رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إلى جوار كونه عالما وأديبا وقائدا محنكا, لا شكّ أن قداسة البابا شخصية رهبانية, وأول ما يلفت الانتباه فى محبة قداسته للرهبنة والحياة النسكية هو اختياره للرهبنة كطريق حياة, لا سيّما وهو الشاب الممتليء حيوية واقبالاً على الحياة: يعظ ويكتب ويؤلف ويخدم، ويخوض معتركات عديدة مثل الأدب والسياسة ويحقق فيها نجاحات كبيرة, ثم يُفاجأ الكل بأن يتجه إلى الصحراء بغية أن يقضى حياته هناك. الأعجب من ذلك أن يطلب منه رئيس دير السريان أن يلقى بعض المحاضرات على رهبان الدير وهو ما يزال شابا لم يترهب بعد.. وفى الدير لم يكتف بتحقيق أمنية بأن يصبح راهباً بل يسلك طريقاً أضيق باختياره الحياة داخل مغارة بالجبل, هذا الاستعداد لهذه الحياة وهذه الأمانة فى الطريق بما رافقها من قراءات نسكية وحياه هادئة متأملة, أثْرت شخصيته كثيرا وفعّلت بشدة البعد الرهبانى عند قداسته. سألت قداسته ذات يوم عن السبب فى أن البعد الرهبانى واضح بشدة فى حياته, وأنه تغلب عليه المسحة النسكية فى جميع مواقف حياته وعلى مستوى السلوك اليومى؟. ويجيب قداسته أن السبب هو أنه فى الأصل راهباً وُامنيته كانت – وماتزال – أن يحيا راهباً وبالتحديد فى مغارته, ولكن المسئوليات الرعاوية حالت دون أن ينقطع فى مغارته، ويتبقّى أن يحمل هو الراهب المتوحد فى شخصه يتحرك به أينما ذهب, ويقدم لنا هذه الحياة فى شخصه قولاً وعملاً..... واتذكر- كما يتذكر معى الكثيرين – أن أول تعرّف لنا على الحياة الرهبانية كان من خلال عظات قداسته فى الستينيات والسبعينيات.. إذ لم تخلُ عظة – منذ ذلك الوقت وحتى اليوم – من إشارة إلى أحد القديسين أو ذكر أحد أقوالهم أو الاستناد على موقف من حياتهم لتوضيح فكرة أو تقديم تعليم. وهكذا يظن من يسمعها أنها تُلقى فى دير أو على الرهبان, حتى لقد أسهم ذلك فى تفعيل البعد النسكى للأقباط فى مصر والدليل على ذلك أن كتب سير القديسين ولا سيما كتاب "بستان الرهبان" هى الأكثر انتشاراً بين الشعب, بما فيهم المتزوجون. كما أود أن ُاسجل هنا أن طريقة قداسته فى سرد مواقف من حياة أحد القديسين لها جاذبية قصصية أدبية لا نظير لها.. حتى لقد حفظنا الكثير من القصص والنصوص النسكية من خلال هذه العظات. وقد سمعناه مرارا وهو يعلّق على بعض الأسئلة الخاصة بالعلاقات الزوجية قائلاً: "لا دراية لي بمثل هذه الأمور فأنا رجل راهب !". وقد قال لى أحدهم أن النبرة المميزة لصوت قداسته فى العظات لها مذاق رهبانى. فمن المستحيل أن تخرج منه كلمه علمانية (أقصد كلمة مما يتداوله العلمانيون) ويتعفف قداسته جداً عن استخدام مثل تلك التعبيرات, بل أنه يمكن أن ُيكتب كل ما يقوله دون حذف أو استبدال, كما أن دماثة خلقة ورقى مشاعره وحياءه الشديد جاء من الآداب الرهبانية, حقيقى أن له جذور قبل ذلك ولكن ذلك تفعّل جداً بسبب محبته لحياة الجبال وقراءته لكتب ومخطوطات الأدب النسكى وحياته بها. ومايزال - ورغم أعباء البطريركية واتساع الكرازة فى كل أنحاء العالم - يحرص على قضاء حوالى نصف الاسبوع فى الدير, حقيقى أننا أيضا لا نتركه يستمتع بخلوته, ولكنه هو كذلك يقابل بقلب مفتوح كل من يذهب إليه هناك. ويقول قداسته أنه يكفيه أن يرى الرمال ويشتمّ رائحتها فيشعر بالراحة وتثير فى نفس قداسته الحنين إلى تلك الأيام الخوالي التى انقطع فيها عن العالم داخل الدير.. ويظهر البعد النسكى ومحبته له أيضا فى محبته لطقس سيامة الراهب, ومايزال حتى اليوم يقوم بنفسه برسامة الرهبان والراهبات خلال زياراته لأديرتهم, ونلاحظ جميعا تأثره خلال طقس السيامة وتفاعله معه بشدة, تماماً مثل محبته الكبيرة لتعميد الأطفال (وكلاهما إعادة خلق بعد خلع الإنسان العتيق). وفى الكلمة التى يلقيها قداسته على الرهبان عقب سيامة بعض الجدد منهم تعكس إلى أى مدى يتفاعل مع هذه الحياه ويعرف جوانبها, كما تظهر أيضا مدى تفهمه لنفسية الراهب وحروبه ومصارعاته واحتياجاته, وفى سنة 1982 و 1983م. ألقى قداسته بعض المحاضرات على الرهبان, ظهر فيها كيف وكأنه لم يترك الدير منذ الستينيات !.. حتى ذُهل الرهبان كيف أمكنه أن يكون مطلعاً على أدق جوانب حياتهم.. وفى النهاية يقول قداسته: "كنت أتمنى بالطبع أن أكمّل حياتى داخل مغارتى بالجبل, ولكن أعباء الرعاية ومسئولياتها تحول دون ذلك". ولكن قلبه مازال متعلقاً بالصحراء وحياه الوحدة, ونحن نقول لقداسته, أنه لو لم تكن قد اُخترت بطريركاً لصرت أباً من آباء الرهبنة العظام مثل القديسين أنطونيوس ومكاريوس, ولكن الله سمح بذلك لترعى الرهبنة وتحتضن الأديرة والرهبان, وليس أدل على ذلك من أن الأديرة فى مصر وخارجها, وكذلك أعداد الرهبان والراهبات فى زيادة مطرده. فى عيد رهبنة قداسته نقول له: نحب فيك الراعى الأمين والشاعر المرهف والأديب الثرى والسياسى المحنك والخطيب المفوه والانسان النبيل, مثلما نحيى فيك الراهب المثالى. نيافة الانبا مكاريوس |
|