلاح البسيط أو العامل يشغله هذا الصراع مع أحد الفريقين كما يظهر في كتابات يوسيفوس المؤرخ اليهودي وهو يستعرض تاريخ أسرة (طوبيا) Tobiads التي صار لها نفوذ قوي مع غنى، تحالفت مع القادة من الأمم، فما يشغلهم كسب ثقتهم وتقديرهم لهم على حساب حفظ التوراة[16]. كانت الحركة الهيلينية في إسرائيل بطيئة في القرن الثالث ق.م.، لكنها تزايدت بسرعة في بداية القرن الثاني ق.م. لتبنِّي الثقافة الهيلينية. كان أسلاف ابن سيراخ مشغولين بالتقاليد الخاصة بالحكمة، يُعَلِّمون أبناءهم كيف يسلكون في العالم من أجل الكرامة والسلوك في السياسة والأعمال الحرة، وبهذا يجدون سعادتهم. وكان دور ابن سيراخ هو إقناع تلاميذه أن هذه الأهداف لن تتحقَّق إلاَّ بحفظ العهد مع إله إسرائيل. لم يُعالِج هذا الأمر بضيق أفقٍ، إنما أَوْضَح أن تحقيق أهدافهم يحتاج إلى التعرُّف الحقيقي على الأسفار المقدسة وحفظ الوصية الإلهية بروح التقوى ومخافة الربّ. ما أحزن سيراخ تأثُّر إيمان بعض اليهود بالفكر الهيليني. غير أنه لم يهدف إلى مهاجمة الثقافة الهيلينية، لأنه هو نفسه درسها واستخدمها، فيما لا تتعارض مع الإيمان وتقليد اليهود. إنما أراد أن يؤكد لليهود كما للأمم أن الحكمة الحقيقية هي من عند الله[17]. أدرك ابن سيراخ الخطر الذي قام بسبب المجابهة بين الحضارة اليهودية والحضارة الهيلينية. فكتب يُدافِع عن الثقافة اليهودية الدينية والحضارية وعن نظرته إلى الله والعالم واختيار الله لشعبه. أراد سيراخ أن يؤكد لليهود كما للأمم أن الحكمة الحقيقية انطلقت أولًا من أورشليم وليس من أثينا. هذا وما كان يشغل ابن سيراخ تعزيز الإيمان بإله إسرائيل والتقاليد اليهودية، غير أن بعض عباراته عن الصداقة، ونظرته بين الجنسين الذكور والإناث جاءت متناغمة مع بعض الآراء الهيلينية، وإن كانت تحمل مسحة إيمانية. ما يشغله أن يرى الإنسان سالكًا بروح الحكمة (50: 27)، وأن ينمو فيها، وهذا يتطلَّب الالتصاق بالشريعة الإلهية. حاول أن يقنع أبناء دينه أن شعب إسرائيل، خاصة الذين في الشتات، لديهم الحكمة الحقيقية الموجودة في الشريعة، وبالتالي لا يحتاجون إلى مكتسبات الفكر والحضارة اليونانية التي تحمل جزءًا من الحق لكن يشوبه بعض الباطل. يؤكد على الشريعة واختيار الله لإسرائيل بكونه شعبه المحبوب لديه. ويُوَضِّح أن بلوغ الحكمة من خلال الاستماع لرجال الله الحكماء وتنفيذ الوصية (6: 32-37). يُعَدُّ أحد ملامح سفره أنه يحتوي على عنصرين أساسيين، أولهما دراسة الكتاب المقدس وتفسيره وحفظ التقاليد، وثانيهما الأخذ بجدية التمتُّع بالحياة، كما يُقَدِّمها الكتاب المقدس. كتب سيراخ لطبقة الحكماء اليهود، الذين اهتموا بالفلسفة مع تجاهلهم للسلوك بحسب الشريعة خاصة في مصر، الذين تولُّوا مناصب هامة بجانب الكهنة والأنبياء "لأن الشريعة لا تبيد (تختفي) عن الكاهن، ولا المشورة عن الحكيم، ولا الكلمة عن النبي" (إر 8: 18). هذا العمل الذي صار نافعًا لليهود في كل الشتات. يرى البعض أن يشوع بن سيراخ استطاع بحياته وفكره المقدس أن يسد الفجوة بين الحكماء القدامى أصحاب الأمثال من جهة والربيين (كُتَّاب التلمود)، مُعَلِّمًا أن الحكمة تطورت من خلال الخبرة العملية. كما قدَّم الله كمصدر لكل حكمة، وأَكَّد بروح الله أن بدء الحكمة مخافة الرب. "الحِكْمَةُ بَنَتْ بيتها. نحتتْ أعمدتها السَّبْعَة" (أم 9: 1) ويُفَسِّرها مثلهم، وهذا يعني معرفة الله كخالقٍ وسيدٍ، والتعهُّد له بتبعيته والثقة فيه وتمجيده، وينتهي كل ذلك إلى حياة التقوى الشخصية، كما يؤكد أن الإنسان الذي له هذه الحكمة يقتني السعادة والخير والحياة الطويلة[18]. هذا العمل هو جسر نعبر به على فهم بعض تعاليم الربّيين (المُعَلِّمين اليهود) القدماء كما يُدخِلنا في جو العناصر الحكميّة التي نجدها في العهد الجديد. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
لغة كتابة سفر ابن سيراخ في الكتاب المقدس |
مكات كتابة سفر ابن سيراخ في الكتاب المقدس |
تاريخ كتابة سفر ابن سيراخ في الكتاب المقدس |
غاية كتابة سفر أرميا في الكتاب المقدس |
أماكن كتابة الكتاب المقدس |