![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
![]() مرثاة تنبع من القلب خَلِّصْنِي يَا اللهُ لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي [1]. يبدأ المرتل وصف حاله كمن هو في وسط بحر من الضيقات والمتاعب. يبدو كأنه إنسان في حالة غرق، تبتلعه الدوامات وأمواج البحر الثائرة ضده. هذه هي مشاعر يونان النبي وهو في جوف الحوت: "لأنك طرحتني في العمق، في قلب البحار... جازت فوقي جميع تياراتك ولُججك" (يون 2: 3). في موضع آخر يقول المرتل: "نشلني من مياه كثيرة" (مز 18: 16). يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح وحده بإرادته قبل الموت، أما نحن وإن كنا لا نَقْبَله بإرادتنا، إلا أننا نحتمله بصبرٍ، لأنه هو الطريق الوحيد للالتصاق به. يليق بنا أن نشرب المَرَّ الذي قدَّمه اليهود للسيد المسيح في وقت آلامه. حقًا إن الملذات الزمنية لذيذة، والتجارب المؤقتة مُرَّة، لكننا نستخف بملذات العالم من أجل عذوبة الحياة الأبدية. * يقول إن المياه دخلت إلى نفسه، لأن تلك الجموع التي أشار إليها تحت اسم المياه قادرة أن تحقق قتل المسيح... لهذا هل هو يصرخ كمن يتألم بغير إرادته، إلا لأن الرأس هنا يمثل الأعضاء (المتألمة). لأنه هو تألم لأنه أراد، أما الشهداء فلم يريدوا ذلك. فقد سبق فأنبأ لبطرس عن آلامه، قائلًا: "متى شخت فإنك تمد يديك، وآخر يمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء" (يو 21: 18). فمع أننا نرغب في الاقتراب من المسيح إلا أننا لسنا نريد الموت. ولذلك بإرادتنا أو بالصبر نتألم لأنه لا يوجد طريق آخر يُعطَى لنا (سوى الألم) لكي نلتصق بالمسيح. القديس أغسطينوس * لا تأتمن نفسك في أشياء تفيض دومًا، حتى تستطيع أن تقف ثابتًا. ليس من يستطيع أن يقف على الماء، إنما يجد الكل أمانًا عن الوقوف على صخرة الأمور الأرضية مثل الماء، مثل سيل جارف يعبر. يقول: "المياه قد دخلت إلى نفسي" [1]. الأمور الروحية صخرة، إذ يقول: "أقام على صخرةٍ رجليَّ" (مز 40: 2). الأمور الزمنية مثل وحلٍ وطينٍ، ليتنا نتخلص منها. فإننا هكذا يمكننا أن نبلغ إلى ظهور المسيح. القديس يوحنا الذهبي الفم لم يكن داود النبي بالشخص الذي يضعف أمام التجارب والضيقات، لكن هذا المزمور يكشف مدى ما لحقه من متاعب، حتى كاد يشعر بأن نفسه قد أوشكت على الغرق. أما عن السيد المسيح، فلا يمكن أن ننكر حقيقة تأنسه، وبالتالي فإنه من جهة الناسوت يعلن أنه تألم حقيقة. فبحبه وتواضعه تأنس ليحمل آلامنا، ويشاركنا أتعابنا. لم يتجاهل العهد الجديد آلامه، بل أبرزها ليؤكد حقيقة تأنسه. "كان يُصلِّي قائلًا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (مت 26: 39). "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو 12: 27). "الذي في أيام جسده، إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، وسُمِعَ له من أجل تقواه" (عب 5: 7). غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي [2]. يصوِّر المرتل موقفه أنه كإنسان في دوامة نهر أو بحر مملوء وحلًا، عاجز عن أن يتصرف، فقد صار ألعوبة في يد الدوامة وسط الوحل، وليس من مقر، إنما ينحدر على الدوام. شعر كأنه في أعماق بعيدة وسط المياه، وليس من منقذ، أو كمن يجرفه سيل شديد، وليس من نهاية! ليس من شيءٍ جامد يمكن أن يضع عليه قدميه ليتحرك في اتجاه معين، أو يجلس عليه حتى ليفكر كيف يَخلُص، وليس من عمق معين يبلغه... إنه في حاجة إلى عون من الخارج. يرى القديس أغسطينوس أن المُضطهَد والمضطهِد كليهما من الوحل. الثاني بسبب فقدانه البرّ صار وحلًا عميقًا يود أن يبتلع المُضطهَد الذي هو أيضًا مخلوق من الطين. لكن ماذا يفعل الضيق بالمُضطَهد؟ إنه يصير صورة الله وعلى مثاله. أي يصير ذهبًا! يَعبُر من التراب إلى الذهب! * ما هو الذي يُدعَى حمأة؟ هل هم ذات الأشخاص الذين يُضطهَدون؟ لأنه من الطين خُلِقَ الإنسان (تك 2: 7). لكن هؤلاء البشر الذين سقطوا من البرِّ صاروا وحلًا عميقًا، ومن لا يوافقهم يضطهدونه، ويريدون أن يسحبوه إلى الإثم فيخرجون من طينه ذهبًا. لأن الطين الذي لهم مثلهم يتأهل أن يتحوَّل إلى شكل سماوي. * شكرًا لرحمته ذاك الذي جاء إلى عمق البحر، ومنحنا أن يُبتلع بواسطة حوت البحر، لكنه لفظه في اليوم الثالث (مت 12: 40). جاء إلى عمق البحر، في ذاك العمق الذي أُلقينا فيه، ذاك العمق الذي حدث فيه دمارنا. جاء إلى هناك بنفسه، والعاصف جعله يغطس إلى أسفل، إذ عانى من الأمواج التي هي أصوات البشر القائلين: "اصلبه، اصلبه". تزايدت العاصفة حتى غطس في أعماق البحر. احتمل الرب الألم من أيدي اليهود، الذي لم يعانِ منه حين سار على المياه (مت 14: 25)، الأمر الذي لم يعانِ منه هو ولا سمح حتى لبطرس أن يعاني منه. القديس أغسطينوس تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ انْتِظَارِ إِلَهِي [3]. يُعْلِنُ المرتل أنه قد طالت صلواته جدًا وعَلت صرخاته واشتدت جدًا انفعالاته أمام الخطر الذي يلاحقه مع الحزن الشديد الذي خيَّم على نفسه، فيبس حلقه وصار في حالة خوار وإنهاك لكل قواه الجسمية والنفسية. لقد بُحَّ صوتُه وصار أجش، وكلَّت عيناه وذلك بسبب تركيز النظر لمدة طويلة في اتجاه معين انتظارًا لمجيء من ينقذ ويخلِّص. هذا ما يحدث مع العينين كما مع الجسد ككل، بل ومع القلب والفكر والنفس. في موضع آخر يقول داود المرتل: "خسفت من الغم عيني، نفسي وبطني. الآن حياتي قد فنيت بالحزن، وسنيني بالتنهد، ضعفت بشقاوتي قوتي، وبليت عظامي" (مز 31: 9). يرى القديس أغسطينوس أن السيد نفسه التزم الصمت أثناء محاكمته كما جاء في مزمور آخر: "وأكون مثل إنسانٍ لا يسمع، وليس في فمه حجة" (مز 38: 14)، وما جاء في إشعياء: "ظُلِم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساقُ إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش 53: 7)، فكيف يقول هنا: "تعبت من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3)؟ لقد قال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مز 22: 1). ولكن ما هو مدى شدة صوته، وإلى أي مدى زمني، حتى يجف حلقه؟ لقد طال وقت صراخه، إذ قال: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون" (مت 23: 13) إلى قوله: "ويل للعالم من العثرات" (مت 18: 7). لقد طال صراخه، حتى قال كثيرون من تلاميذه: "إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يفهمه؟" (يو 6: 60). إننا لا نعرف ما يقوله، قال كل هذه الكلمات؛ لكن حلقه يبس بالنسبة للذين لم يفهمونه. بخصوص قوله: "كلت عيناي من انتظار (الرجاء) في إلهي" [3]، لا يُقصَد بهما العينين اللتين في رأسه، فقد جاء خصيصًا لكي يصالح العالم مع الآب، فكيف كلت عيناه من الرجاء في الآب. إنما الحديث هنا عن عينيه اللتين في جسده، أي في أعضائه. إنه صوت أعضائه، لا صوت الرأس، كما يقول القديس أغسطينوس. * إن لم تصر عبدًا فالزم النوح على نفسك وأنت تقول: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3). لكي لا يُقال لك كما قيل إن "العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يُضرَب كثيرًا... ومَنْ يودعونه كثيرًا يُطالبونه بأكثر" (لو 47:12-48). لأنه كما أخذنا معرفة عظيمة فإننا بالمثل نصير في خطر عظيم. القديس إسطفانوس الطيبي أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ [4]. جاء المزمور كله يصوِّر ما حل بداود النبي من آلام ليس بسبب جريمة ارتكبها، وإنما بسبب حسد الأشرار له. فما حلّ به كان من أجل الله، إذ سلك في طريق مستقيم. هكذا السيد المسيح حمل الآلام ظلمًا، عوض ما كان يجب أن يحتمله آدم ونسله عدلًا! في حديث السيد المسيح الوداعي يقول لتلاميذه: "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالًا لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب" (يو 15: 24-25). من جهة العدد فيبدو كأن أعداءه بلا عدد، أكثر من شعر رأسه، ومن جهة الإمكانيات فإنهم يعتزون بقدرتهم وإمكانياتهم. مما أحزن قلبه أن ما حلَّ به كان بلا سبب، ظلمًا. لو أنه ارتكب خطأ ما، لاعتذر عنه أو عوَّضهم عنه، لكنه ليس من سبب حقيقي سوى البغضة الدفينة في قلوبهم من جهته وروح العداوة والحسد. إنهم يقابلون حبه بالعداوة، وكما قال في موضع آخر: "يجازوني عن الخير شرًا ثكلًا لنفسي. أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا" (مز 35: 12-13). لقد اُتهم داود ظلمًا، حين خرج شمعي بن جيرا يَسِبَّه ويرشقه بالحجارة، وكان يقول له: "اخرج، اخرج، يا رجل الدماء ورجل بليعال. قد ردَّ الربُ عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه، وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك، وها أنت واقع بشرِّك، لأنك رجل دماء" (2 صم 16: 7-8). بالأكثر احتمل السيد المسيح الآلام عنا ظلمًا. وكما يقول إشعياء النبي: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمَّلها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحُبره شُفينا" (إش 53: 4-5). ويقول القديس بطرس: "فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يُقَرِّبنا إلى الله، مماتًا في الجسد، ولكن مُحْيىً في الروح" (1 بط 3: 18). بإرادته قَبِلَ كلمة الله المتجسد أن يحقق العدل الإلهي فيه، عن خطايا ومعاصٍ وأخطاء لم يرتكبها، إنما ارتكبها آدم الأول وبنوه. لقد تُمم فيه الناموس، وحمل عقوبته عنا، هذا لم يكسر الناموس قط، لكي يردَّ الضالين إلى البرّ الذي هو مصدره. إن كان داود قد تألم بلا سبب، بسبب حسد البعض له، فإن ابن داود تألم عن البشرية كلها لكي يسدد دينها ويقدِّم لها بره وقداسته. يقول المرتل عن السيد المسيح إن أعداءه أكثر من شعر رأسه، وقد صُلِبَ السيد على جبل الجلجثة أي الجمجمة حيث نُزعَ الشعر عن الرأس، هؤلاء الذين أبغضوه بلا سبب، ونحن كأعضاء جسده لنترك العالم يبغضنا، ولكن بلا سبب، حيث لا نرد بغضة بالبغضة. * قارن أعداءه بشعر رأسه. لهذا فإنهم جُزوا عندما صُلب في موضع الجلجثة (الجمجمة) (مت 27: 33). والآن أيها المسيحي إن كان يلزم أن يبغضك العالم، لماذا لا تسمح له أن يبغضك بلا سبب؟ القديس أغسطينوس * "رددت الذي لم أخطفه" [4]. لهذا فإن المسيح باحتماله الموت ظلمًا دفع ما كان يجب أن يقدمه آدم عدلًا. بسط الأخير يده لثمارٍ حلوة، والأول بسط يديه للصليب المُر. واحد يشير نحو شجرة الموت، والآخر نحو شجرة الخلاص. ارتفع واحد ضد الله وسقط، وتواضع المسيح لكي يرفع كل البشر. جلب آدم الموت لكل أحد، واسترد المسيح الحياة لهم جميعًا . الأب قيصريوس أسقف آرل * المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته. جسده صار خبزًا ليحي موتنا...! المجد للديان الذي دين، وجعل تلاميذه الاثنى عشر يَدينون الأسباط، والجهلة يلومون كتبة الأمم! * اجتمعت الأمم وجاءت لتسمع ضيقاته! المجد لابن الصالح الوحيد، الذي رذله أبناء الطالح! المجد لابن البار وحده، الذي صلبه أبناء الشرير! المجد للذي حلّ رباطاتنا، ورُبط من أجل جميعنا! المجد لذاك الجميل الذي أعادنا إلى صورته! المجد لذاك الحسن الذي لم ينظر إلي قُبحنا! المجد لذاك الذي زرع نوره (مز11:97) في الظلمة، فصار باختفائه موضع تعبير، فكشف أسراره، ونزع عنا ثوب قذارتنا (زك 3:3)! المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته. جسده صار خبزًا ليحي موتنا! السبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 4:69 ، لو 6:16)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا![91] * المجد للذي حل رباطتنا، ورُبط من أجل جميعنا! السُبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 69: 4)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا! بحمله نيره كسر عنا قيود ذاك الذي أسرنا! المجد لكرَّام عقولنا الخفي! بذاره سقطت على أرضنا فأغنت عقولنا! ثمره جاء بمئة ضعف في كنز نفوسنا! مبارك هو "الراعي" الذي صار حملًا لأجل مصالحتنا! مبارك هو "الغصن" الذي صار كأسًا لأجل خلاصنا! مبارك هو "العنقود" الذي هو دواء الحياة! مبارك هو "الفلاح" الذي صار "قمحًا" لكي يزرع، و"حِزْمة" لكي تقطع! لنُسَبِّحه، فهو الذي أحيانا بتقليمه! لنُسَبِّحه، فهو الذي حمل اللعنة عنا بإكليل شوكه! لنُسَبِّحه، فهو الذي أمات الموت بموته! لنُسَبِّحه، فهو الذي زجر الموت الذي تغلب علينا! القديس مار أفرام السرياني * من جانب آخر، فإن السيد المسيح لم ينطق بغش من فمه (1 بط 2: 22، إش 53: 9).فالذي أظهر كل برّ وتواضع ليس فقط لم يتعرض لهذا النوع من الألم عن استحقاقه، بل وفُرِضَ عليه لتتحقق فيه نبوات الأنبياء، التي أعلنت أنها ستتم فيه، كما جاء في المزامير إذ سبق روح المسيح فتغنَّى قائلًا: "يجازونني عن الخير شرًا" (مز 35: 12). "حينئذ رددت الذي لم أخطفه" (مز 69: 4). "ثقبوا يديَّ ورجليَّ، أحصوا كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ" (مز 22: 16-17). "ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني ماء" (مز 69: 21). "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 17). لقد احتمل هذا كله لا عن شر ارتكبه، لكن لكي يتم فيه كلام الأنبياء... العلامة ترتليان * واضح أن الشَعْرَ أحيانًا يشير إلى الفضائل وأحيانًا أخرى إلى الخطايا. فعندما تكلم النبي عن خطاياه قال: "هذا الشَعْرُ الذي بلا عدد لرأسي". الأب قيصريوس أسقف آرل وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ [5]. ربما يتساءل البعض: كيف يحسب داود النبي ما حلّ به كان ظلمًا، وطُلب منه أن يرد ما لم يخطفه [4]، بينما يعترف هنا بحماقته وذنوبه؟ أ. إن كان ما حلّ به من أعدائه لم يكن بسبب خطية أو شر أو خطأ ارتكبه ضدهم، لكن داود لا يقدر أن يتبرر أمام الله، فقد يكون هذا تأديبًا من قبل الله عن خطايا ارتكبها خفية. ب. بالنسبة للسيد المسيح الذي بلا لوم ولا خطية، فإن ما احتمله من آلامٍ وصلبٍ وموتٍ ليس عن خطية ارتكبها، وإنما تكفيرًا عن خطايانا، فينسب ما نفعله نحن إليه، لكي يدفع الثمن في جسده بالصليب. لقد قدم نفسه ذبيحة خطية عنا. وكما يقول الرسول: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية (أو ذبيحة خطية) لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21). ج. يرى البعض أن المزمور كغيره من المزامير أو الأسفار النبوية تتنبأ عن السيد المسيح في عبارات معينة، لكن ليس كل المزمور أو أي أصحاح من الأنبياء يشير بكامله عن السيد المسيح. يقول القديس أغسطينوس ليس في السيد المسيح، قوة الله وحكمته، شيئًا من الحماقة والذنوب، إنما هنا صوت أعضاء جسده التي هي نحن. صوت اعترافنا بجهالاتنا وخطايانا ليغفر لنا خطايانا. لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوك، يَا سَيِّدُ رَبَّ الْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوك، يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ [6]. يطلب المرتل من إله السمائيين الإله القدير رب القوات، وإله شعبه المحبوب لديه، أن يسند منتظريه الذين يتكلون عليه، وأن يعطيه نعمة أمام قديسيه. في رأي القديس أغسطينوس إن هذا هو صوت السيد المسيح الرأس الذي يقول: "أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي" (يو 14: 1). وهو أيضًا صوت الكنيسة كلها التي بحق تقول: "لا يخزَ بي منتظروك يا رب، إله القوات" [6]. لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ. غطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي [7]. يؤكد المرتل أن ما حلّ به ليس بسبب خطأ ارتكبه أو شر مارسه ضد أحدٍ، وإنما من أجل الله نفسه. هذا حق بالنسبة لداود، كما بالنسبة للسيد المسيح، وللمؤمنين به. * ليس بالأمر العظيم ما قيل هنا: "احتملت"، فإن ما قيل هنا هو "لأجلك احتملت". أما إن كنت تحتمل لأنك تخطيء، فإنك تحتمل لأجل نفسك، لا من أجل الله. يقول بطرس: "لأنه أي مجد هو إن كنتم تُلطَمون مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تحتملون لأنكم تحفظون وصية الله فبالحق تحتملون لأجل الله، وتبقى مكافأتكم إلى الأبد." (1بط 2: 20) * يليق بالمسيحي أن يكون له عدم الخجل هذا، عندما يأتي بين أناس يكون لهم المسيح عثرة. إن كان يستحي من المسيح، فسيُمحى من كتاب الحياة. يليق بك ألا تخزى عندما تُهان من أجل المسيح. عندما يقولون لك: يا عابد المصلوب، يا متعبد لمن مات موتًا شريرًا، يا من تكرم المذبوح! هنا إن كنت تستحي فأنت ميت! انظر العبارة التي لا تخدع أحدًا. "من ينكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضًا قدام أبي الذي في السموات" (مت 10: 33؛ لو 9: 26). القديس أغسطينوس صِرْتُ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ إِخْوَتِي، وَغَرِيبًا عِنْدَ بَنِي أُمِّي [8]. ما يحزن قلب المرتل أن إخوته، أي بني جنسه، تجاهلوه وحسبوه غريبًا عنهم. أما ما هو أمَرّ من ذلك فإن بني أمه أي أقربائه جدًا الذين يحبهم أيضًا يتجاهلونه. "تجلس تتكلم على أخيك، لابن أمك تضع معثرة" (مز 50: 20). بلغ بالنبي أنه شعر بأن أقرب من له، أباه وأمه قد تركاه. إن أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمني" (مز 27: 10). كما عانى من أحبائه وأقربائه: "أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي، وأقربائي وقفوا بعيدًا" (مز 38: 11). * صار غريبًا عن بني المجمع... لماذا لم يعرفوه؟ لماذا دعوه أجنبيًا؟ لماذا تجاسروا قائلين: لا نعرف من أين هو؟ "لأن غيرة بيتك أكلتني" [8]، بمعنى أنني أضطهد فيهم آثامهم؛ لأنني أحتمل بصبرٍ الذين أنتهرهم؛ لأنني طلبت مجد بيتك، لأنني ضربت بالسوط الذين سلكوا في هيكلك بدون لياقة (يو 2: 15). القديس أغسطينوس وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ [9]. كان المرتل مملوءًا غيرة على بيت الرب، كما على الوصية الإلهية، وعلى خلاص كل نفس وقدسية الحياة. "أهلكتني غيرتي، لأن أعدائي نسوا كلامك" (مز 119: 39). * لاحظوا وجود نوعين من الغيرة، نوع مملوء حبًا والآخر مملوء بغضة. أشير إلى الأول في الكلمات: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9)، والآخر في الكلمات: "أمسكت الغيرة بالشعب الجامد، والآن تلتهم النار أعداءك" (راجع إش 26: 11). القديس أغسطينوس * إن السيد له المجد قد طَرد الباعة من الهيكل مرتين. الأولى في بدء كرازته (يو 2: 12-17)، والثانية قبل آلامه (مت 21: 12). وقد تم المكتوب في سفر المزامير: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9). * لكن كيف يمكننا أن نصير مقتدين بالمسيح؟ بممارسة كل شيء من أجل المصلحة العامة وليس لمجرد نفعنا الخاص. يقول بولس: "لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (رو 15: 3). ليته لا يطلب أحد شيئًا لنفسه. بالحق يطلب الإنسان ما هو لخيره، عندما يتطلع إلى خير قريبه. ما هو لخير الأقرباء هو خيرنا نحن، فنحن جسد واحد، وأعضاء لبعضنا البعض. القديس يوحنا الذهبي الفم * في المزمور الثامن والستين (LXX) يقول المخلص إنه لم يأتِ لأجل مسرته بل لأجل مسرة الله الآب. إذ يقول: "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني". (يو 6: 38) اعترض اليهود وحكموا عليه بالموت كخاطئ. لذا يضع المرتل نفسه في موضع المسيح ويقول: "تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (مز 69:9) الأب أمبروسياستر وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذَلِكَ عَارًا عَلَيَّ [10]. إذ بكى المرتل في تذلل أمام الله رافق البكاء بالصوم. يقول في موضع آخر: "أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13). يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان صائمًا، أي جائعًا وعطشانًا عندما تركه الذين آمنوا به. * إنه جوعه أن يؤمن الناس به، وعطشه عندما قال للمرأة: أنا عطشان، أعطيني لأشرب (يو 4: 7)، نعم كان عطشانًا إلى إيمان أولئك الذين قال عنهم: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). ولكن ماذا قدَّم له هؤلاء الذين كان يعطش إليهم؟ قدموا خلًا. الخل Vetus يُدعى أيضًا قديمًا old. لقد أعطوه الإنسان القديم ليشرب، ولم يريدوا أن يتجددوا... لقد قبل أن يصوم عن أن يقبل المرارة... وخلال هذا الصوم قبل العار، فصار موبخًا لأنه لم يقبل الشر. القديس أغسطينوس * من لا يصوم ينفضح ويتعرى ويتعرض للجراحات. لو أن آدم ستر نفسه بالصوم لما صار عريانا (تك 3: 7). تحررت نينوى من الموت بالصوم. والرب نفسه قال: "هذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (راجع مت 17: 21؛ مر 9: 29). القديس أمبروسيوس * بعد أن أعطيتِ اهتمامًا عظيمًا لأفكاركِ، يلزمكِ أن تلبسي سلاح الصوم، مترنمة مع داود: "أدَّبتُ بالصوم نفسي" (راجع مز 69: 10). "أكلتُ الرماد مثل خبزٍ" (مز 102: 5). "أما أنا فعندما أقلقتموني كانت ثيابي مُسحًا" (مز 35: 13 الفولجاتا) طُرِدَتْ حواء من الفردوس، لأنها أكلت من الثمرة الممنوعة، وإيليا من الجانب الآخر بعد أربعين يومًا من الصوم حُمِلَ على مركبة نارية إلى السماء. القديس جيروم جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلًا [11]. كانت علامات الحزن عند اليهود هي البكاء، والصوم، ولبس المسوح؛ وأحيانًا وضع التراب والرماد. يقول المرتل: "حوَّلت نوحي إلى رقصٍ لي؛ حللت مُسحي، ومنطقتني فرحًا" (مز 30: 11). أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا؛ أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13). * جعلت لباسي مسحًا، بمعنى وضعت ضدهم جسدي لكي ينفسوا عن غضبهم، أخفيت عنهم لاهوتي. إنه "مسح"، لأن جسدي كان قابلًا للموت، لكي يدين الخطية في الجسد. القديس أغسطينوس يَتَكَلَّمُ فِيَّ الْجَالِسُونَ فِي الْبَاب،ِ وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي الْمُسْكِرِ [12]. كانت مجالس القضاء عادة تقام عند أبواب المدينة (أي 29: 7-17؛ تث 25: 7؛ يش 20: 4؛ را 4: 1-2؛ 1 مل 22: 20؛ مرا 5: 14). وكان الهدف منها أنه إن أراد مُتَّهم أن يدخل المدينة يلزم دراسة حالته، فلا يُسمَح للظلم أن يُمارَس داخل المدينة. داود النبي الملك والقاضي صار كمن هو تحت محاكمة ظالمة، أو تحت سخرية من الذين أقاموا أنفسهم قضاة يحكمون عليه. وجاءت محاكمة ابن داود سواء في مجامع دينية أو دور قضاء مدينة تمثل فضيحة للطبيعة البشرية التي تود أن تحكم على ديان المسكونة كلها. وَجَدَ السكارى الذين يسلكون بلا تعقل في منظر المحاكمة مجالًا للسخرية، يرون في داود مثلًا وهزءًا وأضحوكة. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المُسكِر هو "عرقي بلح" المستخرج من البلح. * إخوتي، من يخاف الله يذكر كلمات الرسول بطرس "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (١ بط ٥: ٨). فإن لم يستطع أن يبتلعه عن طريق الانحراف به نحو الشر، يحاول أن يفسد حياته - إن كان ممكنًا - عن طريق انتهاره للناس وقبوله وشايات الألسنة المفترسة، وبهذا يسقط في فخ إبليس. فمتى عجز الشيطان عن إفساد حياة شخص بريء، حاول إهلاكه بإسقاطه في الشك القاسي من جهة أخيه، والحُكْم عليه بتسرُّع، ممَّا يُسقطه في فخاخه وبهذا يسهل افتراسه. ومن يستطيع أن يعرف أو يتكلَّم عن كل حيل إبليس وشباكه؟! ومع هذا أشير إلى ثلاث طرق من حيله حَذَّرنا الله ضِدَّها على فم الرسول. أولًا: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنَّه أية خُلطة للبرّ والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14) ثانيًا: أن لا نقبل وشاية الألسن المفتريَّة... ثالثًا: ألاَّ نكون في أدنى شك مُضِر، لا أساس له، من جهة أي خادم من خدَّام الله، متذكرين كلمات الرسول: "لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام، ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله" (١ كو ٤: ٥). كما قيل أيضًا أن الأمور التي من الخارج تخصُّكم أمَّا خفايا الأمور فتخص الرب إلهكم. إنه من الواضح أن مثل هذه الأمور لا تحدث في الكنيسة دون أن يحزن القدِّيسون والمؤمنون بسببها. ليت الله ذاته يكون عزاءنا هذا الذي أمرنا بأن نحزن وأوصانا ألاَّ نكون فاترين في الحب بسبب هذه الشرور، إنَّما نصبر إلى النهاية حتى نخلص. فلا تضيفوا إلى آلامي شيئًا بشكوككم التي لا أساس لها، من جهة أي إنسان. أتوسَّل إليكم ألاَّ تفعلوا هذا، حتى لا أقول لكم إنكم قد زدتم آلام جروحي. لأنَّه من السهل عليَّ احتمال تعييرات من هم يتلذَّذون بشرورهم، هؤلاء الذين قيل عنهم بخصوص المسيح نفسه "صرت لهم مثلًا. يتكلَّمون فيّ. الجالسون في الباب. (وصرت) أغاني شرابي المسكر" (مز ٦٩: ١٢). هذه التعييرات منهم أسهل عليَّ من أن تصدر من أولئك الذين تعلَّموا الصلاة وطلبوا السعادة. لأنَّه لماذا يجلس مثل هؤلاء عن الباب ويراقبون الساقطين ولو كان الساقط أسقفًا أو كاهنًا أو راهبًا أو راهبة. هؤلاء الذين لهم رجاء للإيمان والقيام؟! إن لم يكن وقت لكثرة رحمتك، ماذا نفعل من أجل كثرة آثامنا...؟ لماذا الرحمة؟ في غفران الخطايا! ولماذا الحق؟ في تحقيق الوعود! القديس أغسطينوس |
![]() |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الخطية لا تنبع من الظروف بل من القلب |
مزمور 109 | مرثاة أم تسبحة |
مزمور 55 - مرثاة أم تسبحة |
لأنه من داخل القلب تنبع الأفكار |
الصحة الروحية تنبع من القلب المنكسر |