رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
النبوة الأولى [9-12]: إدانتهم بسبب زناهم. 9 فِي الأَنْبِيَاءِ: اِنْسَحَقَ قَلْبِي فِي وَسَطِي. ارْتَخَتْ كُلُّ عِظَامِي. صِرْتُ كَإِنْسَانٍ سَكْرَانَ وَمِثْلَ رَجُل غَلَبَتْهُ الْخَمْرُ، مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ وَمِنْ أَجْلِ كَلاَمِ قُدْسِهِ. 10 لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ مِنَ الْفَاسِقِينَ. لأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ اللَّعْنِ نَاحَتِ الأَرْضُ. جَفَّتْ مَرَاعِي الْبَرِّيَّةِ، وَصَارَ سَعْيُهُمْ لِلشَّرِّ، وَجَبَرُوتُهُمْ لِلْبَاطِلِ. 11 «لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالْكَهَنَةَ تَنَجَّسُوا جَمِيعًا، بَلْ فِي بَيْتِي وَجَدْتُ شَرَّهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 12 لِذلِكَ يَكُونُ طَرِيقُهُمْ لَهُمْ كَمَزَالِقَ فِي ظَلاَمٍ دَامِسٍ، فَيُطْرَدُونَ وَيَسْقُطُونَ فِيهَا، لأَنِّي أَجْلِبُ عَلَيْهِمْ شَرًّا سَنَةَ عِقَابِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. لا يطيق الله القدوس الخطية، ولا يقبل الرجاسات، لهذا أعلن لإرميا النبي عن مصير هؤلاء الأنبياء الكذبة بسبب رجاساتهم وفساد حياتهم. تظاهروا في الخارج بالرقة والتقوى، لكنهم في أعماقهم كما في سلوكهم انحنوا للشهوات الدنسة والرجاسات. ارتبطوا بالكهنة ليسند كل منهم الآخر، فدنسوا العبادة في الهيكل الذي امتلأ برجاساتهم. يبدأ إرميا النبي النبوة، قائلًا: "في الأنبياء - انسحق قلبي في وسطي، ارتخت كل عظامي، صرت كإنسان سكران، ومثل رجلٍ غلبته الخمر من أجل الرب، ومن أجل كلام قدسه. لأن الأرض امتلأت من الفاسقين. لأنه من أجل اللعن ناحت الأرض، جفت مراعي البرية، وصار سعيهم للشر، وجبروتهم للباطل" [9-10]. تظاهر الأنبياء الكذبة بالرقة واللطف، فكانوا يقدمون طمأنينة مخادعة للملك ورجاله كما للجيش والشعب، مصورين إرميا كرجلٍ متشائمٍ ومحطمٍ لنفسية الشعب وخائنٍ للوطن... لكن في الواقع كان إرميا يهتز بكل أعماقه وكيانه من أجل شعبه. تطلع إلى الأنبياء الكذبة وبدأ ينطق بنبواته، لا في شماتة، ولا كرجلٍ بلا أحاسيس نحو شعبه ووطنه، وإنما كإنسانٍ يعتصر بكل كيانه من أجلهم. التهب قلبه بنارٍ، هذه التي صارت محصورة في عظامه (إر 4: 19-21؛ 20: 9). سبق أن قلنا أن القلب، كان في نظر اليهود مركز الفكر والإرادة. فانكسار قلبه في وسطه لا يعني مجرد اهتزاز عواطفه الجيّاشة، وإنما دخل كما في ارتباكٍ فكري وبلبلة في التخطيط والإرادة، لا يعرف ماذا يعمل أمام تلك الكارثة العظمى التي حلت على الأمة كلها. أما العظام فتشير إلى الهيكل العام الذي به يقوم كيان الإنسان، فمتى انهارت العظام يكاد يفقد الإنسان وجوده! وكأن الكارثة كادت أن تحطم كيان الشعب كله! إنها كارثة مصيرية بالنسبة للأمة كلها، كما بالنسبة لإرميا، وكما قيل: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي" (مز 22: 14). يرى البعض أن الفعل الذي تُرجم "ارتخت" يعني "يرف" أو "يطير"، وكأن إرميا قد صار كالطير لا يحتمل الاستكانة، بل صار يرف كالطير، طارت عظامه إلى فوق تتطلع إلى الأمة كلها لتدرك حالها في مرارة! هكذا انكسر قلب إرميا، وصارت عظامه ترف، ليس له موضع للراحة أو الاستقرار، "وصار كإنسان سكران ومثل رجل غلبته الخمر" [9]، وقد ارتبط السكر بالرعب والحزن كما في (حز 23: 33). امتلأت الأرض بالفاسقين [10]، إذ صارت عبادة الأوثان خاصة البعل منتشرة على قمم الجبال وفي الوديان وتحت كل شجرة، تلازمها الممارسات الدنسة كطقس ديني لكي تنعم الأرض بالخصوبة، في حيواناتها ومزروعاتها، لكن النتيجة كانت على خلاف ما توقعوا. امتلأت الأرض لعنة، وصارت نائحة، وجفت تمامًا كأنها برية (midbar) بلا ساكن. وصفها الرب هكذا: "لأن أمهم قد زنت... قالت: أذهب وراء محبيَّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربت. لذلك هأنذا أسيج طريقك بالشوك وابني حائطها حتى لا تجد مسالكها؛ فتتبع محبيها ولا تدركهم، وتفتش عليهم ولا تجدهم؛ فتقول: أذهب وأرجع إلى رجُلي الأول، لأنه حينئذ كان خير لي من الآن. وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت، وكثَّرت لها فضة وذهبًا جعلوه لبعلٍ" (هو 2: 5-8). يُقصد باللعنة التعبير عن غضب الله على شعبه المُعلن خلال حالة الجفاف أو الخراب التي تحل بالأرض. وكما يقول إشعياء النبي: "حزنت، ذبلت الأرض... والأرض تدنست تحت سكانها، لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي. لذلك لعنة أكلت الأرض وعُوقب الساكنون فيها... ناح المسطار، ذبلت الكرمة، أنَّ كل مسروري القلوب، بكل فرح الدفوف..." (إش 23: 4-8). لعل هدفه وهو إعلان أن الطبيعة نفسها التي خُلقت من أجل الإنسان قد فسدت بسببه، واحتاجت أن يفرغها الله ليجددها. تشير اللعنة التي حلَّت بالأرض التي جفت إلى جسد الإنسان الذي متى فسدت إرادته تحل اللعنة بجسده، فتتحطم قدراته وإمكانياته وتفسد أحاسيسه ومشاعره، ويصير الجسد أشبه ببرية بلا ساكن! حين نسمع وعد الله لمباركتنا: "أثمروا وأكثروا" نتلمس هذه البركة حتى في جسدنا، حيث تتبارك مواهبنا وقدراتنا، أما إذا حلَّت اللعنة فنفقد هذا الوعد الإلهي. حقًا قد يسعى الأشرار ويجاهدون كما بجبروت وقوة لكن "صار سعيهم للشر وجبروتهم للباطل" [10]. يخرجون من تعبهم فارغي اليدين، أو كما يقول الجامعة "فعرفت أن هذا أيضًا قبض الريح" (جا 1: 17)، "التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا 2: 11). "لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعًا، بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب. لذلك يكون طريقهم لهم كمزالقٍ في ظلامٍ دامسٍ، فيُطردون ويسقطون فيها، لأني أجلب عليهم شرًا سنة عقابهم يقول الرب" [11-12]. جاء الفعل "تنجسوا" يشير إلى مقاومة المقدسات وليس مجرد "عدم التقوى"، لهذا يُستخدم بالنسبة لمرتكبي الزنا غير المخلصين للمقدسات الإلهية، سواء للوصية الإلهية أو بيت الرب أو جسد الإنسان أو زوجته (أو زوجها). يرتبط هذا الاتهام بعبادة البعل، حيث يمارس عابدوا البعل طقوس جنسية للخصوبة كطريق الآمان والإنجاب والصحة. وقد سبق فرأينا لأنه عوض التمتع بالحياة دخلوا إلى الموت، وعوض الآمان صاروا في ارتباك خلال السبي، وعوض الإنجاب تحطموا. لقد قدموا طريق الرجاسات للكهنة الذين صارت لهم كمزالقٍ ينحدرون خلالها إلى ظلمة الفساد، وها هو ذات الطريق يصير كمزالقٍ للأنبياء الكذبة أنفسهم. يُطردون من أمام وجه الرب فينحدرون في طريقهم الذي أقاموه بأنفسهم، ويسقطون في شر أعمالهم. لقد طهر يوشيا الهيكل من العبادة الوثنية أثناء إصلاحاته عام 621 ق.م، لكن عادت الأوثان ورجاساتها بعد موته سنة 609 ق.م، في أيام يهوياقيم ويهوياكين وصدقيا. وقد قدم لنا حزقيال النبي صورة مؤلمة لما حلّ بالهيكل حيث أُقيم تمثال الغيرة في المدخل (حز 8: 5)، وُنقشت تماثيل حيوانات ودبابات على الحائط، وأعطى البعض ظهورهم للهيكل وهم يسجدون للشمس كإله (حز 8). هذه الصورة التي عبر عنها الرب بقوله لحزقيال النبي: "يا ابن آدم، هل رأيت ما هم عاملون؟! الرجاسات العظيمة التي بيت إسرائيل عاملها هنا لإبعادي عن مقدسي، وبعد تعود تنظر رجاسات أعظم" (حز 8: 6)، تكشف لماذا أرتبك فكر إرميا وكادت أن تحطمه نفسيًا وجسديًا. هذه المزالق المظلمة التي سقطت فيها القيادات الدينية في ذلك الحين؛ عوض أن يسندوا كل نفس للالتقاء مع الله، دفعت بهم إلى مملكة الظلمة. في قول الرب: "في بيتي وجدت شرهم" [11] استخدم الفعل بمعنى "اكتشفت" . اكتشف الله كحارسٍ لبيته جريمة فدُهش كيف تجاسر الكهنة والأنبياء على هذا الفعل الشرير في مقدساته التي ائتمنهم عليها. إنها كلمات عتاب مرّة يكررها الله في حديثه مع أولاده هؤلاء الذين نالوا نعمته المجانية وتحولوا إلى هيكله المقدس، ليعودوا فيرتكبوا الرجاسات فيه. إنهم يدنسون لا أجسادهم بل هيكل الرب، لأنها لم تعد ملكًا لهم بل اُشتريت بدمٍ ثمين! ائتمنهم الرب على بيته، كما يأتمننا على أجسادنا بكونها هيكله المقدس، لكي تكون طريقًا مقدسًا للتمتع بملكوت الله، أي ملكوت النور. أما هم فبشرهم صار طريقهم كمزالق في ظلام حيث الهلاك. وكما قيل: "أما سبيل الصديقين فكنورٍ مشرقٍ يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام، لا يعلمون ما يعثرون به" (أم 4: 18-19)؛ "ليكن طريقهم ظلامًا وزلقًا وملاك الرب طاردهم" (مز 35: 6). صار طريقهم كالوحل "زلقًا"، عوض ارتفاعه نحو السمويات، ينحدر بالسالكين فيه إلى الوحل فيصير ترابيًا لا سماويًا. هذا هو ما فعلوه بأنفسهم، إذ يسقطون في الطريق الذي صنعوه: "يسقطون فيها" [12]، "الشرير يُطرد بشره" (أم 14: 32). |
|