رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
السكنى في بابل [تقطن النفس بابل عندما تكون قلقة ومضطربة، حينما يرحل منها السلام، فتكون مضطرة للمصارعة مع الخطية ومواجهة حرب الشهوات والوقوف بمفردها في وسط ضجيج الأسلحة التي تحاصرها من كل جهة؛ إلى مثل تلك النفس يوجه النبي كلماته قائلًا: "اهربوا من وسط بابل وانجوا كل واحدٍ بنفسه". طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد قائلًا: "كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ (مز 137: 4). مادمنا في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تُستخدم في توصيل النغمات للرب معلقة بدون استخدام، لذلك يقول النبي "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)"]. التوقف عن التسبيح في بابل يرى العلامة أوريجينوس أن الله يطالبنا بالخروج من بابل والانطلاق إلى أورشليم، لأنه في بابل تُعلق قيثارتنا على الصفصاف فلا يمكننا التسبيح لله بتسبحة جديدة للرب في أرض غريبة، إذ نفقد سلامنا السماوي ونُحرم من الفرح الداخلي. لهذا يليق بنا أن نهرب إلى أورشليم لنسترد قيثارات قلوبنا ونترنم لله لا بألسنتنا فحسب، بل بكل كياننا حيث تتحول مشاعرنا وأحاسيسنا وطاقاتنا إلى أوتار روحية تُخرج سيمفونية حب، تتجاوب مع حب الله الفائق. يقول: [طوال وجودنا في بابل، تظل قيثاراتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث "رؤية السلام" ترجع القيثارات التي كانت قبلًا معلقة بلا استخدام مرة أخرى إلى أيدينا، ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله. كما قلنا في البداية، تكون النفس موجودة دائمًا في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية (الروحية). مع ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضًا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في "دان" التي تشغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم. من جهة أخرى، الإنسان الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر (تأويليًا). كما أن الموجودين في اليهودية لا يسكنون كلهم في مكانٍ واحدٍ، فيسكن أحدهم في أورشليم، وآخر في دان، وآخر في نفتالي، وآخر في أرض جاد؛ كذلك أيضًا الذين في مصر لا يسكنون كلهم في أماكنٍ سيئة بنفس الدرجة: منهم من يسكن في تانيس، ومنهم من يسكنٍ في نوف أو في سين أو في فيبستة (حز 30: 13-18). فإذا كان القارئ إنسانًا روحيًا يحكم في كل شيء دون أن يُحكم فيه من أحد (1 كو 15: 2)، يستطيع أن يجد تفسيرًا تأويليًا لأسماء المواقع الموجودة في مصر والتي ذكرها حزقيال النبي في نبوته، فلا يكتفي فقط بمعرفة تفسير أسماء الأمم مثل بابل ومصر واليهودية، وإنما يهتم أيضًا بمعرفة ما هو المقصود من خلال تلك الأسماء الصغيرة. "من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟!" (هو 14: 9)]. الهروب السريع من بابل [هناك تساؤل آخر: لماذا تُعطَى كلمة الرب للذين في بابل هذا الأمر: "اهربوا من وسط بابل"؟ لا تتركوها بالتدريج، بل اهربوا منها بسرعة، لأن الهروب يعني الجري أثناء الخروج. "اهربوا من وسط بابل". هذه الكلمات موجهة إلى كل النفوس "المضطربة" بأمور هذا العالم وشهواته الرديئة المختلفة. فماذا إذا يعني أمر الرب؟ لم يقل: "اخرجوا من وسط بابل" لأن الخروج يمكن أن يحدث بالتدريج، بل قال: "اهربوا من وسط بابل"، في الواقع قوله: "من وسط" بابل، دفعني للبحث عن المقصود بتلك الكلمة. فقد يحدث أن يكون إنسان موجودًا في أطراف بابل، وبالتالي يكون بطريقة أو بأخرى خارجها. أما الوجود في وسط بابل فهو شيء آخر، لأن المسافة من الوسط إلىأي طرف من أطراف بابل تكون متساوية: أي أن الوجود في مركز بابل هو مثل وسط قلب أي حيوان. ففي الواقع القلب هو الجزء المتوسط في جسم أي حيوان، كما أن وسط الأرض يُسمى في إنجيل متى "قلب الأرض" (مت 12: 40)؛ إذًا يلزم على الخطاة أن يهربوا من وسط بابل أي من قلبها. اهربوا إذًا من وسط بابل لكي إذا ما تركتم وسطها تصبحون بعد ذلك في أطراف أرضها. حتى لا يكون هذا الكلام غامضًا أوضحه أكثر: الإنسان الغارق في الشرور والخطايا هو في وسط بابل؛ أما الذي يبتدئ تدريجيًا في ترك الخطية متجهًا نحو الخير ولم يحصل بعد على الفضائل، إنما يبدأ في الحصول على الاشتياق للفضائل، فبالرغم من هروبه من وسط بابل إلا أنه لم يتركها كلية]. نجاة من جديد يقول القديس جيروم في رسالته إلى إستوخيوم إن والدتها قد نفذت هذه الوصية الإلهية فخرجت من أرضها لتستريح مع مخلصها. يقول العلامة أوريجينوس: [ثم أضاف قائلًا: "وانجوا (من جديد) كل واحدٍ بنفسه". يجب أولًا أن نهرب من وسط بابل، ثم بعد ذلك ننجو من جديد كل واحدٍ بنفسه. لم يتحدث هنا عن النجاة فقط، بل عن النجاة من جديد، هذه الإضافة تحوى سرًا؛ تعني أننا قد ذقنا الخلاص قبل ذلك، لكن إذ حُرمنا منه بسبب خطايانا، أدى هذا إلى مجيئنا إلى بابل. لهذا يجب أن ينجو كل واحدٍ منا بنفسه من جديد، لكي نبدأ في استعادة ما قد فقدناه، وبحسب كلمات بطرس الرسول: "نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم" (1 بط 1: 9-10)]. الفرق بين الطرد والرفض [يوجد أمر ثالث: "لا تُطردوا بإثمها" إذا كان أحد يعيش في إثم بابل ولا يقدم توبة يصير "هلاكه" أمرًا طبيعيًا. لاحظ كيف أن العهد القديم رغم أنه مُترجم من العبرية إلى اليونانية، إلا أنه قد نجح جدًا في التعبير عن الكلمات وتوضيح الفروق بينها إلى حدٍ كبيرٍ. قال على سبيل المثال: "اخترت أن أصير مرفوضًا (مطروحًا أو مُلقى) في بيت إلهي إلخ." (مز 10: 84)، فهو لم يقل: "اخترت أن أصير مطرودًا". نفس الشيء بالنسبة للآية التي نفسرها، فهي لم تقل: "لا تصيروا مرفوضين بإثمها" بل: "لا تصيروا مطرودين بإثمها". الطرد شيء والرفض شيء آخرٍ. الإنسان المُحتقر من الناس والمُهمل منهم، ليس مطرودًا وإنما مرفوض. أيضًا الإنسان الذي يوجد باستمرار خارج دائرة الخلاص مطرود لأنه لا ينعم بالتطويب الإلهي. لكي تفهم الفرق بين الكلمتين، يمكنك تجميع كل النصوص الموجودة في الكتاب المقدس والتي تحتوي على هاتين الكلمتين، والمقارنة بينهما]. التأديب الإلهي علامة الحب والاهتمام ["لأن هذا زمان انتقام الرب". يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات تُوقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر على احتمالها. فعندما لا يُعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: "لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن" (هو 4: 14). لا يعاقب الله الخطاة بسبب غضبه عليهم كما يظن البعض، أو بمعنى آخر عندما يوقع الله عقابًا على إنسانٍ خاطئ، لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن غضب الله على الإنسان يظهر في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أن القصد هو إصلاحه وتقويمه. يقول داود: "يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك" (مز 6: 1). إن أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: "أدبني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني" (إر 24: 10). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، حينما يخطئ أبناء السيد المسيح يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: "إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 30-33). من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يُعاقب حتى الآن يكون ذلك علامة عدم استحقاقه للعقاب بعد]. "هو يؤدي لها جزاءها" [لن يوقع الله عقابه وجزاءه على بابل من خلال خدامه، بل هو بنفسه يؤدي لها جزاءها. أريد أن أضيف شيئًا على ذلك، وهو أن الله لا يُعاقب الخاطئ بنفسه، لكنه أحيانًا يرسل وسطاء، سواء لتنفيذ العقاب، أو لمنح الشفاء من خلال الألم كما نرى في المزامير: "أرسل عليه حمو غضبه سخطًا ورجزًا وضيقًا (عن طريق) جيش ملائكة أشرار" (مز 78: 49). بالنسبة لهؤلاء لم يؤدِ لهم الله جزاءهم بنفسه، لكنه استعان بملائكة أشرار ليقوموا بتنفيذ مهمة العقاب. قد يستعين الرب بملائكة أطهار لمعاقبة بعض الناس. لكن يحدث في بعض الأحيان أن الرب يرفض الاستعانة بهؤلاء الوسطاء، ويوقع العقوبات بنفسه، كما هو الحال هنا بالنسبة لبابل. عندما تكون الجروح طفيفة وقابلة للشفاء السريع، يكتفي الطبيب بإرسال تلميذه أو مساعده يعالج المريض. يحدث أحيانًا أن يكون المريض محتاجًا إلى بتر أحد أعضائه وإلى استخدام المشرط، مع ذلك لا يذهب إليه الطبيب بنفسه، بل يختار واحدًا من مساعديه قادرًا على القيام بهذا العمل، فيرسله ليعالج المريض. لكن حينما تكون الجروح غير قابلة للشفاء، ويكون المرض قد انتشر في جميع أجزاء الجسم، بحيث يصل المريض إلى درجة كبيرة من الخطورة، هنا لا يتطلب الأمر يديّ التلميذ أو المساعد، إنما يحتاج إلى أيدي المعلم نفسه، فيقوم الطبيب بالتصدي لهذا الجرح المميت بنفسه. بالمثل حينما تكون الخطايا صغيرة، لا يوقع الله على الخطاة عقابهم بنفسه، لكنه يستخدم الوسطاء، أما إذا كانت الخطية خطيرة جدًا كما هو الحال هنا بالنسبة لمدينة بابل، يسرع الرب بتوقيع الجزاء عليها بنفسه]. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
إرميا النبي | قضاء بابل |
إرميا النبي | يقدم النبي قضاء ضد بابل |
إرميا النبي | قضاء على بابل |
إرميا النبي | قضاء من بابل |
إرميا النبي | كان من الحكمة ألا يذهب إرميا مع المسبيين في بابل |