|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المخافة الربّانية والحكمة والشريعة يربط السفر بين المخافة الربّانية والحكمة والشريعة، جاء الحديث عن المخافة الربّانية أو مخافة الله في هذا السفر أكثر من 55 مرة. لم يتكرَّر هذا التعبير "مخافة الربّ" وما يعادله في أي سفر آخر بهذه الصورة سوى في سفر المزامير حيث ورد 79 مرة. لقد افتتح السفر بتأكيد "أن كل حكمة هي من الربِّ، ولا تزال معه إلى الأبد" (1: 1). جاء تعبير المخافة الربّانية في هذا السفر بمعنى أخذ موقف التكريم التام والمهابة والتقدير لله القدير، خالق المسكونة. يؤكد هذا التعبير قوة الله وقدرته وجلاله وسلطانه. لا تعني كلمة مخافة هنا الفزع أو الرعب، لأن مخافة الربّ هي اعتراف بسرّ السمو الإلهي المرتبط بالإيمان المُمتزج بالحب كما ورد في (تثنية 10: 12). وكما يقول القديس هيلاري أسقفبواتييه: "كلّ مخافتنا في الحُبِّ"[22]. الإنسان الذي يتمتَّع بمخافة الرب تطول أيامه ويغتني ويتمتع بصحة جيدة (1: 12-13، 17-18). يرى البعض أن ابن سيراخ يُحسَب ابنًا وارثًا للسيدة الرمزية "الحكمة" في شخصنتها (24: 1-32؛ 4-20). يحتفل بها ويكرمها كأوّل خليقة الله (1: 4؛ 24: 3)، وعطيّة الله الفائقة التي تُوهب لخائفي الربّ (1: 10، 26). كما يحسب نفسه وارثًا لمخافة الربّ، كبدء الانطلاق في رحلة نحو الحكمة. هذا في نظره لا يُقَلِّل من تقديره لمخافة الربّ، إذ يُقَدِّمها بداية الحكمة وكمالها وتاجها وجذرها أو أصلها (1: 14-20)، بل وهي كُلية الحكمة أيضًا (19: 20). مخافة الربّ هي المفتاح الذي يفتح باب الحكمة للإنسان. هي أصل الحكمة وتاجها وكمالها "مَخافةُ الرَّبِّ مَجدٌ وفَخر وسُروٌر وإكْليلُ ابتِهاج... كمال الحكمة هو مخافة الرب، وتملأ الناس بثمارها... تملأ بيتهم كله بالمشتهيات، ومخازنهم بغلاتها مخافة الربّ مجد وفخر وسرور وإكليل ابتهاج... مسرة الحكمة هي مخافة الربّ، وتُسكر الناس بثمارها... تملأ كل بيت من بيوتهم بالمشتهيات، ومخازنهم بغلاتها" (1: 9-15). مخافة الربّ عند ابن سيراخ هي[23]: 1. بدء الحكمة (1: 12). 2. كمال قياس الحكمة (1: 14). 3. إكليل الحكمة (1: 16). 4. خائف الربّ لن يعصى كلماته (2: 15). 5. خائف الربّ يطلب رضا الربّ (2: 16). 6. مخافة الربّ تمارسها كل نفسٍ (7: 29). 7. مخافة الربّ هي توبة القلب بالرجوع إلى الربّ (21: 6). 8. لا شيء أفضل من مخافة الربّ (23: 27). 9. مخافة الربّ مثل فردوس البركة (40: 27). أما عن الحكمة فهي الخط الرئيسي الذي يتخلَّل السفر من بدايته حتى نهايته، مؤكدًا أنها عطية إلهية. حكمة الله ليست فكرة مُجَرَّدة كحكمة الإنسان، إنما هي محيط يتعذَّر استيعابه، "لأن فكرها أعمق من البحر، ومشورتها أعمق من الهاوية العظيمة" (24: 29). يصورها الكاتب كشجرةٍ مُثمِرةٍ، وكرمةٍ تقدم كل الخيرات، خاصة الفرح الإلهي. وردت كلمة "الحكمة" في سفر ابن سيراخ أكثر من ستين مرة. واعتبر طالب الحكمة ابنًا له. يبدأ النصف الثاني من السفر بشخصنة الحكمة لتُعلِن أنها تُغَطِّي الأرض كلّها وتسكن في الأعالي، وتُقِيم عرشها في عمود السحاب، وتتمشَّى في أعماق الهاوية (24: 1-5). لتنصب خيمتها في يعقوب، أي في شعب الله، وتستقر في صهيون، لتُقِيم من المؤمنين شعبًا مجيدًا يحمل قوّة إلهيّة، يعتزّ الربّ نفسه به. وكأن الحكمة تطلب صداقة فريدة مع المؤمن كشخصٍ ومع المؤمنين كجماعةٍ مقدسةٍ. إنها تسقي شعب الله بمياه الروح كي تُحَوِّلهم من بريةٍ إلى جنةٍ مُبهِجةٍ (24: 30-31). قد تبدو الوصايا أحيانًا اجتماعية بحتة، لكن السفر وهو يهتم بالحياة الاجتماعية على مستوى الجماعة والفرد في نفس الوقت، غير أنه يبرز الحضرة الإلهية وعمل النعمة في حياة المؤمنين. يُمَيِّز القديس أغسطينوس بين حكمة الله الخالق، وبين الحكمة عطية الله. أو بين الحكمة كأقنوم إلهيّ أتى إلى البشرية ليُقَدِّم لهم الخلاص، وبين الحكمة كتدبيرٍ إلهيٍ لخلاصنا. فيقول: [خُلِقَت الحكمة قبل كل شيءٍ... هكذا يا لعظم الفارق بين الحكمة التي تخلق وتلك التي هي مخلوقة! إنه فارق عظيم مثل الفارق بين البرّ الذي يُبَرِّر والبرّ الذي يتحقَّق بالتبرير[24].] هذا ويدعونا السفر إلى تكوين علاقات مقدسة مع أصدقاء حكماء. إذ يكون المؤمن مواليًا لله ومُخلِصًا لشريعته، يتمتَّع بالالتصاق بحكمة الله. غير أنه يلزم أن يكون حريصًا لئلا تتسلَّل الخطية إليه، إذ يقول ابن سيراخ: "وإن ضلّ تهجره، وتُسَلِّمه إلى هلاكه" (4: 19). لهذا فإن الخطاة المُصرِّين على الخطية هم حمقى ولن ينالوا حكمة: "الناس الأغبياء لا يجدونها، والخطاة لا يرونها. إنها بعيدة عن المتكبرين، والكذّابون لن يحتفظوا بها في ذهنهم" (15: 7-8). أما السالكون في حياة الفضيلة في الربِّ فإنهم يلاحقونها كالصياد ويترصدون آثارها (14: 22). يشخصن personify السفر الحكمة؛ تارة يدعوها والدة تُعَظِّم أبناءها وتملأهم فرحًا (4: 12)، يرثونها (4: 16). كما يدعوها مُعَلِّمة teacher تؤدِّب تلاميذها (4: 17). إنها مثل زوجة الشاب الحكيم (15: 2). وهي محبوبة، يتودَّد إليها الحكيم (51: 13-21). يُعتبَر حفظ الشريعة التي أعطاها الله لإسرائيل، عنصرًا هامًا في تعليم ابن سيراخ. فهو يوصي دومًا بالشريعة التي تقود إلى برِّ الله، وتحفظ روح الصداقة بين المؤمنين، كما تُوَجِّهنا إلى الأسلوب اللائق عندما نُوبِّخ صديقًا. إنها مصدر الحكمة الأصلية. أهم ملامح السفر تُطابِق الشريعة مع الحكمة، فالحكمة هي الشريعة. "هذه كلها هي سفر ميثاق مع الإله العليّ والشريعة التي أوصانا بها موسى، ميراثًا لجماعات يعقوب" (24: 23). يؤكد ابن سيراخ أن الحكيم والبار يتَّحِدان معًا في شخص ذاك الذي يعمل مشيئة الله ويتقي الرب. هكذا تتجلَّى مخافة الربّ في حفظ الوصايا (1: 26؛ 2: 15؛ 10: 19). يُظهِر ابن سيراخ تشديده على الشريعة، ليس كرجل دينٍ شرعيٍ، وإنما لأنها تُعلِن عن الله وعلاقته بالناس مبنية على حياة التقوى. لذلك فهو يفسر الشريعة بروح تقديس الفكر والكلام والسلوك، أي خلال الأعماق الخفية والسلوك الأخلاقي والاجتماعي في الرب. رأى أن الشريعة والحكمة تياران متكاملان يصبّان في نهر عظيم مُتدفِّق وهائل لا ينضب (24: 23 -29)، وأن رسالته كمُعَلِّمٍ أن يُخرِج منه تعليمه لتلاميذه أو لأبنائه المحبوبين (24: 30 -34)، ليسقي نفوسهم كما لو كانت بستانه المحبوب لديه. إذ يقول: "هذه الشريعة تملأ البشر بالحكمة، مثل فيشون، ودجلة[25] في أيام بكور الثمار. وهي تملأهم فهمًا، كالفرات ومثل الأردن في أيام الحصاد. هذه الشريعة تُشرِق بالتعليم مثل النور، وهي تفيض كالنيل بالتعليم، مثل جيحون في أيام القِطَاف (العنب). كما أن الإنسان الأول لم يعرف الحكمة كاملة، هكذا الإنسان الأخير لا يستقصي أعماقها. لأن فكرها أعمق من البحر، ومشورتها أعمق من الهاوية العظيمة. وأنا كقناة خارجة من النهر، ومثل مجرى خرج إلى جنة. قلت: "أسقي بستاني، وأُبلل مجمعات الزهور المتناسقة". فإذا بقناتي تصير نهرًا، وبنهري يصير بحرًا" (24: 25-31). أَكَّد ابن سيراخ في أكثر من موضع أن الفرق بين "الحكمة البشرية المُجَرَّدة" "والحكمة الإلهية" أن الأخيرة مقرونة بالشريعة التي فيها أنفاس الله. الحكمة عند ابن سيراخ ليست إلاَّ حفظ التوراة عمليًا (24: 23). هذا لا يعني تجاهُل التناغم بين الحكمة والتوراة. فالتوراة ليست ملخصًا للحكمة بالرغم من أن الحكمة مستقرة في التوراة، تُعرَف عندما تُمارَس التوراة. أيضًا التوراة هي تهذيب تعليمي يحيا به المؤمن بحكمةٍ، ويبلغ به إلى الحكمة، عطية الله لحافظي الحكمة. يُوَضِّح ابن سيراخ أن حفظ التوراة ليس عقبة في تمتُّع الشخص أو الأمة بكرامة على مستوى العالم. على العكس حفظ المؤمن للتوراة يرفعه في الكرامة أمام العالم. كما أن الاستخفاف بالتوراة يدفع الأمة إلى العار والخزي حتى من غير المؤمنين. الإخلاص للشريعة الموسوية هو مصدر للكرامة حتى وإن كان الشخص فقيرًا. درب الحكمة عند ابن سيراخ هو درب التقوى والقداسة، لهذا كرَّس نصيبًا كبيرًا من السفر للتعليم عن الحياة التقوية. مخافة الربّ تستلزم اهتمامًا كبيرًا لتكريم الربّ مع الحرص على السلوك نحو الله والالتصاق به. لهذا ينصح طالبي المغفرة من الله أن يغفروا هم لإخوتهم (28: 1-7). هذا ويحذر الذين يعتمدون على مراحم الربّ وهم متهاونون في السلوك أن التباطؤ في العقوبة الإلهية لا يعني أن الخطية ليس لها فاعليتها في حياة الشخص والذين يتعامل معهم. لذلك يليق بالشخص أن يُسرِع إلى التوبة ولا يرجع ثانية إلى الخطية نفسها (34: 25-26). التزم ابن سيراخ بالاعتدال حتى لا ننحرف يمينًا ولا يسارًا (تث 5: 32)، فإن كان يعلن كثيرًا عن فيض مراحم الله مهما كانت خطايانا، غير أنه يؤكد عدل الله وعدم قبوله للشرّ، خاصة إن كان ثمرة تهاون واستهتار. |
|