رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
آماله في استمرار سعادته فَقُلْتُ: إِنِّي فِي وَكْرِي أُسَلِّمُ الرُّوحَ، وَمِثْلَ السَّمَنْدَلِ أُكَثِّرُ أَيَّامًا [18]. حسب أيوب نفسه في وكرٍ، يهرب إليه حيث يقيم فيه مطمئنًا، أو عشًا يستقر فيه كما في قمة شجرة مطمئنًا من أية مخاطر تلحق به حتى تأتي لحظة تسليم روحه. كان يظن أنه يقضي كل أيامه في سلامٍ بعيدًا عن أية عواصف تقدر أن تحطم وكره أو تزعزع عشه. العجيب أن أيوب يتطلع إلى حياته بكونها كالرمل (السمندل) الذي على شاطئ البحر، وكأنه كان يظن أن عمره يطول جدًا، ولم يدرك أنه كحبات الرمل التي تتساقط من الساعة الرملية، وتنفذ في وقت قصير. * "وكنت أقول إني سأموت في عُشٌي، وكالنخلة أزداد أيامًا(1191)" [18]... يليق تشبيه حياة البار بالنخلة، وذلك لأن النخلة من تحت خشنة في ملمسها، وبطريقةٍ ما هي مغلفة باللحاء الجافة، ومن فوق تحمل ثمارًا. من تحت مضغوطة بلحائها المنبسط، ومن فوق منبسطة بخضرةٍ عظيمةٍ. هكذا هي حياة المختارين، مُحتقرة من أسفل، وجميلة في الأعالي... البابا غريغوريوس (الكبير) أَصْلِي كَانَ مُنْبَسِطًا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالطَّلُّ بَاتَ عَلَى أَغْصَانِي [19]. كان أيوب يعتبر نفسه أشبه بشجرةٍ مغروسةٍ على مجاري المياه، ترتوي على الدوام، مما يجعلها مثمرة ومزدهرة حيث لا تذبل قط. "الطل باتٍ على أغصانه"، إن كان أيوب مغروسًا كشجرةٍ يتمتع بدسم الأرض، فإنه يستقبل البركات السماوية كطلٍ. إنه موضع سرور الله الذي يرعاه. * "جذوري منفتحة على المياه" [19]، وذلك عندما ينتشر فكر العقل سريًا لقبول مجاري الحق. في الكتاب المقدس، تشير الجذور إلى الفكر الخفي. لذلك نحن نفتح جذورنا على المياه، عندما نبسط فكر قلبنا الخفي إلى المياه الداخلية... يقول المرتل: "يكون كالشجرة المغروسة على مجاري المياه" (مز 3:1)... "والطل بات على محصولي"... يسقط الطل من فوق، ولكن المحصول يُجمع من تحت. هكذا يستقر الطل على المحصول، لأن النعمة النازلة من العلا تجعلنا أشخاصًا يليق بنا أن نُجمع في العالم من أسفل. بذات النعمة التي تروينا من أعلى نحمل ثمر العمل الصالح. هكذا بحقٍ يقول بولس: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة" (1 كو 10:15)... إذ نتطلع إلى المحصول ناميًا تحت الطل، نسمعه يقول: "نعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر من جميعهم" (1 كو 10:15). البابا غريغوريوس (الكبير) كَرَامَتِي بَقِيَتْ حَدِيثَةً عِنْدِي، وَقَوْسِي تَجَدَّدَتْ فِي يَدِي [20]. مع كل يومٍ جديدٍ يحمل فكرًا جديدًا في حياة البرّ، إذ كان يهوى الحب والحنو، لهذا لم تشخ كرامته. يقول: "كرامتي بقيت حديثة عندي"، لن تذبل قط. لا يمل من الجهاد بكل قوته من أجل المظلومين، إذ يقول: "قوسي تجددت في يدي". *"مجدي بقي حديثًا عندي، وقوسي تجددت في يدي" [20]... كل الذين يعرفون ما هو حق، يدركون أن القِدَمْ (الشيخوخة) عادة هو من سمات الشر، وأما الجدة فمن سمات الفضيلة. لذلك يقول بولس: "إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم (الإنسان) الجديد" (كو 9:3)... فبالنسبة لغيرتنا (حماسنا)، عندما نكون بين أعدائنا الروحيين أو بين أقربائنا الجسديين المتنوعين، إلى حد ما ونُستغرق في عاداتهم فنشيخ، ونلوث شكل جدتنا الذي نلناه بالصلاة والقراءة وبالحياة الصالحة، وبالآلام الجادة، والسهر اليومي، فإننا في شيخوختنا نتجدد وننتعش. إذن، إذ تغتسل حياتنا بالدموع، وتمارس الأعمال الصالحة، وتمتلئ بالتأملات المقدسة تستعيد تجديدها بلا توقف... يشير "القوس" في الأسفار المقدسة أحيانًا إلى خطط الأشرار بقوله: فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَمًا مُرًّا" (مز 3:64). وأشار ذات المرتل إلى يوم الدينونة: "أريت شعبك عُسرًا، سقيتنا خمر الترنح. أعطيت خائفيك راية تُرفع لأجل الحق، لكي يهربوا من أمام القوس" (مز 4:60)... أحيانًا يُستخدم القوس في الكتاب المقدس لأمورٍ حسنةٍ. هذا عن قوس الكنيسة، وذاك عن قوس الرب الذي منه تصدر السهام - الكلمات المرعبة - إلى قلوب البشر. بحقٍ قال المرتل: "مٌد قوسه وهيأها، وسدَد نحوه آلة الموت، يجعل سهامه ملتهبة" (مز 12:7-13)... فالقوس في إلىٌد هو الكتاب المقدس في العمل. فهو يمسك بقوسٍ في يده، من يمارس عمليًا الإعلانات الإلهية التي تعلمها بفهمٍ. هكذا فإن "القوس يتجدد في اليد"، وذلك بأن كل ما نتعلمه بخصوص الإعلان المقدس بالدراسة يتحقق بممارسته عمليًا... يخبرنا الطوباوي داود عن ظروفه، ويسبق فيخبرنا عن ظروفنا، وبينما يشير إلى أحزانه، على قدم المساواة يتحدث عما يخص الكنيسة المقدسة وظروفها بذات المعنى. البابا غريغوريوس (الكبير) لِي سَمِعُوا وَانْتَظَرُوا، وَأنَصَتُوا عِنْدَ مَشُورَتِي [21]. إذ امتزجت أبوته للفقراء بشجاعته وصراعه من أجل المظلومين بحكمةٍ ووقارٍ، صار صاحب المشورة الأول، متى تكلم، يصمت الكل منصتين إليه، عالمين أنه لا يعيبه شيء، ولا ينقصه شيء. * "الذين سمعوا لي انتظروا حكمي، والذين أنصتوا صمتوا عند مشورتي"... إننا نفتقد هذا الوقار الذي يقدمه الذين تحته؛ إنه موجه نحو الطوباوي أيوب. أيضًا الكنيسة المقدسة التي تعاني الأمرين من الهراطقة أو من الجسدانيين، تتذكر الأيام السابقة أيضًا، حين كان كل الذين تتكلم معهم من المؤمنين يصغون إليها بمخافة. إنها ترثي جسارة المقاومين لها، فتقول: "الذين سمعوا لي انتظروا حكمي، والذين أنصتوا صمتوا عند مشورتي". البابا غريغوريوس (الكبير) بَعْدَ كَلاَمِي لَمْ يُثَنُّوا، وَقَوْلِي قَطَرَ عَلَيْهِمْ [22]. متى تكلم شعر الكل أنه لا حاجه بعد إلى البحث في الأمر، فقد امتاز أيوب بدقة بحثه للأمور. لهذا لم يكن يوجد من يثني بعد كلامه أو يزيد عليه شيئًا. يعلق البابا غريغوريوس (الكبير)على قول الطوباوي أيوب: "وعلى كلامي لا يزيدون"، بالقول إن المؤمنين لم يجسروا أن يضيفوا من عندهم شيئًا إلى كلمات الكنيسة المقدسة، كما فعل الهراطقة الذين تجاسروا وأضافوا شيئًا إلى كلماتها، وكأنهم يشغلون أنفسهم ليصححوا استقامة تعاليم الكنيسة وكرازتها. وَانْتَظَرُونِي مِثْلَ الْمَطَرِ، وَفَغَرُوا أَفْوَاهَهُمْ كَمَا لِلْمَطَرِ الْمُتَأَخِّرِ [23]. كان الكل أشبه بقفرٍ محتاجٍ إلى مطرٍ يهطل من شفتي أيوب، فتتحول بريتهم إلى جنةٍ مثمرةٍ. إنهم أرض عطشى للمطر. يدرك الكل قيمة الحكمة الخارجة من فمه، ينتظرونها ويشربونها لتثمر في داخلهم كما في سلوكهم الظاهر. * "وانتظروني مثل المطر، وفغروا أفواههم كما المطر المتأخر" [23]. إننا نخضع لكلمات الكرازة المقدسة كالمطر، وذلك عندما ندرك بالتواضع الحقيقي جفاف قلوبنا، ونشتهي أن نستقي بجرعات الكرازة المقدسة. بحقٍ قيل لله بواسطة المرتل: "عطشت نفسي إليك كأرضٍ ناشفةٍ" (مز 6:143). يوصينا النبي أن نرتوي بمجاري التعليم، قائلًا: "أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه" (إش 1:55). البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ ضَحِكْتُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُصَدِّقُوا، وَنُورَ وَجْهِي لَمْ يُعَبِّسُوا [24]. متى ابتسم لأحدٍ يكون الشخص في سعادة فائقة، حتى يظن أنه كما في حلمٍ. فالكل يطلب رضاه ومسرته، إذ يرفع الكلفة، فيبتسم ويضحك. كان يهب من هم حوله جوًا من الود والفرح. لا يسيء الحاضرون بساطته، ولا يقللون من احترامهم له، بل يتطلعون إلى بهاء وجه بتهليلٍ بغير عبوسة. * "إن ضحكت عليهم لم يصدقوا، ونور وجهي لم يسقط أرضًا" [24]. إن فهمنا هذا خلال التفسير التاريخي يليق بنا أن نتصور أن الإنسان القديس يُظهر نفسه بطريقة ما للذين هم تحته، أنه حتى في ضحكه قادر أن يكون مهوبًا. لقد روى أنه كان أبًا للمساكين، ومعزيًا للأرامل. هذا الأمر يحتاج إلى تمييز عظيم، كيف أنه مع حزمه هذا في العمل يظهر أيضًا لطفًا عظيمًا هكذا وعطفًا حانيًا فيه... هكذا يليق بنا أن نتعلم هنا أن يضبط الإنسان نفسه في علاقته بالآخرين بالمقياس التالي: أنه وهو يضحك يليق أن يكون وقورًا، وحين يغضب يليق أن يكون محبوبًا. في مرحه الزائد لا يكون تافهًا، ولا يكون غضبه بلا حدود فيجعله مكروهًا. كثيرًا ما نحطم الذين تحت رعايتنا عندما نبالغ في حفظ العدالة بما يتعداها. فلا يكون ذلك عدالة. إنها لا تحفظ ذاتها تحت مثل هذا الانضباط المبالغ فيه... لننظر كيف أن بولس يحمل ابتسامة خلال النعمة التي من الأعالي... حتى في وسط مخاوفه وضيقاته... لقد نُقل إلى السماء الثالثة التي فوقه، وحُمل إلى الفردوس حيث سمع كلمات سرائرية لا يُخبر عنها (2 كو 2:12). ومع هذا بقي خائفًا، إذ يقول: "بل أقمع جسدي وأستعبده، حتى بعدما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 27:9). ها أنتم ترون كيف إذ تبتسم له النعمة الإلهية يمتلئ باليقين والرجاء، ومع هذا لا يثق في الاعتماد على ذاته. البابا غريغوريوس (الكبير) كُنْتُ أَخْتَارُ طَرِيقَهُمْ، وَأَجْلِسُ رَأْسًا، وَأَسْكُنُ كَمَلِكٍ فِي جَيْشٍ، كَمَنْ يُعَزِّي النَّائِحِينَ [25]. في بساطة يبتسم بوقارٍ لكي يسكب على الحاضرين روح البشاشة، وفي نفس الوقت لا يتخلىٌ عن قيادة سفينة حياتهم، فهو ربان السفينة. "كنت أختار طريقهم، وأجلس رأسًا". ابتسامته لا تنزع مهابته كملكٍ وقائدٍ معركةٍ: "وأسكن كملكٍ في جيشٍ". متى أصدر أمرًا أطاعه الكل كما يطيع الجنود قائد الجيش. يقول لهذا أذهب فيذهب، ولذاك أن يأتي فيأتي، ولعبده أفعل هذا فيفعل" (مت 9:8). قيادته لا تسبب ضيقًا وتبرمًا، فهو لا يهوى السلطة، إنما يقود ليعزي النائحين برقة قلبه وتعضيده للجميع في الحق الممتزج بالحب. * "أختار طريقهم، فأجلس رأسًا (رئيسًا)" [25]. في قلوب الخطاة الهالكين تحتل أعمال الجسد مركز الصدارة، وأعمال النفس المركز التالي. بالتأكيد في أفكارهم لا يجلس المسيح في الصدارة، بل يحتل المركز الأخير. أما المختار فيهتم بالأمور الأبدية فوق كل شيءٍ. إن كان هناك أمر زمني، فيدبره كأمرٍ ثانويٍ، ويحتل اهتمامًا أقل. يقول صوت الحق: "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم" (مت 33:6)... "حين جلست كملكٍ يحوط حولي جيش، لكنني كنت معزيًا للنائحين". يجلس الرب كملكٍ في القلب، إذ يحكم عواطف القلب الصاخبة في أفكارنا. فإنه في النفس التي يسكن فيها يهب حماسًا للخاملين، ويضبط القلقين، ويلهب الباردين، ويلطف من الملتهبين، ويلين القساة، ويربط المنحلين، حتى بهذا التنوع من الأفكار يحيط به نوع من الجيش. أو بالتأكيد يجلس كملكٍ يحوط حوله جيش، لأن ذاك الملك يحكم على عقول المختارين وسط طغمة من الفضائل. هو أيضًا "المعزي للنائحين"، خلال الوعد الذي قدمه، قائلًا: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 4:5). مرة أخرى: "ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 22:16)... تتعزى أيضًا قلوب الحزانى بواسطة الكنيسة المقدسة، إذ ترشد نفوس المختارين. إنها تتثقل بويلات الرحلة الحاضرة، وتبهجهم بالوعد بالمدينة الأبدية... تمزج الكنيسة المقدسة الرجاء والخوف معًا للمؤمنين بها، فيتلامسون مع حنو المخلص وعدله في خدمتها المستمرة. تفعل هذا لكي لا يعتمدوا على الرحمة خلال الرخاوة، ولا أن يفقدوا الرجاء بالرعبٍ من العدالة. فهي تُبهج الذين يُحذرون بكلمات رأسها، قائلة: "لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت" (لو 32:12). كذلك تحذر المتجاسرين: "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" (مر 38:14). وتبهج الذين في رعبٍ، قائلة: "افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات" (لو 20:10). أما الذين يعتدون بذواتهم فترعبهم، قائلة: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق". تبهج الذين في رعبٍ، قائلة: "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 27:10-28)... * يمتزج الحنو بالقسوة (الحزم)... هذا بالحقيقة يظهر في تابوت العهد، حيث يُوجد فيه العصا والمن معًا بجانب لوحي الشريعة، هناك حيث توجد معرفة الكتاب المقدس في صدر الحاكم الصالح، مع عصا القسوة (الحزم)، فليوجد مّنْ العذوبة. هكذا يقول داود: "عصاك وعكازك يعزيانني" (مز 4:23). البابا غريغوريوس (الكبير) فإن كنَّا من أجل الشفاء الجسداني نقبل أدوية مرَّة كريهة، ونخاطر بقطع الأعضاء وكيّ النار، ونحن في ذلك نشكر الأطباء والجرَّاحين المعتنين بنا رغم العلاجات المؤلمة، فكم بالحري يدعونا الصواب إلى أن نفعل هذا من أجل خلاص نفوسنا، ولو كان علاج هو النصح والتوبيخ مرًا؟! القديس باسيليوس الكبير القديس أغسطينوس القديس يوحنا الدرجي |
|