أورشليم مدينة الله
المزمور السابع والثمانون
1. المزمور السابع والثمانون هو مزمور يتلوه الحجّاج الداخلون إلى أورشليم مدينة الله. أنشده البعيدون في عالم الشتات، فحمله المؤمنون معهم وحمّلوه معاني عن ملك الله في آخر الأزمنة. ولما دخل هذا المزمور كتاب صلاة الهيكل صار عيد المظال إحدى المناسبات التي فيه يُنشد تمجيدًا لصهيون أم الشعوب. هذا النشيد لمجد صهيون لم يأخذ أبعاده الشاملة الحقيقية إلاّ في العهد الجديد حيث صار جبل صهيون قمة الجلجلة، ومدينة الله أورشليم العليا التي نرى عنها صورة مصغَّرة في كنيسة المسيح خلال مسيرتها على الأرض.
2. أورشليم الجديدة، مدينة الرب وعاصمة الشعوب.
آ 1- 4: كلام الله على لسان نبي أو كاهن تهيِّئه آيتان. تذكر الآية الأولى المحبة الفريدة التي خصّ بها الربّ المدينة التي أسّسها على الجبال المقدسة. وتذكر الآية الثانية الأبواب التي ينفحها الرب بقوته في المستقبل لتقاوم هجمات المهاجمين. وتذكر الآية الثالثة مساكن يعقوب لتدلّ على أن أورشليم صارت المعبد الوحيد الذي فيه يقدّم اسرائيل الذبائح إلى الله دون أي مكان آخر. في الآية الرابعة نقرأ اسم رهب (مصر) وبابل وكيف خلص الله اسرائيل من أيديهم. ونتطلع إلى الفلسطيين والأراميين والكوشيين الآتين إلى صهيون ليشتركوا في احتفالاتهم ويقدّموا الذبائح فيها (أش 45: 14- 16). ذكر المرتّل أشور مع مصر كنموذج للشعوب الظالمة، وترجّى الخروج الجديد من بابل على مثال الخروج القديم من مصر، لأن التحرير الثاني هو صورة عن التحرير الأول.
آ 5- 7: إنشاد لمجد المدينة التي أعيد بناؤها وكثر نسلها (بعض الناس ولد في صهيون وبعضهم خارجًا عنها) فاحتشدوا فيها. مجدها لن يكون عابرًا، بل دائمًا، لأن الله هو الذي شيّدها وثبّتها (48: 9) كما ثبّت الأرض (24: 2) والهيكل (أش 2: 2) وعرش الملوك (89: 5). وبعد الآلام والضيقات تستعيد صهيون فرحها السابق مع الترانيم وآلات الموسيقى التي يعزف فيها أبناؤها الموسومون باسم الله والمعروفون منه والمكتوبون في سفر الحياة، لأن الحياة تنبع في صهيون (46: 5).
3. يتحدّث المزمور عن اختيار الرب لأورشليم لأنه أحبّها فأسّسها على الجبال المقدسة، أي الجبال الأولى الطالعة من السديم الأول. الله أسّس الكون على رأس رهب ومدينته على الجبال المقدسة، وهذا سر عظمة أورشليم التي لا تحسب شيئًا لولا عمل الله فيها. إنها مدينته الخاصّة التي جعلها فوق كل المدن. كما أن اسرائيل، أصغر الشعوب (تث 7: 7)، قد عظمه الله، هكذا تبدو أورشليم عظيمة وسبب عظمتها الله الذي اختارها. لهذا حين ينشدونها فهم إنما ينشدون الرب العظيم الذي بناها.
- أورشليم هي المكان الذي فيه يخلق الله الشعوب ويحصي الآتين إلى أورشليم، كأنهم تعرَّفوا على الأماكن من قبل. حتى مصر وبابل وكنعان وفينيقية يعرفهم الله وهم يعرفونه. رغم عداواتهم لاسرائيل. يأتون ليسجدوا له هو الحاضر بتابوت العهد في أورشليم، كما فعل المجوس مع الطفل الالهي يوم جاؤوا من الشرق إلى بيت لحم (متى 2: 1).
4. يعلن العهد الجديد أن دور صهيون في تاريخ الخلاص قد انتقل إلى شعب العهد الجديد ورئيسه يسوع المسيح (غل 4: 26). ونقرأ في الرسالة إلى العبرانيين (12: 22- 24): "أنتم اقتربتم من جبل صهيون، من مدينة الله الحي، من أورشليم السماوية وآلاف الملائكة في حفلة عيد، من محفل الابكار المكتوبة أسماؤهم في السماوات...". إلى أورشليم يدعو الرب جميع البشر وقد أرسل إليهم الرسل، وأوصاهم بأن يكونوا شهداء له حتى أقاصي الأرض فيدعون إلى الإيمان الجديد اليهود وغير اليهود (روم 9: 24) ويعلنون أنه "لا عبد ولا حر، لا يهودي ولا يوناني، لأن المسيح هو كل في الكل" (كر 3: 11). لم يبق أحد خارجًا، لم يبق أحد غريبًا، لأننا نؤلف رعية واحدة ونحن أهل بيت الله بنينا على أساس الرسل والأنبياء وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسه (أف 2: 19 ي).
5. أورشليم
لقد اختار الله صهيون (أورشليم) وجعلها أم الشعوب جميعًا.
أ- اختيار أورشليم
لقد تعودنا على هذا الموضوع في سفر المزامير وبالأخص بعد أن صارت صهيون المعبد الوحيد في أرض اسرائيل. أما سبب هذا الاختيار فلأن الرب يحب أورشليم. يجب هنا أن نبرز هذه المحبة لنفهم أن الرب أسَّس مدينته (التي اسمها مدينة الله) على الجبال المقدسة (48: 1 ي؛ 110: 1 ي). وهكذا جعل يهوه مسكنه حيث أقامت الآلهة. واذ اختار أورشليم دلّ على عظمته. ولكننا نفهم كيف أن ثورة هؤلاء الآلهة تهدد أورشليم بالخطر.
ويذكرنا المرتّل أن أورشليم ليست بشيء لولا عمل الله، لولا العلي الذي بناها وجعلها مدينته وأقام على جبالها. كما أن شعب اسرائيل أقل الشعوب (تث 7: 7) فاختاره الله، كذلك كانت أورشليم آخر المعابد. وإن عظّمت على سائر المعابد فلأن الله اختارها. وحين ينشدها المؤمنون إنما ينشدون العلي الذي أقام فيها.
ب- أورشليم أم الشعوب
لكي نفهم هذه العبارة نضعها في إطار الاختيار ووحدة الله مع شعبه كما فهمها هوشع وحزقيال. فإذا كانت صهيون أمًا، فلأن الله أب وهو خالق. فصهيون هي فقط الموضع الذي فيه يخلق الله الشعوب ولكنها موضع فريد. وها هو الله يبدأ إحصاء جديدًا وشاملاً، فيدوّن الشعب بعد الشعب والإنسان بعد الآخر ويذكر كل واحد أين خلق ويعلّمه أن ينادي: يا أمي: هنا ندخل في إطار الشموليّة الكتابية.
وتصبح هذه الفكرة الشاملة أمرًا ملموسًا: فمصر وبابل وفلسطين وفينيقية من معارف الله بمعنى أن الله يعرفها وأنها تعرف الرب. كل هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا أعداء صاروا من أهل البيت. هم مدعوون لا أن يأتوا يومًا إلى أورشليم، بل أن يعودوا إلى أورشليم، إلى أهلهم، إلى موطنهم.
6. يرتبط هذا المزمور بمدينة يصوّرها وينشدها. مدينة نحن مواطنوها لأننا مسيحيّون. نحن منفيّون عنها ما دمنا مائتين ونتوق إليها. منذ زمن بعيد أغلقت الطريق بالشوك والعوسج فما عدنا نعرف كيف نتوجّه، حتى اليوم الذي فيه صار ملكُ هذه المدينة طريقنا لكي نصل إليها. إذن، لنمش في المسيح ونحن منفيّون حتى وصولنا، نتأوّه ونرغب في راحة لا يعبّر عنها، في راحة تكمن في هذه المدينة، في راحة نمتلك فيها حسب مواعيد الله "ما لم تره عين، ولا سمعت به اذن، ولا خطر على قلب بشر" (1 كور 2: 9).
وإذ نحن سائرون، لننشد أناشيد تجسِّد رغباتنا. فالذي يرغب رغبة صامتة، ينشد دومًا في قلبه. والذي لا يرغب يبقى أخرس أمام الله مهما طرق أذنه من ضجيج. انظروا كم كانوا يحبّون مدينتهم أولئك الذين يكلّمونا في المزامير ويكشفون لنا هذه الجمالات. انظروا بأي قلب أنشدوها. وُلدت هذه العواطف فيهم من حبّهم للمدينة، وكان هذا الحبّ فيهم ثمرة الروح القدس. فقد قال الرسول: "أفيضت محبّة الله في قلوبنا بالروح القدس الذي نلناه" (روم 5: 5). وفي الحرارة التي يعطيها الروح، لنسمع ما يقوله لنا هذا المزمور عن مدينتنا. (أوغسطينس).