عزازيل أو شيطان د. يوسف زيدان
(1) وهم عزازيل: كلمة عزازيل في العبرية (עזאזל - Azazel)، وهي في الكتاب المقدس اسم علم للروح الشرير الذي يسكن في البرية (اش13:21؛34:14؛ مت12:43). ومعنى اسمه في العبرية "عزّ إيل"، أي "قوّة الله". ويوصف في الميثولوجيا وفي الفولكلور الفلسطينيّ القديم بـ"رئيس أبناء الآلهة". ويُذكر في المغارة الرابعة في قمران 180 عادةً كرئيس الملائكة. كما يعني أيضًا الشيطان أو الجن في الصحاري والبراري أو ملاك ساقط. كما يعني أيضًا "العزل للخطيئة أو الفصل (بحسب الترجمة اليونانية السبعينية)[17]. وقد ورد اللفظ في (لاويين16: 8 و10 و26). حيث كان رئيس الكهنة في يوم الكفارة، الذي يتكرر مرة واحدة في السنة، يأخذ تيسين" ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع. ويلقي هرون على التيسين قرعتين قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرّب هرون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطية. وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل فيوقف حيّا أمام الرب ليكفّر عنه ليرسله إلى عزازيل إلى البرية" (لا16:7-10). فالتيس الأول يرمز لتكفير الخطايا والتيس الثاني، تيس عزازيل، يرمز لأبعاد الله للخطية عن شعبه. ولكن د. زيدان استخدمه كمرادف للشيطان، بل هو الشيطان نفسه، ولأنه يؤمن بوجود الشيطان ونقيضه الله، فقد صوره كالأنا الداخلي للإنسان، كصدى لما بداخل الإنسان، وكعقل الإنسان الباطن الذي يعبر عن فكره الباطن وصراع الأفكار الداخلية، والذي جعله د. زيدان في النهاية ينتصر على كل ما سبق أن آمن به الراهب. ويقول د. زيدان في إهداء الرواية "لِكُلِّ امرئٍ شَيْطَانُهُ، حَتَّى أَنَا، غَيْرَ أَنَّ الله أعانني عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ.."، (حديثٌ شريف، رواه الإمام البخاري بلفظٍ قريب)." ويقول بلسان عزازيل: "نعم يا هيبا، عزازيل الذي يأتيك منك وفيك"[18]. ويقول في أجابته على سؤال لمحرر جريدة الراي: "من المعروف أن معنى كلمة عزازيل هو الشيطان... فمن هو عزازيل الذي قمت بطرحه في روايتك؟
- عزازيل في الرواية.. هو الجزء المظلم من الذات الإنسانية، الجزء المطمور المخفي الذي لا يموت ما دام الإنسان حيًّا، فهو الذي يحركه ويربطه بالحياة، الذي يشجعه على تحقيق إرادته ثم ينتظر اللوم ويتحمله ويهنأ به، فيتحقق الطرفان.. الذي فعل، والذي كان مشجبًا علقت عليه الخطايا"[19].
ويصور د. زيدان عزازيل وهو يدفع راهبه لكتابه ما اسماه بمذكراته ليتركها مع الأناجيل التي اسماها بالمحرمة حتى تكتشف فيما بعد! والسؤال هنا لماذا وهي لا تليق براهب المفترض أن يعيش حياة البر والقداسة وهو، هنا يحيا حياة غارقة في الشك في كل شيء وانغماس في الجنس والرزيلة؟! أن من يدفن شيئًا بمثل هذه الطريقة عادة ما يؤمن أنه يدفن الحقيقة التي لم يستطع كشفها في أيامه لتفيد من يعرفها فيما بعد! فأي حقيقة يريد د. زيدان من الراهب أن يسجلها ويدفنها لتكتشف فيما بعد؟ هل يريد أن يؤكد أن ممارسة الجنس المحرم وإطلاق الإنسان العنان لشهواته وترك الراهب للرهبنة وتخليه عن نذره وعن كل ما هو مقدس وإلقاءه بالصليب وزي الرهبان على الأرض! بل وعن الإيمان نفسه، هو الحق الذي لم يستطع أن يكشفه في زمانه، بالرغم من أنه فعل ذلك؟! أم هي الكتب المنحولة التي أسماها بالمحرمة؟ أم يريد أن يقول أن الحق كان مع آريوس ونسطور، برغم تضادهما في الفكر والعقيدة، وغيرهما من الهراطقة؟ وبالتالي ما عليه الكنيسة الآن من إيمان وتمسك الراهب بالفضيلة والعفة هو الخطأ؟! بل أن تركه لكل ما هو مقدس وللإيمان وانطلاقه لحياة الحرية التي لا يقيدها مبدأ ولا دين ولا عرف ولا مقدس هو ما حدث، كما صور د. زيدان بلسان الراهب: "عزازيل يعشق الحياة فهي مرتعه، ولذلك هو يكره الداعين إلى نبذ المباهج والأفراح، ولا يطيق الزُهاد والمنقطعين عن الحياة. يسميهم الحمقى!"[20]! وهذا ما يوضحه لنا بصورة أوضح في الحوار التالي حيث يتساءل الراهب: "ما الذي يريده عزازيل مني، ولماذا يدفعني لكتابة ما كان وما هو كائن؟ لابد أن له غرضا شريرا، موافقا لطبيعته. لقد احتال علي حتى أغواني بحكاية ما جري مع أوكتافيا من فحش وخطية، فتدنست روحي وتكدرت.
- وهل كانت روحك صافية، يا هيبا، قبل الكتابة؟
- عزازيل؟ جئت...
- يا هيبا، قلت لك مرارا أنني لا أجيء ولا اذهب. أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. فانا آت إليك منك. وبك، وفيك. إنني انبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو اقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك، أنا الذي لاغني لك عنه، ولاغني لغيرك. وأنا الذي..
- هل بدأت ترنيمة التمجيد، لذاتك الإبليسية؟
- عفوا، سألتزم الصمت. وماذا تريد الآن؟
- أريدك أن تكتب يا هيبا. اكتب كأنك تعترف، وأكمل ما كنت تحكيه، كله... اذكر ما جري بينكما وأنتما تنزلان الدرج".
ويقول في الصفحات التالية[21]: "اسكت، وعْد أنت من حيث.. أيها الوجود الغامض المخايل.
- أعدني أنت، فأنت الذي أوجدتني.
- أنا لم أوجد أحدًا.. أنا الآن احلُم.
- إذنً،سوف يطول حلمك يا هيبا!
- أنت تناديني بأسمى المشهور.. فما أسمك أنت؟
- عزازيل".
ولكي يؤصل د. زيدان مفهومه في عزازيل باعتباره خرافة وليس حقيقة، بل هو الإنسان نفسه، فكر الإنسان والأنا المعبر عنه، يقول: "في أصل عزازيل أراء وأقاويل. بعضها مذكور في الكتب القديمة، وبعضها منقول عن ديانات الشرق لا تؤمن كل الديانات بوجوده، ولم يعرفه المصريون القدماء، العرفاء.. ويُقال أن مولده في وهم الناس، كان في زمن سومر القديمة، أو كان أيام الفرس الذين يعبدون النور والظلام معًا، ومنهم عرفه البابليون. ثم كان ذكره الأشهر، في التوراة التي كتبها الأحبار بعد عودة اليهود من السبي البابلي. أما في ديانة المسيح فالمذاهب كلها تؤكده، ولا تقبل الشك فيه فهو دومًا في مقام عدو الله، وعدو المسيح، ولا يعرف مقامه من الروح القدس!.. روى عنه القدماء، أنه خلق الطاووس، فقد ورد في نقش قديم، أنهم عيروا عزازيل بأنه لا يفعل إلا القبائح، ولا يدعو إلا إليها، فأراد أن يثبت لهم قدرته على فعل الجمال فخلق هذا الطائر. قلت ذلك يومًا لعزازيل، فابتسم وهز كتفه اليمين متعجبًا.
وراح يقول بلسان الراهب: "سمعت صوت عصافير تملأ الأفق، وكان باب الصومعة مفتوحًا، وعزازيل يجلس صامتًا عند الباب. أحببت أن أسمع منه صوته سألته أي أسماء أحب إليه؟ فقال: كلها عندي سواء، إبليس، الشيطان، أهريمان، عزازيل، بعلزبوب، بعلزبول، قلت له أن بعلزبول تعنى في العبرية سيد الزبالة وبعلزبوب تعنى سيد الزباب، فكيف لا يكترث بالفروق التي بين أسمائه، ويراها كلها سواء؟ قال: كلها سواسية فالفرق في الألفاظ، لا في المعنى الواحد.
0.. سالت عزازيل عن المعنى الواحد لأسمائه الكثيرة فقال: النقيض[22].
وهكذا يؤكد لنا د. زيدان فكره بأن عزازيل أو الشيطان هو الأنا الداخلي للإنسان، المعبر عن أفكاره ورغباته! وفي هذه الرواية هو د. يوسف زيدان نفسه أو الأنا الداخلي وعقله الباطن وأن ما كتبه في هذه الرواية وما وضعه على لسان بطله هيبا كتبه بوحي من شيطانه هذا أو عزازيله الذي زعم أن الله أعانه عليه والذي من الواضح أنه لم يعينه عليه بل سيطر عليه تمامًا!
(2) الله المألوه، الذي خلقه الإنسان، ونقيض عزازيل! ويتضح فكر د. زيدان أكثر عندما يتحدث عن الله، بالمقابلة مع عزازيل، لا باعتباره خالق الكون ومدبره كلي الوجود والقدرة والعلم، بل باعتباره وُجد بفعل الفكر البشري! أوجده الإنسان! خلقه فكر الإنسان! لم يخلق هو الإنسان بل الإنسان هو الذي خلقه! الله في الرواية، وفي فكر د. زيدان مثله مثل عزازيل، مجرد وهم في خيال وفكر الناس! فهو نقيض عزازيل، فإذا كان عزازيل وهم فالله أيضًا وهم! وعزازيل هو الذي صوره خيال الإنسان ونسب له التحريض على فعل الشر ليبرر به، الإنسان، شروره، ومن ثم فقد أوجد خيال الإنسان، أيضًا، الله ليكون نقيضًا للشر ويعلل به الخير الذي في داخله! أي أن كل من عزازيل والله وهم من اختراع الإنسان وخلقه! فيقول:
" هل خلق الله الإنسان أم العكس؟
- ماذا تقصد؟
- يا هيبا، الإنسان في كل عصر يخلق إلها له على هواه، فإلهه دوما على هواه وأحلامه المستحيلة ومُناه... أن الله محتجب في ذواتنا والإنسان عاجز عن الغوص لإدراكه! ولما ظن البعض في الزمن القديم، أنهم رسموا صورة للإله الكامل، ثم أدركوا أن الشر أصيل في العالم وموجود دومًا؛ أوجدوني (أي عزازيل) لتبريره"!
وكما قال عن عزازيل: "ويقال أن مولده في وهم الناس... عزازيلُ نقيضُ الله المألوه.. هو أذن نقيض الإله الذي عرفناه، وعرفناه بالخير المحض. ولأن لكل شيء نقيضا، أفردنا للشر المحض كيانا مناقضا لما افردناه أولًا، وسميناه عزازيل وأسماء أخرى كثيرة"[23]. ويصور عزازيل والله الذي يسميه بالمألوه، أي الذي أخترعه فكر الإنسان، كنقيضان من خيال الإنسان: "عزازيل نقيض الله المألوه.. هذا ما قاله لي همسًا، بلغة أخرى غير اللغة السابقة التي لم أعرفها. غير أنني فهمت عبارته وهمت في معانيها.. هو إذًا نقيض الإله، عرفناه، وعرفناه بالخير المحض. ولأن لكل شيء نقيضا، أفردنا للشر المحض كيانا مناقضا لما افترضناه أولًا، وسميناه عزازيل وأسماء كثيرة أخرى.. قلت همسًا..
- لكنك يا عزازيل، سبب الشر في العالم.
- يا هيبا كن عاقلًا، أنا مبررُ الشرور.. هي التي تسببّنُي.
- ألم تزرع الفرقة بين الأساقفة؟ أعترف!
- أنا أقترف ولا أعترف، هذا ما يريدونه منى.
- وأنت، ألا تريد شيئا؟
- أنا يا هيبا أنت، وأنا هم.. تراني حاضر حيثما أردت، أو أردوا. فأنا حاضر دومًا لرفع الوزر، ودفع الأثر، وتبرئه كل مدان. أنا الإرادةُ والمريدُ والمرادُ، وأنا خادم العباد ومثير العباد إلى مطاردة خيوط أوهامهم.
عزازيل يعشق الحياة فهي مرتعه، ولذلك هو يكره الداعين إلى نبذ المباهج والأفراح، ولا يطيق الزُهاد والمنقطعين عن الحياة. يسميهم الحمقى! قمت من مجلسي، فأغلقت الشباك الذي كان مفتوحا على ساحة الدير، وكان نور الصباح قد بدأ إشراقه. أردت مواصلة الكلام مع عزازيل فأسندت جبهتي على اليسار وسألته.
- أأنت الذي قابلتني عند حدود بلدة سرمدة، وعند نزولي من جبل قسقام بمصر؟
- ما هذا الذي تقول؟ أنا لا وجود لي، مستقلا عنك. أنا يا هيبا أنت، ولا أكون إلا فيك.
- ألا تتجسد يا عزازيل في أشخاص بعينهم؟
- التجسد خرافة"[24].
ويختم د. زيدان روايته بإقناع عزازيل لهيبا بعبثية الإيمان وباتخاذ القرار النهائي بكتابة مذكراته التي تحطم الإيمان بكل شيء وتجعله يترك الرهبنة وينطلق للحياة حرا من كل قيود تمنعه من اللهو والاستمتاع بمباهج الحياة التي وجدها مع أوكتافيا ومرتا: "أمضيت يومين بالمكتبة أحاور عزازيل حتى أقنعته بأمور، وأقنعني بأمور كنُت مترددًا فيها.. كان مما أقنعني به وصادف هواي في نفسي، أن أختلي بصومعتي هذه أربعين يومًا أدون خلالها ما رأيته في حياتي منذ هروبي من قرية أبي، حتى رحيلي عن هنا، غدا، للقيام بما اتفقنا عليه.
وها هي الأيام الأربعون قد مرت، وتم اليوم تدويني. وما ذكرت فيه إلا ما تذكرت أو رأيت في أعماق ذاتي.. وها هو الرق الأخير، ما يزال معظمه خاليًا من الكتابة ولسوف أترك هذه المساحة بيضاء، فربما يأتي بعدي من يملؤها. والآن سأغفو قليلًا، ثم أصحو عند الفجر، فأضع الرقوق في هذا الصندوق، وأواريه التراب تحت الحجارة الكبيرة التي عند بوابة الدير. ولسوف أدفن معه خوفي الموروث، وأوهامي القديمة كلها. ثم أرحل مع شروق الشمس حرًا".
فعزازيل في الرواية، هو المعبر عن الإنسان نفسه، هو الإنسان نفسه، فالإنسان هو الذي أوجده ليبرر به أفعاله الشريرة، كما أوجد الله ليبرر الخير الذي بداخله، ولذا فهو المحرك والمدبر ولسان حال د. زيدان وبطله المعبر عن أفكاره! وكما يقول (الأستاذ محمد الحمامصي) هو الظاهر والمختفي، الصريح والمراوغ، وهو الداعي للكتابة والتدوين، اكتشفه الراهب هيبا في ذاته، بعد مخايلة طويلة ظلت الرواية بزمانها الدائري تشير إليه، حتى تجلى بداخله في واحد من أعمق فصول الرواية وأكثرها روعة".