رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مَثلُ الوَزَنات ومَسْؤوُلِيَّة استثمارها النَّص الإنجيلي (متى 25: 14 -30) 14 ((فمَثَلُ ذَلِكَ كمَثَلِ رَجلٍ أَرادَ السَّفَر، فدعا خَدَمَه وسَلَّمَ إِلَيهِم أَموالَه. 15 فأَعْطى أَحَدَهم خَمْس وَزَنات والثَّانيَ وَزْنَتَين والآخَرَ وَزْنَة واحدة، كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه، وسافَر. 16 فأَسرَعَ الَّذي أَخَذَ الوَزَنات الخَمسَ إلى المُتاجَرَةِ بِها فَربِحَ خَمسَ وَزَنات غَيرَها. 17 وكذلِكَ الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَيْن فرَبِحَ وَزْنَتَينِ غَيرَهُما. 18 وأَمَّا الَّذي أَخذَ الوَزْنَة الواحِدة، فإِنَّه ذهَبَ وحفَرَ حُفرَةً في الأَرض ودَفَنَ مالَ سيِّدِه. 19 وبَعدَ مُدَّةٍ طويلة، رَجَعَ سَيِّدُ أُولئِكَ الخَدَمِ وحاسَبَهم. 20 فَدَنا الَّذي أَخَذَ الوَزَنات الخَمْس، وأَدَّى معَها خَمْسَ وَزَنات وقال: ((يا سيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ خَمسَ وَزَنات، فإِليكَ معَها خَمسَ وَزَنات رَبِحتُها)). 21 فقالَ له سَيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ)). 22 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَينِ فقال: ((يا سَيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ وَزْنَتَين، فإِليكَ معَهُما وَزْنَتَينِ رَبِحتُهما)). 23 فقالَ له سيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ)). 24 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَة الواحِدَةَ فقال: ((يا سَيِّد، عَرفتُكَ رَجُلاً شَديداً تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ، وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ، 25 فخِفتُ وذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأرض، فإِليكَ مالَك)). 26 فأَجابَه سَيِّدُه: ((أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير الكَسْلانُ! عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ، 27 فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف، وكُنتُ في عَودَتي أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدَة. 28 فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة وأَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَنات العَشْر: 29 لأَنَّ كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض. ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له. 30 وذلكَ الخادِمُ الَّذي لا خَيرَ فيه، أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان. المقدمة ضرب يسوع مَثلُ الوَزَنات (متى 25: 14-30) لآفتًا انتباهنا إلى هَدف أخْلاقي، وهو المَسْؤوُلِيَّة في استثمار مواهبنا لدخول مَلَكُوت السَّماوات. ويُشدِّد هذا المَثل على خطورة عدم الأمانة والمَسْؤوُلِيَّة في استخدام المَواهب سواء كانت مؤهّلات أو قُدُرات أو طَاقات أو إمكانيَّات أو فرص مُتاحة بين أيدينا. إذ يأتي يسوع "كالسَّيد الدَّيان" الذي يطلب منَّا أن نُقدِّم له الحِساب أواخر الأيام ونهاية الحياة عند انقضاء الدَّهر. أنَّه تعالى يُحاسب كلَّ شخص بمفرده. لذلك يتوجب على المُؤمن الاجتهاد وتحمُّل المَسْؤوُلِيَّة والانتظار للحِساب عن الوَزَنات التي أعطاه إيَّاها الله. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النَّص الإنجيلي (متى 25: 14-30) 14 "فمَثَلُ ذَلِكَ كمَثَلِ رَجلٍ أَرادَ السَّفَر، فدعا خَدَمَه وسَلَّمَ إِلَيهِم أَموالَه تشير عبارة "فمَثَلُ ذَلِكَ" في الأصل اليوناني َ" Ὥσπερ γὰρ (معناها كإنما) إلى إضافة تربط سياق المثل الآتي (مثل الوَزَنات) بالمَثَل السَّابق (مثل العذارى) حيث انه يدور على نفس المِحور. ولكن هنا يتَّجه المَثَل نحو الأمَانة في السَّهر لحساب السَّيد. إنَّ المسيح يعامل النَّاس في مَلَكُوته معاملة هذا السَّيد لخَدمه. أمَّا عبارة "رَجلٍ أَرادَ السَّفَر" فتشير إلى رَجل مسافر الذي هو صاحب المَال. وهذا الرَّجُل يُرمز إليه بالسَّيد المسيح. إذ أنَّ يسوع سبق وشبّه نفسه بإنسان مُسافر إلى ارض بعيدة (لوقا 19: 12). أمَّا عبارة "السَّفَر" فتشير إلى رحلة الحياة. في هذا المثل، يسوع المسيح هو الذي سافر عند صعوده إلى السَّماء عام 33مٍ "لِيَحصُلَ على المُلْكِ ثُمَّ يَعود" (لوقا 19: 12)، وينتظره تلاميذه على الأرض إلى يوم مجيئه ليُجازي الأمناء ويُعاقب الخَونة. أمَّا عبارة "خَدَمَه" في الأصِل اليُوناني δούλους فتشير إلى وكلاء أعماله الذين يتعاطون ما يريدونه من الأعمال التِّجارية براس المال الذي أعطاهم إياه سَيِّدهم شريطة أن يعطوه قدرًا مُعيَّنًا من الرِّبْح، والمُراد بهؤلاء الخَدم رسل المسيح والمُبشِّرين باسمه أي كنيسته على الأرض. أمَّا عبارة "فدعا خَدَمَه" إلى مبادرة السيَّد الذي بقراره وبفضله يربط الخدمة بالتزام الأمانة. أمَّا عبارة "سَلَّمَ إِلَيهِم" فتشير إلى توزيع السَّيد جميع أمواله على خَدَمه في أيد أمينة، بدون إعطائهم تعليمات أو أوامر، بل وضع ثقته بهم بدون فحص مسبق مُتوقعًا، منهم أن يتاجروا بها في غيابه، وحمَّلهم مَسْؤوُلِيَّة إدارة أمواله. ويعلق التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة "في البدء، سلّم الله الأرض ومواردها لإدارة بني البشر العامّة كي يؤمّنوا العِناية بها ويَدبّروا شؤونها بعملهم ويستفيدوا من خيراتها" (تكوين 1: 26-29) " (2402-2405)؛ وفي المعنى الحصري يدل هؤلاء الخَدَم على تلاميذ يسوع الذين أوكلهم تفويضًا قائلًا لهم "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس، وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العَالَم" (متى 28: 19-20)، ويُعلق القديس ايرونيموس "إنّ هذا المالك هو بالتَّأكيد المسيح. بعد قيامته، فيما كان على وشك الصعود منتصرًا نحو الآب، دعا الرُّسل وسلّمهم عقيدة الإنجيل، مُعطيًا أحدهم أكثر، وأحدهم أقلّ، لا كثيرًا ولا قليلاً، لكن وفقًا لقدرات أولئك الذين كانوا يتلقّونها". أمَّا عبارة " أَموالَه " فتشير إلى ثمانٍ وَزَنات، وهي قيمة طائلة في تلك الأيام، وترمز على المواهب وخاصة الإنجيل الطاهر، والبركات الرُّوحية والمواهب الأخرى التي أعطاها الرَّبّ إلى كنيسته بجملتها. هذه الوَزَنات سلَّمها الله لكل المَسيحيِّين فصاروا جميعهم وُكلاءه، كما جاء في تعليم بولس الرسول " فقَد وَرَدَ في الكِتاب: ((صَعِدَ إلى العُلى فأَخَذَ أَسْرى وأَعْطى النَّاسَ العَطايا)) وهو الَّذي أَعْطى بَعضَهم أَن يَكونوا رُسُلاً وبَعضَهم أَنبِياء وبَعضَهم مُبَشِّرين وبَعضَهم رُعاةً ومُعلِّمين، لِيَجعَلَ القِدِّيسينَ أَهْلاً لِلقِيامِ بِالخِدمَة لِبِناءِ جَسَدِ المسيح" (أفسس 4: 8-12). 15 فأَعْطى أَحَدَهم خَمسَ وَزَنات والثَّانيَ وَزْنَتَين والآخَرَ وَزْنَة واحدة، كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه، وسافَر. تشير عبارة "فأَعْطى" في الأصل اليوناني ἔδωκεν إلى تقديم السَّيد لخَدَمه دَيْنا لا هبة، وكل من زاد قدرة زاد مَسْؤوُلِيَّة، كما جاء في أقوال يسوع " مَن أُعطِيَ كثيرًا يُطلَبُ مِنهُ الكَثير، ومَن أُودِعَ كثيراَ يُطالَبُ بِأَكثَرَ مِنه" (لوقا 12: 48). أمَّا عبارة "وَزَنات" في الأصل اليوناني τάλαντα (معناها الموهبة والطاقة) فتشير إلى المواهب، فمنها الجَسديَّة والنَّفسيَّة: كالصحَّة، والذَّكاء، وقوَّة الإرادة، ومنها الاجتماعيَّة: كالقدرة على الإداريّة، وتحمُّل المَسْؤوُلِيَّة، ومنها الرُّوحيَّة، كالنِّعْمَة المقدِّسة، وفضائل الإيمَان والمحبَّة والعَدل والشَّجاعة، وفرص العمل الخَير التي يهبها الله بسخاء لشعبه. ويذكر المثل ثماني وَزَنات تُمثل القيم النَّقديَّة حيث كانت قيمة الوَزْنَة الواحدة نحو 25 كلغم من الذَّهب أو 30 كلغم من الفِضَّة، وفي الحِسابات النَّقدية تُساوي نحو 60000 دِرهم، وبالتَّالي تمثل الوَزْنَة في الإنجيل نحو 30 سنةٍ من شغل عامل يومي. وأمَّا لوقا الإنجيلي فأعطى السَّيد خَدَمه "أمْناء" في الأصل اليوناني μνᾶ، وهي وزن سامي يُساوي 1/60 من الوَزْنَة، والوَزْنَة تعادل 60 منة أي 60000 دينار؛ وفي الحسابات النَّقدية تساوي 100 درهم (لوقا 7: 41)، بما يعادل اجر عامل في 3 شهور. كل واحد نال الكميَّة عينها "دَعا عَشرَةَ خَدَم له، وأَعْطاهم عَشرَةَ أَمْناء"(لوقا 19: 13). ومن هنا نستنتج أنَّ الوَزْنَة في ذلك الزمان لم تكن قطعة نقد واحدة بل مبلغًا كبيرًا من المال. والوزنات ترمز هنا إلى موارد للحياة، مثل الوقت والمال والقدرات والسُّلطة وقتنا وإمكانياتنا العقلية والجسدية. أمَّا عبارة "خَمسَ وَزَنات" فتساوي 30000 دينارًا فإذا كان الدِّينار يشكّل أساسًا أجرة العامل في يوم عمل، وهذا المبلغ يدلُّ على ثقة السَّيد في الخَادِم. والوَزَنات الخَمس تذكّرنا بالعهد القديم، بالتَّوراة ذات الكتب الخَمسة. وهي شريعة موسى التي أُعطيت للإنسان للوصول إلى الخَلاص مع سائر شعب الله. أمَّا عبارة "وَزْنَتَين" فتشير إلى مبلغ يقارب 12000 دينارًا. الوزنتان هما رمز إلى العهدين: القديم والجديد، حيث انه من خلال العهد القديم دخل الله في علاقة مع شعبه في عهد حبّ أبدّي، وأُصبح الله من خلاله إله إسرائيل الأوحد، وأُصبح الشَّعب شعب الله المختار، أي الشَّعب الذي وضعه الله في خدمة خلاص الشَّعوب كلّها وإيصال كلمة الحياة إليهم. وفي العهد الجديد عاد الرَّبّ مرّة ثانية لتجديد عهده مع شعبه وإعادتهم إلى صداقتهم وإلى حبّهم الأوّل معه فأرسل ابنه متجسّدًا من مريم العذراء. أمَّا عبارة " وَزْنَة واحدة " فتشير إلى قيمة طائلة نحو 25 كلغم من الذهب. وما طُلب من الخَدم الثَّلاثة هو الاستمرار بما سَلّم إليهم سيّدُهم من مال. والوَزْنَة هنا تدل على المواهب الجَسدية والنَّفسية والاجتماعية والرُّوحية من أي نوع كانت. وهي ترمز إلى الكنيسة الواحدة، جسد المسيح السَّرّي التي تعطي الخَلاص لبني البشر، لأنّها الأمّ والمعلّمة، التي تحتوي على الأسرار، وتسعى لأن تكون في خدمة الإنسان، وكلّ إنسان. أمَّا عبارة "كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه" فتشير إلى صاحب المال الذي لم يُوزّع أمواله بالتَّساوي على ثلاثة من خَدَمه، لكن لكلِّ واحدٍ الوَزْنَة التي هو قادرٌ على التَّعامل معها بحسب قدراته وكفاءاته وإمكانياته الطبيعية والذهنية، ومواهبه ومحدوديّته ووقته ليستثمرها ويتصرف بها بما له من الحِكْمَة والتَّدبير إلى حين عودته. فلكل واحد أُعطيت وَزْنَة على قدر طاقته كي يُضاعفها. "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا " (البقرة 286). فلا يضيق عليها ولا يجهدها، ولا يريد أن يُرهق الضعيف، ولا أن يُبخس حق القوي، بل قام بمراعاة القدرات الفردية، لأنه يعرف ما يناسب كل عضو للخلاص وخدمة الكنيسة. تؤمِنُ الكنيسة بأنَّ الله أعطى كل واحد منَّا وَزَنات تتكافا تمامًا مع طاقته ومقدرته ومواهبه لخدمة خلاصه وخلاص الآخرين من أجل مَلَكُوته الأبدي، كما جاء في تعليم بولس الرُّسول "كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعْمَة على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح"(أفسس 4: 7). ويوكّد ذلك مرقس الإنجيلي "فَوَّضَ الأَمرَ إلى خَدَمِه، كُلُّ واحدٍ وعمَلُه "(مرقس 13: 34). فلم يأخذ أحد منهم أكثر أو أقل مِمَّا يستطيع استثماره. زوَّدهم بمواهب مختلفة حسب إرادته (1قورنتس 12: 11). وفي حالة فشل الخَادِم في المُهمَّة التي أؤكلها إليه سَيِّده، فلن يكون عذره أنه كُلّف بأكثر من طاقته، لكن فشله يأتي بسبب كسله أولا ومبالاته وعدم مسؤوليته أو بغضه لسَيِّده. والله لا يضع على أحد مَسْؤوُلِيَّة فوق طاقته ولا ينتظر من أحد أكثر مما أعطاه ولا يترك أحدًا من شعبه بلا وَزْنَة ولا مَسْؤوُلِيَّة. وطُلب من هؤلاء الثَّلاثة الخَدم استثمار ما سُلَّم إليهم سَيِّدهم من المال. فالوَزَنات ليست لهم بل سُلمت إليهم وديعة في أيديهم: الأموال، الأشخاص، الأحداث. وهكذا تدل الوَزَنات على مواهب الله للنَّاس، وما آتاهم من فضله تعالى. والسَّيد يحاسب على مستوى قدر هذه الطاقة تمامًا. والمنح تختلف في كميتها: "خَمسَ وَزَنات ووَزْنَتَين ووَزْنَة واحدة ". فما قدّمه الله لهم من مواهب لم يقدّمها اعتباطًا، وإنما يعرف ما يناسب كل عضو لخلاصه. وهذا يدفعنا إلى عدم الشَّعور بالتَّكبُّر على أصحاب المواهب الأقل ولا شعور حسد أصحاب المواهب الأكثر، إنّما يتوجب علينا أن نشكر واهب المواهب. القضية ليست كم لنا، إنَّما ماذا نفعل بمالنا أو وَزَناتنا. أما عبارة "سافَر" فتشير إلى غياب السَّيد الذي يدل على استقلالنا ومسؤوليتنا ومبادراتنا او خوفنا. ترك كل واحد بحريته. ذهب السَّيد وترك الخَدم لفترة من الزَّمن ولا بدَّ لهم ان يكونوا أمناء ومُثمرين خلال غيابه عنهم، فيقدموا خدمة بكل ما لديهم من قوة ومحبة، كما قال بولس الرُّسول: "ومَهْما تَفعَلوا فافعَلوه بِنَفْسٍ طَيِّبَةٍ كأَنَّه لِلرَّبِّ لا لِلنَّاس" (قولسي 3: 23). المسألة الحقيقيّة هي غياب السَّيّد. لنستفيد من غيابه ما نستطيع أن نعمل فيه إثمار مواهبنا ووَزَناتنا. ويُعلق القديس باسيليوس " يترك لنا الرب كيفية استخدام الخيرات المُعطى لكل شخص وإلى الوَزَنات الموزَّعة كلٌ حسب طاقته وحسب قدرته على العطاء والعمل لزيادة هذه الوزنات" (الغني والغنى في عظات القديس باسيليوس). 16 فأَسرَعَ الَّذي أَخَذَ الوَزَنات الخَمسَ إلى المُتاجَرَةِ بِها فَربِحَ خَمسَ وَزَنات غَيرَها تشير عبارة "فأَسرَعَ" في الأصل اليوناني εὐθέως πορευθεὶς (معناها ذهب في الحال) إلى مهارة الخَادِم الأول وأمانته بالنسبة للزمن، والعمل النَّشيط والمتواصل دون توقُّف واغتنام فرص الرِّبْح الأوفر في سُرعة التَّنفيذ والغَيْرة على أمر السَّيد وتكليفه؛ بل وهذه الكلمة " في الحال" تضيف أيضا لحساب الخَادِم ما هو أكثر من الرِّبْح المادي، إذ تكشف عن فرح الخَادِم بثقة السَّيد والعمل على حسن ظنِّه به. ويلاحظ أنه بمجرَّد تسلُّمه الوَزَنات وسفر السَّيد، مضى في الحال. أمَّا عبارة "صاحب الوَزَنات الخَمسَ" فتشير إلى إمكانية الرجل بتحمل مَسْؤوُلِيَّة خَمْس وزنات، وهو رمز الإنسان الذي يستخدم مواهبه خلال أبواب حواسه الخَمْسة. أمَّا عبارة "َربِحَ خَمْس وَزَنات غَيرَها" فتشير إلى تضاعف أمواله نتيجة اجتهاد الخَادِم. فقد قابل الخَادِم الثِّقة بالثِّقة فرَبِح الطّاق طاقَيْن. وهذا ما يُذكْرنا قول داود النَّبي "ماذا أَرُدُّ إلى الرَّبّ عن كُلِّ ما أَحسَنَ به إليَّ؟ " (مزمور 116: 12). ويُعلق القديس ايرونيموس " انطلاقًا من الحواس الخَمْس الجسديّة والماديّة التي تلقّاها الخَادِم، أضاف معرفة الأمور السَّماويّة؛ ارتفع ذكاؤه من المخلوقات إلى الخَالق، من المَادي إلى غير المادي، من المرئيّ إلى غير المرئي، من العابر إلى الأبديّ". أمَّا عبارة " المُتاجَرَةِ" فتشير إلى مُمَارَسَة البَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الوَزَنات الخَمْس؛ َ وهذا يدل على العمل بالمواهب الممنوحة لخدمة الآخرين بأية صورة جسدية أو روحية أو نفسية أو صحية، كما قال بولس الرُّسول " كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعمَةِ على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح" (أفسس 4: 7). 17 وكذلِكَ الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَيْن فرَبِحَ وَزْنَتَينِ غَيرَهُما. تشير عبارة "الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَيْن" إلى رمز المؤمن الذي امتلأ قلبه بمحبَّة أخيه في الرَّبّ، إذ يصير الاثنان واحدًا في الرَّبّ. ونجد نفس الرَّمز في السَّامري الصَّالِح الذي يقدّم دِرهمين لصاحب الفندق علامة محبّته للجريح، والأرملة التي امتدحها السَّيِّد التي قدّمت فِلسين علامة حبّها لله ولإخوتها المحتاجين. اما عبارة " فرَبِحَ وَزْنَتَينِ غَيرَهُما " فيعلق عليها القديس ايرونيموس بقوله " وفقًا لقدراته، ضاعف الذي اخذ الوزنتين في مدرسة الإنجيل ما تعلّمه في مدرسة الشَّريعة. أو يمكننا القول إنّه فَهِمَ أنّ ذكاء الإيمَان وأعمال الحياة الحاليّة تؤدّي إلى السَّعادة الآتية". 18 وأَمَّا الَّذي أَخذَ الوَزْنَة الواحِدة، فإِنَّه ذهَبَ وحفَرَ حُفرَةً في الأَرض ودَفَنَ مالَ سيِّدِه تشير عبارة "صاحب الوَزْنَة الواحِدة" إلى رمز الإنسان الأناني الذي يعمل لحساب ذاته وحده، ولا يرتبط بحب الله والنَّاس؛ ويعلق التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة "إن الإنسان، خلال ممارسته حقّ التَّملّك، عليه ألاّ يعتبر أن الأشياء التي يمتلكها بحقٍ هي فقط ملكه، بل عليه أن يعتبرها أيضًا ملك عام: كي تصبح مفيدة ليس له فقط بل للآخرين" (نور الأمم، 69) (2402-2405). أمَّا عبارة "دَفَنَ " في الأصل اليوناني ἔκρυψεν (معناها دفن) فتشير إلى الطريقة التي استخدم بها وزنته، وهي عادة قديمة حيث اعتاد النَّاس أن يدفنوا أموالهم في الأرض لحفظها وادِّخارها، كما جاء في َمَثَلِ الكَنْزٍ " مَلَكوتِ السَّمَوات كَمَثَلِ كَنْزٍ دُفِنَ في حَقْلٍ وَجدَه رَجُلٌ فأَعادَ دَفنَه" (متى 13: 44-46)، دفن في التُّراب كقرض مُستردّ خوفًا عليها من الضِّياع، وخوفًا على نفسه من بطش سَيِّده. رفض تتعرض نفسه للمُخاطرة. ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير" لأنّ الذي فضّل أن يُخبئ وَزَناته عوضًا عن استغلالها لم يحصل بنفسه على أكثر من وَزْنَة " (عظات حول الإنجيل، العظة 6). وعلى كل حال، لم يتصرف بوزنته لفائدة؛ فهذا الإنسان ليس له ثقة بنفسه فهو يشكو من عقدة النَّقص. والحق انه يشعر في قرارة نفسه أنه أضعف من أن يؤدِّي عملا فيه الجُهد والسَّعي والاستثمار. أمَّا عبارة "مالَ سيِّدِه " في ألأصل اليوناني ἀργύριον (معناها فضة) فتشير إلى عملة فضَّة لسَيِّده الذي أهمل في استعمالها لزيادة ثروة سَيِّده، وصَدقَ قول النَّبي دانيال إلى بَلشَصَّر المَلِك " تَرَفَّعتَ على رَبِّ السَّماء، وأُتِيَ إلى أَمامِكَ بِآنِيَةِ بَيتِه، وشَرِبتَ بِها خَمراً أَنتَ وعُظَماؤُكَ ونِساؤُكَ وسَرارِيُّكَ، وسَبَّحتَ آِلهَةَ الفِضَّةِ والذَّهَبِ والنُّحاسِ والحَديدِ والخَشَبِ والحَجَرِ الَّتي لا تُبصِرُ ولا تَسمعُ ولا تَشعُرُ ولا تُعَظِّمُ اللهَ الَّذي في يَدِه نَسمَتُكَ وعِندَه جَميعُ سُبُلِكَ" (دانيال 5: 23). لا يحقّ لنا أن ندفن هذه الوَزْنَة في الأرض، ولا يحقّ لنا إن كنّا مؤمنين أن نقول: لا دخل لي بكلّ هذا. لا يحقّ لي أن أخاف من مستلزمات البشارة المسيحيّة وأقول: هو ليس عملي، هو عمل الكهنة والمُكرَّسين، ولكن سواء كانت موهبتي كبيرة أم صغيرة، فعليّ أن أجعلها منتجة بل أضاعفها. 19 "وبَعدَ مُدَّةٍ طويلة، رَجَعَ سَيِّدُ أُولئِكَ الخَدَمِ وحاسَبَهم تشير عبارة " بَعدَ مُدَّةٍ طويلة" إلى بعد انتهاء زمان هذه الحياة. والقصد من هذه العبارة أن طول المدة قد يدفعنا للتكاسل ظنًا أن هناك متسع من الوقت. إنَّ طول مدة التَّأخّير ترمز إلى المجيء الثَّاني للسيد المسيح، وهذا ردٌّ على الذين كانوا يظنُّون أنه سيأتي سريعًا. وتعتبر تلك العودة كافية لامتحان أمانة المؤمنين والكنيسة كلها. ومدة حياة كلِّ إنسان تعتبر كافية أيضا لامتحان أمانته واجتهاده. وطول المُدة قد يدفعنا أيضًا للتكاسل ظنًا أن هناك متَّسعٌ من الوقت. والقصد من هذه العبارة أيضًا كادت طول المدة أن تقود إلى نتائج خطيرة بالنِّسبة إلى الإيمَان المسيحيّ الذي يتساءل " أَينَ مَوعِدُ مَجيئِه؟ ماتَ آباؤُنا ولا يَزالُ كُلُّ شَيءٍ مُنذُ بَدءِ الخَليقَةِ على حالِه " (2 بطرس 3: 4). وهذا الوضع يُهدّد ثبات المؤمنين الذي تغذَّى برجاء ينتظر بسرعة مجيء الرَّبّ الثَّاني. أمَّا عبارة "سَيِّدُ" في الأصل اليونانية κύριος (معناها السَّيد) فتشير إلى صاحب الأموال، ويدل هنا على السَّيد المسيح؛ وفي إنجيل لوقا ترجمة "مولاي " في الأصل اليوناني κύριος، مما يدلُّ هنا على لقب ملكي يناسب المرشَّح المولّى في آخر الأمر، وهو يسوع في مجده. أمَّا عبارة " حاسَبَهم" فتشير إلى مراجعة معهم الحساب. ويطالب صاحب الثَّروة باستثمار هذه المواهب ويحاسب على ذلك كل واحد بحسب ما أُعطي "فمن أعطي الكثير يطالب بالكثير ومن أعطي القليل يطالب بالقليل"، ويزن كل شيء بميزان الأعمال، ومن هنا الرِّبْح أو الخسارة، الثَّواب أو العقاب. ويدل هنا على مشهد تأدية الحساب في الدَّينونة الأخيرة. مهما طالت مدة غياب السَّيد فلا بدَّ من ان يأتي، ويوم مجيئه هو يوم حساب، كما صرَّح بولس الرُّسول "سَنمثُلُ جَميعًا أمامَ مَحكَمَةِ اللّه "(رومة 14: 10). وذلك اليوم يكون يوم فرح للأُمناء، ويوم غضبٍ وعارٍ للخائنين. كل ما أعطاه الله للإنسان هو دين يُحاسب عليه (1 قورنتس 14: 12) وعلى الإنسان أن يستعدَّ لذلك الحِساب. 20 فَدَنا الَّذي أَخَذَ الوَزَنات الخَمْس، وأَدَّى معَها خَمْسَ وَزَنات وقال: ((يا سيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ خَمسَ وَزَنات، فإِليكَ معَها خَمسَ وَزَنات رَبِحتُها)). تشير عبارة "فَدَنا الَّذي أَخَذَ الوَزَنات الخَمس" إلى اقتراب صاحب الوَزَنات الخَمْس إلى السَّيِّد الذي بدأ بمحاسبته. وهذا الأمر يدل على انه كلما كثرت المواهب كلما زادت مسؤوليتنا في الدَّينونة. أمَّا عبارة " سَلَّمتَ إِليَّ" فتشير إلى اعتراف الخَادِم بأنَّ كل ما كان له كان من مال سَيِّده. لذلك على المسيحيين أن يذكروا ما أخذوه من الله يتوجب عليهم أن يستعدوا لإعطاء الحساب عنه. أما عبارة "يا سيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ خَمسَ وَزَنات، فإِليكَ معَها خَمسَ وَزَنات رَبِحتُها" فتشير إلى كل إنسان الذي يعطي الله حسابًا عن نفسه لا عن غيره. اما عبارة "رَبِحتُها" فتشير إلى رِبْ الخَادِم وَزَنات خَمْس أخرى لسَيِّده لا لنفسه كما جاء في إنجيل لوقا " يا مَولاي، رَبِحَ مَناكَ خَمسَةَ أَمْناء" (لوقا 19: 18). فيجب على المسيحي أن يحسب كل نتائج أتعابه لله، لأن كل شيء بفضله تعالى وهو الذي يعطينا النِّعْمَة للحصول عليها " أنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يوحنا 15: 5). 21 "فقالَ له سَيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ. تشير عبارة "أَحسَنتَ" في الأصل اليوناني Εὖ (معناها حسنا فعلت) إلى عمل الخَادِم المجتهد الذي أثبت أن ما قدَّمه من عمل يساوي طاقته؛ أن صاحب الأمثال يمدح المرء الفاضل المجتهد السَّاهر على بيته "المَرأَةُ المُتَّقِيةُ لِلرَّب هي الَّتي تُمدَح. أُعْطوها مِن ثَمَرِ يَدَيها ولتمدَحْها في الأَبْوابِ أَعْمالُها" (أمثال 30: 29-30). وهذا المديح من فم الله أفضل من أعظم مديح النَّاس وأشرف منه. أمَّا عبارة "الصَّالِحُ" فتشير إلى الخَادِم الذي أثبت أمانته للسَّيِّد الذي حَسَب ما استأمنه عليه من عمل شخصي فوجد أمينًا فيه؛ إنه الصَّالِح المستقيم الذي يقوم بواجباته. أمَّا عبارة " الأَمين " فتشير إلى حفظ ممتلكات النَّاس إلى حين استردادها، والأمانة كانت أكثر اعتبارًا من سائر الصفات عند ذلك السَّيد وكذلك عند الله، والدَّليل على ذلك لم يقل الصَّالِح المجتهد ولا الصَّالِح المفلح بل الصَّالِح الأمين. فالخَادِم الأمين هو الخَادِم الصادق والوفي لحماية مصالح أموال سَيِّده الذي قدَّم خَمْس وَزَنات أخرى مقابل خَمْس وَزَنات استلمها. وهو يُمثِّل تلاميذ المسيح الأمناء اللذين اتخذوا الإنجيل نورًا لذواتهم ودستورًا لحياتهم ليبقوا أمناء لمعلمهم الإلهي ويُبشِّروا الآخرين به ليجذبوهم إلى المسيح. أمَّا عبارة "كُنتَ أَمينًا على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير " فتشير إلى الشَّخص الذي كان أمينا على هذه الأرض، فنال جَزءًا كبيرًا عليها، وفي الآخرة يستحق جزاء نعيم المَلَكُوت، كما صرّح المسيح " إِنَّه يُقيمُه على جميعِ أَموالِه"(متى 24: 47)؛ لا يشير المثل إلى السيد الذي يستحوذ على الربح، بل السيد الذي يفرح بسلوك الخادم ويَعده بخيرات أعظم بكثير "أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ". أمَّا عبارة "القَليل" فتشير إلى كل العطايا والمواهب التي تُعطى للإنسان المؤمن للمتاجرة بها على الأرض، فهي قليلة مهما كانت كمِّيتها وقوَّتها وقدرتها وعظمتها مقارنة لعطايا الله في السَّماء التي لا يُمكن وصفها أو إدراكها. أمَّا عبارة "الكَثير" فتشير إلى أعمال الرُّوح والحِكمة والفرح والمجد إلى ما لا نهاية؛ ومن هذا المنطلق، يكون ثواب الإنسان مكافأة على أمانته وجهده واجتهاده الذي أدَّاه خلال مسئوليته، ليس لراحته بل لاتساع دائرة عمله، كذلك يكافئ الله عبيده الأمناء " فيُجازي كُلَّ واحِدٍ بِحَسَبِ أَعمالِه، إِمَّا بِالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ لِلَّذينَ بِثَباتِهم على العَمَلِ الصَّالِح يَسعَونَ إلى المَجدِ والكَرامةِ والمَنعَةِ مِنَ الفَساد"(رومة 2: 6-7). فسعادة السَّماء لا تقوم بمجرد الرَّاحة بل بسمو الخِدمة. ولا يدخل فيها الكثرة أو القلة في المواهب، فصاحب الخَمْس وَزَنات نال من المديح والمكافأة ما ناله صاحب الوزنتين تمامًا. أمَّا عبارة " أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" فتشير إلى نعيم المَلَكُوت الذي هو الفرح والمجد التي تكلم عنهما يوحنا الإنجيلي " لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامًّا"(يوحنا 15: 11)، " أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد " (يوحنا 17: 24). ويعلق القديس أوغسطينوس " ليس النعيمُ الكاملُ يدخلُ قلوبَ أهلِ النعيم، بل أهلُ النعيم بأكملهم يدخلون نعيمَ الله" (CCL 39، 1351). هذا النَّعيم وفرح الوليمة المسيحانيّة والدَّخول إلى العرس الأبدي هو المكافأة، ويُعلق الأب يوحنا من كرونستادت "الخِدمة الأرضيّة هي مَحك وخدمة بدائية للخدمة السَّماويّة". لا ريب، أنَّ هذا الثَّواب أعظم مما يستحقه أحد من النَّاس أو يرجوه أو يتصوره، كما وَرَدَ في الكِتاب: "ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه" (1 قورنتس 2: 9). نحن هنا في القلب النابض للإنجيل كله، إذ نحن مرشحون للدخول إلى نعيم الله في ملكوت. 22 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَينِ فقال: ((يا سَيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ وَزْنَتَين، فإِليكَ معَهُما وَزْنَتَينِ رَبِحتُهما)). تشير عبارة "فإِليكَ معَهُما وَزْنَتَينِ رَبِحتُهما" إلى المحافظة على الوَزَنات مع استنباط الطرق لكي يضاعف بها ما ملك. 23 فقالَ له سيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخَادِم الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَمينًا على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ)) تشير عبارة "فقالَ له سيِّدُه" إلى قول السَّيد للخادم الذي اخذ وزنتين شبهه بقوله للذي أَخَذَ الوَزَنات الخَمْس. فالودائع مختلفة في مقدارها، لكن الأرباح واحدة. فالثَّواب واحد بصرف النَّظر عن مقدار الرِّبْح. فنحن بعيدون كل البُعد عن عَالَم التِّجارة. أمَّا عبارة "أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" فتشير إلى كل من كان أمينا في مواهبه على الأرض له نصيب في مجد السماء، فيدخل العرس الأبدي. وما يجب أن نفهمه هنا أنَّه علينا بألاَّ نحزن لأنَّ مواهبنا أقل، المهم أن نكون أُمناء ونجاهد بقدر طاقتنا، ومن يستخدم مواهبه لمجد الله سيجازيه الله بأن يدخل إلى المجد. كلما زاد الجهاد زادت الثمار، لكن نلاحظ أن النعمة التي حصل عليها كليهما كانت متساوية وهي دخول نعيم السماء، ويعلق القديس أفرام السِّرياني "طوبَى لِمَن يفرحُ الرَّبُّ بتجارتِه" (تراتيل الفردوس، الخامس عشر). 24 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَة الواحِدَةَ فقال: ((يا سَيِّد، عَرفتُكَ رَجُلاً شَديدًا تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ، وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ تشير عبارة "عَرفتُكَ رَجُلاً" إلى رد الخادم الثالث الذي يدل على عدم فهمه لواجباته كعبد مستأمن على وكالة، ورده كان فيه عدم محبة لسيده وجهل مطبق وعدم رغبة في العمل. هو خاف من المخاطرة وأن يخسر ولا يكسب. ولكن هذا يدل على جهل بسيده. معرفة الخَادِم لسَيِّده فقط كونه إنسانًا ولا يتعدَّ ذلك. كثيرون بالأسف نظير ذلك العبد الشِّرِّير لم يعرفوا عن المسيح بخلاف ذلك أي انه إله. وهذه المعرفة لن تُفييدهم. إذ قال المسيح: "فإذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم " (يوحنا 8: 24). نتج عن المعرفة الخَاطئة عند ذلك الخَادِم موقف خاطئ وتوجُّه خاطئ تجاه سَيِّده. عبارة "رجُلاً شَديدًا" في الأصل اليوناني σκληρὸς εἶ ἄνθρωπος (ومعناها رجل قاس) فتشير إلى تمرده واتهامه الظالم لسيّده بالقسوة والظُلم وعديم الرَّحمة، أي أنَّه يطالب أكثر ممَّا له، فهو ظالم لا شفقة في قلبه على العاجزين. منعه هذا التَّصور عن سَيِّده عن خدمته بفرح واجتهاد ومحبة وثقة. والواقع أنَّ حياة الكسل والخمول والبّطالة دفعته لاتّهام سَيِّده بالقُسوة، وهذا بالتَّالي دفعه للخوف، كما يقول الأب يوحنا من كرونستادت "كل خطيّئة تبدو بسيطة وغير هامة تقود إلى خطايا أخطر، لذا يجب مقاومتها في بدايتها وسحقها". فخطيئة قايين الأولى هي الحسد، والحسد أسلمه للغضب والغضب أسلمه للقتل والقتل اسلمه إلى التَّبجح على الله قائلًا " أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟" (التَّكوين 4: 9) ثم هرب من الله نهائيًا" إن الخَطيئة تلد خطيئة؛ أمَّا عبارة "تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ" فتشير إلى حكم الخَادِم على خُلق سَيِّده، بان سَيِّده يكلِّفه العمل ويأخذ الرِّبْح، وهذا كذبٌ ستر به كسله. والله خلاف ما قاله ذلك الخَادِم الكسلان فانه بدل ان يحصد حيث لا يزرع، فأنه يزرع بركات كثيرة ويحصد قليلا من الشكر والخِدمة. وهو ينتظر الحصاد حيث يزرع، كما جاء على لسان أشعيا النَّبي "كانَ لِحَبيبي كَرْمٌ في رابِيَةٍ خَصيبة وقد قَلَّبَه وحَصَّاه وغَرَسَ فيه أَفضَلَ كَرمِه وبَنى بُرجًا في وَسَطِه وحَفرَ فيه مَعصَرَةً وآنتَظَرَ أَن يُثمِرَ عِنبًا فأَثمَرَ حِصرِمًا بَرِّيًّا " (أشعيا 5: 2). في الواقع، لم يعرف الخَادِم سَيِّده جيدًا. ومشكلته أن علاقته مع سَيِّده مبنيَّة على الخوف، وليس على الثِّقة والمَحبَّة. "فالناس في خوف الذل في ذل." كما يقول علي ابن أبي طالب. إن كان هذا السَّيد يُديننا بالعدل، فهو في الوقت عينه، يعاملنا بالرَّحمة إن فتحنا قلبنا على رحمته وحنانه. إنَّ الله القدير يحصد حيث لم يزرع. ويسوع لا يتردَّد في غيره من الأمثال أن يشبّه دينونة الله بحُكم قاضٍ قاس (لوقا 16: 1-11، 18: 1-8). فهذا الخادم لم يعرف سيِّده، هو لم يعرف الله، إنما هذه تصورات قلبه لأن عينه مغلقة بسبب خطاياه. لا نحاول خلق أعذار وهمية: لا اعرفه، لا أحبَّه! 25 فخِفتُ وذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأرض، فإِليكَ مالَك تشير عبارة "خِفتُ" إلى خوف الخَادِم من ضياع الوَزْنَة بالاتجار بها، معرضًا نفسه للوم سَيِّده القاسي وعقابه فخبأها حفظا لها. فالخوف لا يمنع من الفشل لكنه يمنع من النجاح. خوفه يدينه ولن يعفيه من المسئولية. لو كان يحب سيده ما كان قد خاف، "لا خَوفَ في المَحبَّة بلِ المَحبَّةُ الكامِلةُ تَنْفي عَنها الخَوف لأَنَّ الخَوفَ يَعْني العِقاب ومَن يَخَفْ لم يَكُنْ كامِلاً في المَحَبَّة" (1 يوحنا 4: 18). إنَّه تصوّر زائف عن الرَّبّ وخوفه من عقاب ينتظره ومن المخاطرة والخِسارة، وله أعذاره. إذ ظنَّ أنه مهما عمل فان سَيِّده لن يكون عادلا معه. ونتيجة لذلك لزم جانب الأمان وحماية نفسه من سَيِّده القاسي، فحكم عليه تقوقعه على نفسه. لقد نسى نفسه انه وكيلٌ وليس مالكٌ، وبنى علاقة مع سَيِّده، لا على الثِّقة ولا على المحبّة بل بالأحرى على الخَوف. خوف الخَادِم خطير، لأن الخَائفون وغير المؤمنون هم على رأس قائمة من يُطرحون في البحيرة المتَّقدة بالنَّار والكبريت، كما ورد في سفر الرُّؤيا "أَمَّا الجُبَناءُ وغَيرُ المُؤمِنينَ والأَوغادُ والقَتَلَة والزُّناة والسَّحَرَةُ وعَبَدَةُ الأَوثانِ وجَميعُ الكَذَّابين، فنَصيبُهم في المُستَنقَعِ المُتَّقِدِ بِالنَّارِ والكِبْريت: إِنَّه المَوتُ الثَّاني" رؤيا 21: 8). ولم يكن خوف صاحبنا من نوع خوف نوح (عبرانيين 11: 7)، أو خوف راحاب (يشوع 2: 9-11)، بل من نوع خوف الحاكم فيلكس وارتعاشه (أعمال 24: 25). الخَوف أفسد عمله الشَّر كل الشَّر هو أن نعرف ونخاف. والواقع، لو كان يحب سَيِّده ما كان قد خاف، فالمحبة تطرد الخَوف. قال يوحنا الرسول " لا خَوفَ في المَحبَّة بلِ المَحبَّةُ الكامِلةُ تَنْفي عَنها الخَوف لأَنَّ الخَوفَ يَعْني العِقاب ومَن يَخَفْ لم يَكُنْ كامِلاً في المَحَبَّة"(1 يوحنا 4: 17-20). والمحبة لا تخاف المخاطرة، الحياة هي مخاطرة، لأنَّها اختيار، وكل اختيار يقوم على التَّضحية والمَسْؤوُلِيَّة. ويعلق القديس أوغسطينوس " استخدموا الوَزْنَة ولا تُحسَبون عبيدًا كسالى ولا تخافون العِقاب المُرعب". من يخاف الله ولا يُحبُّ الله فهو لا يعرف الله، كما جاء في قول يوحنا الرسول "مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة "(1 يوحنا 4: 8). أمَّا عبارة "ذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأرض" فتشير إلى تعطيل أو إبطال عمل الموهبة أو المواهب الرُّوحية التي أعطاها الله للمؤمن. فدفن في الأرض مواهبه ومشاركته وقواه، وهذا يتمُّ عند الذين، إمَّا فقدوا الإحساس بقيمة الموهبة، أو عند الذين استهتروا وازدروا واهب المواهب، أو عند الذين شعروا بالنَّقص والحَسد فاتخذوا ردة فعل انتقامية تجاه سيدّهم، أو الذين لم يهتمّوا بمجيء السَّيد والحساب الذي سيُحاسب به كل إنسان عمَّا وهبه إيَّاه. صاحب الوَزْنَة الواحدة كانت طاقته على قدر العمل والرِّبْح لوَزْنَة واحدة. فلمَّا أخفاها في الأرض ولم يعمل أو يتاجر بها، وبهذا الأمر أوّضح أنه بدَّد طاقته وحبس موهبته معًا. فلا يمكن أن نتخيل الحياة دون السَّعي والعمل والمُخاطرة. أمَّا عبارة " فإِليكَ مالَك " فتشير إلى الخَادِم الذي ردّ ما سُلّم إليه من مال ولم يخسر منه شيئًا. أعاد الوَزْنَة على حالها: لم يفقدها ولم يزدها. فالخَادِم لم يربح شيئًا. وباسم هذه العدالة نفسها، رفض الحقّ لسَيِّده بأن يطلب منه أكثر ممّا أعطاه. أنه ينتظر من سَيِّده عدالة تساوي عدالته. ورفض أن يقبل بأن يُطلب منه أكثر ممّا هو مفروض. ولكن السَّيد رفض هذا المنطق، وقال له بما معناه: "حيث إنك ظننت أنني كما ذكرت، فكان المفروض أن يعطيك ذلك دافعًا أكبر لتشتغل بوزنتك. فهذا ليس عذرًا لك، بل حيثيَّه لاتهامك“. والرَّبّ هنا يدينه من أقوال فمه. فالخَادِم هو أناني متقوقع حول ذاته محب لذاته فقط، غير مرتبط بحب الله ولا الناس، ولم يلتفت إلى عطل المال كل تلك المدة الطويلة وخيبة رجاء سَيِّده وعدم قيامه بالخِدمة فصحَّ فيه قول الحكيم " الكَسْلانُ أَحكَمُ في عَينَيه مِن سَبعَةٍ يُجيبونَ بِسَداد" (أمثال 26: 16). الرَّبّ يريد أن يرفعنا إلى مستوى المَحبّة التي لا تعرف حدودًا في العطاء. ويُعلق التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة "إنّ حقّ الملكية يجعل من المستلم الشَّرعي لخير الأرض وكيلًا للعناية الإلهية كي يجعل هذه الخَيرات تُثمر وتًفيد الآخرين وأقرباءه أولاً. ( 2402-2405). يدعونا المثل بان لا ندفن كلمة الرَّبّ بل أن ننشرها، فإن لم تكونوا شهودًا للكلمة فلا فائدة من الكلمة التي لدينا لحفظها لنفسنا. أظهر هذا الخَادِم صاحب الوَزْنَة الواحدة في جوابه ضُعف حجَّة من يتخذ قلة مواهبه وفرصه عُذرًا لعدم العمل. إن الله يطلب أن يخدمه الإنسان سواء أكان قليل المواهب والفرص أم كثيرها، وفقًا لقول الرُّسول بولس "لأَنَّه متَى وُجِدَتِ الرَّغبَة، لَقِيَ المَرءُ قَبولاً حَسَنًا على قَدْرِ ما عِندَه، لا على قَدْرِ ما لَيسَ عِندَه" (2 قورنتس 8: 12). وهنا يتركَّز المَثَل في عدم السَّهر والاجتهاد ورفض العمل وفقدان الإحساس والأمانة للسيد المسيح، إذ لم يُكلّف نفسه حتى يُودِع الفِضَّة عند الصيارفة ليستفيد سَيِّده من بعض الفائدة؛ وبذلك عمل ضد مصالح سَيِّده. نحن أيضًا غالبًا نتصرف كالخادم الشِّرِّير، نظن أننا لم نفعل شيئًا سيئًا، ولذا نشعر بالرِّضى معتقدين أننا صالحون. 26 فأَجابَه سَيِّده: ((أَيُّها الخَادِم الشِّرِّير الكَسْلانُ! عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ. تشير عبارة "أَيُّها الخَادِم الشِّرِّير الكَسْلانُ!" إلى رد فعل صاحب المال بكلمات قاسية "شرير وكسلان" على جواب الخادم، لأنه كان متقاعسًا ووغير مُباليًا، أي عدم فعل أي شيء، يعتبر خطيئة كبيرة إزاء الإنسان نفسه والله وقريب. إذ دفن الوزنة الموكلة إليه في حُفرة الإهمال والفتور، وعاش حياة اللامبالاة بعيد عن حضور الله. أمَّا عبارة "أَيُّها الخَادِم الشِّرِّير " فتشير إلى إهمال الوكيل الشِّرِّير في واجباته (متى 24: 48)؛ لا ينتظر الله من وكلائه الرِّبْح في حد ذاته، ولا يهتم بكميَّته، إنّما يهتم بأمانة خَدَمه أو إهمالهم. لان الذي اقتناه الخَادِمان أصحاب الخَمْس وَزَنات والوزنتين هو "الأمانة في الوكالة"، وأصبحا مؤهلان أن يُقاما على الكثير، أمَّا صاحب الوَزْنَة الواحدة فمشكلته إهماله، إذ أخفي الوَزْنَة وعاش عاطلاً كسولا. ويمثل هذا الخَادِم الشِّرِّير جماعة اليهود الأتقياء الذين ائتمنوا على شريعة الله فحفظوها لذاتهم دفينة في الهيكل، ولم يعلنوها للناس ولم يُشرك بها أحدًا. ولم يشع نور شريعة الإنجيل إلا بعد أن أخذت الجماعة المسيحية الأولى هذا المشعل وحملته إلى الأمم. أمَّا عبارة " الشِّرِّير " فتشير إلى ميل الخَادِم الشِّرِّير الذي عمل عمدا ضد مصالح سَيِّده. فكسل الخَادِم وسوء ظنِّه في سَيِّده شبيه بالكسل في عيني الله الذي أعطانا قوانا العقلية والجسدية لنستعملها لمجده تعالى وخير النَّاس؛ وعدم استعمالنا إياها يعتبر تبذير وإتلاف وشر. أما عبارة " الكَسْلانُ " فتشير إلى الشَّخص المُتَقَاعِسٍ عَنْ أَدَاءِ عَمَلِهِ وَوَاجِبِهِ، وذلك بانه دفن مال سَيِّده ولم يربح له شيئا. ويعلق القديس كيرلس الكبير. إنَّ الكَسْلانُ "هو باب الهلاك". واكد ذلك المحامي الأمريكي المشهور ستيفن ساندرز شاندلير بقوله " الكسل هو السَّبيل إلى الموت المحتم". أمَّا عبارة "عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ" فتشير إلى استعادة السَّيد كلام الخَادِم الشِّرِّير لكنه لم يكن موافقٌ على صحة قوله. فكلام السَّيد هو في موقع الشَّرط في جوابه للخادم، أي إن كنت قد عرفت ما قلت كان يجب عليك أن تفعل حسبما عرفت وتضع مالي عند الصيارفة. وكان السَّيد يقول له " بكَلامِ فَمِكَ أَدينُكَ أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير!" (لوقا 19: 22). والواقع إن الله رحيم للذين يعودون إليه كالابن الضال (لوقا 15/20) وإن الله قاسٍ تجاه قساة القلوب كما هو الحال تجاه فرعون بعد أن رفض الإصغاء (خروج 8: 32). فعلينا أن نربح أنفسنا لمَلَكُوت الله بالجهد والتَّعب والاجتهاد وجلب الثِّمار التي تليق بالحياة الأبدية. اما عبارة "عَرَفتَني" فتشير إلى ظن الخَادِم انه يعرف الله، والحق انه لا يعرفه أحد ما لم يشعر بانه محبة، أي أب رحيم جواد. أمَّا عبارة "أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ" فتشير إلى خطأ الخَادِم بان يعتبر سَيِّده قاسيا كما أخطأ اليهود في أيام حزقيال فقالوا " لَيسَ طَريق السَّيَدِ بِمُستَقيم" (حزقيال 18: 25)، كذلك يخطئ من يحسبه رب رحمة بلا عدل كما قال الله على لسان صاحب المزامير "أَتَظُنُّ أَنِّي مِثلُكَ؟" (مزمور 50: 21). 27 "فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف، وكُنتُ في عَودَتي أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدة تشير عبارة "فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف " فتشير إلى الصيارفة حيث تستخدم الأموال في التِّجارة وتربح الفائدة المالية، كما يقول المثل العامّي، المال يجلب المال. فخطيـئته تكمن في عدم الاستمرار بما تسلّمه من سَيِّده لكي يزيد، فكان من اقل الواجبات على ذلك الخَادِم انه كَسِل عن الإتجار بوضع فضته عند الصيارفة فيربح شيئا. كذلك يبطل الله ما يأتيه الخَطأة من الأعذار والحجج يوم الدِّين لإهمالهم الواجبات ِّالدِّينيَّة لأنهم لم يبذلوا القدرة أو يستعملوا ما وهبه الله من الوسائل ولم يطلبوا زيادة ذلك. أمَّا عبارة "أَصْحابِ المَصارِف" فتشير إلى قوم يقومون بدور الوسطاء في أسواق مبادلة العملات. فالصيارفة هم الذين يأخذون المال بربى قليل ويُدينونه للغير بربح أكثر منه، وهنا تدل على المرشدين الرُّوحيين الذين كانوا سيرشدونه لأن يقدم خدمات بمحبة للآخرين. أمَّا عبارة " أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدة " فتشير إلى التَّوظيف المالي وذلك باستثمار مال سَيِّده. الوَزْنَة مهمة عمل، وحين نقوم بهذه المهمة نعطي صورة عن وجه الله: لا ذاك الاله القاسي، بل الخَالق الذي يُشركنا في عمله. إن الرب يقدر الوزنة الواحدة ه كما لو كانت عظيمة. ويُعلق القدّيس فرنسيس كسافريوس "أنا أضع رجائي وثقتي بالله ربنا الذي يقودني بحسب وزناتي الصغيرة الفقيرة إلى كلمة المسيح مُخلّصنا وإلهنا"(رسالة بتاريخ 10 أيار 1456). 28 فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة وأَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَنات العَشْر تشير عبارة "فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة" إلى الإنسان الذي لا يستخدمْ وزنته، يفقدها. إنه ناموس الحياة؛ إننا نفقد القوى والمواهب التي لا نستعملها، سواء أكانت جسدية أم عقلية أم أدبية أم روحية، أمَّا القوى التي نستخدمها فهذه تنمو بكثرة الممارسة والاستعمال. وتفيدنا القاعدة البيولوجيّة بأن العضو الّذي لا يستخدم يضمر ويموت. أمَّا عبارة "أَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَنات العَشْر" فتشير إلى فإن جميع الوزنات، سواء التي أُخذت في البداية أو تلك التي ربحها، تبقى للخادم، ولم يأخذها السيد. فمن يجاهد يُعط ويُزاد له. إنَّ الله لا يحكم على النَّاس بمقدار النَّجاح الذي بلغوه، بل بمقدار الجُهد الذي بذلوه. ونحن لا نلام، لأنَّنا لم ننل إلاَّ وزنتين أو وَزْنَة، إنَّما سيُحكم علينا تبعًا لاستخدام ما لدينا من مؤهلات، كما يدل مدح يسوع للأرملة الفقيرة ": إِنَّ هذِهِ الأَرملَةَ الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة"، فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها" (مرقس 12: 41-44). إنَّ الله بعدما يعطي بعض النَّاس الفرص لفعل الخَير، لا ويُسيئون استعمالها فيأخذها الرب منهم ويهبها لغيرهم، فيكون للأولين الخَجل والنَّدامة لخسرانهم ما كان يمكنهم أن يحصل عليه من الثَّواب، كما جاء في قول صموئيل النَّبي لشاول الملك " اليَومَ انتَزَعَ الرَّبّ مَملَكَةَ إِسْرائيلَ عنكَ وسَلَّمَها إلى قَريبِكَ الَّذي هو خَيرٌ مِنكَ" (1 صموئيل 15: 28). والغاية من هذه المثل إيقاظ ضمائر من المؤمنين بالمسيح وتأكيد تأدية الحساب يومًا لدَيْن على ما أهملوه من واجباتهم. الإنسان الأمين في خدمته واستخدامه الموهبة التي أعطاها الله له سيستأمنه الله على ما هو أكبر. 29 لأَنَّ كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض. ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له تشير عبارة "كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض. ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له" إلى المقياس الذي يعمل السَّيد على أساسه. فأصبح كلام يسوع مجري المثل ومثله قول الحكيم " أَيدي المُجِدِّينَ تَسود واليَدُ الوانِيَةُ تَخدُمُ تَحتَ السَّخرَة" (أمثال 12: 24). والمعنى أنَّ الأمين يُجازى بان يُوكل إليه أعظم ما اؤتمن عليه، وأمَّا الخَائن فتؤخذ منه الوسائط التي أعطيت له ويعاقب. أمَّا عبارة "مَن كانَ له شَيء" فتشير إلى الخَادِم الأمين الذي يُسّلم معلمه حصيلة عمله. وتشير أيضًا إلى من يملك معرفة المَلَكُوت عن طريق الإيمَان بيسوع؛ أمَّا عبارة "لأَنَّ كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض" فتشير إلى حِكْمَة تُعبّر عَمّا في كل مال من طابع وقتي، فلا بدَّ من استثماره، وإلا فُقد. من لديه القدرة على المتاجرة والربح يُعطى المزيد، من كان أمينًا وله الرغبة أن يخدم ويعمل يأخذ أكثر. وهذه الحِكْمَة تُبرِّر قرار السَّيد "فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة وأَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَنات العَشْر (متى 25: 28)، وتُبيِّن لنا في آن واحد، شدَّة الدَّينونة ورحمة الله التي لا حدَّ لها وما سيَهبُه يسوع معرفة أكثر مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض"(متى13: 12). ومن هذا المنطلق، أضافت الجماعة المسيحية الأولى هذه الآية لتُشدِّد على طريقة سير الدَّينونة كما كتب بولس الرسول "وإِنَّما يَحصُدُ الإِنسانُ ما يَزرَع. فمَن زَرَعَ لِجَسَدِه حَصَدَ مِنَ الجَسَدِ الفَساد، ومَن زَرَعَ لِلرُّوح حَصَدَ مِنَ الرّوحِ الحَياةَ الأَبدِيَّة" (غلاطية 6: 7-8). الرِّبْح يجلب ربحًا، والخسارة تجلب خسارة؛" أمَّا عبارة " ومَن لَيسَ له شيء" فتشير إلى الذي كان له وَزْنَة ودفنها ولم ينتفع بها ولم ينفع غيره فهو كمن ليس له شيء. ولا يصحّ أن يقال إنَّ لأحد شيئا إلا باستعمالها. أمَّا عبارة "ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له" فتشير إلى كل مال زمني من طابع مؤقت، ولا بدّ من استثماره، والا فُقده. إنَّ الإنسان الذي لا يستخدم وزنته فقد يفقدها، فمن كان غير أمينًا فتؤخذ منه مواهبه وتضاف للأمين. ولذلك فان هذا القرار لم يكن تعسُّفيًا بل هو ناموس الحياة، فإننا نفقد القوى والمواهب التي لا نستعملها، سواء أكانت جسدية أم عقلية أم أدبية أو روحية، أمَّا القوى التي نستخدمها فهي تنمو من خلال كثرة التَّدريب والاستعمال، وصدق من قال "التَّوقف في عَالَم الأخلاقي والرُّوحي، هو تقهقر إلى الوراء". الأمانة هي القياس الحق، وأمَّا الحرص الزائد المفرط في استخدام الوَزْنَة، فهو اعتداء على الأمانة والثِّقة، لان الوَزْنَة لم تكن ملكه، بل هي وديعة لم يُحسن استغلالها. أمَّا عبارة "حتَّى الَّذي له" فتشير إلى ما أعطي من المواهب والوسائل أو الوكالة. فالمال يتنقل من أيدي أهل الكسل إلى أيدي أهل الاجتهاد. 30 وذلكَ الخادِمُ الَّذي لا خَيرَ فيه، أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان تشير عبارة "لا خَيرَ فيه" في الأصل اليوناني ἀχρεῖον (معناه بطَّال) إلى الرَّجُل الذي لا يجد عملاً مع استعداده وقدرته عليه. وبهذا فقد أضاف الرَّبّ على صفات ذلك الخادم صفة أخرى هنا، وبذلك نحصل على وصف ثلاثي له، فهو شرير وكسلان (متى 25: 26) وأيضًا بطَّال أي بلا فائدة وبلا نفع (لوقا 16: 13). فالله لا يوبّخ الخَادِم إلاّ على عُقمه ونقص محبته. فان هذا الخَادِم لا يخدم سَيِّده بل يخدم نفسه بكل اجتهاد. ما قيمة هذا الخَادِم؟ وما نفعه؟ ليس هناك نفع حقيقي في حياتنا في هذا العَالَم إلاَّ فيما نصنَعه لأجل المسيح، ولن يبقى شيء في الأبدية إلاَّ ما نعمَله لأجل المسيح وفي خدمتنا لشخصه. والجدير أن نسأل نفوسنا لمن نحن نعيش؟ هل لنفوسنا أو للعَالَم أم للمسيح؟ أمَّا عبارة "أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة" فتشير إلى العقاب الذي يقوم على عدم التَّمتّع برؤية الله، النَّور الحقيقي، وإنما البقاء خارجًا في الظّلمَة. كان السَّيد قاسيًا على الرَّجُل الذي لم يستثمر وزنته، لأنَّه لم يثق في نوايا سَيِّده، وكان انتماؤه لنفسه مثال " مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله" (لوقا 12: 21). العذاب يكون في الخَارج، في الظلمة، العذاب هو رفض الله، العذاب في رأيه أنَّ الله قاسي وظالم. أمَّا عبارة "الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة" فتشير إلى المكان الذي يُعاقَب فيه الكفّار. وكان اليهود يتصوّرون أنَّها تحت الأرض. أمَّا هنا فهي خارج عَالَم الأحياء، (1قورنتس 5: 12-13). أدّت الظلمة الدَّاخلية إلى الظلمة الخَارجية بعيدًا عن نور الله، أي خارجًا عن أورشليم السَّماوية التي ينيرها الرَّبّ يسوع (رؤيا 22: 5). فكان عقاب هذا الخَادِم كعقاب الضَّيف الذي لم يكن عليه "لِباسُ العُرس" (متى 22: 13) وكعقاب "الخادِمُ الشِّرِّير" (متى 24: 51). أمَّا عبارة "فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" فتشير إلى العقاب الذي يدلّ على الهلاك الأبدي (متى 22: 13)، وشدة الحكم الصادر على الرَّجُل الشِّرِّير الكسلان والبطَّال. ويبدو أنَّ الخَادِم الثَّالث عوقب بحرمانه وزنته، وليس ثمة حاجة إلى عقوبة أخرى بإلقائه في "الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة"، لان مثل هذه العقوبة لا تناسب الزلة التي أتاه، فإنه ردَّ الوَزْنَة ولم يختلسها. لذا يذهب بعض المفسِّرين في الكتاب المقدس إلى القول أنَّ هذه الآية قد أُضيفت إلى المثل فيما بعد، لتعطي طابعا روحيًا دينيًا. والواقع أنَّ متى الإنجيلي أجرى بعض التَّعديلات وأضاف هذه الآية وواصل تعليمه في السَّهر والانتظار، لكنه أوضح: من سهر، أتمّ الأعمال التي حدّدها الرَّبّ. ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي: (متى 25: 14-30) بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (متى 25: 14-30)، نستنتج انه يتمحور حول الوَزَنات، أي المواهب والأمانة في استثمارها؛ ومن هنا نتناول مثل الوَزَنات على ثلاثة أصعدة: صعيد المَلَكُوت الله وعلى صعيد تحمل المَسْؤوُلِيَّة على صعيد الأمانة في استثمار المواهب وبعض التَّحذيرات. أولا: الوَزَنات على صعيد المَلَكُوت يدعونا سيدنا يسوع المسيح إلى الدخول في المَلَكُوت من خلال الأمثال. والأمثال هي ميِّزة تعليمه الخَاصة عن المَلَكُوت (مرقس 4: 33-34). للحصول على المَلَكُوت لا بُدَّ من اختيار جَذري: التَّضحية بكل شيء، كما هو الحال في مثل الكنز واللؤلؤة (متى 13: 44-45)؛ والكلام لا يكفي، بل يجب العمل، كما ورد في "مَثل الابنين" (متى 21: 28-32)، والسَّهر الدَّائم، كما ورد في "مَثل الوكيل الأمين" (متى 24: 37-44)، والاستعداد في مثل العذارى (متى 25: 1-13)، وأخيرا استثمار المواهب وتحمل المَسْؤوُلِيَّة، كما ورد في مَثل الوَزَنات (متى 25: 14-30). استثمر أثنين من الخَدم الوَزَنات التي تلقياها، وعرّضا أنفسهما لمخاطرة قد تنتهي بخسارة كل شيء. لكن الوَزَنات تتضاعف في حالة استثمارها بطريقة جيدة. الأمثال حسب المَلَكُوت السَّماوي تتكامل: في مثل الوكيل الأمين (متى 24: 45-50) يأتي يسوع "كالسَّارق" الذي يفاجئنا في وقت لا نتوقعه، وفي مثل العذارى العشر (متى 25: 1-13) يأتي يسوع "كالعريس" الذي يُدخلنا في صحبته، وفي مثل الوَزَنات (25: 14-30) يأتي يسوع "كالسَّيد الدَّيان" الذي يطالبنا أن نقدِّم له الحساب. كما أنَّ الرَّجُل المُسافر عهد إلى خَدَمِه بممتلكات قيِّمة، كذلك يسوع خلال خدمته التي دامت ثلاث سنوات ونصف ركَّز على الكرازة ببشارة المَلَكُوت ودرَّب تلاميذه ليقوموا بالعمل نفسه، وألان قد حان وقت الرحيل، سيترك يسوع تلاميذه ولديه ملء الثِّقة أنهم سيُواصلون العمل الذي درَّبهم عليه، وهي مَسْؤوُلِيَّة التَّبشير والتَّلمذة (متى 10: 7)؛ وطلب منهم أن يجتهدوا في إتمام التَّلمذة ويقدِّموا خدمة بكل ما لديهم من قوة (متى 22: 37). إلاَّ إنَّه لا يتوقَّع أن يقوموا جميعا بمقدار العمل عينه. وفي القرن الأول بدأ أتباع المسيح يتاجرون بالَوَزَنات وتضمن سفر الأعمال سجلا مفصلا عن اجتهادهم في البشارة والتَّلميذة (أعمال الرُّسل 6: 6، 12: 24، 19: 20). وبعد التَّلاميذ وهب يسوع للمسيحيِّين وَزَنات مختلفة وفرصًا مُتنوعة للخدمة، أعطي كلِّ واحدٍ مؤهّلات كافية، ليقوم بوظيفته اليوميَّة وبالتَّالي ليعمل ما هو ضروري فيخلص. وفي الواقع، كلُّ واحد يأتي إلى هذا العَالَم مع وَزَنات مُعيّنة يُتاجر بها في حياته. الرَّبّ ينتظر من كل مسيحي أن يستعمل مواهبه وما له من الوسائل على قدر طاقته لمجده تعالى، ومَن تصرَّف بالمواهب بالحِكْمَة والاجتهاد وزادها، ينال الثِّواب والرِّضى. المسيحيون لهم وَزَنات أي الخِدمة المسيحيَّة (2 قورنتس 4: 7). وأنَّه يأتي يوم يُحاسب فيه كلُّ مسيحي بلا مُحاباة على هذه الخِدمة. وان الخَطأة يظنون أنَّ الله قاسٍ وظالم بما يكلفهم به، وان سوء ظنَّهم هذا يمنعهم من التَّقرُّب من الله وخدمتهم له، لكن الله يحاسب إهمال الواجبات كتعدي على شريعته ويُعاقب المُهمل كما يعاقب المُعتدي. "فإِذا كانَ الكَلامُ الَّذي أُعلِنَ على لِسانِ المَلائِكَةِ قد أُثبِتَ فنالَت كُلُّ مَعصِيَةٍ ومُخالَفَةٍ جَزاءً عادِلا، فكَيْفَ نَنْجو نَحنُ إِذا أَهمَلْنا مِثْلَ هذا الخَلاصِ الَّذي شُرِعَ في إِعْلانِه على لِسانِ الرَّبّ، وأَثبَتَه لَنا أُولئِكَ الَّذينَ سَمِعوه" (العبرانيين 2: 3-4). الله يُظهر يوم الدِّين بُطلان كل ما يأتيه الخَائنون من الأعذار على عدم أمانتهم. ثانيًا: الوَزَنات على صعيد مَسْؤوُلِيَّة الوَزْنَة في هذا المثل تُمثِّل أيَّ موهبة أُعْطيت لنا، فالله يُعطينا وقتًا وقدرات ومواهب وغير ذلك من الخَيرات بحسب قدراتنا، وينتظر منا أن نستثمرها بحِكْمَة إلى مجيئه. فالوَزْنَة دون أدنى شكٍّ تلقي علينا المَسْؤوُلِيَّة الكبرى، والواجب والعمل التي ألقاها الرَّبّ علينا، كما على الرُّسل من قبلنا، خلال غيابه: حتى إذا عاد يكافئ كُلاً منَّا على ما أعطت يداه وقلبُه وفكرُه. فلا يوجد لدينا أي مُبرِّر حقيقي للتواني والكسل والإهمال أو الرَّفض أو اللامُبالاة، بل واجبنا النَّشاط والغَيْرة والعمل في كرم الرَّبّ. فنحن مسؤولون عن استخدام ما أعطاه إياه الرَّبّ استخدامًا جيدًا، والقضيِّة ليست كم لنا، بل ماذا نفعل بمواهبنا وقدراتنا وبمالنا. ومن هذا المنطلق، الوَزْنَة هي أمانة في أعناقنا نحاسب عليها، وهي ما يكتنزه كلّ مسيحي من محبة وإيمان ورجاء بكلام الرَّبّ وبخلاصه. يريدنا يسوع وقت "غيابه" أن نتحمَّل مَسْؤوُليَّة كلمته بأنفسنا؛ "فنحن" ملْكٌ خاص" لله وكل المواهب والقيم والثَّروة التي لدينا هي له، وهي وديعة عندنا. وينتظر الله أن نقوم باستثمارها. فالعمل يُكرم مواهب الله والوَزَنات المُعطاة" (التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2427). في المثل عنصر المفاجأة التي تعلنها الدَّينونة التي هي خلافٌ لِمَا نعتقد. لذلك لقد فضّل السَّيد روح الاستثمار عند الخادمين الأولين، على الرغم من انه لا يخلو من المَخاطرة، وحذَّر الخَادِم الثَّالث السَّلبي والآمن الذي دفن وَزْنَة سَيِّده خوفًا من فقدانها. لم تتوافق الدَّينونة مع التَّوقعات البشرية. يصير المثل أداة دعوة إلى التَّغيير: تفضيل حقيقة الله على حقيقة العَالَم (لوقا 12: 21) واختيار العدالة بدل أمان المَال الخدّاع (لوقا 16: 22-26). في المثل عدم المساواة في توزيع الوَزَنات. ربما نقول انه ظلم لأنَّنا ننظر إلى المظاهر الخَارجية للأشياء، أمَّا إذا نظرنا بعيون يسوع نرى مساواة بين البشر: مساواة في منح الفرص والإمكانات، انه يطالب كل واحد "على قَدْرِ طاقَتِه" وفروقاته الفرديَّة. ويُعلق البابا فرنسيس على مثل الوَزَنات "إنَّنا ننال مواهب من الله "كل على قدر طاقته (متى 25، 15)، من ثمَّ إ أنه أُعطي كل خادم وَزَنات كي يُضاعفها" (عظة البابا فرنسيس الأحد التَّاسع عشر من تشرين الثَّاني 2017). والطَّاقة هي من عمل النِّعْمَة، وعلى أساس عمل النِّعْمَة يمنح الله الوَزَنات، كما جاء في تعليم بولس الرسول" ولَنا مَواهِبُ تَختَلِفُ بِاختِلافِ ما أُعْطينا مِنَ النِّعمَة " (رومة 12: 6)، وعلى هذا الأساس اللاهوتي تتمُّ المُحاسبة والعِقاب، فمن لم يربح يُعاقب لأنَّه عطَّل عمل النِّعْمَة فأوقف عمل الوَزَنات. لا يحكم الرَّبّ على النَّاس بنسبة النَّجاح الذي بلغوه، بل بنسبة الجهد الذي بذلوه، ولا يحكم على النَّاس بنسبة كمية العمل التي أدّوها بل على قدر المَسْؤوُلِيَّة التي التزموا بها. انه حكم عليهم وَفْقًا لاستخدامهم ما لديهم من مؤهَّلات. فمن استثمر وزنتين يُكافأ مكافأة متساوية مع الذي استثمر الوَزَنات الخَمْس. إنه يحترم الفروقات الفرديَّة بين الأشخاص. ولكل واحد منَّا خصائصه وغِناه ومواهبه. فكل كائن فريد ولا بديل له في عينيَّ الله كما نقول في العامية "خلقك الله وكسر القالب وراءك". تدخل الفروقات في توزيع الوَزَنات في خطة الله، الذي يريد أن يقبل كل واحد ما يحتاج إليه، وأن يشارك من عنده من "وَزَنات" خاصة مَن هم في حاجة إليها. فالاختلافات تشجِّع الأشخاص على المشاركة وتحفز الثَّقافات على اغتناء بعضها ببعض. ويوضِّح ذلك ما كتبته القديسة كاترين السَّيانية على لسان الله سبحانه تعالى "لا أعطي كل الفضائل لكل واحد بالمساواة... للواحد المحبة، وللآخر العدل، لهذا التَّواضع، ولذاك الإيمَان الحَي. أمَّا الخَيرات الزمنية، والأشياء الضُّروريَّة لحياة الإنسان، فقد وزَّعتها بلا مساواة أكبر. ولم أرد أن يمتلك كلُّ واحد كل ما هو ضروري له حتى يكون هكذا للنَّاس فرصة، لكي يمارسوا المحبَّة بعضهم تجاه بعض. أردتُ أن يكونوا في حاجة بعضُهم إلى بعض، وان يكونوا وكلائي لتوزيع النِّعم والحسنات التي تقبلوها منِّي" (التَّعليم المسيحي الكاثوليكي، بند 1937). ثالثًا: الوَزَنات على صعيد الأمانة في استثمارها يُعلمنا مثل الوَزَنات أولا أنَّ كل المواهب والقيم والثَّروة التي بين أيدينا تعود لله؛ حيث يثق الله بنا ويُسلمنا إياها "فأَعْطى أَحَدَهم خَمسَ وَزَنات والثَّانيَ وَزْنَتَين والآخَرَ وَزْنَة واحدة" (متى 25: 15)، وهي وديعة لدينا، ويُريدنا أن نتحمل مَسْؤوُلِيَّة حياتنا بأنفسنا. وينتظر الله مِنَّا أن نقوم ببعض المُبادرات لاستثمارها. ويعلق المجمع الفاتيكانيّ الثاني " أمام هذا المشروع، كثيرة هي الأسئلة التي تُطرح بين النّاس: ما معنى هذا العمل والكدّ؟ وما قيمته؟ كيف نستعمل كل هذه الثّروات؟ إنّ المؤمنين لَمتأكدون من شيءٍ وهو أن النشاط الإنسانيّ يتجاوب وتصميم الله لتحسين أوضاع حياتهم ويتمجَّد اسم الله"(فرح ورجاء": دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، الأعداد 33-35). ربما نلاحظ عدم المُساواة في توزيع الحِصص، ولكن هناك مُساواة في منح الفُرص والإمكانات، إنَّه يطالب "كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه" (متى 25: 15). فمن استثمر وزنتين يُكافا مكافأة متساوية مع الذي استثمر الوَزَنات الخَمْس، وهي دخول نعيم سَيِّده: " أَحسَنتَ أَيُّها الخَادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَمينًا على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ " (متى 25: 21). ونجح الخَادِمان في استثمار وَزَناتهم لأنهما عرفا أن سَيِّدهما شخصًا مُعطاءً (متى 25: 20، 22) فبادلاه بالمِثل. ونعلم من الكتاب المقدس أنَّ الرَّبّ سيأتي ثانية للدَّينونة؛ وهذا لا يعني أن نكفَّ عن أشغالنا لنخدم الله، بل أن نستخدم أوقاتنا ووَزَناتنا ومواهبنا بكل اجتهاد لنخدم الله في كل ما نفعله. ينبغي أن نستخدم ذكائنا وطاقاتنا وإمكانياتنا ومواهبنا في تقدّم البشرية جمعاء كي تنمو وتخصب وتكثر، كما فعل بولس الرَّسول إذ يقول: " أَفتَخِرَ يَومَ المسيح بِأَنِّي ما سَعَيتُ عَبَثًا ولا جَهَدتُ عَبَثًا" "(فيلبي 2: 16). يُعلمنا مثل الوَزَنات ثانيًا عدم التَّشبه بالخَادِم الثَّالث الأخير الذي لم يفكر إلاَّ في نفسه، ولم يَقُمْ بأيِّ جَهدٍ لاستثمار الوَزْنَة التي سُلمت إليه فيُمجِّد بها الله. قام بحراستها ولم يستثمرها، قام بذلك بدافع الخَوف (متى 25: 25) النَّابع من معرفة مغلوطة لسَيِّده وانعدام الثِّقة به. وهكذا اخذ يبرَّر كسله بالطَّعن في سلوك سَيِّده والانتقاد الذي وجَّهه إليه ووصفه بشخص طمّاعٍ (متى 25: 24). ولزم جانب الأمان وحماية نفسه من سَيِّده القاسي الشَّديد، فحُكم عليه التَّقوقع على نفسه. إنه يعاني من عدم الثِّقة في نفسه، ويشعر نفسه أنه أضعف من أن يؤدِّي عملا كبيراً، ويجد المُبرِّرات لعجزه عن بلوغ الهدف؛ فالعَالَم بحاجة إلى صاحب الوَزْنَة الواحدة كما هو بحاجة إلى صاحب الوَزَنات الخَمْس. فكلٌّ من المؤمنين يبني في جسد الكنيسة كل منهم بحسب مقدار مواهبه ونوعها. ولكن لا بدَّ في الإدَّاء أن يُكمِّل الواحد الآخر (أفسس 4: 11-16)؛ وفي هذا الأمر، صدق إبراهيم لنكولن، رئيس الولايات المتحدة، حين قال "إنَّ الله يحب عامة الشَّعب لأنه خلق الأغلبية منه. إنَّنا في حاجة ماسة إلى الإنسان العادي الذي يؤدي عمله اليومي عن رضاء وضمير صالح مغتبط"؛ فالرَّجُل صاحب الوَزَنات الخَمْس لن يقدر أن يفعل شيئا بدون تعاون صاحب الوزنتين أو الوَزْنَة الواحدة. يُعلمنا مثل الوَزَنات ثالثًا وجوب العمل بكل قوانا وانتهاز كل فرصة لنا في خدمة الرَّبّ، وفي هذا الصدد يقول صاحب الجامعة " أكُلُّ ما تَصِلُ إِلَيه يَدُكَ مِن عَمَل فاْعمَلْه بِقوّتكَ فإِنَّه لا عمل ولا حُسْبانَ ولا عِلمَ ولا حِكمَةَ في مَثْوى الأَمْواتِ الَّذي أَنتَ صائرٌ إِلَيه" (الجامعة 9: 10). ويوصي بولس الرسول " كونوا إِذًا، يا إِخوَتي الأَحِبَّاء، ثابِتينَ راسِخين، مُتَقَدِّمينَ في عَمَلِ الرَّبّ دائِمًا، عَالَمينَ أَنَّ جَهْدَكُم لا يَذهَبُ سُدً ى عِندَ الرَّبّ" (1 قورنتس 15: 58). ولا يجوز أن نلتمس الأعذار لتجنب ما دعانا الله إلى عمله. فان كان الله هو سيدنا حقًا، فيجب أن نطيعه عن رغبةٍ، فأوقاتنا وقدراتنا وكلُّ ما لنا، ليست لنا في المقام الأول، بل نحن وكلاء، ولسنا مالكين، فنحن خدمةٌ، وليس أسياد، فعندما نتجاهل أو نُبدِّد أو نسيء استخدام ما أُعطي إلينا نستحق عقاب الدَّينونة. ولذلك يدعونا الله من خلال مثل الوَزَنات إلى العمل، لاستغلال كل طاقاتنا وإمكانياتنا بحيث لا نسمح لأنفسنا إضاعتها مثل الخَادِم الشِّرِّير الكسلان البَطَّال، بل علينا الجَد والاجتهاد ليُثمر الإيمَان فينا. يُعلمنا مثل الوَزَنات أخيرًا بان نجاهد ونجتهد من أجل أن يثمر الإيمَان فينا. فالإيمَان من غير أعمال عقيم. فعلينا أن نُقرِّر مستقبلنا بأيدينا بحيث تُثمر المواهب التي أعطيت لنا. فإن لم نستخدم المواهب، نُحرم منها ونُصبح فارغي الأيدي يوم الدَّينونة على مثال الخَادِم الثَّالث الذي اخذ وَزْنَة واحدة. ما كان يَهُمُّه خلاصَ نفسه، فلم يقم بعمل أيِّ شيء يستفيد منه للمستقبل، بل نسي أنّ سَيِّده سيعود ليُحاسبه عَمّا صنع بماله، فهو سيظهر فارغ اليدين أمام الدَّيان. فالمطلوب أن نستغلَّ مواهبنا كي نكنز لنا كنوزًا في السَّماء "لا تَكنِزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في الأرض. بلِ اكنِزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في السَّماء" (متى 6: 19). ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا السَّهر منتظرين مجيء الرَّبّ ليس بأيد مكتوفة فارغة، بل باستثمار كل مواهبنا ومسؤولياتنا. إنَّه وقت العمل لأجل الله واستثمار ما ائتُمِنَّا عليه، إنه الوقت الذي علينا أن نبقى فيه أمناء "على القَليل ليقيمنا على الكَثير" (متى 25: 21). رابعا: التَّحذيرات: لا يقدم لنا المثل تعليمات حول الأمانة والمَسْؤوُلِيَّة والسَّهر على مواهبنا ووَزَناتنا فحسب، إنما أيضًا يُنبِّهنا عن ثلاثة تحذيرات: التَّحذير الأول: يحذِّر المسيح تلاميذه إن الوَزَنات ليست فقط رأس المال وأرباح، وإنّما هي رمز أيضًا إلى مُؤَهّلات يضعها الله فينا، حينما يُرسِلُنا إلى هذا العَالَم للمُشاركة في بنائه وإصلاحه، كما قال بولس الرسول "إنَّ المَواهِبَ على أَنواع ...، وإِنَّ الخَدْماتِ على أَنواع ...، وإِنَّ الأَعمالَ على أَنواع، لِكُلِّ واحِدٍ يوهَبُ ما يُظهِرُ الرُّوحَ لأَجْلِ الخَيرِ العامّ"(1 قورنتس 12: 4-7). هذه هي مُهمتنا في التَّاريخ وفي الكنيسة والعَالَم. ومن هذا المنطلق، يتوجب على كلّ إنسان تحمل مسؤولِيّته وتتميم وظيفته، مثلَما أُعطِيت له، في المجال المناسب. يدعو المؤمن إلى العمل لكي تثمر المواهب التي أعطيت له. فلا يكفي تقبُّل الكلمة، بل لا بُدَّ أن تُثمر. مَلَكُوت الله هو رأس مال سُلِّم إلى أيدينا، فلا يحق لنا أن نتركه لا يثمر، نعمة الخَلاص والإنجيل هي أمانه ووديعة (1 تسالونيقي 2: 4؛ 1 طيموتاوس 1: 11). فإن لم نكن أمناء لهذه الوديعة نُحرم منها ونصير فارغ الأيادي يوم الدَّينونة. وكل ما نمتلك في هذه الدُّنيا هو عابر، فان لم نستثمره نخسره. يتمُّ التَّحذير في الحكم النّهائي حينما يطلب المسيح من كلّ واحدٍ حسابًا عن حياته. ولا يحق لنا أن نظهر أمام العرش الإلهي وأيادينا فارغة أو فقط بما أُوتينا من رأس مال لم نُتاجر به. المطلوب في تلك اللحظة هو الأعمال والخَدمات والحسنات الّتي قمنا بها أثناء حياتنا، وهي وحدها الّتي تُدافع عنا وتشهد لنا لنيل الرّحمة وإكليل المجد الأبدي. التَّحذير الثَّاني: يحذّر يسوع تلاميذه من خطر التَّمسك بصفات الخَادِم الشِّرِّير، فهو خادمٌ كسولٌ وجبان وبطَّال وعديم الثِّقة بسَيِّده، لا يُحِبُّ الجُهْد والمثابرة ومتابعة سير التِّجارة عن كَثب والمُجازَفَة. إنه يعاني من عدم الثِّقة في نفسه، انه يشعر نفسه أنه أضعف من أن يؤدِّي عملا كبيرًا، فلم يُحرِّك ساكنًا ولم يَقُم بأيِّ مشروع يستفيد منه هو وسَيِّده الّذي أثمنه على ماله (متى 25: 25-27)، فخسِر بالتَّالي المال المُوكل إليه وخسر نفسه (متى 25: 30). ولذلك فان يسوع يطلب منا أن نتجنب مواقف العبد الشِّرِّير وأعماله، والاستسلام إلى الكسل والخُمول الرُّوحي التي تؤدِّي إلى دينونة الهلاك. وَيُحَذِّرُ المثلان تَلَامِيذَ المسيح مِنْ خَطَرِ تَنْمِيَةِ صِفَاتِ الخَادِم والشِّرِّير وهي: الشَّر والكسل والبطالة. التَّحذير الثَّالث: يحذِّر متى الإنجيلي أبناء الكنيسة من الدَّينونة القريبة من خلال عقاب الخَادِم الشِّرِّير (متى 25: 31-46)، لان "الرَّبّ يُجازي كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه (متى 16: 27). ويُشدِّد المثل على العمل الذي يتعيَّن على تلاميذه أن ينشغلوا به أثناء غيابه وكيف يُجازيهم عند عودته. والوَزْنَة تمثِّل ما يملكه كلُّ واحدٍ من المؤمنين. فالعامل الذي يشتغل بجد واجتهاد، ويستعد لمجيء الرَّبّ مستثمرًا وقته ووزنته في خدمة الله والقريب، سيكافأ، أمَّا العامل الذي ليس قلبه على عمل في سبيل المَلَكُوت فسيعاقب. الله يُكافئ الأمناء، أمَّا الذين لا يُثمرون لمَلَكُوت الله، فلا يُمكن أن ينتظروا أن ينعموا بالمَلَكُوت. فإذا أردنا أن نشارك في الخَلاص، لا يكفي أن نسمع كلمة الله، بل يجب أن نحفظها ونتركها تثمر فينا، فلا نتشبَّه بالخَادِم الشِّرِّير الكسلان الذي لم يستثمر الوَزْنَة التي أعطيت له فدفنها في الأرض، فصارت دينونة له ونقمة، بدل أن تكون نعمة وبركة. ما هو موقفنا من الرَّبّ يسوع المعلّم والسَّيد؟ هل نقول له أمهلنا بعض الوقت كي تُثمر مواهب الحبّ فينا؟ متى حان الوقت تأتي الدَّينونة. لنتعلّم من هذا المثل أن مستقبلنا يتوقّف على الطريقة التي نستخدم بها مسؤوليتنا في هذه الحياة وأمانتنا للوَزَنات التي استلمناها. الخُلاصة: يروي النص الإنجيلي مثل الوَزَنات عن رجل لديه ثروات، وبسبب سفره في رحلة طويلة، يُودع ثرواته لخَدمِه كي يضاعفوها، كل واحد قد أخذ نصيبًا غير الآخر. الخادم الأول اخذ خمس، والخادم الثاني اخذ وزنتين والخادم الثالث اخذ وزنة واحدة. اثنان منهم يستثمران المال الذي تلقياه، ويربحا مبلغًا مُساويًا لِمَا تسلماه. والخادم الثالث تلقى وزنة واحدة فقط، يذهب ويدفنها في حُفرة في الأرض. ولدى عودة سَيِّده يُعيد إليه الوَزْنَة على حالها. إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في مثل الوَزَنات هي أنَّ الرَّبّ يمنح جميع النَّاس مواهب وعطايا مختلفة. فواحد نال خَمْس وَزَنات، وآخر اثنتين، وآخر وَزْنَة كل حسب طاقته. وليس المهم عدد الوَزَنات أو العطايا الّتي يتلقّاها الإنسان، بل الأهمّ كيف يستخدمها. فالنَّاس لا يتساوون في القدرات، لكنّهم كلهم مسؤولون عن الجهد والاستثمار. كلّ واحد منّا مدعوٌّ إلى أن يُثمر بموجب الهِبات والمواهب والوَزَنات الّتي حصل عليها. لكلِّ إنسان مواهب، ويتوجب على كل واحد استثمار مواهبه الجسديّة والعقليَّة والمهنيَّة والفنيَّة والرُّوحيَّة في سبيل مجد الله وخدمة الإنسان على الأرض. وكل إنسان يُكافأ بحسب جهوده وتجاوبه مع مشيئة الله. وخطيئة صاحب الوَزْنَة الواحدة هي انه اعتبر سَيِّده ظالما، فخاف، فعطّل الخَوف إرادته ومنعه من العمل. وعندما هبَّ الرَّبّ محاسبته يوم الدَّينونة، لم يُكافِئه على ما عنده من وَزَنات ومواهبّ، بل على مقدار ما بذل من جَهدٍ في سبيل إنماء هذه المواهب. إذا استسلم الإنسان إلى الكسل والخُمول الرُّوحي، كانت دينونة الرَّبّ لـه شديدةً جدًّا في ظلام الهلاك الأبدي. ومن هذا المنطلق، يهدف مثل الوَزَنات إلى ما يجب على المؤمنين عمله أثناء غياب الرَّبّ عنهم ومجيئه الثَّاني. وقد أعطانا الله إمكانات لبناء وتوسيع مَلَكُوته، ولذلك ينتظر الرَّبّ يسوع منا استخدام المواهب حتى تزداد وتتضاعف في سبيل المَلَكُوت. الإنسان الخائف والكسلان يذهب من فقر إلى فقر، أمَّا الإنسان الجريء النَّشيط فيذهب من اغتناء إلى اغتناء. وهكذا من لا يُلبِّي مشيئة الله ولا يعمل بوصاياه، يفتقر روحيًا حتى الفقر المُطلق الذي هو الهلاك الأبدي. أمَّا الذي يُلبِّي مشيئة الله، فإنه يغتني روحيًا حتى الغِنى المُطلق وهو النَّعيم السَّماوي. فصاحب الوَزَنات الخَمْس والوَزْنَتَين قدَّما كل شيء لسَيِّدهما، الرأسمال والرِّبْح، وأرادا أن يعترفا بحق سَيِّدهما المُطلق عليهما، كما أرادا أن يتمجدا سَيِّدهما بأعمالهما. فلا يجوز أن نستخفَّ بعطايا الله ومواهبه، كما فعل الخَادِم الكسلان الشِّرِّير، وفي هذا الصدد يعلق العلامة أمبروسيوس "أنتَ الذي تدفنُ وزنتَكَ في الأرض (متى25: 25)، إنّما أنتَ حارس لتلك الوَزْنَة (الخَيرات) وما أنتَ بمالكها؛ أنتَ خادم ولست السَّيّد. والحال هذه فإنّك قد دفَنْتَ قلبَكَ مع تلك الوَزَنة. حَرِيُّ بكَ أن تبيعَ ذهبك وتشتريَ به لنفسِكَ الحياة الأبديّة والخَلاص في مَلَكُوت الله، "حيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قلبُكَ" (متى 6: 21) (نابوتَ (اليِزرَعيليِّ الفقير، 58). الدُّعاء أيها الآب السَّماوي، علمنا أن نتغلب على الكسل والبطالة والإهمال واللامبالاة لكيلا ندفن وَزْنَة مواهبنا في التُّراب، بل أن نسخّر كل ما نملكه من وَزَنات وأموال ومواهب، ونضاعفها في سبيل مجد الله وخدمة الإنسان فنكون أهلا أن نكون من خَدَمك الأمناء الصَّالِحين يوم الحساب لدخول نعيمك السَّماوي عند عودتك يوم الدَّينونة. آمين قصة: المُحاسبة أمام الله الدَّيان يُروى أن رجلاً ما اختلط في حياته بإنسان وما قام بمهمّة لا للخير ولا للشّر، وكان فخورًا من نفسه. وعندما ظهر أمام العرش الإلهي للمحاسبة، سمع أن جوقات الملائكة أحاطوه ليقتادوه إلى النَّار المؤبّدة، المُعدّة له منذ إنشاء العَالَم، فاحتج قائلاً: أنا ما عملت شيئًا! أنظروا! فكما تلاحظون أن يديّ نظيفة. فأجابه الدَّيان العادل، لهذا السَّبب! لأنك لم تعمل شيئًا لا تستحقّ فيه السَّماء فليس لك عندنا مكانا! نعم، قال المسيح "إكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزًا في السَّماء (متى 6: 20)، فمن لا يُتاجر بوَزَناته ستَنْقُص الفوائد المُستحقَّة على الأرض للوَزَنات الّتي وضعها الله في هذا العَالَم لكي تستفيد منها الأرض وساكنوها من بعده! يقول المَثل: إنّ لكلِّ إنسانٍ ثلاثة أصدقاء في هذا العَالَم. لكن المُهم كيف يتصرّف ثلاثَتُهُم هُم معه يوم موته؟ الصّديق الأوّل هو المال والأملاك الّتي يُجمِّعها في حياته. لكن للأسف لا يأخذ معه منها فلسًا واحدًا عندما يظهر أمام العرش الإلهي للمحاسبة. الصّديق الثَّاني هم أهله وعائلته وأصحابه. لكن هؤلاء كلهم يرافقونه فقط إلى باب القبر، ثمّ يعودون كلٌّ إلى عمله وإلى بيته. أمَّا الصّديق الثَّالث، فهي الأعمال والخَدمات والحسنات الّتي قام بها أثناء حياته. وهي وحدها الّتي تُدافع عنه وتشهد له لنيل الرّحمة وإكليل المجد الأبدي. |
|