وبهذا الحال صار هناك – في أعماق باطن كل إنسان – صرخة أنين عميقة، لا يقوى أحد على أن يسمعها، إذ أنها تنبع من جرح غائر مُتقيح عديم الشفاء، استنزف كل قوى النفس فلم يعد لها القوة على الصراخ.
وفي هذا المرار والتعب الذي عاشه الإنسان على مر العصور، فأننا نجد أن هناك معونة خاصة ورفقة إلهية هادئة لم يشعرها الأمم الذين لا يعرفون الله، لأنه رافق الإنسان في كل مراحل حياته، لأنه يشعر بتيهه ويعرف احتياجه، وفي تلك المسيرة فهو أحياناً يعلن نفسه بطرق كثيرة مختلفة، ويكلم الإنسان بأشكال متنوعة كثيرة للغاية وعلى كل وجه، وقد أعطاه الناموس عوناً سواء المكتوب أو ما غُرس في الضمير، إذ أنه يُحرك دائماً وجدانه ليشعر بأنه في حاجة لمعونة تفوق كل إمكانياته، وأنه في اشد الحاجة لغرس آخر جديد غير الغرس الأول الذي كان فيه ولم يستطع ان يحفظه ويرعاه ويُنميه داخله.
وبالرغم من ذلك كله، فقد ظل الله على محبته، لأنها طبيعته، ولاحق الإنسان عبر الدهور عن طريق الأنبياء والناموس والضمير، ولكن في آخر الأيام بدأ عهد جديد آخر فيه كلمنا في ابنه، الذي غرسه في طبيعتنا الإنسانية المائتة، فأحياها إذ جددها وجعلها خليقة جديدة تحمل إمكانياته هوَّ، فصار للأموات بالخطايا والذنوب حياة في رئيس الحياة وملك الدهور شخص المسيح الكلمة حمل الله رافع خطية العالم، ولم يعد يُعرف الله بمعزل عن الإنسان، ولا الإنسان بمعزل عن الله، والجرح العديم الشفاء شُفي بالتمام لكل من آمن بمسيح الله وحيد الآب، لأن بعدما كنا منعزلين صرنا قريبين بدم المسيح، وكل واحد فينا اصبح هيكلاً مقدساً لله الحي أن تاب وآمن واعترف بأن يسوع المسيح هو بشخصه القيامة والحياة بوجه عام وللجميع، وأيضاً يعترف على وجه خاص، أنه هو قيامته وحياته الخاصة الجديدة، متمسكاً به وسيط عهد جديد، مكرساً قلبه لهُ ليقدسه ويدشنه بروحه ليصير معه واحد حسب قصد الآب المبارك.
ينبغي علينا أن نتمسك بالغرس الجديد الذي صار لنا من الله، لأن هذا هو الذي يفلح طبيعتنا وينفعنا ابد الدهور، أما ان تخلينا عنه وفلسفنا الأمور ودخلنا في متاهات وحوارات العهد الذي لم يقوى من عاشوا فيه أن يثبتوا أو يحتملوه، سنسقط من نعمة الله التي أنعم بها علينا في المحبوب يسوع، وسنظل نلف وندور في حلقات مفرغة ما بين مؤيد ومعارض ومتفلسف وناقض، وهكذا يضيع علينا العمل الإلهي كله، ونتوه نحن أيضاً في كبرياء نفوسنا التي لا تقبل عمل الله وتحاول أن تنشأ عمل جديد منبعه إرادة الإنسان واتكاله على معرفته التي لم تنفعه قط، ولا حتى أعماله ولا جهادة الذي فشل فيه على مر العصور كلها، لأنه لم يستطع أن يرتفع عن الأرض شبراً واحداً، أو حتى استطاع أن يستحضر الله ويقربه منه أو يتواجد في حضرته، لأن الله هو الذي يأتي من ذاته ويقترب منا ويعطينا نعمته، لا بسبب أعمالنا ولا برّ فينا، لكن بسبب رحمته الكثيرة الصادرة من طبيعة محبته الفائقة التي لا نستطيع أن نتكلم عنها لأنها خبرة تذوق ما لا يُعبر عنه او يُنطق به، لأن كل من يحاول أن يشرح ماهية محبة الله، فلن يثبت غير جهله وشقاء نفسه، لأنها لا توصف إنما تُعلن ويدخل الإنسان في دائرتها بعمل روح الله الذي يسكبها في قلوبنا.