رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القديس يوحنا ذهبي الفم وسر الإفخارستيا هذا السرّ كما عاشه وكرز به إنما هو: 1. سرّ المسيح المصلوب القائم من الأموات والواهب جسده ودمه حياة أبدية لكل من يتناول منهما. 2. سرّ السماء، حيث يرتفع الإنسان ليشترك مع السمائيين في العمل التسبيحي الفائق. 3. سرّ الكنيسة حيث تجد فيه الكنيسة سرّ وجودها ووحدتها مع الرأس وحياتها، خلاله تمارس الكنيسة قمة التعبد والتسبيح والشكر والفرح والتهليل، وتنعم بالحب والوحدة والتقوى... الإفخارستيا... سرّ المسيح: لما كان سرّ الإفخارستيا في جوهره هو دخول إلى "العشاء الأخير" عينه، لترى الكنيسة السيد المسيح نفسه كاهنها حالًا في وسطها يقدم ذات الذبيحة التي قدمها لتلاميذه في عُلِّية صهيون، لهذا دُعيَ هذا السرّ "سرًا إلهيًا "، "مائدة إلهية مهوبة"، "سرًا مخوفًا"،"غير منطوق به"، مائدة الخوف المقدس"، المائدة روحية"، "ذبيحة مقدسة مرهبة". أكد القديس أن السيد المسيح هو كاهن السرّ والذبيحة في نفس الوقت. "الذي يحوِّل القرابين الموضوعة إلى جسد المسيح ودمه ليس إنسانًا، بل المسيح نفسه الذي صلب عنا. الكاهن هو ممثل له ينطق بالكلمات، أما القوة والنعمة فهما للرب، الذي يقول: "هذا هو جسدي". فإن هذه الكلمات تحوِّل العناصر القائمة أمامنا. وكما أن العبارة "اثمروا وأكثروا" نطق بها مرة ولا تزال عاملة عبر الزمن تعطي لطبيعتنا قوة الإنجاب، هكذا قوله "هذا هو جسدي" نطق بها مرة ولا يزال عاملًا بها في كل مائدة في الكنائس منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، وإلى مجيء المسيح. أنه يجعل الذبيحة كاملة". "لنلمس نحن أيضًا هدب ثوبه، أو بالحري إن أردنا فلنأخذه بكامله، فإن جسده مضطجع أمامنا الآن، ليس فقط ثوبه بل وجسده، لا لنلمسه بل لنتناوله ونشبع. ليقترب كل واحد منا بضعفه إليه في إيمان... آمن أنه جالس الآن في العشاء الذي كان فيه بنفسه، فإنه من هو حاضر الآن هو بذاته الذي كان حاضرًا قبلًا. لأنه ليس إنسان صنع هذا ذلك (التحوُّل) "بل الذي صنعه قبلًا، كلاهما من عمله هو". عندما ترى الكاهن يسلمك (التناول) لا تظن أنه هو الذي يفعل ذلك، إنما يد المسيح هي التي تبسط لك(67)...". "أقول أمرًا غريبًا، لا تندهشوا منه... إن التقدمة التي يقدمها إنسان (كاهن) أو بولس أو بطرس هي بعينها التي أعطاها المسيح لتلاميذه، هذه التي يخدمها الكهنة الآن. "سرّ الفصح (الذي أقامه السيد) ليس أكثر فعالية عما يقدس الآن، بل هما واحد. ما يقدس الآن... هو ذات الفصح". "إننا نقدم ذات التقدمة، فلا نقدم اليوم حملًا. وفي الغد حملًا آخر، إنما نقدم ذات التقدمة، إذ الذبيحة واحدة. هل لأن الذبيحة تقدم في مواضع كثيرة يوجد مسحاء كثيرون؟ لا، بل هو مسيح واحد، موجود في كل موضع، بكماله موجود هنا، وبكماله هناك، هو جسد واحد. إن كان يقدم في مواضع كثيرة، لكنه جسد واحد وليس أجساد ا كثيرة. وهو ذبيحة واحدة. هو نفسه رئيس الكهنة، يقدم الذبيحة التي تطهرنا. ما نقدمه الآن هو ذات ما قدمه، هذه التقدمة التي لا تنفذ... إنها ليست ذبيحة أخرى كما كان يفعل رئيس الكهنة (في العهد القديم)... إنها ليست كلماتنا، بل هي كلمات الروح الإلهي ". "الآن، كما كان قبلًا، الرب نفسه هو الذي يعمل وهو الذي يقدم الكل". "نحن نقوم بدور الخدم، لكنه هو بنفسه الذي يبارك، وهو الذي يحوِّل القرابين". كثيرًا ما كان يؤكد في عظاته "وجود السيد المسيح نفسه" على المذبح. "يليق بنا لا أن نرى الرب فحسب بل نأخذه في أيدينا ونتناوله... وفي أكثر ود نتحد به". "سجد المجوس للمسيح وهو في المزود، أما نحن فلا نراه في المزود بل على المذبح، لذلك يليق بنا أن نمجده بالأكثر". "المسيح متكئ هناك (على المذبح) ذبيحًا". "تأمل يا إنسان أي جسد ذبيحي تتسلمه يدك؟! إلى أي مائدة أنت تقترب؟ اُذكر أنك وأنت تراب تتسلم دم المسيح وجسده؟". "ما بالكأس هو بعينه الذي فاض من جنب المسيح... ما هو الخبز؟ أنه جسد المسيح ". "ما لم يسمح به الرب على الصليب (كسر عظامه) يسمح به الآن في التقدمة من أجل حبه لنا، يسمح أن يكسر لكي يشبع كل البشر". "لنصدق الله في كل شيء ولا نعترض على قوله في شيء، حتى وإن بدا لنا مناقضًا لأفكارنا وحواسنا... هذا ما يليق بنا أن نفعله في الأسرار غير ناظرين إلى الأمور المنظورة بل مفتكرين في أقواله، لأن كلمته لا يمكن أن تخدعنا، أما حواسنا فيمكنها أن تخدعنا... فإذ قال: هذا هو جسدي، نقبل كلمته ونصدقها... ما أكثر القائلين الآن: كنت أود أن أنظر هيئته وشكله وثيابه ونعليه، ها أنت تراه وتلمسه وتتناوله. حقًا، أنت تريد أن ترى ثيابه، أما هو فيعطيك ذاته لا لكي تراه بل وتلمسه وتتناوله وتتقبله فيك ". لقد أوضح أن "أنامنسيس Anamnesis" لا تعني ذكرى لحدث ماض غائب عنا، بل هو تذكار يحمل حضورًا فعالًا... في هذا يقول: "ألا نقدم الذبيحة يوميًا؟ نعم نقدمها، لكننا نفعل هذا "أنامنسيس" لموته، وهي ذبيحة وحيدة غير متكررة، قدمت مرة عن الجميع وحملت إلى قدس الأقداس. "الأنامنسيس هو علامة موته، فإن ما نقدمه هو ذات الذبيحة، فلسنا نقدم اليوم ذبيحة وغدًا ذبيحة أخرى مختلفة. واحد هو المسيح في كل مكان، كامل في كل موضع، جسد واحد. فإذ يوجد جسد واحد في كل موضع تكون الذبيحة واحدة. هذه هي الذبيحة التي لا نزال نقربها إلى اليوم. هذا ما نعنيه بالأنامنسيس ". التحول في الإفخارستيا: يتساءل بعض اللاهوتيين: متى يحل التحول، هل أثناء "قمة التأسيس" أو ما نسميه بالرشومات حيث يردد الكاهن ذات كلمات السيد المسيح أثناء العشاء الأخير أم أثناء حلول الروح القدس؟ أو بمعنى آخر، من الذي يقوم بالتحول الكلمة الإلهي أم الروح القدس؟ يرى بعض اللاهوتيين أن التقديس الأفخارستي يشبه حلول الروح القدس على القديسة مريم لأجل تجسد الكلمة. فكما أن التجسد هو من عمل الروح القدس لكن "الكلمة" قام بدور إيجابي في التجسد... هكذا التقديس الأفخارستي ينسب للروح القدس دون تجاهل لدور الكلمة الإلهي... لهذا نجد القديس الذهبي الفم ينسبه تارة للروح القدس وأخرى للكلمة الإلهي، إذ يقول: "عندما يقف الكاهن أمام المائدة ويرفع يديه إلى السماء، يستدعي الروح القدس فيأتي ويلمس القرابين، ويكون سكون ووقار على الموضع(83)..."، "الذي يحول القرابين الموضوعة إلى جسد المسيح ودمه ليس إنسانًا بل المسيح الذي صلب عنا(84)...". الإفخارستيا... سرّ السماء: سر الإفخارستيا إنما هو رحلة إلى السماء عينها: "كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد ويطير مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة". "أهرق هذا الدم فاتحًا طريق السماء ". "ما دمنا قد صرنا سمائيين، وحصلنا على ذبيحة كهذه، فلنخف: يليق بنا إلا نستمر في زحفنا على الأرض، فإنه يستطيع من يريد منا إلا يكون بعد على الأرض من الآن... إذ نقترب من الله نصير في السماء، بل ماذا أريد من السماء إن كنت أرى رب السماء وصرت أنا نفسي سماءًا؟". لتكن نفوسنا سماءًا... أقصد لنمتثل ببولس الذي وهو على الأرض يقضي حياته في السماء. "تأمل من يشترك معك؟ فإن هذا يكفي ليجعلك تسهر. اُذكر أنك وأنت في الجسد مرتبط به صرت أهلًا أن تحتفل مع القوات المتجسدة لسيد واحد للجميع ". "لنذكر أننا إنما نتناول الجسد الجالس على العرش، والمسجود من الملائكة... أتوسل إليكم، انظروا، إنها مائدة ملوكية قد أُعدت لنا، الملائكة تخدمها، والملك جالس بنفسه، فهل تقفوا متثائبين...؟ هنا الذبيحة حاضرة: "المسيح نفسه حمل الرب قد ذبح". متى سمعت "صلوا معًا" ويفتح الستر تصور السماء مفتوحة من السماء فوق والملائكة هابطين . في خدمة هذه الليتورجية يشترك العلويون معنا: "أي رجاء لا يكون لك في هذه اللحظة يا أخي الحبيب؟ فإنه ليس فقط يرفع الإنسان هذه الصرخات العالية المقدسة، بل ويرتمي الملائكة عند قدمي السيد، ويتضرع إليه رؤساء الملائكة. إنها الساعة المقبولة التي فيها يتشفع (السمائيون) وتكون الذبيحة ذاتها هي العين لهم... وكما أن الإنسان يقطع أغصان شجر الزيتون ويلوح بها أمام الملوك ليذكرهم بهذا بالعطف والمحبة، هكذا تقدم الملائكة في هذه اللحظة جسد الرب ذاته عوض أغصان الزيتون، ويتضرعون إلى الرب من أجل جنس البشر... وكأنهم يرددون قائلين: نصلي إليك من أجل الذين حسبتهم أهلًا لحبك فوهبتهم حياتك. نسكب إليك تضرعاتنا عنهم كما سكبت دمك من أجلهم. نطلب إليك من أجلهم هؤلاء الذين بذلت جسدك هذا لأجلهم". ويرى القديس أن الملائكة وهي تقدم الشكر لله لأجل أعماله الخلاصية معنا إنما تعطينا درسًا في تقديم الشكر له من أجل أعماله مع الآخرين: "هذا (العمل الليتورجي) يحررنا من الأرض ويتحرك بنا نحو السماء، ويجعلنا ملائكة عوض كوننا بَشرًا، أما هؤلاء الذين هم طغمة علوية فيشكرون الله من أجل أعماله الصالحة التي قدمها لنا، قائلين له: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. ماذا يعني هذا بالنسبة لنا؟ فهم ليسوا على الأرض ولا هم بشر... (ويشكرون من أجلنا)، بهذا يعلموننا أن نحب شركاءنا حتى نحسب ما ينالونه من بركات كأنما نلناه نحن... ليتنا نحن أيضًا نشكر الله لا من أجل بركاته علينا بل من أجل بركاته على الآخرين، البركات العظيمة والصغيرة ..". هذا السرّ الأفخارستي كما يراه القديس. تجد فيه الكنيسة سرّ وجودها وشركتها واتحادها مع الرأس، فيه سرّ تقيدها المقبول لدى الآب، سرّ تقديسها المستمر وجمالها الروحي: 1. الإفخارستيا... سرّ وجود الكنيسة: "جعلنا أعضاء جسده ومن عظامه ، ليس خلال الحب وحده، وإنما بالفعل ذاته... هذا يتحقق بالطعام المجاني الذي قدمه لنا، مريدًا أن يعلن حبه لنا. من أجل حبه مزج نفسه بنا، عجن جسده بجسدنا، لكي نصير معه واحدًا، نصير جسدًا واحدًا متحدًا بالرأس". يؤكد ارتباط سرّ الإفخارستيا بسر الكنيسة بدعوة الكتاب المقدس للاثنين "جسد المسيح". هذا ويظهر متى التحام الاثنين معًا من ارتباط الكنيسة بالمذبح في ذهن القديس حتى متى تحدث عن أحدهما قصد الاثنين، مثال ذلك عندما تحدث عن أثروبياس يقول: "أتريد أن تحمي نفسك؟ تمسك بالمذبح الذي بلا حصون لكن فيه عناية الله الحارسة. تمسك بالكنيسة... فإنك إن كنت مع القطيع لا يقدر الذئب أن يدخل إليك... الحصون تشيخ مع الزمن أما الكنيسة فلا تشيخ. الحصون يحطمها البرابرة أما الكنيسة فلا تقدر عليها حتى الشياطين. لست أنطق بهذه الكلمات على سبيل المباهاة بل من خلال الواقع. كثيرون هاجموا الكنيسة فهلكوا أما هي فتحلق في السماء". في سرّ الإفخارستيا يجتمع المؤمنون بروح الشركة والوحدة فيكون لصلواتهم فاعلية... لهذا كان القديس يحزن من أجل الذين يستمعون العظات ولا يشتركون في ليتورجيَّا الإفخارستيا، إذ يقول: "قد تقول: أستطيع الصلاة في بيتي، لكنني لا أقدر أن أسمع عظة في بيتي... إنك تخدع نفسك يا إنسان، فإنك وأن كنت تقدر بالحقيقة أن تصلي في البيت لكن ليس بذات الكيفية التي تتم في الكنيسة، حيث يشترك كثير من الآباء الروحيين، وترتفع صلوات مشتركة أمام الله. عندما تطلب في مخدعك لا تكون الاستجابة مثلما تطلب خلال شركة إخوتك. هنا يوجد شيء آخر هو اتحاد الروح بالكلمة، ورباط الحب، وصلوات لكهنة... فترتفع الصلوات إلى السماء(97)...". إن كانت صلوات الفرد لها قوة عظيمة كم بالحري تكون صلاة الشركة. يرى القديس في سرّ الإفخارستيا سرّ وحدة الكنيسة: "إذ كان الخبز يحوي حبوبًا كثيرة صارت متحدة معًا، فلا تظهر الحبوب بعد. هي موجودة فعلًا لكن لا يظهر اختلافها بسبب اتحادها معا. هكذا ارتبط مع بعضنا البعض في المسيح، فليس هو جسدًا لشخص وآخر، بل هو جسد واحد يغتذي به الكل، أنه شركة في جسد الرب... شركة مع المسيح نفسه ". "حقًا توجد أمور كثيرة تربطنا معًا: مائدة واحدة معدة للجميع... مشرب واحد مقدم للكل... بل نشرب من كأس واحدة، الأمر الذي يصدر عن حب متسع. إننا نشترك في مائدة روحية، فلنشترك أيضًا في حب روحي، لأنه إن كان اللصوص إذ يشتركون معًا في الملح ، ينسون طليعتهم (كلصوص) فأي عذر لنا نحن الذين نشترك على الدوام في تناول جسد الرب؟". هذا المفهوم الخاص لقيام سرّ وحدة الكنيسة خلال سرّ الإفخارستيا كما ورد في صلوات ليتورجيَّا الأسقف سرابيون المصري. في ليتورجيَّا الإفخارستيا يقدم الكاهن مع الشعب، ويشترك معهم السمائيون في تقديم الشكر لله خلال الذبيحة، أي خلال صليب ربنا يسوع، وذلك من أجل أعماله الخلاصية لأجلنا. "عندما أدعوه "سرّ الشكر" اكشف كل كنوز صلاح الله، وأدعو الذهن للتأمل في تلك المواهب العظيمة ". "لذلك كما تعلمون ينضم الكاهن ليقدم شكرًا عن العامة من أجل أعمال الله السابقة، وأعماله الحاضرة لأجلنا، وما سيهبه لنا حتى صارت الذبيحة قائمة بيننا". في الذبيحة المقدسة تختفي الكنيسة فتظهر حاملة قداسة المسيح وبرَّه. تصير عروسًا بلا عيب للعريس القدوس. "بهذه العطية تتزين نفوسنا وتتجمل ". "به تتطهر النفس وتتجمل وتلتهب". "هذه المائدة هي عضد نفوسنا، ورباط ذهننا، وأساس رجائنا، وخلاصنا ونورنا وحياتنا... عندما ترى المائدة معدة قدامك، قل لنفسك: من أجل جسده لا أعود أكون ترابًا ورمادًا، ولا أكون سجينًا بل حرًا. من أجل هذا الجسد أترجى السماء وأتقبل الخيرات السماوية والحياة الخالدة، ويكون لي نصيب الملائكة وأناجي المسيح. سمر هذا الجسد بالمسامير وجلد ولا يعود يقدر عليه الموت. أنه الجسد الذي لطخ بالدماء وطعن، ومنه خرج الينبوعان المخلصان للعالم: ينبوع الدم وينبوع الماء". "هذا الدم يجعل صورة ملكنا واضحة فينا، ويجلب علينا جمالًا لا ينطق به، ولا يسمح بانتزاع سمونا، بل يرويه دائمًا وينعشه... هذا الدم متى أخذناه بحق يطرد الشياطين ويبعدهم عنا، بينما يدعو إلينا الملائكة. فإذ يظهر دم الرب تهرب الشياطين وتجتمع الملائكة. هذا الدم المسفوك يطهر كل العالم... هذا الدم يطهر الموضع السري وقدس الأقداس... هذا الدم يقدس المذبح الذهبي... هذا الدم يقدس الكهنة... هذا الدم هو خلاص نفوسنا... به تغتسل النفس وتتجمل وتلتهب، به يلتهب فهمنا كالنار، وتتلألأ النفس أكثر من الذهب. لقد سفك هذا الدم فاتحًا لنا طريق السماء... مهوبة حقًا هي أسرار الكنيسة، مهوب حقًا هو المذبح. لقد خرج من الفردوس ينبوعًا يبعث أنهارًا مادية، أما هذه المائدة فأخرجت ينبوعًا يبعث أنهارًا روحية، لا يزرع على جوانبها شجر الصفصاف غير المثمر بل تزرع أشجار تصل إلى السماء وتحمل ثمرًا دائمًا لا يفسد. إن كان أحد لفحه الحر فليقترب من الينبوع فتبرد حروقه وينطفئ ظمأه ويحمل راحة عوض الحروق التي سببتها السهام النارية لا الشمس... هذا الينبوع هو نور يبعث أشعة الحق، تقف بجواره القوات السمائية في الأعالي تتطلع إلى جمال مجاريه... من يشترك في هذا الدم يقف مع الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات العلوية، ملتحفًا بثوب المسيح الملوكي، له أسلحة الروح، لا بل يلتحف بالملك نفسه...". إذ يتحدث القديس عن سرّ الإفخارستيا يحلق بنا عاليًا في السموات، لكنه، في نفس الوقت لا يتجاهل واقعنا كأناس نعيش على الأرض، لذا يرى فيه سرّ نمونا الروحي وجهادنا في المسيح يسوع. 1. الإفخارستيا والحياة التقوية: هذا السرّ هو سند حياتنا الروحية إن كانت نفوسنا متيقظة مجاهدة، حاملة للصليب، ومشتاقة للسماويات. لقد تحدث القديس كثيرًا عن الاستعداد للتمتع بهذا السرّ حتى ننال فاعلية في حياتنا الروحية ولا نحمل دينونة. "ما دمنا نتحدث عن جسد الرب، فلنوجه أنظارنا إليه، هذا الذي صلب وسمر وقدم ذبيحة. إن كنتم جسد المسيح فاحملوا الصليب، إذ هو حمله. احتملوا البصق واللطمات والمسامير. لقد جعلنا جسده ووهبنا جسده ومع هذا لم نعطي للشر ظهورنا، يا للظلمة، يا لعمق الهاوية، يا لعدم المبالاة. "يقول الرسول اطلبوا ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، ومع هذا لا يزال يضع البعض قلبه في المال أو الفسق وآخرون تأسرهم الشهوات. ألا ترى أنه إن كان في جسدنا عضو زائد وبلا نفع نبتره ونلغيه عنا. ليته لا تكون ثقتنا زائدة هكذا لمجرد أننا جعلنا أعضاء في هذا الجسد. فإن المسيح لا يحتمل دخول أحد بهذا الحال في حجاله. إن كان قد طرد صاحب الثياب الدنسة وأخرجه أفلا يفعل ذلك مع من يدنسه". "ليته لا يقترب أحد إلى الأسرار بغير مبالاة أو بقلب واهن. إنما يلزم أن يكون الكل بقلوب ملتهبة بحرارة. ليكن الكل متيقظًا. فإن كان اليهود أكلوا الذبيحة وهم مستعدون، أحذيتهم في أرجلهم وعصِّيهم في أيديهم، فكم بالحري أنت، يجب أن يكون نشاطك أعظم. إن اليهود استعدوا للذهاب إلى فلسطين وعليهم هيئة المسافر، أما أنت فمستعد للسفر إلى السماء". "كيف تقف أمام كرسي الديان يا من تتجاسر على هذا الجسد وتتقدم بأيد دنسة وشفاه نجسة؟ إن كنت لا تقدر أن تُقبل ملكًا بفم قذر، أتقبل ملك السموات بنفس دنسة؟ يا له من انتهاك للمقدسات. اخبرني، أتريد أن تتقدم بأيد غير نظيفة؟ أظنك لا تقبل هذا، بل تفضل عدم حضورك عن مجيئك بأيد ملوثة. فإن كنت تدقق في الأمور الصغيرة، فهل تحضر بنفس ملوثة وتتجاسر وتلمس الذبيحة؟ ماذا، أما ترى الأواني المقدسة نظيفة تمامًا ومتألقة؟ يليق بنفسك أن تكون أكثر نقاوة منها وأكثر قداسة وبهاء، لماذا؟ لأن هذه الأواني وجدت من أجلنا نحن. إنها لا تشترك في التناول الموجود فيها ولا تدركه، أما نحن فنشترك فيه... هل لا نقبل أن تستخدم آنية ملوثة بينما نقترب بنفس دنسة؟(111)". "تصور سخطك على الذي سلم المسيح، وعلى الذين صلبوه: احذر أن تكون مجرمًا أمام جسد المسيح ودمه. هؤلاء أماتوا الجسد الكلي القداسة وأنت تتقدم إليه بنفس غير نقية بعد أن خصك بهذه النعم. لم يكتف المسيح أنه صار إنسانًا بل قبل اللطمة والموت. إننا نتحد معه ليس بالإيمان فقط بل بالجسد. فما هي النقاوة والطهارة الواجبة على من يتلذذ بهذه الذبيحة؟ يجب على اليد التي تلمس هذا الجسد أن تكون أطهر من أشعة الشمس، وهكذا يجب أن يكون الفم المملوء بالنار الروحية واللسان المضرج بالدم المخيف، فما أعظم تلك المائدة التي تتلذذ بها، إن الملائكة تنظر إليها ولا تجسر أن تحدق فيها من دون خوف ورعدة بسبب النور الساطع الصادق. أما نحن نغتذي بها، ونتحد في المسيح بواسطتها ونصبح معه(112) جسدًا واحدًا. فمن يحدث بجبروته ويسمع تسبحته كلها (مز 105: 2)... يتحدث أيضًا القديس عن الاستعداد الروحي لهذا السرّ أنه ممتد إلى ما بعد التناول، قائلًا: "إن كنت لا تسرع إلى السوق بعد الاستحمام حتى لا تفسد ما تمتعت به في الحمام، كم بالأحرى يليق بنا أن نفعل هذا بعد التلذذ بالتناول... فإنه يليق بك عند عودتك إلى منزلك بعد التناول إلا تحسب شيئًا أهم من تذكرك الأمور التي سمعتها. نعم إنها لغباوة عظيمة أن نعطي خمسة أيام أو ستة للعمل في أمور هذه الحياة ولا نسمح لأنفسنا بيوم واحد لحياتنا الروحية، أو حتى جزء من يوم". يحذرنا القديس من التهاون بعد التناول، قائلًا: "لقد صرت جسد المسيح، فإن سلمت نفسك للشيطان يدوس عليك". فتهين المسيح. ربط القديس بين الجسد الذبيح المقدس وبين أعضاء جسد المسيح المتألمة والجائعة، فيقول(115)": "المائدة هي بعينها كتلك (التي كانت في عُلِّية صهيون) وليس أقل منها. لأنه ليس المسيح صنع تلك، أما هذه فصنعها إنسان، بل المسيح أيضًا يصنع هذه، إنها ذات العُلِّية التي كان التلاميذ مجتمعين فيها حين ذهبوا إلى جبل الزيتون. لنذهب نحن أيضًا إلى أيدي الفقراء بكونها جبل الزيتون، لأن جموع الفقراء هم أشجار الزيتون المغروسة في بيت الرب، يقدمون زيتًا يفيدنا فيما بعد، الزيت الذي كان للعذارى الخمسة، والذي افتقدته العذارى (الجاهلات) الآخريات. إذ نتقبل هذا الزيت في مصابيحنا المتلألئة نستقبل العريس ". مرة أخرى يوبخ الذين يهتمون بتقديم ستائر حريرية وكؤوس من ذهب. للمذبح تكريمًا للذبيحة ويتركون الفقراء جسد المسيح. في عوز، فيقول: "إن أردت أن تكرم الذبيحة فقدم نفسك التي لأجلها ذُبِحت. لتكن نفسك من ذهب. لكن إن أبقيت نفسك ترابية وقدمت أوان من ذهب، فما المنفعة...؟ ليته لا يكون هدفنا تقديم أوان ذهبية فحسب، إنما نفعل هذا بغيرة صادقة... فإن الكنيسة ليست مسبكًا للذهب ولا هي متجر لسبك الفضة إنما هي جماعة ملائكة... أتريد أن تكرم جسد المسيح، لا تتغافل عنه وهو عريان. لا تكرمه هنا في الكنيسة بثياب ديباج وفي الخارج تضرب عنه صفحًا، وهو يموت من البرد والعري ". "اَخبرني، لو أن إنسانًا دُعيَ لوليمة، وغسل يديه وجلس وصار الكل مستعدًا على المائدة، بعد هذا كله رفض الاشتراك في الوليمة، أما يكون بهذا قد أهان من دعاه؟ أما كان الأفضل له إلا يحضر؟ هذا ما تفعله أنت، إذ تترنم بالتسبحة (الثلاث تقديسات) وتشترك في الصلوات وتعلن أنك من بين المستحقين، إذ لم تخرح مع غير المستحقين (قبل بدء قداس المؤمنين) فلماذا لا تشترك في المائدة؟ تقول: أني غير مستحق. هل غير المستحق للتناول مستحق للشركة في الصلوات؟ فإن الروح يحل لا بواسطة التقدمات فحسب بل وخلال التسابيح... إنه يدعونا للسماء، لمائدة الملك العظيم العجيب، فهل تتردد متراخيًا بدلًا من أن تسرع إليها؟". "من لا يشترك في الأسرار، إنما يجلس في وقاحة...". بقدر ما يشجعنا على التمتع بالتناول يحزن أن يعتاد الناس على التناول في أيام الأعياد كعادة بغير توبة ولا استعداد، إذ يقول: "كثيرون من المؤمنين أمعنوا في الجهالة والتهاون العظيم فيتقدمون لمناولة الأسرار المقدسة في الأعياد، مملوئين بالخطايا وغير مهتمين لنفوسهم، ولا عالمين أن وقت المناولة المقدسة لا يحده عيد أو فرح، بل الضمير النقي والحياة التي لا عيب فيها. فكل من يعرف نفسه نقية من الخطيئة يجوز له أن يتقدم إلى الأسرار الطاهرة يوميًا، وبالعكس فإن المثقل بالخطايا وغير التائب عنها، لا يخلو تقدمه إليها من الخطر حتى في الأعياد، لأننا نتقدم إليها مرة في السنة، فإن كان تقدمنا هذا عن غير استحقاق، لا يبررنا من الذنوب، بل يكون دينونة لنا لأننا تقدمنا مرة واحدة في السنة، ومع ذلك بلا طهارة". |
|