الخليقة الجديدة
إننا نسير في الحياة بآنيتنا الفخاريَّة الهشَّة؛ التي هي أجسادنا الترابيَّة وطبيعتنا المحدودة، ولكن تبقَى اشتياقات قلوبنا هي سِرّ صمودنا أمام قسوة الحياة. ولكن الاشتياق يجب أن يصير عملًا، والعمل يجب أن نتوجَّه به لله.
فالمسيحيَّة لم تأتِ لنا بطبيعة خارجيَّة جديدة بدلًا من الجسد المادي لتُقحِمها في كياننا الإنساني، فمدار وجود المسيحي هو نفس المدار الزمني والمكاني الذي تدور فيه باقي الخليقة. فنحن كسائر البشر، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، بحسب الطبيعة الماديَّة؛ «عالمين أن نفس تلك الآلام تُجرَى على إخوتكم الذين في العالم» (1بط 5: 9). ولكن الخليقة الجديدة التي تحدَّث عنها القديس بولس ليست سوى صورة الله المنقوشة في جوهر الكيان الإنساني والمُتطلِّعة إلى وجه المسيح، فقط حينما تتنقَّى تلك الصورة من شوائب الخطيئة بدم العهد الجديد، لتعود نقيَّة بهيَّة كسابق عهدها قبل السقوط، تعكِس الأصل الإلهي المُضِيء الذي صُوِّرَتْ على شاكلته.
إن الخليقة الجديدة في المسيح هي سِرّ انفتاح بصيرة الإنسان، فهي التي تجعله يستطيع أن يُبْصِر القيامة خلف رداء الموت. فحبَّة الحنطة في نظر المسيحي ليست بذرة صغيرة مُهْمَلة ولكنها شجرة كبيرة مُثمِرة!! وهذا هو سِرّ الحياة الجديدة. إنه تجديد البصيرة للحياة لنرى كلّ شيءٍ بأعين الله الساكن فينا. وهكذا نجد أن الألم في حياة المسيحي هو إكليل مجدٍ وشهادة حيَّة، فقط حينما يُخْتَم بخاتم الصبر والرجاء في الرب. وأيضًا نرى السقوط هو دَفْعَةٌ للقيامة بقوَّة أعظم، أو بحسب التعبير الخالد للقديس يوحنا ذهبي الفم؛ هو سِرّ [العودة بقوَّة أعظم]. وهكذا الخطيئة في القاموس المسيحي، بالرغم من كلّ قُبْحَها وسلبيتها التي تُلقي بالضوء على الانهزام في حياة الإنسان، نجدها تؤول بالتوبة إلى اختبار!! اختبار نعاين فيه وجه الله الرحوم.
فالخطيئة إذًا، هي التعبير عن البشريَّة الملوَّثة بخبرة معرفة الخير والشر، بالممارسة والعمل والسقوط. ولكنها من جهةٍ أخرى، قد تتحوَّل إلى فرصة ثمينة لنُعاين من خلالها عمل الله وحُبَّه المجاني، وخلاصه الذي لا يتوقَّف على حالتنا الراهنة، ولكنه ينهال علينا بحسب سخاء الرحمة التي في قلب الله من جهتنا، ولكن هذا البُعد نتلمسه في حياتنا فقط حينما نبدأ بالتوبة.
فالخطيئة بدون توبة هي قبول دينونة، ولكنها بالتوبة هي معاينة النعمة والمجانيَّة في كلّ تعاملات الله معنا «وأنتم الذين كنتم قبلًا أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن، في جسم بشريته، بالموت، ليُحْضِرَكم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه» (كو1: 21 22).
وعن هذا المفهوم يكتب الأب هنري بولاد في كتابه (السلام الداخلي) قائلًا:
النعمة تحتاج إلى نافذةٍ تمر منها إلى قلب الإنسان،
وقد يكون جرح الخطيئة هو تلك النافذة
التي تسمح للنعمة بالنفاذ إلى أعماقنا،
حتّى تروي أنفسنا التي تُشْبِه الأرض الجافة...
ولنا في مَثل العشار نموذج لتلك الحالة الفريدة لعمل النعمة؛ فجِراح الخطيئة قد أحْنَت نفس ذلك العشار بالحُزن، فتدفَّق الأنين من قلبه كنهرٍ جارٍ، وتناقل الفضاء صدَى قرعات صدره التي زلزلت السماء، وخرجت تلك الكلمات البسيطة التي فتحت الباب أمام النعمة للعمل والتبرير والغفران.
«وأما العشَّار فوقف من بعيد
لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء
بل قرع على صدره قائلًا:
اللهم ارحمني أنا الخاطِئ» (لو18: 13)
إننا في مطالعتنا للعهد الجديد نجد أن الله قد جاء في الجسد من أجل الخطاة والأثمة والساقطين، وليس من أجل الأبرار والكاملين، كما أعلن هو قائلًا: «لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة» (مت 9: 13). من هنا ندرك أن الأبرار في أعين أنفسهم هم أبعد الخلائق عن معاينة وجه الله الرحوم وتذوُّق النعمة المجانيَّة. ولنا في تبكيت الرب للكتبة والفريسيين وقادة الشعب أكبر دليل على خطورة البرّ الذاتي الذي كان موضع انتقاد الرب الدائم والمستمر. فالخاطِئ التائب وحده هو الذي يتذوَّق الرحمة حينما يستعطف صلاح الله لانتشاله من مستنقع الخطيئة. حينما يدرك إنه لا شيء في مواجهة الخطيئة ومواجهة قوات الظلمةولسان حاله يقتبس من كلمات القديس أنطونيوس، حينما كان يواجه إبليس وجنوده، فيقول: [أنا أضعف من أصغركم]. فالضعف الذي يُعْلِنه القديس أنطونيوس هو ضعف الذات بقدراتها الإنسانيَّة في مواجهة الظلمة، ولكن هذا الضعف يتحوَّل إلى قوَّة نُصرة هائلة حينما تتدخَّل النعمة وتقود النفس في هذا الصِراع، لتصبح المواجهة بين الله والشيطان. حينئذ تَفِلّ كلّ قوات الظلمة من أمام وجه الرب المدافع عن الصارخين إليه ليلًا ونهارًا.
ويُدوِّن لنا القديس أثناسيوس في كتابه (حياة الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس/ فصل10،11) تفاصيل الصراع بين أنطونيوس والشياطين، والذي انتهَى بتدخُّل مباشر للرب، فيقول:
وهكذا إذ تطلع (أنطونيوس) إلى السقف إلى فوق
رأى السقف كأنه قد انفتح،
وأشعة من نورٍ نازلةٍ عليه،
وللحال اختفت الشياطين،
وانقشع ألم جسده، وعاد البناء سليمًا...
ويضيف القديس أثناسيوس، قائلًا:
وفي اليوم التالي خرج أشدَّ مَيْلًا لخدمة الله.
آه، يا ليتنا نُدْرِك عِظَم النعمة والمعونة التي تُحيط بنا، يا ليتنا نُدْرِك مجد النُصرة التي تترقَّب صرخات قلوبنا لتستحضِر الله في قلوبنا، حينها فقط لن تُخيفنا الخطيئة ولن تُقيِّدنا في قضبان اليأس الحديديَّة، لأن أبصارنا ستظل مُعَلَّقة بالسماء، تترجَّى المعونة وتبتهج بها. لن يستطيع جنود الشر أمام الأعين المُحدِّقة في غير المنظور سوى أن يَفِروا مهرولين نحو هاوية مصيرهم، وهم يَجُرون أذيال الخيبة والهزيمة.