حل تعاظم أهل البدع
إن كانت الهرطقة شرًا، لكن الله أخرج منها خيرًا للكنيسة، فقد مثلت هذه الانحرافات قوة دافعة إلي البحث، وحثت علي الدفاع عن الإيمان المسلم مرة واحدة للقديسين، ذلك الإيمان الحي المستقيم الغير منحرف المرتبط بالجهاد.
ويري الآباء أن صيادي الثعالب الصغار هم مدبرو البيعة، الذين يصطادون الحيوانات المفترسة من قلوب البسطاء، ليجعلوا لابن الإنسان موضعًا يسند رأسه فيه.
وفي رؤيا لأحد المسيحيين الأوائل رأي الكنيسة كشجرة صفصاف اجتمع تحتها كل الذين دُعي عليهم أسم ربنا يسوع المسيح، وكان ملاك الرب العظيم بقامته الفارعة يقف تحتها وفي يده منجل يقطع به أغصانًا، تلك الأغصان المقطوعة صغيرة لا تتجاوز طول الشبر، ثم وضع ملاك الرب المنجل جانبًا، وظهرت الشجرة مزينة كأنها لم تُمس..
وملاك الرب العظيم هو رئيس الملائكة ميخائيل، الموكل إليه حفظ إيمان الكنيسة، الذي قطع الأغصان اليابسة التي نخرها السوس بعد أن تشققت وبقيت عقيمة من جراء خبثها وعدم استفادتها بروح التوبة، فأمر الرب بقطعها حتى لا تُهين اسمه.
وأمومة الكنيسة تجعلها ساعية -إن أمكن- أن لا يفنى أحد من أولادها، فالأم الفرحة تحتضن في صدرها وقلبها جسدًا واحدًا هو شعب متفق متحد، ولكن عندما لا تأتى نصيحتها بالثمار المطلوبة في أن ترد المخدوعين إلي طريق الخلاص، ويصرون علي عنادهم وتحديهم، يكونون هم الذين يقطعون أنفسهم بأنفسهم.
هؤلاء الخارجون عن التعليم، يخرجون من البيت الواحد غير المنقسم، كالحجارة التي رفضت أن تكون في البناء الروحي الكنسي، هذه الحجارة التي اعتمدت علي ذاتها وظنت أنها قادرة أن تتأسس علي المسيح خارج الكنيسة، فتركت روح الآباء ورفضت التلمذة والطاعة، وأرادت أن تكون مستقلة بذاتها فخرجت خارج البيت الروحي.
أما أبناء الكنيسة الذين رضعوا من ثدي أمهم البيعة المقدسة المؤسسون علي المسيح فلا يخافون من الخزعبلات ولا يخشون مهاترات المنشقين، هاربين من سم الحية التي لا تقدر أن تجد لها موضعًا علي الصخر، لأن مكانها الرمال أي الهرطقات التي تقوم وتنهدم سريعًا إذ أنها بناء دمار، وطريقها واسع نهايته الهلاك.
والذين يخرجون من شركة الكنيسة هم أناس جاحدون، وأصحاب بدع لا يمتلكون الحقيقة، يستعفون من آبائهم ويهربون من مرشديهم، فيسقطون كأوراق الخريف، وليس شر أعظم من الانشقاق خارج الكنيسة بلا اتصال ولا اتحاد مع بقية أعضاء الجسد.
وغالبًا ما تقوم الهرطقات علي القساوة، وكما في الجسد، الأعضاء اليابسة القاسية لا تخضع ليدي الطبيب، هكذا لا يخضع المنشقون لآباء الكنيسة ولقرارات مجمعها المقدس، فيتركون الكنيسة، ويسقطون تحت الدينونة بسبب بدعهم وإصرارهم المعاند وتحديهم السافر، فيقطعون أنفسهم بأنفسهم، فمن ليس للمسيح هو ضد المسيح، ومن يكسر سلام المسيح واتفاقه يفتعل مضاداة له، ومن يجمع في غير الكنيسة (قاعات الهراطقة) يبعثر الكنيسة ويخرب وحدتها، يزرع الريح ويحصد الزوبعة، زرعه ليس له غلة، إذ لا يصنع دقيق (هو 8: 7).
وتقترن الهرطقات بتعاظم أصحابها وصلف كبريائهم، لذلك تصلي الكنيسة إلي الله لكي يحل تعاظم أهل البدع، ويقول الراعي هرماس في وصاياه "إن الاتضاع يميز النبي الصادق من النبي الكاذب" فالاتضاع يفرز الخادم الحقيقي من المزيف.
والسقوط في الكبرياء يفقد الإنسان رؤيته، مما يؤدي بدوره إلي أن يسقط من رتبته، إذ أن المواهب الصالحة تُعطي للمتواضعين وتُمنع عن المتكبرين المرفوضين الذين أُسلموا لذهن مرفوض (رو 1: 28)، ومن ثم خدعهم كبرياؤهم ليضلوا ومعهم المخدوعون، الذين بكبريائهم أيضًا ذهبوا مع الذئب بدلًا من طاعة الراعي.
ولحكمة إلهية تستصرخ الكنيسة كلها المسيح عمانوئيل الكائن معنا علي المذبح وتستعطفه ليحل تعاظم أهل البدع، إذ أن حب العظمة وفخ المجد الباطل ينحرف بالإنسان إلي التجاديف والابتداع وترك الحق، وكل من ينخدع يجدف غير طائع مقاوم الحق، له ذهن فاسد، لذلك يصير مرفوضًا من جهة الإيمان.
إنه لكبرياء وتعاظم، أن يتجاسر أحد ويظن أنه قادر أن يفعل ما لم يهبه الله حتى للرسل، فيظن أن تعليمه الحديث يصحح ما قد تسلمناه، حقيقة أن الأواني الخشبية تحرفها الهرطقات والأوانى الخزفية تسحقها البدع، لكن وجود البدع لا يعيق الإيمان، لذا لا يترك أحد الكنيسة لمجرد أن فيها زوانًا، بل يجاهد الجميع لكي يصبحوا حنطة، وأواني من ذهب وفضة.
وما الهرطقة والانشقاق إلا ثمرة الكبرياء والغرور، فلننظر كيف أن التعاظم يلد عدم الإيمان،والخروج عن التعليم المستقيم يجلب القطع من شركة الكنيسة، لأن النفس المتصلفة تفرط في بنوتها وتصير حمقاء فتقطع نفسها بنفسها.
فالكبرياء أساس الهرطقة، ومقاومة الحق تكون بواسطة غرور التشامخ الباطل، الذي يعبر كالهواء الفارغ، غواية مهلكة ومضادة للتعليم الكنسي نابعة من ضد المسيح (روح الضلال) (1 يو 4: 2-3).
إن الهراطقة الذين ينطقون بأقوال من ابتداعهم ومن خيالاتهم.. كل منهم شرير لا يخجل من أن يكرز بنفسه وبآرائه.. مفسدًا قانون الإيمان، مثل هؤلاء يجب أن نقاومهم لأنهم مثل الحيات المراوغة الناعمة، لهم قوة حسب التفكير الفلسفي لحساب المجد البشري، لهم العلم الذي ينفخ لأنه بلا روح بعيد عن كنيسة الله، سعادتهم في نظرة الناس إليهم، بعيدًا عن التلمذة والتربية الروحية والأدب الروحي.
وإن كانت الكنيسة مترفقة مع الخطاة لكنها غير مهادنة للهراطقة، إذ أنها لا تحتمل وجود فكر غريب، لكن بحزم تتنقى من داخل لكي لا يحمل أحد أعضائها خميرة البدع الفاسدة التي تنتج جنونًا وعتهًا، بل يحمل الجميع خلودًا وبرًا.
ولكن للأسف غالبًا ما يكون المبتدعون والمنشقون ذوي اسم ومواهب تنحرف بهم للهدم بدلًا من البنيان، والانشقاق عوض الوحدة، فكل من يرفع نفسه بعجرفة ينتهي بسقوطه إلي الأرض، إذ أن الكبرياء صعود إلي أسفل.
ولا يوجد أسوأ من أن يسقط الإنسان في أفكار الهراطقة، أو أن يقبل آراءهم، فهو إنما يهيئ نفسه بذلك ليصير مادة للنار وحطبًا لجهنم، فريسة لخطر الهرطقات تحت اسم المسيح (أشور)، ينحرف عن الحق فيهلك.
وغالبًا ما يكون فساد البدع تجارة بالنفوس خلال أقوال لينة خادعة إذ (بالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السُلماء) (رو 16: 18) لهذا فإن دينونتهم منذ القديم قائمة تنتظرهم، وهلاكهم لا يغفل عنهم مهما شعروا بطمأنينة كاذبة، ودليل إدانتهم فوق رؤوسهم.
لذلك يهلك الهراطقة في فسادهم، لأنهم أسلموا أنفسهم بأنفسهم للهلاك، فمع أنهم يجهلون الأمور لكنهم في تجاسر يفترون مقاومين الحق مع أنه كان يجب أن يصمتوا بسبب جهلهم، لأنهم بلا فهم، يستهينون بالسيادة ولا يقبلون الخضوع لما تسلمته الكنيسة جيلًا بعد جيل، بل يتمسكون بما تمليه عليهم أفكارهم الخاصة واعتدادهم.. (جسورون معجبون بأنفسهم لا يرتعبون أن يفتروا علي ذوي الأمجاد).
ومن يزدري بالكنيسة لا يعود يحسب من أولاد الله ولا يتبع الحق، بل يتبع الجسد، لأن (أعمال الجسد ظاهرة، التي هي زنى نجاسة.. تحزبات، شقاق، بدع..، إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله). (غلا 5: 19).