التسليم الرسولي | التقليد
كان الرسل هو شهود العيان الذين أختارهم الرب وعينهم وأرسلهم ليكرزوا للخليقة كلها ويشهدوا له في العالم أجمع، وكان الروح القدس يعمل فيهم وبهم ومن خلالهم ويتكلم على لسانهم ويعلمهم ويذكرهم "يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم (34)" ويعلمهم أيضًا ما لم يكن في إمكانهم تعلمه قبل القيامة وحلول الروح القدس عليهم "أن لي أمور كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق.. ويخبركم بأمور آتية (35)".
ويحسب طلبه السيد نفسه للآب صار الرسل واحدًا مع الآب والابن بالروح القدس "ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم واحد فينا.. أن فيهم وأنت في (36)"، وحملوا البشارة، بشارة الخلاص الأبدي، وصاروا هم المستودع الذي وضع فيه كل ما يختص بها، وصاروا المرجع الأول للإعلان، الذي يعلنه الروح القدس من خلالهم عن كل ما عمله وعلمه المسيح، وقاد المسيح الكنيسة من خلالهم بروحه القدوس. كانوا هم القادة والموجهين والمرجع الذي يرجع إليه في كل ما يختص بالأخبار السارة، فهم الذين يرسلون الرسل إلى البلاد والذين يقررون ويصدرون التوصيات اللازمة لاحتياجات الكنيسة والمؤمنين، خاصة الجدد، وهم الذين يقررون صحة إيمان وكرازة الرسل والمبشرين والمعلمين، يقول بولس الرسول أنع على الرغم من أنه تسلم الإعلان من الرب مباشرة وأن الرب هو الذي قرر رسوليته باختياره له وتعيينه للكرازة باسمه "لأن هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبنى إسرائيل (37)"، إلا أنه كان عليه "بموجب إعلان" أيضًا أن يذهب إلى الرسل في أورشليم ليعرض عليهم الإعلان الذي تسلمه من الرب والكرازة التي يكرز بها أو ليعطوه هم، يمين الشركة وبراءة الرسولية ويرسلونه للكرازة "فأخذ برنابا وأحضره إلى الرسل وحدثهم كيف أبصر الرب.. فكان معهم يدخل ويخرج في أورشليم (38)"، "ثم بعد أربعة عشر سنة حضرت إلى أورشليم مع برنابا آخذًا معي تيطس أيضًا وإنما حضرت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي اكرز به بين الأمم. فإذ علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا (بطرس) ويوحنا المعتبرون أنهم أعمدة أعطونى وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأما هم فللختان (39)".
ولأنهم حملوا وصايا الرب، وكانوا، هم المستودع الأمين لها فقد تساوت وصاياهم وتعاليمهم مع تعاليم أنبياء العهد القديم ومع وصايا الرب نفسه لأنت وصيتهم هي وصيته وتعاليمه هي تعاليمه:
يقول بطرس "لتذكروا الأقوال التي قالها سابقا الأنبياء والقديسون ووصيتنا نحن الرسل وصية الرب والمخلص (40)"، ويقول يهوذا الرسول "أخو يعقوب"، "وأما أنتم أيها الأحباء فاذكروا الأقوال التي قالها سابقًا رسل ربنا يسوع المسيح (41)".
وهذا ما تعلمه وعلمه أيضًا الآباء الرسوليين تلاميذ الرسل الذين تتلمذوا على أيديهم واستلموا منهم الأخبار السارة. يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي تلميذ بطرس الرسول "أثبتوا إذًا على تعاليم الرب والرسل" (42).
"ثابروا على الاتحاد بإلهنا يسوع المسيح وبالأسقف وبوصايا الرسل (43)"، ويقول أكليمندس الروماني تلميذ بولس الرسول والذي يقول عنه القديس إريناؤس أنه "رأى الرسل القديسين وتشاور معهم (44)"؛ "من أجلنا استلم الرسل الإنجيل من الرب يسوع المسيح ويسوع المسيح أرسل من الله (الآب) (45)"، ويقول بوليكاربوس الذي رافق الرسل خاصة القديس يوحنا الحبيب "فلنخدمه (المسيح) بخوف وتقوى كما يأمرنا هو والرسل الذين بشرونا بالإنجيل والأنبياء الذين أعلنوا لنا عن مجئ الرب (46)"، ويقول القديس إريناؤس أسقف ليون (120-202م) "إذ أن الرسل وضعوا في أيدى الكنيسة كل الأمور التي تخص الحق بغزارة وفيرة، مثل رجل غنى (أكتنز ماله)فى بنك، لذلك فكل إنسان أيا كان يستطيع أن يسحب منها ماء الحياة (47)".
سلم الرسل لأعضاء الكنيسة، وبصفة خاصة القادة، ما تسلموه هم من الرب ونفذوا وصيته التي أوصاهم بها قبل صعوده مباشرة:
"أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به (48)".
وكان أسلوب الرسل في تسليم الأخبار السارة، الإنجيل، يعتمد على ثلاث أُسس هي:
الكرازة "كيريجما – Kegrema"، "أكرزوا بالإنجيل (49)".
التعليم "ديداكى – Didaky"، "وعلموهم أن يحفظوا".
العبادة الليتورجية "ليتورجى – Liturgy" (50)، "اصنعوا هذا لذكرى (51)".
كان الرسل يكرزون للجميع بالإنجيل وينادون بالخلاص لكل البشرية وذلك بالتوبة ومغفرة الخطايا بالإيمان بالمسيح كالمخلص الوحيد الذي بذل نفسه على الصليب لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية؛
"توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس (52)"، "له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا (53)"، "وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص (54)".
كانت الخطوة الأولى بعد الكرازة هي الإيمان بالمسيح "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك (55)"، ثم المعمودية "من آمن واعتمد خلص (56)"، ثم التعليم "وعلموهم". ثم الاندماج في العبادة الجماعية. وهذا ما حدث بعد حلول الروح القدس مباشرة لأول مجموعة آمنت بعد أول عظة للقديس بطرس:
"فقبلوا كلامه بفرح (آمنوا) واعتمدوا.. وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز (التناول) والصلوات (57)".
وكان المؤمنون بعد العماد يدخلون في اجتماعات التعليم أو التلمذة لكي يتعلموا عن طريق التلمذة "جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به (58)"، "وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به". ومن ثم فقد دعى المسيحيين الأولين بالتلاميذ "وكانت كلمة الرب تنموا وعدد التلاميذ يتكاثر (59)".
وكان التلاميذ، المؤمنون، يعيشون هذا التعليم عمليًا في العبادة الليتورجية بدأ من المعمودية التي هي ولادة روحية جديدة في المسيح وجواز المرور للدخول إلى ملكوت الله "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله.. إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله (60)"، وتقديس يوم الأحد الذي يذكر المؤمنين دائمًا وعمليًا بقيامة الرب من الموت، ثم التناول من جسد الرب ودمه للاتحاد به والثبات فيه "من يأكل جسدي ويشر ب دمى يثبت فيَّ وأن فيه (61)" وليكون ذكرى عملية وحيه لآلامه وسفك دمه وتقديم جسده وموته لغفران الخطايا "فأنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجئ (62)".
"وفى أول الأسبوع (الأحد) كان التلاميذ (المسيحيون) في ترواس، مجتمعين ليكسروا خبزًا (63)"، "لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم، اصنعوا هذا لذكرى. كذلك الكأس أيضًا بعدما تعشوا قائلًا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمى اصنعوا هذا كلما شربتم لذكرى (64)"، "كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح. الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح (65)".
سلم الرسل الكنيسة ما تسلموه هم من الرب "أنني سلمت إليكم ما تسلمته من الرب (66)"، وعلموا المؤمنين أن يحفظوا جميع وصايا وأعمال الرب بكل دقة وحرص أن يتمسكوا بكل حرف وكلمة وجملة وفقرة" تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته منى.. أحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا (67)". وكان الروح القدس يحفظ الكلمة سواء بالنسبة للرسل أو لمن سلموهم الأخبار السارة والذين كانوا بدورهم يسلمونها لآخرين أكفاء "وما سمعته منى بشهود كثيرين أودعه أناسًا أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا (68)". وكان الرسول بولس يمتدح أهل كورنثوس لحفظهم وحفاظهم على ما تسلموه "فأمدحكم أيها الأخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم (69)"، ويشكر الله من أجل أهل روما لإطاعتهم التسليم الرسولي من القلب "فشكرًا لله أنكم كنتم عبيدًا للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم الذي تسلمتموها (70)"، ويقول لأهل تسالونيكى "فأثبتوا إذًا أيها الأخوة وتمسكوا بالتقليد الذي تعلمتموه سواء بالكلام أم برسالتنا (71)"، ويقول القديس الإنجيلي بالروح أم ما سلمه الرسل للكنيسة كان مؤكدًا عندهم "الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا من البدء معاينين (شهود عيان) وخدامًا للكلمة (72)"، فقد كان المسيحيون الأولون يحفظون كل حرف وكل كلمة سلمت إليهم عن ظهر قلب، وكانوا كيهود سابقين مدربين على الحفظ، حفظ كلمة الله والتمسك بكل حرف فيها حتى الموت (73)، وكان الروح القدس الساكن فيهم يحفظ الكلمة فيهم ويذكرهم بها في كل وقت، كما لم يكونوا في الأيام الأولى للكرازة في حاجة لإنجيل مكتوب لأن وجود الرسل شهود المسيح على رأس الكنيسة، على قيد الحياة، كان هو الوثيقة الحية والصوت الحي للشهادة للمسيح ولكل ما عمله وعلمه، وحتى بعد انتشار رسائل الرسل وتدوين الإنجيل ظل المؤمنون يلجأون للرسل لمعرفة المزيد عن المسيح، يقول بابياس أسقف هيرابوليس (70-155 م.) والذي أستمع للقديس يوحنا وكان زميلًا لبوليكاريوس، كما يقول إريناؤس أسقف ليون (74): "وكلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى أو أي أحد آخر من تلاميذ الرب.. لأنني لا أعتقد أن ما تحصل عليه من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إلى من الصوت الحيّ، الصوت الحي الدائم (75)".
كان الرسل يعينون قادة الكنائس ويسلمونهم التقليد، التعليم، الأخبار السارة، الإنجيل ليسلموه بدورهم لآخرين:
"وأنتخبا لهم قسوسًا في كل كنيسة ثم صليا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به (76)"، "وإذ كانوا (بولس وسيلا وتيموثاوس) يجتازون في المدن كانوا يسلمونهم القضايا التي حكم بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم ليحفظوها (77)".
"فقد أرسلنا يهوذا (برسابا) وسيلا وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهًا (78)".