|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ما هو معنى التحريف الذي حملته تلك النصوص القرآنية ؟ تأخذ شبهة التحريف في القرآن ثلاثة أشكال : . كتمان بعض الكتاب عن الناس . اللي بالألسن طعناً في الدين . تحريف الكلم عن مواضعه ومن مجموعة النصوص القرآنية التي وردت فيها تهمة التحريف والكتمان والإخفاء واللي والكذب والهزء وإلباس الحق بالباطل . كل هذا يقودنا إلى السؤال ؛ ما معنى هذه التهمة الخطيرة ؟ وما قصد القرآن بإسناده إليهم التحريف ؟ : ملاحظات عامة .. هامة . لا حظ أنها تهمة واحدة من الأول إلى الآخر ، ولو تنوع التعبير عنها .لذلك لا يجوز تفسير تلك الآيات مجزأة ، بل يجب أن يفسر بعضها بعضاً وإلا مسخ المعنى 1 . لقد أوردنا الآيات بحسب ترتيب نزولها فيبدو من ذلك أن تهمة التحريف ما وردت إلا في السور المدنية فقط ، ولا ذكر لها مطلقاً في السور المكية . وإذا وجدت بعض آيات في السور المكية كما في سورة الأنعام مثلاً فالمصاحف تدل على أن هذه الآيات مدنيات أُقحمت في السور المكية لغاية نجهلها . ومن ثم فلو كانت تهمة التحريف قديمة لوجدنا لها أثراً في حياة النبي المكية حيث نرى محمداً يستشهد بالكتاب المقدس وبمن عنده " علم الكتاب " على صحة قرآنه .. أيجوز أن يستشهد بمحرفين وبكتاب محرف ؟ ( سورة الشعراء 197 ) 2 . لاشك أنك لاحظت أيضاً أن النزاع قائم منذ البداية وحتى النهاية ( المائدة : 85) بين محمد واليهود ؛ فلا ذكر هناك مطلقاً لنزاع بين النصارى ومحمد .. وإن قال مرة واحدة أنهم غير راضين عن تغيير القبلة وافتراقه عنهم ( البقرة : 121 ) ؛ ولا هو يتهمهم بالكفر والتحريف ( مائدة : 15 ) . فتهمة التحريف إذن – مهما كان معناها – لا يلصقهاالقرآن بالمسيحيين ولا بإنجيلهم ، إنما يوجه التهمة دائماً إلى اليهود وحدهم ، بل إلى فريق منهم : " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه " ( البقرة : 75 ) ، و " نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم " ( البقرة : 101 ) ، و " إن فريقاً منهم ليكتمون الحق " ( البقرة : 146 ) ، و " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً " ( أنعام : 91 ) .. فتهمة التحريف والكتمان إذن تقع على التوراة من قوم موسى . وكل أهل الكتاب المقصودين بالتحريف ومقاومة النبي في آل عمران هم اليهود وحدهم ( 23 و 69 – 73 و 78 و 98 ) بدليل أنه يستثني منهم رهبان المسيح وملته (113 ) . وكذلك في سورة النساء :" الذين اوتوا نصيباً من الكتاب هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه " ( 44 ) . والتمييز في سورة المائدة بين اليهود والنصارى ، في شأن هذه التهمة ، أصرح :" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ... يحرفون الكلم عن مواضعه " ( المائدة : 13 – 14 ) ، " ومن الذين هادوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه " ( المائدة : 44 ) ز فالتهمة تعني صراحة قوماً من اليهود لا جميعهم ، وهم الذين كانوا يقاومونه ويتآمرون عليه بأقوالهم وأعمالهم 3 فلا أثر إذن البتة لهذه التهمة بحق النصارىوإنجيلهم . إنه يذكر النصارى مرتين بقوله : " لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " ( البقرة : 121 ) وقوله : " ومن الذين قالوا انا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به " ( المائدة : 15 ) ، وهذا القول لا يمت من قريب أو بعيد إلى تهمة التحريف التي يذكرها قبله ( الآية 14 ) وبعده (الآية 44 ) بحق فريق من اليهود . ولئن هو أضاف في المائدة ، بعد ذكر اليهود والنصارى (الآية 14 و 15 ) ، تهمة الإخفاء من الكتاب المقدس (الآية 16 ) فلا يقصد إلا قوماً من اليهود فقط لأنه لا يخص النصارى بمثل هذه التهم على الإطلاق ، ثم لأن سياق الحديث لا يزال عن تغيير الرجم بالجلد (الآية 14 ) وإخفاء نص الرجم عن الناس ( الآية 16 ) كما ذكرت أسباب نزول هذه الآية . . ويستثني القرآن النصارى ، وبخاصة رهبانهم ن من مقاومة النبي الجديد من أول القرآن إلى آخره ، في سورة التوبة . ويصرح بهذا الاستثناء حيث يذكر تهم المقاومة والتحريف والكتمان والعداوة في سورة آل عمران : 113 ، والمائدة : 85 . إن تهمة التحريف بحق فريق من اليهود تقتصر على آية أو آيتين لا غير : الأولى في حد الزنى بحسب التوراة ، هل هو رجم أم جلد ؛ ومدار الجدال وتغيير الكلم عن مواضعه في ( سورةالمائدة : 14 و 44 ) هو عليه . قال الزمخشري في تفسيره : " روي أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان ، وحدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله عن ذلك وقالوا : إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا . وارسلوا الزانيين معهم فأمرهم بالرجم . فأبوا أن يأخذوا به ، فجعل بينه وبينهم حكماً ابن صوريا من فدك ، فشهد بالرجم وشهد للنبي : إنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون "! وعليه المحدثون ، والمفسرون بالإجماع في تفسيرهم ( المائدة : 14 و 44 ) ، وعليه أسباب النزول كلها ( السيوطي ، تفسير الجلالين ) . والثانية ؛ في صفة ونعت " النبي " الذي يذكره موسى في توراته ، كان أهل مكة والمدينة يسمعون هذا الوصف قبل مبعث محمد . فلما بُعث ظنوا أن الوصف يعنيه . وقام بينهم وبين اليهود جدل كبير حول ذلك . وكان محمد يؤكد أنه هو هو " النبي الآتي " ويطالب اليهود بإظهار نص التوراة في وصف النبي المذكور فيحاولون كتمانه وإخفاءه ، وإذا اضطروا لووا ألسنتهم في التلاوة ليميلوا الألفاظ إلى غير معنى . ولا نجد في القرآن والأحاديث والتفاسير غير هاتين الآيتين يقصدهما القرآن عندما يتكلم على تحريف أو كتمان يجريه بعض اليهود على بعض ما في التوراة 4 : النصوص الصريحة : لقد حددنا الفاعل والمفعول في تهمة التحريف التي يذكرها القرآن عند أهل الكتاب . والآن ؛ فما هو معنى تلك التهمة ؟ لنراجع النصوص الواردة ، حيث نجد أن الصريح منها أربعة ! النص الأول من سورة البقرة : " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه " ( البقرة : 75 ). يذكر المفسرون ، ومنهم الزمخشري والبيضاوي ، أن السامعين كلام الله والمحرفين " طائفة من آسلافهم ( أسلاف اليهود ) ؛ وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور ثم قالوا سمعنا الله يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا . والمعنى أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة فما بالك بسفلتهم وجهالتهم اليوم " . فالنص يعني بعض معاصري موسى ، ويعني أنهم يتاولون كلام الله على هواهم لا التغيير في النص النازل على موسى والذي سجله في التوراة . وما كان لهم أن يفعلوا ذلك بحضوره ، وما كان لهم إليه سبيل مع وجوده والقرآن صريح : أن هؤلاء القوم " يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه " أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة . وهذا لا يعني تغييراً في النص بل التأويل المغرض ، ولا يقصد به اليهود والتوراة في زمان محمد بل التوراة واليهود في ايام موسى . . وهب أنه يقصد به توراة زمانه فالآية التالية ( 75 و 76 ) تفسر التحريف بالكتمان " وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟" يحاول فريق منهم أن يكتم على المسلمين " نعت النبي " في التوراة ، فيحدثهم به الفريق الثاني الموالي للمسلمين ؛ فيختصم الفريقان اليهوديان حول البوح بسر الكتاب إلى قوم محمد . وهذا دليل قاطع على أن لفظة " يحرفونه " لا تدل على تغيير النص بل على " تفسيره بما يشتهون " كما ارتأى البيضاوي . ومما يزيد الدليل وضوحاً وقوة الخصام الناشب بين الطرفين . ولا يمكن مع الخصام التواطؤ على تغيير النص لأنه لو اعتزم على التغيير فريق لتصدى الفريق الآخر الموالي للمسلمين وأطلع هؤلاء على النص الحقيقي ومعناه الراهن ، فالنص إذن لم يُمس . والنصوص الأخرى من سورة البقرة تبين أن التحريف المذكور هو الكتمان ، أي كتمان نص التوراة أو كتمان معناه . إنهم يكتمون الحق ( الآية 42 ) أي نعت النبي في التوراة ؛ ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ( الآية 85 ) أي لا يعلمون به ؛ ويؤمنون بما أنزل عليهم ويكفرون بما وراءه ( الآية 9.) أي بالقرآن ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لما عرفوا أنه يشهد لمحمد ( الآية 101 ) . فكل محاولاتهم إذن تعني كتمان حقيقة الكتاب على المسلمين :" وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون " ( الآية 146 ) ، " يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً " ( الآية 175 ) . ومع ذلك فإن هناك فريقاً آخر ، هم الراسخون في العلم منهم " يتلون الكتاب حق تلاوته " ( الآية 121 ) ويظهرونه للمسلمين بالقرآن . وهكذا لا يوجد أي أثر في سورة البقرة للقول بتغيير وتبديل في نص التوراة ، بل هناك شهادة صريحة بأن الراسخين في العلم منهم " يتلون الكتاب حق تلاوته " أي " يقروؤنه كما أنزل " ( الجلالان ) . النص الثاني من سورة النساء : " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن بعض مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا . واسمع غير مُسمع ! وراعنا ! لياً بألسنتهم وطعناً في الدين ! " ( الآية 45 ) . ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن هنا هو هذا السؤال : ما المحرف في هذه الآية .. أهو كلام التوراة أم كلام القرآن ومحمد ؟! وإنا لنجزم في يقين أن التحريف يقع على كلام القرآن أو النبي لا على كلام التوراة ، بدليل قوله قبل تلك الآية " يريدون أن تضلوا السبيل " ( الآية 43 و 44 ) ؛ وفيها " لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً منهم " ( الآية 45 ) ؛ فلا يعقل أن يكفر اليهود بتوراتهم ، بل قد يجوز أنهم فسروها على هواهم ، ولا سيما وأنه قد وصف حال تحريفهم الكلم عن مواضعه بقوله :" ويقولون : سمعنا وعصينا ! واسمع غير مُسمع ! وراعنا ! ليا! بألسنتهم وطعناً في الدين ! " ( الآية 45 ) وهي صفات أربع تشف عن تهكم لاذع وطعن في الدين .. ولا يعقل أن تكون من اليهود بحق كتابهم ودينهم ! بل أنها في كتاب لا يدينون به ، وفي نبي لا يؤمنون برسالته ، لهذا السبب يلعنهم لكفرهم وقلة إيمانهم ( الآية 45 ) . وقد يكون المقصود كلام محمد لا كلام القرآن نفسه . وهب أن " التحريف " المقصود يُسند إلى التوراة ، فهو لا يعني ضرورة تغيير النص بل يفيد أيضاً تفسير المعنى بوحي الهوى .. إنه يقول " يحرفون الكلم عن مواضعه " التي وضعه الله فيها ، أي عن معانيه ، لا عن ألفاظه . وقد جمع البيضاوي مجمل التفاسير لهذه الآية بقوله :" اي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم اي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها ؛ أو يؤولونه على ما يشتهون فيُميلونه عما أنزل الله فيه " فالتحريف على رأيهم يتناول التغيير في اللفظ أو التغيير في المعنى ؛ إذن ليس هناك ما يقول حتماً بتغيير اللفظ . ونستغرب منهم موقفهم المغرض إذ يقولون بتغيير اللفظ مع أن الآية صريحة في وصفها التحريف بأربع صفاتلا يمكن إرجاعها إلى اللفظ بل غلى المعنى :" ويقولون : سمعنا وعصينا ! واسمع غير مُسمع ! وراعنا ! ليا! بألسنتهم وطعناً في الدين ! " ( الآية 45) . وهب أيضاً أن قوماً من الذين هادوا قد فسقوا وكفروا حتى " يلوون ألسنتهم " في توراتهم " ويطعنون في دينهم " ذاته ، فكيف يسكت عنهم الراسخون في العلم منهم الذين " يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " ؟! ( الآية 162 ) . فالآية إذن لا يُقصد بها التوراة ، ولا يقصد بها تغيير لفظي في النص المذكور . النص الثالث من سورة المائدة :" ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل .... فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه . ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً " ( الآية 14 ) .هذا النص يقع في مقطع واحد لا يتجزأ ( 13- 21 ) ، وهو حمله على اليهود بني إسرائيل ( الآية 13 ) لنقضهم الميثاق الذي عاهدهم الله فيه على الإيمان برسله وتعزيزهم ( الآية 17 ) ؛ ولا يذكر النصارى فيه إلا عرضاً ( الآية 15 ) ليذكرهم بميثاقهم ، ولا ينسب إليهم فيه تحريفاً ولا مؤامرة على النبي . وأما أسباب نزول هذه الآية (14 ) والتي بعدها ( 44 ) فهي تعديل اليهود حد الزنى من الرجم إلى التحميم والجلد ، كما ذكر السيوطي والزمخشري . فتحريف الكلم عن مواضعه يعني إذن هذا التأويل لا غير . وإذا أمعنا النظر في دقائق النص نرى أن الله لعن اليهود بسبب نقضهم ميثاقهم الذي عهد الله فيه إليهم بافيمان بالرسل ومناصرتهم ( الآية 13 ) ، ومنهم محمد ، فقست قلوبهم وباتت لا تلين لقبول الإيمان ، بل مضت تحاول تأويل الميثاق والميل به عن معناه بحسب أهوائهم ؛ وقد نسوا حظاً مما ذكروا به على لسان الأنبياء بوجوب الإيمان بالنبي الآتي ؛ فجاء محمد على فترة من الرسل يبين لهم ام نسوه ( الآية 21 ) ويبين لهم الكثير مما كانوا يخفون من الكتاب ( الآية 16 ) . فتحريف الكلم من ثم مقصور على نقض الميثاق وتناسي ذكر الأنبياء ، وإخفاء أشياء من الكتاب على الناس فالتعبير " يحرفون الكلم عن مواضعه" يفسره ما قبله وما بعده من هذا المقطع كله ( 13 – 21 ) . لقد أخذ الله على اليهود العهد بأن يؤمنوا برسله ( الآية 13) ، فنقضوا العهد ولم يؤمنوا بيحيى ولا بعيسى ولا بمحمد ؛ ووجدوا في أنبيائهم نعت " النبي الآتي " فلما ظهر محمد كتموه وفسروه بمعنى آخر فغيروا الكلم عن مواضعه أي معانيه . فهم لم يغيروا النص الأصلي بل " نقضوا ميثاقهم " وأهملوا العمل بما جاء في " ذكرهم " من نعت " النبي " وضرورة قبول نبوته ؛ ودسائسهم على النبي العربي لا تنتهي " فلا تزال تطلع على خائنة منهم " . بيد أن جميع محاولاتهم هذه قد باءت بالفشل لأن الرسول " يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب " ( الآية 16 ) . وهذه الآية ( 16) الناطقة بالإخفاء والكتمان تفسر الآية 14 عن التحريف . فالتحريف المذكور إذن لا يُقصد به سوى كتمان النص أو كتمان معناه على الناس ، لا غير . . النص الرابع من سورة المائدة أيضاً : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ز ومن الذين هادوا سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم " ( الآية 45 ) . يعزى الله لرسوله عن كفر المنافقين من المشركين الذين آمنوا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهؤلاء المنافقون من اليهود ؛ ونفاق اليهود يقوم على " تحريف الكلم من بعد مواضعه " في حادثة معينة يذكر من ظروفها .. سماع قوم منهم لكذب قوم آخرين ، وتحريضهم لهم :" إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " . وأجمع المحدثون والمفسرون أن الحادثة المذكورة ترجع إلى تفسير اليهود لآية الرجم في التوراة بالجلد . فالتحريف المنصوص عنه ههنا في القرآن يُقصد به آية واحدة بعينها . وهذا التحريف يفسره النص ذاته بتغيير المعنى لا بتغيير اللفظ حيث يقول : " يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " فالتحريف إذن إنحراف في المعنى لا تبديل في اللفظ . ومما يدعم قولنا أن " تحريف الكلم من بعد مواضعه " يراد به تأويل آية الرجم لا تغيير لفظها ، هو ما نُعت به اليهود في قوله :" سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين " فالكذب على الكتاب هو تبديل معنى لا تغيير لفظ وتحريف مبنى . وإذا اقتصرنا على التعبير بحد ذاته " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " فصيغة التعبير نفسها " من بعد مواضعه " تعني تحريف المعنى لا تغيير الألفاظ . وقد لخص البيضاوي مجمل التفاسير السابقة بقوله :" يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها إما لفظاً بإهماله أو تغيير وضعه ، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده " . وكلاهما لا يعني تبديل ألفاظ في النص بألفاظ غيرها ، فيقع التحريف بالمعنى الحصري . والمقطع كله " سماعون للكذب ... يحرفون الكلم من بعد مواضعه ... يقولون : إن اوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " قبل ذكره التحريف ومعه وبعده لا يُقصد به سوى حمل الكلم ، المقصود بسؤالهم ، على غير المراد منه وإجرائه في غير مورده فليس هناك دليل على تبديل ألفاظ غيرها . وقد لاحظت ، ولا شك ، إن محاولة التحريف المعنوي المذكور قام بها قوم " من الذين هادوا " ( "من " التبعيضية ) ، لا جميع اليهود معاً . والتحريف من جانب أفراد لمعنى آية يستحيل أن يتواطأ عليه الجميع ولا سيما إذا كانوا على اختلاف كما هم عليه إذ نراهم يختصمون إلى النبي ويستفتونه فينتصر للتفسير الحق . فليس من هذا القبيل أيضاً خوف على تحريف وتغيير في لفظ التوراة . ويختم هذا المقطع بذكر عداوة اليهود ومودة النصارى للمسلمين ( الآية 85 ) ؛ وفيه حصر آخر لفاعل التحريف ومعناه ومرماه . فيكون مما تقدم أن تهمة التحريف تنحصر في تغيير نفر من اليهود لمعنى آية واحدة لا غير فقل بربك ، بربك ، ألا ترى تلك التهمة الخطيرة المدوية أنها مجرد قرقعة ! وهل يستحق تغيير نفر من اليهود لمعنى آية الرجم بالجلد كل هذه الضجة الصاخبة ، واتهامهم اليهود تعسفاً بتحريف الكتاب اجمالاً ؟! " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " ! ( الآية 41 ) : تهم غير صريحة . وهناك تُهم غير صريحة بمجموعها معنى التحريف المذكور في القرآن . أنهم يتهم اليهود بالكفر بالوحي الجديد مع أنه مصدق لما معهم ( البقرة : 41 ، 89 و آل عمران : 69 ) . ويتهمهم أنهم يُلبسون حقيقة معنى الكتاب بباطل تفسيرهم : " ولا تلبسوا الحق بالباطل " ( البقرة : 41 ، آل عمران : 61 ) . ويتهمهم أكثر الأوقات بكتمان معنى الكتاب عن الناس " لا تلبسوا الحق بالباطل ، وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " البقرة : 41 ) ، أو كتمان نص بعض الآيات :" يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " إذ " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً " ( الأنعام : 91 ) بيد أنه " يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب " ( المائدة : 16 ) . يتهمهم بلي ألسنتهم في تلاوة الكتاب " لتحسبوه من الكتاب " ( آل عمران : 78 ) وفي قراءة القرآن " لياً بألسنتهم وطعناً في الدين " ( النساء : 45 ) . يتهمهم بالإعراض عن التوراة عند تحكيمها .. فإذا استشهد محمد بالتوراة " نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون " ( البقرة : 101 ) و " يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " ( آل عمران : 23 ) . يتهمهم بإخفاء الكتاب عن الناس لمآربهم وقد أمرهم الله أن يبينوه لهم " لتبيننه للناس ! ولا تكتمونه ! فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً " ( آل عمران : 187 ) . يتهمهم بنقض المياق الذي عقده معهم باتباع رسله والإيمان بالرسول الأعظم الذي يختمهم فنقضوا العهد ( المائدة : 13 ) . يتهمهم بالتظاهر بالإيمان مع إضمار الكفر وهذا هو النفاق :" وغذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " ( آل عمران : 119 ) ، وينافقون دائماً :" آمنوا بالذي أنول على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون " ( آل عمران : 72 ) . فكل هذه التهم ترجع في جوهرها إلى موقف واحد .. كتمان بعض اليهود لبعض آيات التوراة ، كتمان نص الآية أو كتمان معناها الحقيقي كي لا يستشهد بها محمد وقومه :" اتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ، أفلا تعقلون ؟" ( البقرة : 76 ) ؛ كانوا يخفون معنى بعض الآيات بشتى محاولات التأويل الباطل والتفسير العاطل ، وهذا كله ليس من التحريف الحقيقي في شئ لأن التحريف بمعناه الحصري هو تغيير النص بنص آخر غيره ! وهذا التحريف اللفظي كان مستحيلاً بشهادة القرآن نفسه إذ عنى تلميحاً وتصريحاً ، كما رأينا ، التحريف المعنوي لا اللفظي لبعض الآيات . وقد أظهر النبي " كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب " ( المائدة : 16 ) خاصة ىية الرجم ( مائدة : 44 ) ، وآية نعت محمد ( المائدة : 14 ) . فلا مجال بعده للخوف من خطر التحريف ؛ فضلاً عن أن القرآن قد جاء مصدقاً للكتاب ومهيمناً عليه فلا يمكن أن يشهد للتحريف ؛ ويشهد أيضاً أن المحاولة بإفساد بعض معاني الكتاب كانت فاشلة فضحها الموالون للنبي والمسلمين :" زإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً " ( آل عمران : 169 ) ، ولا سيما وأن من هذا الفريق الكتابي رجالاً راسخين في العلم : " والراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أننزل من قبلك " ( النساء : 162 ) ، وكانوا يتلون الكتاب حق تلاوته :" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ، أولئك يؤمنون به " بالكتاب والقرآن ( البقرة : 121 ) . فكيف يمكن أن يسمح ذلك النفر الصالح من الراسخين في العلم ، يؤيدهم محمد بقوته وقوة المسلمين ، أن يمس خصومهم نص التوراة عابثين محرفين ؟! إن محاولة الخصوم فاشلة من كل الوجوه |
|