التلميذ الذي كان يسوع يحبه
القديس يوحنا الرسول الإنجيلي
المتنيح الأنبا غريغوريوس
اشتهر القديس يوحنا بين رسل المسيح وتلاميذه الاثني عشر بأنه كان التلميذ الذي كان يسوع يحبه (يوحنا13:23), (19:26), (20:2), (21:7, 20) وهو ذلك الذي كان قد اتكأ علي صدره أثناء العشاء والذي قال له:ربي من هو الذي سيسلمك(يوحنا13:25), وهو الذي عهد إليه المسيح له المجد وهو علي الصليب برعاية أمه العذراء مريم. قال الإنجيلفلما رأي يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه,واقفا, قال لأمهأيتها السيدة, هوذا ابنك, ثم قال للتلميذ: هي ذي أمك, ومنذ تلك الساعة أخذها التلميذ إلي بيته(يوحنا19:26, 27) وقد أقامت العذراء مريم في بيت يوحنا حوالي أربع عشرة سنة, ولم يغادر يوحنا فلسطين من أجلها إلي يوم وفاتها وصعود جسدها إلي السماء.
يوحنا الحبيب:
لهذا كله عرف القديس يوحنا الرسول باسم يوحنا الحبيب ولابد أنه كانت في يوحنا صفات وفضائل أحبه المسيح من أجلها:
1- ولعل أول هذه الصفات وأبرزها: أنه كان يحب المسيح له المجد محبة فائقة تميزت وبرزت علي محبة سائر التلاميذ. وهو أمر عرفه عنه المسيح وهو فاحص القلوب والكلي(الرؤيا 2:23) كما يتضح من إنجيله الذي اهتم فيه اهتماما خاصا بحديث رب المجد عن المحبة ووصيته فيها( راجع خصوصا)يوحنا 14:21, 23, 24, 28, 31), (15:10, 12, 13, 14, 15, 17).
وكذلك كتب عن المحبة في رسائله الثلاث المعروفة بين الرسائل الجامعة, ووصف الله فيها بأن الله محبة(1.يوحنا8:4).
وقد شدد الرسول القديس يوحنا علي المحبة بين الناس, واعتبرها المحك لمحبتنا لله, لكن هذه المحبة ليست كلاما, أو عاطفة جوفاء. إن المحبة الحقيقية عمل صالح نحو الناس, جميع الناس.
يا أحبائي, فليحب بعضنا بعضا فإن المحبة هي من الله. وكل من يحب فقد ولد من الله, ويعرف الله. ومن لا يحب لايعرف الله, لأن الله محبة....يا أحبائي, إذا كان الله قد أحبنا هذا الحب, فعلينا نحن أيضا أن نحب بعضنا بعضا...الله محبة. ومن يثبت في المحبة يثبت في الله, والله يقيم فيه...نحن نحب الله لأنه هو أحبنا أولا. إذا قال أحد: إني أحب الله وهو يكره أخاه, فهو كاذب, لأن الذي لا يحب أخاه وهو يراه, كيف يقدر أن يحب الله وهو لايراه . وهذه هي الوصية التي أخذناها عنه, من أحب الله أحب أخاه أيضا( 1.يوحنا4:7-21).
كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس. ونحن نعلم أن كل قاتل نفس لا تثبت الحياة الأبدية فيه. بهذا قد عرفنا المحبة بأن المسيح بذل نفسه لأجلنا. فعلينا نحن أيضا أن نبذل نفوسنا لأجل إخوتنا, وأما من توافرت له خيرات هذا العالم ورأي أخاه في احتياج فأغلق أحشاءه عنه, فكيف تثبت محبة الله فيه يا أبنائي؟ لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان, بل بالعمل والحق(1.يوحنا3:14-18).
وجاء عن القديس يوحنا الحبيب في تاريخ الكنيسة أنه ظل يكرز بالمحبة دائما. ولما بلغ سن الشيخوخة وأمسي عاجزا عن الوعظ الطويل صار يقتصر في مواعظه علي هذه العبارةيا أولادي: فلتحبوا بعضكم بعضا. فلما ضجر المؤمنون من هذه الكلمات المتكررة, قال لهم :إن المحبة هي وصية الرب. فإذا أتممناها فقد برهنا علي أننا تلاميذ الرب قال السيد المسيح :بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إذا أحببتم بعضكم بعضا(يوحنا13:35).
ومما يذكر عن محبة القديس يوحنا لخلاص الخطاة مارواه القديس أكليمنضس الإسكندري (نحو150-214م) في كتابه(من هو الغني الذي يخلص) عن الرسول يوحنا أنه ترك شابا حديث الإيمان في رعاية أحد أساقفة آسيا الصغري, فتعهده الأسقف بالوعظ والتعليم ثم عمده. وحدث بعد ذلك أن عاشر الشاب بعض أصدقاء السوء فأمالوه عن طريق الفضيلة, وأخذ ينحدر في مهاوي الرذيلة إلي أن أمسي من قطاع الطرق, بل وزعيما لعصابة من اللصوص, فلما عاد الرسول يوحنا سأل الأسقف عن الشاب. فبكي الأسقف للحال التي صار إليها الشاب وتردي فيها. عندئذ طلب القديس يوحنا فرسا وأخد معه دليلا مرشدا, حتي وصل إلي حيث يقيم الشاب علي أحد الجبال, وهناك رأي اللصوص القديس يوحنا فقبضوا عليه وجاءوا به إلي زعيمهم, وكان هو هذا الشاب الذي ضل سواء السبيل. فلما تنبه الشاب أنه أمام الرسول القديس يوحنا وجها لوجه, لم يقو علي الوقوف أمامه, فولي الأدبار هاربا من حضرته. أما الرسول القديس فقد استرد شبابه وشرع يجري وراء الشاب وهو يقول:ابني, يا ابني, مابالك تجري هاربا من وجه أبيك وهو شيخ وأعزل ولا سلاح بيده؟! ارحم نفسك, ووقر شيخوختي...ولا تخش ضرا. فمازال الرجاء متوفرا لخلاصك...وأنا كفيلك عند المسيح...وإني أبذل حياتي من أجل خلاصك, كما بذل يسوع المسيح حياته من أجلنا...قف في مكانك, وأيقن أن المسيح هو الذي أرسلني إليك.... فلما سمع الشاب هذه الكلمات العاطفية المثيرة انهار أمام الرسول القديس, وانخرط في بكاء متواصل نادما علي ماوقع فيه من شر وضلال... فعانقه الرسول بحنان وطمأنه, وأعلن له قبول توبته, ورده إلي الكنيسة بعد أن منحه الحل من خطاياه.
ومع هذه المحبة العظيمة التي امتلأ بها قلب الرسول القديس يوحنا, نحو الله والناس, أصدقاء كانوا أو أعداء, إلا أنه كان شديدا علي الهراطقة وأصحاب البدع والتعاليم الغريبة عن الكنيسة, وكان يعتبرهم أعداء للإيمان ومقاومين للمسيح. وكان يحذر المؤمنين منهم ومن تعاليمهم الهرطقية الضارة وكان يدعو بحرارة إلي مقاطعتهم وإلي قطع الشركة المسيحية معهم. من هؤلاء الكيرنثيون والأبيونيون والنيقولاويون والغنوسيون وغيرهم.
وجاء عن القديس يوحنا الحبيب في كتابالرد علي الهرطقات للقديس إيريناوس( مات شهيدا نحو202م) , أنه رأي مرة في حمام عام بعض المؤمنين ومعهم فيه كيرنثوسCERINTHUS الهرطوقي, وهو من قادة الإبيونيين وكان يزعم أن السيد المسيح مولود بالطبيعة من يوسف ومريم, فصاح فيهم القديس يوحنا الرسول أن يخرجوا من المكان وأن يقطعوا شركتهم بكيرنثوس هذاعدو الحق وإلا حل عليهم غضب الرب فأطاعوه في الحال. وخرجوا من الحمام وقطعوا شركتهم بكيرنثوس.
2- ولابد أن القديس يوحنا الرسول كان يتصف بصفات أخري جميلة أحبه المسيح من أجلها, ومنها رقة الشعور, ودقة الإحساس, واللطف, والوداعة, والطاعة, وبساطة القلب, وطهارة الضمير, ونقاء السريرة, والبتولية والعفة....
3- ولعل من صفات الرسول يوحنا والتي أحبه المسيح إلهنا من أجلها: أنه أطاع الدعوة المقدسة وتبع المسيح له المجد وهو في شبابه المبكر. فقد كان القديس يوحنا أصغر جميع الرسل التلاميذ سنا.
يقول الكتاب المقدس خير للرجل أن يحمل النير في صبائه (مراثي إرميا3:27) ويقول أيضافاذكر خالقك في أيام شبابك قبل أن تأتي أيام السوء, وترد السنون التي فيها تقول ليس فيها لذة(سفر الجامعة 12:1).
يوحنا البتول
وكما عرف القديس يوحنا بـ يوحنا الحبيب اشتهر أيضا بـيوحنا البتول ذلك لأنه عاش بتولا كل أيام حياته. فلم يرتبط بزواج. ذلك لأنه بعد أن عرف المخلص رغب في أن يحيا مقدسا في الجسد والروح(1.كورنثوس 7:34). وقد وصف في رؤياه مجد الأبكار البتوليين وكرامتهم وهم يسبحون تسبيحة جديدة أمام العرش....هؤلاء هم الذين لم ينجسوا ملابسهم مع النساء لأنهم أبكار. هؤلاء هم الذين يصحبون الحمل حيثما يذهب (الجليان -الرؤيا14:3, 4).
يوحنا اللاهوتي
وسمي القديس يوحنا الرسول, أيضا بـ يوحنا اللاهوتي ذلك لأن الإنجيل حسبما كتبه القديس يوحنا أبرز لاهوت السيد المسيح ضدا لتعليم الهراطقة الذين ظهروا في زمان القديس يوحنا. وقد بدأ إنجيله بقوله:في البدء كان الكلمة...وكان الكلمة هو الله. كان منذ الأزل لدي الله. كل شئ به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان(يوحنا 1:1-4) وقد اهتم الرسول يوحنا بذكر المعجزات ذات الدلالة اللاهوتية والتي تبرهن علي لاهوت المسيح, كما اهتم بإيراد أقوال السيد المسيح وأمثاله التي تثبت لاهوته.
يوحنا الرائي
وقد عرف القديس يوحنا الرسول, أيضا بـ يوحنا الرائي لأنه رأي في جزيرة بطمس PATHMOS (الرؤيا1:9) وهي من جزر الأرخبيل جنوبي بحر إيجه(سبوراد) وكان قد نفي إليها بأمر الإمبراطور الروماني دومتيانوسDOMITIANUS(51-96م)- رؤياه العظيمة التي سجلها في سفر الرؤيا, وأنبأ فيها عن مجد الحياة الأبدية, وتناول الأحداث التي ستمر علي الكنيسة إلي مجئ المسيح الثاني للدينونة والحساب. وقد رأي ما رآه وهو في حالة من العمق الروحاني, والإشراق الباطني, والوجد الصوفي, وكأنه لم يكن في الجسد( 2.كورنثوس 12:2, 3) , وهي هذه الحالة التي وصفها بقولهصرت في الروح (الرؤيا 1:10) وهو مايعرف بالاختطاف (2كورنثوس12:2, 4) الروحي أو الانجذاب العقلي, حيث ينجذب الرائي إلي عالم الروح ويغيب (أعمال10:10) ,(11:5), (22:17), عن عالم الحس والشهادة ويصير إلي حالة من الاستغراق الروحي الكامل.وقد كتب القديس يوحنا هذه الرؤيا بناء علي أمر صريح وجه إليه من الله( الرؤيا 1:19) وهي آخر أسفار الكتاب المقدس.
ولعله إلي هذه الرؤيا الروحانية الجميلة كان يشير المسيح له المجد في كلامه إلي سمعان بطرس عن تلميذه يوحنا الحبيبلو أنني شئت أن أبقيه إلي أن أجئ ,فماذا يعنيك(يوحنا21:22, 23).
|