"تاقت نفسي إلى خلاصك. كلامك انتظرت ... فأقول متى تعزيني لأني قد صرتُ كزق في الدخان"
(مز 119: 81 -83)
يشبِّه المرنم نفسه هنا بأنه "كزق في دخان". وإذا استرجعنا هذه الصورة بحسب عادات وطريقة حياة البدوي في ترحاله في الصحراء قديماً. فقد كان ينصب الخيمة ويعلـّق الزق في أعلى الخيمة من الوسط. والزق هو قربة من الجلد كان يحفظ بداخلها النبيذ أو عصير العنب. ثم يوقد الموقد داخل الخيمة للتدفئة، ويوضع بحيث يكون دخانه المتصاعد في اتجاه الزق مباشرة. وتحت تأثير الدخان واللهب يفقد الزق لونه وشكله فيسوّد ويضمر ويتقلص، أما النبيذ فيُقال أنه يصبح أحلى مذاقاً. وهكذا نرى أن النار والدخان الذي يعمل على تشويه الزق من الخارج، هي نفسها التي تجعل النبيذ أطيب وأحلى!
"كزق في الدخان" - هي صورة لآلام الأتقياء من شعب الله عندما يرزحون تحت مطرقة الألم ويشربون من معصرة الضيقات. فدخان ولهب نيران التجارب تهاجمهم بعنف، فيصيرون بلا منظر ويصفرون ويذبلون، ولكن مع سحقهم في أتون التجربة فإن رجاءهم بالله لا يتزعزع وهم ينتظرون خلاصهم بحسب كلمته. وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً (2كو 4: 16 ) ، إن الكنز المحفوظ داخل الزق يزداد حلاوة في الإيمان والرجاء والشهادة.
أحبائي ... إن مدرسة الألم التي يخوضها المؤمن في أرض الغربة لن تتوقف إلا برقادنا أو بمجيء الرب. هل تعلمنا شيئاً من الألم الذي لمجد الله؟ يقول الرسول بولس "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً" (2كو 4: 17 ) . ويقول الرسول بطرس "... الذي به تبتهجون مع أنكم الآن إن كان يجب تُحزنون يسيراً بتجارب متنوعة لكي تكون تزكية إيمانكم ..." (2كو 4: 17 ، 7).
ويفك البدوي الخيمة ليرتحل إلى مكان آخر. فالطريق شاق ومخاطره كثيرة؛ في النهار لفح الشمس، وفى الليل صقيع البرد، وبعدما يأخذ منه التعب أشده، نجده يتوقف لينصب الخيمة من جديد ليستريح. وأول ما يخطر على باله هو هذا الكنز المخبأ داخل الزق - هذا الخمر الذي أعطاه الله لفرح قلب الإنسان (مز 104: 15 ) فيرتشف منه جرعة وراء جرعة ليروى عطشه. وهكذا تتجدد قوته وترسخ عزيمته لمواصلة الطريق بالرغم من وعورته حتى النهاية، إذ يرى المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها هو الله.