رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع المسيح الرَّاعي الصَّالح الأحد الرابع للفصح: يسوع المسيح الرَّاعي الصَّالح (يوحنا 10: 1-10) النص الإنجيلي (يوحنا 10: 1-10) 1 ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لا يَدخُلُ حَظيرَةَ الخِراف مِنَ الباب بل يَتَسَلَّقُ إِلَيها مِن مَكانٍ آخَر فهُو لِصٌّ سارِق. 2 ومَن يدخُلُ مِنَ الباب فهُو راعي الخِراف. 3 لَه يَفتَحُ البَوَّاب. والخِراف إلى صوتِه تُصغي. يَدعو خِرافه كُلَّ واحدٍ مِنها بِاسمِه ويُخرِجُها 4 فإِذا أَخرَجَ خِرافه جَميعاً سارَ قُدَّامَها وهي تَتبَعُه لأَنَّها تَعرِفُ صَوتَه. 5 أَمَّا الغَريب فَلَن تَتبَعَه بل تَهرُبُ مِنه لأَنَّها لا تَعرِفُ صَوتَ الغُرَباء)). 6 ضرَبَ يسوع لَهم هذا المَثَل، فلَم يَفهَموا مَعنى ما كَلَّمَهم بِه. 7 فقالَ يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنا بابُ الخِراف. 8 جَميعُ الَّذينَ جاؤوا قَبْلي لصُوصٌ سارِقون ولكِنَّ الخِراف لم تُصْغِ إِلَيهم. 9 أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلصّ يَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرْعًى. 10 فوَقَعَ الخِلافُ ثانِيَةً بَينَ اليهودِ بِسَبَبِ هذا الكَلام، 11 السَّارِقُ لا يأتي إِلاَّ لِيَسرِقَ ويَذبَحَ ويُهلِك. أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم. مقدمة يصف يوحنا الإنجيلي سيدنا يسوع المسيح أنَّه الراعي الصالح (يوحنا 10: 1-10). سَّمّى الله نفسه "الراعي" (مزمور 80: 1)، وحزقيال النبي يدعو المسيح راعيا (حزقيال 34: 23). وقد أتخذ يسوع لنفسه هذا الاسم مبيّنا محبته لنا وإرشاده وقيادته وتضحية حياته في سبيل الخراف، بعكس الرعاة السيئين الذين يقودون شعب الله وهم عميان كالغرباء والأجراء واللصُوص الذين يهتمون بكرامتهم الذاتية وسلطانهم ومكاسبهم الشخصية. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 10: 1-10) 1 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لا يَدخُلُ حَظيرَةَ الخِراف مِنَ الباب بل يَتَسَلَّقُ إِلَيها مِن مَكانٍ آخَر فهُو لِصٌّ سارِق تشير عبارة " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلى صياغة خطاب سابق في صورة استعارة أي تشبيه بليغ حُذف أحد طرفيه (المشبه والمشبه به). ولم ترد في إنجيل يوحنا كلمة "مثل" أو "أمثال" إلا أن الرَّب يسوع استخدم بعض التشبيهات لنفسه، وهي استعارات: الراعي الِصّالح، والباب، وخبز الحَياةُ، والكرمة؛ أمَّا عبارة " حَظيرَةَ الخِراف " فتشير إلى مكان في الهواء الطلق تُجمع فيه الخِراف داخل جدران من الحجارة أو من الأغصان بشكل سياج، ويتم الدخول إليه عن طريق باب، فتساق الخِراف إلى الحَظيرَةَ وتُحفظ فيها تحت حماية حارس أثناء الليل، وعندما يرجع الراعي في الصّباح يفتح الحارس أو البوَّاب له الباب. فالحَظيرَةَ تمنع الخِراف من الضياع كما تمنع عنها وحوش البرية كما ورد قس حديث داود الراعي مع شاول الملك "كانَ عَبدُكَ يَرْعى غَنَمَ أَبيه، فكانَ يأتي أَسَدٌ وتارَةً دُبٌّ ويَخطَفُ شاةَ مِنَ القَطيعِ " (1 صموئيل 17، 34). فالحَظيرَةَ ترمز إلى إسرائيل قديمًا والكنيسة حاليًا وهي ملكوت الله مستقبلا (رؤيا 4: 1)؛ أمّا عبارة " مَن لا يَدخُلُ حَظيرَةَ الخِراف مِنَ الباب " فتشير إلى اللِصّ بعكس الراعي الذي يدخل بطريقة طبيعية لان أمر الخِراف وُكل إليه. يعلق جان تولير الراهب دومينكيّ ". فما هي هذه الحظيرة، هذا الإسطبل الّذي بابه المسيح؟ إنّه قلب الآب الّذي بابه الرّب يسوع المسيح، بابًا يستحقّ كل الحبّ، هو الّذي فضّ وفتح من أجلنا القلب الّذي كان إلى حينها مقفلاً أمام جميع البشر. في هذه الحظيرة، يجتمع شمل القدّيسين كلّهم. " (العظة 27، الثّالثة للعنصرة). أمَّا عبارة "يَتَسَلَّقُ " فتشير إلى عمل السَّارِق الذي ينوي القفز فوق السور واستخدم الغش والخداع والكذب والطرق الملتوية. أمَّا عبارة " لِصّ سارِق" فتشير إلى من يتصرّف بطريقة تعسّفية ويريد أن يسرق الخِراف ويُبدِّدها. وفي هذا الصّدد تنبأ ارميا النبي "وَيلٌ لِلرُّعاةِ الَّذينَ يُبيدونَ ويُشَتِّتونَ غَنَمَ رَعِيَّتي، يَقولُ الرَّبّ"(ارميا 21: 1). 2 ومَن يدخُلُ مِنَ الباب فهُو راعي الخِراف تشير عبارة "من يدخُلُ" إلى صاحب الخِراف، الذي يهتم بكل واحدٍ من الخِراف، يدخل إليهم من الباب كونه صاحب سلطان؛ أمَّا عبارة "الباب" فتشير إلى طريق الدخول وهي الكتب المقدسة، لأنها تدخل بنا إلى الله، وتفتح لنا المعرفة بإلهنا، وهي تحفظنا كما أوحى الله إلى أبينا يعقوب "هذا بابُ السَّماء! "(تكوين 28: 17)؛ أما "راعي الخِراف" فتشير إلى السيد المسيح نفسه المهتم بقطيعه، كما يصفه حزقيال النبي "أَنا أَرْعى خِرافي وأَنا أُربِضُها، يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، فأَبحَث عنِ الضالَّةِ وأَرُدُّ الشارِدَةَ وأَجبُرُ المَكْسورَةَ وأُقَوِّي. الضَّعيفَةَ وأُهلِكُ السَّمينَةَ والقَوِّية، وأَرْعاها بِعَدْل " (حزقيال 34: 15-16). والكنيسة في العالم أشبه بمَرْعًى، حيث تضم في داخلها الخِراف المشتتة في العالم كما جاء في إنجيل يوحنا البشير "لِيَجمَعَ شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين" (يوحنا 11: 52). ويعلق القدّيس اللاهوتي توما الأكوينيّ " الرَّاعي الصالح، في المعنى الطبيعي، يتحمّل كثيرًا من أجل القطيع الذي يسهر عليه، كما يشهد يعقوب: "وكانَ الحَرُّ يأكُلُني في النَّهار والبَردُ في اللَّيل، وهَجَرَ النَّومُ عَينَيَّ" (تكوين 31: 40) " (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا 10). أمَّا عبارة "الراعي " فتشير في العهد القديم تارة إلى الله الذي يقود القطيع ويحميه (مزمور 23: 1)، وتارة إلى المسؤولين عن الأُمَّة أنفسهم، وهم قادة الشعب السياسيون والدينيون (ارميا 2: 8). وأمَّا يسوع فهو الراعي بكل معنى الكلمة، لأنه أتمَّ على أكمل وجه دور الراعي الصّالح، فبذل نفسه حتى الموت ليحيا تلاميذه (يوحنا 6: 51). ولم نسمع قط عن راعٍ يلقي بنفسه في الموت بإرادته من أجل قطيعه. قد يتعرض الراعي للموت، لكن ليس لأجل مصلحة قطيعه، إنما من أجل مصلحته الشخصية كمالكٍ للقطيع كما يقول عنهم الرسول بولس "كُلُّهم يَسعى إلى ما يَعودُ على نَفْسِه، لا إلى ما يَعودُ على يسوعَ المسيح"(فيلبي 2: 21). واجه الراعي الصّالح بإرادته الموت ليفدي كل حملٍ من قطيعه. وقد أكد الرسل أنَّ "المسيح هو "راعي الرُّعاة " (1بطرس 5: 4) "راعِيَ الخِراف العَظيم" (عبرانيين 20:13). هو الوحيد الذي قَدَّم نفسه عن خِرافه، فهو الراعي الصّالح بكل ما تحلمه هذه الكلمة من المعنى. 3لَه يَفتَحُ البَوَّاب. والخِراف إلى صوتِه تُصغي. يَدعو خِرافه كُلَّ واحدٍ مِنها بِاسمِه ويُخرِجُها تشير عبارة " الخِراف إلى صوتِه تُصغي " إلى الذين هم مِلك الراعي ويلبون نداءه. هناك محبة وثقة بين الراعي وخِرافه، فهي تصغي لِصّ وته، وبما أنَّها تعرف صوته، فهي تتبعه، وقد قيل: عَرَفَ الثورُ مالِكَه والحِمارُ مَعلَفَ صاحِبِه" (أشعيا 1: 3). أمَّا عبارة "الخِراف " فتشير إلى شعب الله. والله يدعو خِرافه للإيمان ويُخرجها للانطلاق إلى ملكوته. أمَّا عبارة " يَدعو خِرافه كُلَّ واحدٍ مِنها بِاسمِه" فتشير إلى العلاقة الشخصية لله بكل نفس كما تنبأ أشعيا النبي “دَعَوتُكَ باسمك، إِنَّكَ لي" (أشعيا 43: 1)، وهو يدعو كل خروف باسمه، إنه خاصته والخِراف تسمع نداءه. وهناك الذين لا يتجابون معه، لأنهم لم يكونوا يوما من خاصته. 4 إِذا أَخرَجَ خِرافه جَميعاً سارَ قُدَّامَها وهي تَتبَعُه لأَنَّها تَعرِفُ صَوتَه. تشير عبارة " سارَ قُدَّامَها " إلى الراعي الذي يدل الخِراف على الطريق ويرشد جميع تابعيه إلى الحق ويقودها إلى المراعي الخصبة (مزمور 23: 1). عادة ما يسير الراعي في فلسطين وراء قطيعه وفي الأماكن الخطرة يسير أمام قطيعه كدليل. وعليه فان الراعي الصّالح يتقدم قطيعه في الطريق حتى إذا ما هاجمتهم الذئاب، إنما تهاجمه هو. يسير عادة الراعي خلف الغنم ليراها ويحميها، أمَّا يسوع المسيح فسار قدامنا لكي نتبعه، وهكذا فتح لنا طريق السماء بعبوره خلال الصّليب، كي نشاركه آلامه فننعم بشركة أمجاده. 5أَمَّا الغَريب فَلَن تَتبَعَه بل تَهرُبُ مِنه لأَنَّها لا تَعرِفُ صَوتَ الغُرَباء تشير عبارة " الغَريب" إلى شخص آخر غير الراعي الذي لا يهمّه أمر الخِراف لأنه ى يملك الخِراف. والخِراف لا يلبون صوته لأنه في حالة لا تصلح لان يقود الآخرين. فالراعي الغريب هو الذي يُعلن نفسه راعيا، من دون أن يكون فيه ومعه وبه السيد المسيح، فهو ليس رعٍ صادقٍ بل راعي غريب عن راعي الرعاة سيدنا يسوع المسيح. 6ضرَبَ يسوع لَهم هذا المَثَل، فلَم يَفهَموا مَعنى ما كَلَّمَهم بِه تشير عبارة " المَثَل " في الترجمة الأصلية اليونانية παροιμία وليس معناها "المثل: بل استعارة أي تشبيه بليغ حُذف أحد طرفيه (المشبه والمشبه به). الاستعارة تعني أكثر من "مثل" هي استعمال موسع للمجاز. والمجاز في الاصطلاح اللغوي يُقصد به غير معناه الحرفي بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي. أمَّا المثل في اليونانية παραβολή فهو حديث موجز للموعظة أو للعبرة التي تهدف إلى توضيح أمر أو إيصال مفهوم معين. وهو في الأصل قصة تشبيهية أو استعارة تمثيلية مستمدة من الطبيعة أو من الحَياةُ اليومية، لإلقاء مزيد من الضوء على بعض الحقائق الروحية، والمثل أمر شائع في آداب كل الشعوب. أمَّا عبارة " فلَم يَفهَموا" فتشير إلى رسالة يسوع على الأرض التي لا تُفهم إلاَّ على ضوء الوحي النهائي، وهو سلام يسوع على الصّليب وعطية الروح القدس (يوحنا 2: 22). إنَّ الِصّورة معبِّرة لكن مستمعيه لا يريدون أحيانا أن يفهموا الحقيقية. 7فقالَ يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنا بابُ الخِراف تشير عبارة " أَنا" حرفيا في اليونانية "ἐγώ εἰμι " إلى معنى "أَنا هو" (يوحنا 6: 33). أمَّا عبارة " بابُ الخِراف " فتشير إلى باب الخِراف وليس باب الحَظيرَةَ لان المسيح يهتم بخِرافه ليُدخِلهم إلى الحَظيرَةَ، ويُخرجها إلى المراعي. نجد مثل هذه العبارة "أَنا بابُ الخِراف" ست مرات في إنجيل يوحنا تتحدَّث عن يسوع: "أَنا نُورُ العالَم" (يوحنا 8: 12)؛ "أنا الباب" (يوحنا 10: 9)؛ "أَنا الرَّاعي الصّالِح" (يوحنا 10 :11)؛ "أَنا القِيامةُ والحَياة" (يوحنا 11: 25)؛ "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). والباب في كتب المعلمين ما يساعد على الولوج إلى العالم السماوي (التكوين 28: 16)، أمَّا في إنجيل يوحنا فان يسوع بتجسده هو الباب، باب دخول وخروج، باب دخول إلى حضرة الآب فنكتشف عطايا الله (يوحنا 14: 6)، وهو أيضا باب خروج إلى الحرية والحَياةُ والخدمة. يسوع هو الشخص الوحيد الذي يفتح للبشرية "افاقاً" جديدة. بدون المسيح لا أيدولوجية ولا نظرية ولا دين يستطيع أن ينقذ البشرية من حتمية الموت، طالما نحن كائنات بشرية فانية. وحده يسوع قادر أن يُدخلنا الملكوت الأبدي، والذي لا يدخله أحد إلاَّ من هذا الباب المفتوح على مصراعيه. " أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلِصّ يَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرْعًى. أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 9، 11). يسوع هو باب القطيع، الباب الجديد. ويُعلق غييوم دو سان تييري راهب بِندِكتي " بما أنّك أنت ذاتك قلتَ: "أنا الباب"، فأرجوك، افتح لنا هذا الباب بنفسك، لكي تُظهِر لنا، بوضوح أكبر، المسكن الّذي أنت بابه. فالمسكن الّذي أنت بابه هو السماء؛ الآب يسكن فيه"(صلوات تأمّليّة). 8جَميعُ الَّذينَ جاؤوا قَبْلي لصّوصٌ سارِقون ولكِنَّ الخِراف لم تُصْغِ إِلَيهم. تشير عبارة "جَميعُ الَّذينَ جاؤوا قَبْلي لصّوصٌ سارِقون " إلى كلّ مَن جاء خارجًا عنّ المسيح. ويعق القديس أوغسطينوس "جاء الأنبياء قبل مجيئه، فهل كانوا لصُوصا وسارقين؟ لا، أبدًا. لأنّهم لم يأتوا خارجًا عن المسيح بل كانوا معه. أرسلهم أمامه مثل المرسلين، أمّا مَن جاء خارجًا عنه، فهم على العكس لصُوص وسارقون، لأنّهم لم يأتوا إلاّ لينهبوا ويُميتوا"(المقالة رقم 45 عن إنجيل القدّيس يوحنّا). أمّا عبارة " جَميعُ " فتشير إلى من قال عنهم سابقًا مَن يَتَسَلَّقُ إِلَي الحَظيرَةَ مِن مَكانٍ آخَر فهُو لِصٌّ سارِق" (يوحنا 10: 1). أمَّا عبارة " لصّوصٌ سارِقون" فتشير إلى مَنْ يسرقون علانية وبوضوح. وهؤلاء هم الأنبياء الكذبة وكل القيادات اليهودية الرافضة للمسيح والذين يدعون تزويد الناس بمعرفة الأمور الدينية وبالخلاص بوسائلهم الشخصية ويطلبون في الواقع منفعتهم الشخصية وليس منفعة القطيع، لذا فإنهم ذئاب خاطفة يحجبون تعليم الله ويبدِّلون وصايا الله بتقاليد الناس ويجذبون الناس إلى الضلال والهلاك لا إلى الله (أعمال 20: 28-30). فهم وُجدوا قبل المسيح وما زالوا موجودين، ويتوجب على الكنيسة أن تميّزهم وتدل المؤمنين على ضلالهم. ويعلق القدّيس اللاهوتي توما الأكوينيّ " الراعي الصالح يسهر على مصلحة قطيعه، أمّا الراعي السيّئ فيبحث عن مصلحته الخاصّة. هذا ما قاله النبيّ:" وَيلٌ لِرُعاةِ إِسْرائيلَ الَّذينَ يَرعَونَ أَنفُسَهم. أَلَيسَ على الرُّعاةِ أَن يَرعَوا الخِراف؟" (حزقيال 34: 2)." (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا 10). أمَّا عبارة "ولكِنَّ الخِراف لم تُصْغِ إِلَيهم" فتشير إلى الخِراف الذين يعرفون انهم دجالون وذئاب في ثياب حملان ولذا فلا يتبعونهم. أمَّا عبارة "سارِقون" فتشير إلى الفريسيين الذين ورد ذكرهم في الفصل السابق مع شفاء الأعمى منذ مولده الذي شفاه يسوع (يوحنا 9: 1-40)، فقد أخرجه الفريسيون خارج الجماعة لكنه دخل بإيمانه لحَظيرَةَ الخِراف التي راعيها هو الرب يسوع. واليهود طردوا هذا الإنسان البسيط لأنه آمن بالمسيح. فهم رعاة فاسدون كما تنبيا عنهم الأنبياء ارميا (1:23-6، وحزقيال 34، والنبي زكريا 11). أمَّا عبارة " لم تُصْغِ إِلَيهم" فتشير إلى التلاميذ الحقيقيين الذين يميزون صوت الراعي (يوحنا 3: 31-34) مثل سمعان الشيخ وحنة النبية وزكريا والتلاميذ والرسل السبعين وبعض الشعب بل وجنود الهيكل أيضًا (يوحنا 7: 45، 46). 9أَنا الباب فمَن دَخَلَ مِنِّي يَخلِصّ يَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرْعًى تشير عبارة " أَنا الباب " إلى مدخل الحقائق السماوية، وهو موضوع شائع في التقليد اليهودي (التكوين 28: 17، ومزمور 78: 23). أمَّا في إنجيل يوحنا فان يسوع نفسه بتجسده هو مكان اكتشاف المواهب السماوية وقبولها. وهو وحده يستطيع أن يكون وسيط الخلاص، ويعلق البابا لقديس غريغوريوس الكبير" يدخل في الإيمان، ويخرج من الإيمان إلى الرؤية، ومن التصديق إلى المشاهدة، فيجد المَرْعًى في الوليمة الأبدية " لا نقدر أن ندخل السماء من باب آخر غيره، هو الباب الوحيد؛ أمَّا عبارة " يَخلِصّ " فتشير إلى النجاة من الموت ومن كل ما من شأنه أن يدمّر الإنسان كما جاء في تعليم يسوع المسيح " فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلِّص بِه العالَم " (يوحنا 3: 17). المسيح وحده هو المخلِّص، السيد، معطي ذاته ومانح الحَياةُ. أمَّا عبارة " يَدخُلُ ويَخرُجُ " فتشير إلى كلمات الله على لسان موسى النبي "يَخرُجُ أَمامَهم ويَدخُلُ أَمامَهم ويُخرجُهم ويُدخِلهم، لِئَلاَّ تَبْقى جَماعة الرَّبًّ كَغَنَمٍ لا راعيَ لَها (العدد 27: 17). إنَّ يسوع وحده يقدر أن يُدخل إلى حَظيرَةَ الله في حضن الأب ليتمتع بالأبوة الإلهية كما جاء في تعليم بولس الرسول “لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إلى الآبِ في رُوحٍ واحِد"(أفسس 2: 18). فحينئذ يعرف المرء الربّ (حزقيال 34: 27 و30، يوحنا 10: 15) الذي يخلِصّ ه (حزقيال 34: 22) وينال الحرية والأمان (يوحنا 8: 32 و36). وفي هذا الصّدد يقول مرنم المزامير "الرَّبُّ راعِيَّ فما مِن شيَءٍ يُعوِزني في مَراعٍ نَضيرةٍ يُريحُني. مِياهَ الرَّاحةِ يورِدُ في ويُنعِشُ نَفْسي" (مزمور 32: 1-3). ويخرج إلى العالم كما مع الابن المتجسد ليشهد للحب الإلهي، ويجتذب كثيرين إلى المَرْعًى الإلهي، وإلى حرية العمل الكاملة والإعالة والأمن (العدد 27: 15-21) كما جاء في ترنيم صاحب المزمور "يَخرُجُ الإِنسانُ إلى شُغلِه " (مزمور 104: 23)؛ أمّا عبارة " مَرْعًى" فتشير إلى غذاء روحي للحياة والأفراح الباطنية، وأفراح الفردوس الدائمة النظارة، ويُعلق البابا غريغوريوس الكبير "المراعي هي رؤية وجه الله الحاضر أمامهم، يشاهده العقل من غير نقص ولا حجاب، فيجد فيه شبعه إلى ما لا نهاية". وأمّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيقول "مَرْعًى يعني هنا الرعاية وتغذية الخِراف وسلطانه وسيادته عليهم". 10 السَّارِقُ لا يأتي إِلاَّ لِيَسرِقَ ويَذبَحَ ويُهلِك. أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم. تشير عبارة " السَّارِقُ لا يأتي إِلاَّ لِيَسرِقَ ويَذبَحَ ويُهلِك " إلى المخلِصّ الكاذب الذي يسعى إلى النهب والتبديد والتدمير. أمّا عبارة " أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم " فتشير إلى هدف رسالة يسوع التي تقوم على تلبية رغبات تلاميذه بإشراكهم في حياة الآب السماوي، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" قل لي وما الذي يكون أفضل من الحَياةُ؟ أجبتك: ملكوت السماوات". باختصار هناك مقارنة بين يسوع وبين السَّارِق، السَّارِق يهتم بنفسه بمشاريعه الخاصة، أمّا يسوع فيهتم بالقطيع، ويستعدَّ لبذل حياته من أجلهم. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 10: 1-10) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 10: 1-10)، يمكن إن نستنتج انه يتمحور حول الراعي الصّالح حقيقي الذي يهتم بالقطيع، وهو المسيح. ويتميز الراعي الحقيقي عن الرعاة الكذبة بطريقة دخوله إلى الحَظيرَةَ وصوته وهدفه. 1) الميزة الأولى: طريقة الدخول من الباب: "مَن لا يَدخُلُ حَظيرَةَ الخِراف مِنَ الباب بل يَتَسَلَّقُ إِلَيها مِن مَكانٍ آخَر فهُو لِصٌّ سارِق". (يوحنا 10: 1). في الشرق عادة الرعاة أن يجمعوا في المساء قطعانهم في حَظيرَةَ واحدة إمَّا داخل كهف أو مغارة أو سقيفة أو مكان مفتوح تحوطه أسوار من حجارة أو أغصان اشحر. يحرسها بوّاب واحد كما ورد في إنجيل لوقا " وكانَ في تِلكَ النَّاحِيَةِ رُعاةٌ يَبيتونَ في البَرِّيَّة، يَتناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رَعِيَّتِهم"(لوقا 2: 8). لا يستطيع اللِصّوص أن يقتحموها إلاّ إذ تسلّقوا جدرانها. وفي الصّباح يعود الرعاة كعادتهم إلى الحَظيرَةَ فيفتح البّاب لهم الباب دون تردد. يميّز هذا المَثل بين طريقين في التصرّف: الراعي الذي يدخل بطريقة طبيعية من الباب، وأمَّا اللِصُّ فلا يدخل علانية؛ ولا يدخل من الباب، يتصرف بطريقة تعسفية مسيطرة لمنفعتهم الشخصية. يريد سرقة الخِراف وإلحاق الضرر بهم، ومثله الغريب لا يهمّه أمرهم، والأجير الذي يهتم بأجرته ويهرب أمام الخطر، ويعلق القديس أوغسطينوس "الراعي يُحب، والأجير يُحتمل، واللِصُّ يُحذر منه". ومن هم هؤلاء اللِصّ وص؟ "جَميعُ الَّذينَ جاؤوا قَبْلي لِصّ وصٌ سارِقون "يقول السيد المسيح. لا يدور الكلام على أنبياء العهد القديم، بل على الذين كانوا يدّعون معرفة الأمور الدينية والخلاص للبشر بوسائلهم الشخصية فقادوا الناس إلى الهلاك والدمار. فهؤلاء اللِصّ وص هم الفريسيون الذين اغتصبوا لأنفسهم حق مراكز القيادة وهم أيضا كهنة اليهود الذين حجبوا تعليم الله وأبدلوا وصايا الله بتقاليد الناس. فهم دجّالون وذئاب في ثياب حملان، هم غرباء وأُجراء ومسحاء كذبة، وكل من على شاكلتهم. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يتكلم يسوع عن الأنبياء، فإنه إذ آمن كثيرون بالمسيح سمعوا للأنبياء واقتنعوا بهم. وكان المسيح هو رجاءهم وهم تنبأوا عن المسيح. والمسيح هو الذي أرسلهم وتكلموا باسمه. إنما يتحدث هنا عن ثودس ويهوذا (أعمال الرسل 5: 36-37) وغيرهما من مثيري الفتنة". فاللِصّ وص والسَّارِقون هم الذئاب الخاطفة يأتون من الخارج (متى 7: 16)، أمّا الأنبياء الكذبة والمسحاء الدجالون فهم الذئاب المقنعة في ثوب النعاج الذين يأتون من الداخل كما جاء في تعليم يسوع المسيح " والأَنبِياءَ الكَذَّابين، فإِنَّهم يَأتونَكُم في لِباسِ الخِراف" (متّى 7: 15). فهناك الأنبياء الكذبة والمعلمون الفاسدون، وهناك أيضاً الأنبياء الصّادقون والمعلمون الصّالحون. ونستطيع ان نميزهم بعضهم عن بعض من صفاتهم كما قال الرب يسوع المسيح "من ثِمارِهم تَعرِفونَهم" (متى 7: 16). لذا يسوع يُعرّف نفسه " بابُ الخِراف"، أي "باب السماء" (تكوين 28: 17)، وهو الباب المؤدي إلى ملكوت الله، باب دخول وخروج. الدخول إلى الحَظيرَةَ والخروج إلى المَرْعًى، باب نحصل بتجسده على الدخول إلى حضرة الآب واكتشاف المواهب السماوية والحصول عليها، وباب نخرج من خلاله إلى العالم من اجل الخدمة والحرية والحَياةُ والوحدة. يسوع هو الباب الذي به تدخل الخِراف فتصل إلى الله، (يوحنا 10: 7) فهو الطريق الوحيد إلى ملكوت الله. ويعلن يسوع انه قد نال خِرافه من الآب، وهو يحفظها، يسوع هو الباب الذي تدخل الخِراف فتصل إلى لله، الباب المفتوح يأذن بالمرور، بالدخول والخروج، ويتيح حرية الحركة، إنه يرحّب بالجميع على مثال أيوب البار "إِنَّه لم يَبِتْ غَريبٌ في الخارِج بل كُنتُ أَفتَحُ بابي لابنِ السَّبيل " (أيوب 31: 32)، ويعطي فرصة للجميع (1 قورنتس 16: 9). وبما أنَّ يسوع هو الباب المفتوح، فعذا يعني أن بوسع الإنسان أن يعبر من حياة العبودية وحياة الانغلاق داخل الأنانية، إلى حياة حقيقية وأبدية. وانَّ هذا الباب قد فتح وقت قيامة المسيح، فأصبح الفصح بابا للعبور من الموت إلى الحياة. لكن يسوع هو أيضا الباب المغلق الذي يمنع مرور الشر، إنه يحمي ويضمن الأمان (يوحنا 20: 19)، أو يُعبر عن رفض كما هو الحال في مثل العذارى "بينَما هُنَّ ذاهِباتٍ لِيَشتَرينَ، وَصَلَ العَريس، فدخَلَت مَعَه المُستَعِدَّاتُ إِلى رَدهَةِ العُرْس وأُغلِقَ الباب" (متى 25: 10). وفي اعتماد يسوع انفتحت السماء، وصار بذاته باب السماء الحقيقي، النازل على الأرض (يوحنا 1: 51)، الباب الذي يقود إلى مراعي الخيرات الإلهية (يوحنا 10: 9)، وبالتالي فقد أصبح الوسيط الوحيد الذي عن طريقه يقدم الله ذاته للناس، وبه يجد الناس سبيلهم إلى الآب كما جاء في تعليم يولس الرسول "لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إلى الآبِ في رُوحٍ واحِد"(أفسس2: 18). وحدَّد يسوع بعض المتطلبات لدخوله: الاهتداء "فالباب الضيق" لا يؤتى إلا عن طريق التوبة كما جاء في تعليم السيد المسيح "أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق" (متى 7: 13)، و"باب الإيمان" (أعمال 14: 27) كما صرّح بولس الرسول " وبِه نَجرُؤُ، إِذا آمنَّا به، على التَّقرُّبِ إلى اللهِ مُطمَئِنِّين" (أفسس 3: 12). ويسوع المسيح هو ليس فقط الباب بل أيضا الراعي الصّالح (يوحنا 10: 11) ويعلق القديس أوغسطينوس "المسيح في الرأس هو الباب، وفي الجسد هو الراعي". والراعي الصّالح يبذل حياته مجاناّ عن الذين أوكلوا إلى عنايته، كما جاء في حزقيال النبي (34: 23)، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "عندما يحضرنا إلى الآب يدعو نفسه "بابًا"، وعندما يرعانا يدعو نفسه "راعيًا "؛ فهو يرعى الخِراف من اجل محبته والتزامه، يبذل نفسه عن الخِراف (يوحنا 10: 11-13)، ويُخرج خِرافه إلى المراعي الخصبة، حيث أنه يقود اتباعه إلى السعادة والفرح الحقيقي والغذاء الحقيقي. نستنتج مما سبق أنَّ هناك اللِصُّ السَّارِق هو الذي لم يدخل على وظيفته الرعائية من باب المسيح، بل "َتَسَلَّقُ إِلَيها مِن مَكانٍ آخَر " (يوحنا 10: 1). أمّا الراعي الحقيقي كما وصفه قال أحد اللاهوتيين: "إن الراعي الحقيقي بين البشر هو الذي يتقلّد هذه الوظيفة حباً للمسيح، ويقصد تمجيد المسيح، ويعمل عمله بقوة المسيح، ويعلّم تعليم المسيح، ويسلك في خطوات المسيح، ويسعى ليأتي بالنفوس إلى المسيح". 2) الميزة الثانية: صوت الراعي: الميزة الثانية للراعي الصّالح فيه صوته. "الخِراف إلى صوتِه تُصغي" (يوحنا 10: 3). الراعي الصّالح يعرف خِرافه ويدعو كل خروف باسمه ويسير أمام خِرافه ليقودها إلى المراعي الخصبة (مزمور 23)، والخِراف تميّز صوته وتُصغي له وتتبعه. فهناك معرفة متبادلة بين الراعي وخِرافه، وبالتالي محبة وثقة." أَنا الرَّاعي الصّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني" (يوحنا 10: 15) الصّفة "صالح هي ترجمة للكلمة اليونانية " ὁ καλός " وهي الصّفة النموذجية التي تعبر عن المثالية في الصّلاح والأمانة والكمال. ويبيّن لنا متى الإنجيلي (متّى 2: 6) أنَّ يسوع هو الراعي الصّالح الذي قد حقق نبوة ميخا " أَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل" (ميخا 5: 1)، وكشف رحمته أنه الراعي الذي كان يريده موسى (عدد 27: 17) والذي يأتي لنجدة نعاج لا راعي لها كما وصفه متى الإنجيلي " ورأَى يسوع الجُموعَ فأَخذَته الشَّفَقَةُ علَيهم، لأَنَّهم كانوا تَعِبينَ رازِحين، كَغَنَمٍ لا راعيَ لها" (متى 9: 36). ويعتبر يسوع نفسه مرسلاً " إلى الخِراف الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل" (متى 15: 24)، فجمع حوله " القَطيعُ الصّغير"، أي التلاميذ (لوقا 12: 32)، وهم نواة جماعة الأزمنة الأخيرة التي وعدها الله بملكوت القديسين كما جاء في نبوءة دانيال النبي "يُعْطى المُلكُ والسُّلْطانُ وعَظمَةُ المُلكِ تَحتَ السَّماءِ بِأَسرِها لِشَعبِ قِدِّيسي العَلِيّ " (دانيال 7: 27). وأمّا صفات صوت الراعي الصّالح فانه يعرف خِراف. إنه يدعو خِرافه بأسمائها " يَدعو خِرافه كُلَّ واحدٍ مِنها بِاسمِه ويُخرِجُها" (يوحنا 10: 3-4) مما يدل على العلاقة القائمة بينه وبين خاصته، لان الأسماء تطلق على الخاصة، كما دعا تلاميذه الاثني عشر (متى 10: 2) ودعا زكا (لوقا 19: 2) ونادى مريم المجدلية باسمها (يوحنا 20: 16). إنَّ الله يخاطبنا بأسمائنا ويطلب منا أن نتبعه (يوحنا 8: 47). الِصّفة الثانية لِصّوت الراعي الِصّالح تكمن في قيادة المسيح لخِرافه إلى المراعي الخصبة، إنه يقودها إلى الحَياةُ الأبدية (يوحنا 10: 9) كما ترنَّم صاحب المزامير "الرَّبُّ راعِيَّ فما مِن شيَءٍ يُعوِزني. في مَراعٍ نَضيرةٍ يُريحُني" (مزمور 23: 1)، وجاء نبوءات أشعيا تؤكد ذلك “يَرْعى قَطيعَه كالرَّاعي يَجمَعُ الحُمْلانَ بِذِراعِه ويَحمِلُها في حِضنِه ويَسوقُ المُرضِعاتِ رُوَيداً" (أشعيا 40: 11). وينتظر الخروف البطيء، ويعالج جراح الخروف الجريح، ويذهب في البحث عن الخروف الضائع، ويتبع الخِراف ويُبقيها متّحدة ببعضها ويُطمئنها من خلال صوته. ويقدِّس ذاته من أجلها كما أعلن يسوع في صلاته "أُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضاً مُكَرَّسينَ بِالحَقّ (يوحنا17: 19) ولم يفقد أحد منها كما صرّح يسوا المسيح “لَمَّا كُنتُ معَهم حَفِظتُهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي وسَهِرتُ فلَم يَهلِكْ مِنهُم أَحَدٌ إِلاَّ ابنُ الهَلاك فتَمَّ ما كُتِب" (يوحنا 17: 12). الصّفة الثالثة لِصّوت الراعي الصّالح إنه يبذل نفسه عن الخِراف "أَنا قَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 11)، ويُعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني "عندما قال الرّب يسوع المسيح هذه الكلمات، لم يكن الرّسل يعرفون أنّه كان يتكلّم عن نفسه. حتّى يوحنّا، الرّسول الحبيب، لم يكن يعرف ذلك. لقد فهم ذلك في الجلجلة، عند أقدام الرّب يسوع المعلّق على الصّليب، حين رآه يقدّم حياته بصمت فداءً لخرافه " (عظة بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لحبريّته). يسوع يُخاطر بحياته لكي يحمي غنمه ويبذل نفسه لأجلها "أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها" (افسس5: 25). وفي هذا الصّدد كتب القدّيس أوغسطينوس "لقد تمّم ما علّمنا إيّاه: لقد أرانا ما أمرنا بأن نفعله. لقد بذل نفسه من أجل خِرافه، كي يكون ممكناً، في داخل سرّنا، أن يتحوّل جسده ودمه إلى طعام، ويُغذّي الخِراف الّتي افتداها بطعام جسده الخاصّ. لقد أرانا الطريق الّتي علينا أن نسير فيها، بالرغم من الموت. لقد وضع النموذج الّذي يجب أن نتطابق معه. إنّ الواجب الأوّل الملقى على عاتقنا هو استخدام ممتلكاتنا الأرضيّة بالرحمة من أجل حاجات خِرافه، ومن ثمّ، إن كان ضروريّاً، أن نعطيهم حياتنا. الشخص الّذي لا يعطي من جوهره من أجل خِرافه، فكيف سوف يبذل حياته من أجلهم؟". الصّلاح هي الميزة المسيحية الجوهرية التي تنفرد بها الحَياةُ المسيحية: وهي أن نصغي إلى الصّوت، أن نتأمل كلمة يسوع، يسوع الذي يدعونا بأسمائنا كما دعا مريم المجدلية باسمها، عرفته صوته، لقد دعاها باسمها ولهذا عرفته. أمّا صوت السَّارِق فيٌسبب الذعر بين الخِراف لأنها لا تعرف صوته. وفي الواقع هناك فئتان من الناس: فئة الذين هم ملك الراعي ويُلبُّون نداءه، ويسوع وسيط الخلاص لهم " فما هلك منهم أحد" (يوحنا 17: 12)، وفئة الذين لا يتجاوبون معه، لأنهم ليسوا من خاصته. وأمّا الرعاة الذين يتبعون يسوع المسيح ينبغي أن يرعوا كنيسة الله بحمية ونزاهة (حزقيال 34: 2-3)، وأن يصبحوا مثالاً للقطيع. حينذاك يمنحهم "رئيس الرعاة إكليلاً من المجد لا يذوى" كما جاء في توصيات بطرس الرسول "لا تَتَسلَّطوا على الَّذينَ هم في رَعِيَّتكم، بل كونوا قُدْوةً للِقَطيع. ومتى ظَهَرَ راعي الرُّعاة تَنالونَ إِكليلاً مِنَ المَجدِ لا يَذبُل. (1 بطرس 3:5-4). 3) الميزة الثالثة: هدف الراعي: الميزة الثالثة للراعي الصّالح هي هدفه الحَياةُ. "السَّارِق لا يأتي إِلاَّ لِيَسرِقَ ويَذبَحَ ويُهلِك. أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم". ويسوع يسمي نفسه بالراعي الصّالح الذي يبذل نفسه عن الخِراف (يوحنا 10: 11) ويستلزم المخاطرة في حياته عندما يقترب الخطر، فقد جاء لكي "تكون لهم حياة "(يوحنا 10: 10)، إنه يخلِصّ من الموت ومن كل ما من شأنه أن يُدمّر الإنسان، "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلِصّ بِه العالَم " (يوحنا 3: 17). إذا نال التلميذ الخلاص، وجد الأمان والحرية "تَعرِفونَ الحَقّ: والحَقُّ يُحَرِّرُكُم" (يوحنا 8: 32). والراعي الِصّالح يعرف خاصته، وبفضل المعرفة المتبادلة بينهم (يوحنا 10: 14) فانه يرضى ان يضحي بنفسه من أجلها (يوحنا 10: 15). قد تكون حظائر كثيرة ولكن لا يمكن ان يكون الاّ قطيع حقيقي واحد. وإن القطيع الواحد الذي جمعه يسوع هكذا يظلّ موحّداً إلى الأبد، لأن محّبة الآب القدير هي التي تحفظه وتكفل له الحَياةُ الأبدية (يوحنا 10: 27-30). أمّا السَّارِق فيسعى إلى التبديد والتدمير، وهدفه استغلال الآخرين وإهلاكهم، وأمّا الراعي الأجير فيرعى القطيع لأغراض نوال الأجرة، يهجر القطيع عند اقتراب الخطر (يوحنا 10: 12) فإنه لا يهتم بالقطيع لان الخِراف ليست لخاصا له " أَمَّا الأجير فهو "لَيسَ بِراعٍ ولَيستِ الخِراف له فإِذا رأَى الذِّئبَ آتياً تَركَ الخِراف وهَرَب فيَخطَفُ الذِّئبُ الخِراف ويُبَدِّدُها" (يوحنا 10: 13). ولذا يقع القطيع فرسة للذئاب. وخلاصة القول، إنَّ لقب "الراعي الِصّالح" جاذبيته الخاصة لدى المسيحيين عبر الأجيال وأصبح موضوع الراعي الصّالح من اهم المواضيع الايقونوغرافية في المسيحية الناشئة. كما أن قطيع الغنم لا يقدر أن يواجه الحَياةُ بدون راعيه، هكذا يشعر المسيحيون في مواجهة الشر والعالم الشرير بحاجة إلى الراعي الإلهي الذي يحفظهم من الشر ويُشبع كل احتياجاتهم، ويقودهم إلى المراعي السماوية. الخلاصة: يفسّر جان تولير الراهب دومينكيّ النص الإنجيلي بصورة رمزية فيقول: " الراعي هو الكلمة الأزليّ؛ الباب هو إنسانيّة المسيح؛ خراف هذا البيت هي الأنفس البشريّة، لكنّ الملائكة أيضًا تنتمي إلى هذه الحظيرة...؛ البوّاب هو الروح القدس، لأنّ كلَّ حقيقةِ مفهومة ومعلنة تأتي منه" (العظة 27، الثّالثة للعنصرة) تهدف رسالة يسوع الراعي الصّالح إلى إشراك تلاميذه في حياة الآب. كما يهتم الراعي بخِرافه ويرعاها كذلك يهتم يسوع بقطيعه ويرعاه. ويسوع هو الراعي الصّالح الذي يبذل نفسه عن الخِراف لأجل خلاصهم ووحدتهم، قد تكون هناك حظائر كثيرة، ولكن يسوع يريد أن يكون قطيع واحد كما جاء في تعليمه "ولي خِراف أُخْرى لَيسَت مِن هذِه الحَظيرَةَ فتِلكَ أَيضاً لابُدَّ لي أَن أَقودَها وسَتُصغي إلى صَوتي فيَكونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدة وراعٍ واحِد" (يوحنا 19 :17). دعاء أيّها الآب السماوي، يا من أرسلت ابنك الوحيد راعياً لنفوسنا، اعضدنا بقوّة روحك القدّوس، كي نتبع راعينا الّذي يرشدنا إلى ينابيع الحَياةُ، ويقودنا إلى طريق السلام والأمان، ونبقى أمناء في حَظيرَةَ كنيسته المقدسة ونلتزم في الخدمة والبذل والعطاء تجاه الآخرين على خطى الراعي الصّالح ربنا يسوع المسيح. آمين. |
|