رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 37 - تفسير سفر المزامير الودعاءيرثون أرض السلام يظهر من الآية [25] أن داود النبي وضع هذا المزمور في شيخوخته، بعد سنوات طويلة من الخبرة، والتأمل في قضيته مع شاول الملك ونابال وأبشالوم وأخيتوفل وغيرهم. يرى بعض الدارسين أنه نظمه قبل نياحته بثلاث سنوات. أراد داود النبي أن يُجيب على السؤال المحيّر في أيامه بل وفي كل العصور، وهو: لماذا ينجح الأشرار ويتألم الأبرار؟ هذا السؤال يُحيّر الكثيرين، لكن الإجابة تصير سهلة إن تخطى القلب العالم المنظور ليرى ببصيرته الداخلية أمجاد الأبدية المعدة للمتألمين ظلمًا، فلا يفكر البار في حسد الأشرار، ولا يتحطم بسبب ما يواجهه من آلام ومتاعب. يُعطي هذا المزمور للقلب سلامًا، وينزع عن النفس كل تذمر، حيث يدرك المؤمن معاملات الله معه. هذا هو المزمور الثالث من المزامير الأبجدية (الهجائية)، وهو كامل تقريبًا في ترتيبه. مزمور نبوي عظيم يكشف عن غنى البركات الممنوحة لكنيسة العهد الجديد. إن لم يكن المزمور بكامله يتحدث عن شخص السيد المسيح، فموضوعه الرئيسي هو المسيح. يُشبّه البعض كلماته بأحجار كريمة أو حبات لؤلؤ مصفوفة معًا في خيط لتصنع عقدًا ثمينًا. هذا المزمور ليس بصلاة موجهة إلى الله، ولا بليتورجية، إنما هو مزمور حكمة تعليمي تهذيبي؛ يتحدث إلى الإنسان، يدور حول فكرة واحدة يود تأكيدها بطرق مختلفة؛ وهو يقدم ثماني وصايا مدعمة بالاختبارات العملية، يشبه في ذلك المزمورين 73 و94، وأيضًا سفري أيوب والأمثال. الإطار العام: 1. بركة الإيمان [1-11]. 2. مقارنة بين الأبرار والأشرار [12-20]. أ. يضطهد الأشرار الأبرار ب. هلاك الأشرار بذات أسلحتهم ج. يفتقد الشرار بركات الله د. انكسار أذرع الأشرار ه. طرق الأبرار معروفة لدى الرب و. هلاك أعداء الله كالدخان 3. نهاية الأبرار والأشرار [21-40]. أ. عجز الأشرار عن الإيفاء بديونهم وقدره الأبرار على العطاء ب. يخسر الشرير ميراثه وحياته بينما يرث الصديق أرض الأحياء ج. يجد الأبرار الله قائد حياتهم د. اختبار الأبرار نعمة الله ه. يختبر البار الحياة الأبدية الصالحة و. يتمتع الأبرار بعدل الله أبديًا ز. يرث الأبرار الأرض ويسكنون فيها أبديًا ح. ينعم الأبرار بالحكمة السماوية ط. خطوات الصديق لا تتقلقل ولا تنحرف عن الطريق الملوكي ي. لا سلطان للشرير على الصديق ك. يرتفع الأبرار بالله وينحدر الأشرار أو يُستأصلون ل. بعكس الأبرار يفتقر الأشرار إلى المجد الداخلي إذ يسعون نحو المجد الباطل أنت هو بهجتي ونصرتي 1. بركة الإيمان: لعل داود الذي واجه ضيقات بلا حصر قد هاجمه هذا الفكر: لماذا ينجح الأشرار ويتألم الأبرار؟ مرات كثيرة ولو إلى لحظات، لذلك وضع لنفسه هذا المزمور الذي يقوم على الإيمان بالله الدَّيان العادل، وقد وضع ثمان وصايا يلتزم بها، منها ست وصايا وردت في هذا القسم وهي: 1. عدم حسد الأشرار على نجاحهم الزمني [1]. 2. تركيز النظر على الله وسكنى بيته [2]. 3. الفرح بالرب لا بالزمنيات كالأشرار [4]. 4. إلقاء الهم على الله [5، 6]. 5. الخضوع للرب [7]. 6. الكف عن الغضب [8]. هذه الوصايا الست تقوم على الإيمان بالله الذي وحده يرفع بصيرتنا الداخلية من ضيقات العالم ومباهجه، ومن تصرفات الناس وظلمهم للتمتع بالله نفسه الذي فيه نجد لذتنا؛ هو يعولنا ويكللنا ويدافع عنا! الوصية الأولى: عدم حسد الأشرار على نجاحهم الزمني: "لا تغر من فاعلي الشر، ولا تغر من عاملي الإثم. فإنهم مثل العشب سريعًا يجفّون، ومثل بقول الخضرة عاجلًا يسقطون" [1-2]. يبدأ المزمور بنصح الأبرار ألا يغيروا من الأشرار، مؤكدًا أن يوم مجازاتهم آت لا محال، حينما يُحاسبهم الله يجفّون مثل العشب ويسقطون كبقول الخضرة. يطلب المرتل من الأبرار ألا يهتزوا عند رؤية الأشرار حتى لا يتمثّلوا بهم. رؤيتنا للنجاح الذي يحققه الأشرار بطرقهم الملتوية ينبغي ألا تثيرنا إلى الطمع ولا إلى حسدهم، فأن هذا يجرنا إلى حالة تذمر حتى على الله نفسه. وعلى العكس كلما يزهو الأشرار سريعًا، نحزن عليهم ونبكيهم لأن يوم هلاكهم يقترب والأهوال تنتظرهم. منجل عدالة الله يُفاجئهم، لأن حياتهم قد جفّت وصار بقاؤهم مفسدًا للأرض. يقول معلمنا يعقوب: "لأن الشمس أشرقت بالحر، فيَّبست العشب فسقط زهره وفنى جمال منظره؛ هكذا يذبل الغني أيضًا في طرقه" (يع 1: 11). * "لا تغر من فاعلي الشر، فإنهم مثل العشب سرعان ما يذبلون". أخبرني إذن ما هو مصير من يقوم بالسلب والنهب بعد رحيله؟ أين هي آماله البراقة؟! أين هو اسمه المهوب؟ أما يعبر هذا كله ويتلاشى من الوجود؟! ألم يكن كل ما له حلمًا وخيالًا؟! هذا ما يجب أن تتوقعه في حالة أمثال هذا الإنسان، سواء أثناء حياته أو في حياة من يأتي بعده. لكن ليس هكذا هو حال القديسين، فلا يمكنك أن تنطق بذات الكلمات عن حالهم، ولا تقل أن ما يخصهم هو حلم وأسطورة[714]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس الشرير كالزهرة التي تتفتح لتسقط وتزول دون عودة! الوصية الثانية: تركيز النظر على الله وسكنى بيته: "اتكل على الرب واصنع الخير، واسكن على الأرض وارتع من ثروتها" [2-3]. ربما يسأل إنسان: كيف لا أغر من الأشرار الذين ينجحون بينما يتألم الأبرار؟ من أين يأتيني الصبر لأنتظر وأعاين نهاية الأشرار؟ تأتي الإجابة هنا: الإيمان بالله والتمتع بالحياة الكنسية الغنية بثروتها الروحية! في الوصية الأولى يحذرنا من الغيرة والحسد بسبب نجاح الأشرار، أما هنا فيُقدم لنا الجانب الإيجابي: الارتماء في أحضان الله والتمتع ببركات الحياة الإنجيلية الكنسية. لقد تكررت كلمة "الأرض" في هذا المزمور: "أسكن على الأرض وأرتع من ثمارها" [3]، "الذين يصطبرون للرب هم يرثون الأرض" [9]، "أما الودعاء فيرثون الأرض" [11]. ما هي الأرض التي يسكنها المتكلون على الله، ويرثها الصابرون والودعاء. ربما قصد المرتل "أرض كنعان" أو "أرض الموعد" كرمز للحياة السماوية المطوَّبة، حيث يعيش المؤمن تحت ظل جناحي الرب، وسط شعبه. هذا كان أقصى ما يشتهيه المؤمن الأصيل في العهد القديم. يرى القديس جيروم الأرض هنا هي أرض الأحياء، أي كنيسة العهد الجديد، حيث يُلد المؤمنون فيها من جديد ليبلغوا الحياة الأبدية. يقول القديس بولس: "سيرتنا في السموات" (في 3: 20). أما ثروتها فهي الله نفسه، حيث يفتح الآب أحضانه ليُنعم علينا بالوحدة معه؛ ويهبنا الابن دمه الثمين كفارة عن خطايانا ومصدر برنا، كما يمنحنا الروح القدس سكناه في قلوبنا. لكي ننال ثروات الكنيسة، أرض الله الخاصة، عربون سمواته، أيقونة الأبدية، يلزمنا أن نتكل على الله ونثق في مواعيده وعمله الخلاصي، وأن نعلن إيماننا بالعمل وممارسة الحياة الكنسية الروحية بكل غناها. * قد تصنع الخير لكنك لا تسكن على الأرض، لأن أرض الرب هي كنيسته؛ والآب نفسه هو الكرام (يو 15: 1) الذي يرويها ويعتني بها. كثيرون في الحقيقة يبدون كأنهم يصنعون أعمالًا صالحة لكنهم لا يسكنون الأرض، ولا ينتمون إلى الكرام... ما هي ثروات الأرض؟ ربها وإلهها، الذي قيل عنه: "أنت نصيبي يا رب". اسمعوا كيف أنه عَنِيَ بتلك الأرض. أنظر ما قاله بعد ذلك: "افرح بالرب" [4]. القديس أغسطينوس "افرح بالرب فيعطيك مطلوبات قلبك. اكشف للرب طريقك، واتكل عليه وهو يصنع" [4]. مع كل وصية ترتفع النفس في طريق الإيمان، ففي الأولى تبدأ بالجانب السلبي بعدم حسد الأشرار بسبب ازدهارهم الزمني، والثانية تتكئ النفس على صدر عريسها السماوي وممارسة الحياة الكنسية الروحية بكونها عروس السماوي، وأما الثالثة فتتلذذ النفس بعريسها الرب، تعطيه قلبها وتطلبه شبعًا لقلبها فلا يبخل عليها بمطلوبات واشتياقات قلبها. يهبها ذاته واهب الخيرات والصالحات فلا تعتاز إلى شيء. في حبها الحق تكشف له طريقها وتصارحه بكل أسرارها وتتكل عليه فيعمل بنعمته وبروحه القدوس فيها. وكأن الوصية الثالثة هي الانشغال بالرب كعريس يلزم ألا تخفي عنه شيئًا ولا نطلب من غيره احتياجاتنا. لقد وجد موسى النبي في الرب فرحه فطلب أن يُعاين مجد الرب (خر 33: 18) وقد تمتع بذلك قدر ما يحتمل. وكان سليمان في ظمأ يريد أن يرتوي بحكمة الله ومعرفته فجعله الله أحكم البشر. يعقد القديس يوحنا الذهبي الفم مقارنة بين الفرح أو التلذذ بالأمور الزمنية والفرح بالروحيات، قائلًا: [هل لي أن أخبر عن الآلام والملذات التي تكون للساعين نحو الترف؟ لا يمكنني أن أحصيها جميعًا. لكني أوضح الأمر كله في نقطة أساسية واحدة. فالناس لا يأكلون بلذة حينما يجلسون على المائدة الفخمة التي أتحدث عنها، فإن التقشف هو والد اللذة والصحة، أما النهم فهو مصدر وأصل لا المرض فحسب بل والأحزان[716]]. * أخبرنا الرب أن لديه فقط هذا الطعام بوفرة كما جاء في الإنجيل: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4: 34). إننا نبتهج بهذا الطعام الذي يقول عنه النبي: "افرح بالرب"... لنأكل خبز الحكمة، ولنمتلئ بكلمة الله! لأن حياة الإنسان المخلوق على صورة الله لا تقوم بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4). وعن الكأس أيضًا تحدث أيوب الصديق قائلًا في وضوح وبصراحة كاملة: "كما تنتظر الأرض المطر، هكذا انتظروا كلامي" (أي 29: 23)[717]. القديس أمبروسيوس "اكشف للرب طريقك واتكل عليه وهو يصنع. ويخرج مثل النور عدلك (برك)، ومثل الظهيرة أحكامك (حقك) [5-6]. إذ نجد في الرب بهجتنا ولذتنا، يليق بنا أن نصارحه بكل مخاوفنا وهمومنا وكل أمورنا الكبيرة والصغيرة وهو يصنع أو يجري كل حياتنا حسب مشورته الصالحة. جاءت كلمة "اكشف" في العبرية بما معناه "دحرج"، وكأنه يليق بالمؤمن أن يتخلص من كل أحماله واهتماماته بدحرجتها على الله (هو 5: 9)، وهي تُستخدم ببساطة بمعنى "إلقِ" (أم 16: 3) أو "ثق" (عب 9)، وجاءت في الترجمة السبعينية "اكشف"... إذ نؤمن بالله في حياتنا العملية اليومية لا نخف الغيوم المحيطة بنا، بل نثق في شمس البر المختفي وراءها، هذا الذي يشرق على مؤمنيه الأتقياء ليعلن براءتهم وحقهم، إذ يقول المرتل: "ويُخرج مثل النور عدلك، ومثل الظهيرة أحكامك" [6]. بينما ينجح الأشرار يتألم الأبرار ويُتهمون ظلمًا أنهم أشرار. قد تتشوه سمعتهم إلى حين بافتراءات، فيكونون كالشمس المختفية وراء الغيوم والضباب، لكن ما أن تنقشع هذه حتى تظهر استقامة حياتهم، وتسطع كنور الشمس وقت الظهيرة، فتنتهي حياتهم بالفرح وكما يقول إشعياء النبي: "حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك، وتنبت صحتك سريعًا، ويسير برك أمامك، ومجد الرب يجمع ساقتك" (إش 58: 8)[718]. لقد أشرق الله على البشرية وقت الظهيرة حين أعلن كمال بهاء حبه على الصليب ليبدد ظلمة الخطية في قلوبنا. * في وقت الظهيرة ظهر الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا (تك 18: 1)، فأشرق عليه نور الحضرة الإلهية الأبدي. وفي الظهيرة يدخل يوسف الحقيقي إلى بيته ليأكل (تك 43: 25). هذا اليوم يضيء بالأكثر عندما نحتفل بالأسرار المقدسة [حيث يشرق السيد المسيح المصلوب على المذبح وسط شعبه[719]]. * [أين تربض عند الظهيرة؟" (نش 1: 7)]. وحينما نتحدث عن الكلمة وضيائه الذي يشرق عليها، فتلتفت إليه قائلة: "أين ترعى قطيعك؟ أين تستريح عند الظهيرة؟"... كان الوقت "ظهيرة" عندما احتل يوسف مكانه وسط إخوته في المأدبة، وكشف لهم عن أسرار الأزمنة المقبلة (تك 43: 15)... كما أعلن بولس ذاته أن النور أبرق حوله كالظهيرة عندما اهتدى من مضطهد الكنيسة إلى النعمة (أع 9: 3)[720]. القديس أمبروسيوس "اخضع للرب وتضرع إليه، ولا تغر من الذي طريقه ناجحة في حياته. بإنسان يُصنع الإثم" [7]. إذ يستنير الإنسان بنور الصليب كما في الظهيرة يُدرك كمال حبه ورعايته فيخضع له تمامًا ولا يرتبك لا بنجاح الشرير ولا بمكائده. من ينشغل بصليب رب المجد لا يتذمر حتى إن بدت خطط الأشرار ناجحة، فإن الله المخلص صانع خيرات يحول حتى شرور الأشرار لخلاصنا، كما حوَّل مقاومة اليهود لخلاص العالم، وخيانة يهوذا لتحقيق الصليب. الوصية السادسة: الكف عن الغضب: "كف عن الرجز (الغضب)، ودع الغضب عنك، لا تغر لئلا تخبث. لأن الخبثاء يُستأصلون. والذين يصطبرون للرّب هم يرثون الأرض. وأيضًا بعد قليل لا يوجد الخاطئ، وتلتمس مكانه فلا تجده. أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون بكثرة السلامة" [8-11]. إن كان الأشرار ماكرين وخبثاء، يليق بالأبرار ألا يغضبوا لئلا يسقطوا فيما يسقط فيه الأشرار بفقدانهم الصبر والوداعة. إن كان الشرير بخبثه يُستأصل فالبار بصبره يرث الأرض (أرض الموعد أو كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية) وبوداعته يتأكد الميراث وينعم بسلام الله الفائق العقل. يُحذرنا المرتل من الرجز (الغضب الخفيف) لئلا يتثبت الغضب في الحياة الداخلية ويتحول إلى حقد وخبث، فيصير مصيرنا هو مصير الأشرار المخادعين. عوض التذمر الذي يدفع إلى الغضب ثم يقود إلى الخبث، نركز أنظارنا على الميراث الأبدي الذي نترجاه بالصبر ونقتنيه بالوداعة، فيحل السلام الأبدي على حياتنا. يقدم المرتل أفضل تعريف للودعاء؛ أنهم أولئك الذين اختاروا طريق الإيمان بصبر عوض الاتكال على الملذات؛ هذا الطريق تتضح معالمه تمامًا في العبارات التالية. بينما العالم يموج بالاهتمام بما لا طائل منه ولا نفع له، يمضي الودعاء في سلام عجيب عابرين من الأرض إلى السماء. لا تمتلئ قلوبهم بالتذمر ولا الغضب وبالتالي لا موضع للخبث فيهم، لهم سلام الله كعربون لكمال التطويب الأبدي. الله في عنايته بنا سمح بمضايقات الأشرار حتى نختبر الصبر والوداعة والسلام أثناء رحيلنا من وادي الدموع، إلى أن نلتقي بمسيحنا وجهًا لوجه فتشبع حياتنا بأمجادٍ أبدية! تنتهي حياة الأشرار بالهلاك، أما الموت بالنسبة لنا ففيه أمجاد. * ما هي ملذاتكم...؟ سيملأ السلام كل اشتياق لكم، لأن الذهب هنا لا يمكن أن يصير فضة لكم، والخمر لا يمكن أن يتحول إلى خبز لكم، ونوركم لا يمكن أن يصير شرابًا لكم. أما الله فسيكون كل شيء بالنسبة لكم. سيكون طعامكم فلن تجوعوا بعد، وشرابكم فلن تعطشوا بعد، ونوركم فلن تصيروا عميانًا بعد، وراحتكم وعونكم فلن تجزعوا بعد. سيكون هو بنفسه بكماله وتمامه يمتلككم بكليتكم وتمامكم. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم 2. مقارنة بين الأبرار والأشرار: 1. يضطهد الأشرار الأبرار: "يرتصد الخاطئ الصديق، ويصرّ عليه بأسنانه" [12]. توجد خطة قديمة طال أمدها قد وضعها الشرير ضد الأبرار، وكما يقول السيد المسيح: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو 15: 18). وكأن طرفي المعركة، في الواقع ليسا هما الخطاة والأبرار بل عدو الخير إبليس والسيد المسيح. بدأت المعركة منذ خلقة الإنسان وتبقى المعركة مستمرة في حياة كل مؤمن حتى تُعلن نصرة المسيح الكاملة فيه، أما أرض المعركة فهي عقل المؤمن. يترصد الشرير - إبليس - للمؤمن الحقيقي لكي يوقع به في حبال الخطية؛ مستخدمًا جميع الوسائل الممكنة، وإذ لا يفلح يصرّ عليه بأسنانه، كأسد يجول ملتمسًا أن يبتلعه. منذ هابيل الذي قتله قايين في العهد القديم، ومنذ اسطفانوس الذي رجمه قادة الكنيسة اليهودية وإلى مجيء السيد المسيح الأخير يُضطهد المؤمنون الحقيقيون لكنهم لا يُتركون. 2. هلاك الأشرار بذات أسلحتهم: "والرب يضحك به، لأنه قد سبق فرأى أن يومه قد دنا. استل الخطاة سيفهم؛ وأوتروا قوسهم؛ ليصرعوا المسكين والفقير، ويذبحوا المستقيمي القلب. سيفهم يدخل في قلبهم وقسيهم تنكسر" [13-15]. إذ يسخر الشرير بقديسي الرب، يضحك الرب به لأنه قد أعد يوم عقابه (أي 18: 20؛ مز 137: 7، إش 9: 4، إر 12: 3، هو 1: 11). أنه يستخف بكل خططه وتدابيره الشريرة! يستخدم الأشرار كل أسلحتهم لقتل المسكين والفقير، لكن الله يمنع استمرار هذا الضيق لزمن طويل أو تركهم بلا عقاب. يستلون سيفهم لقتل أجساد الأبرار أما نفوسهم فلا يقدرون أن يقتربوا إليها، إنما يرتد السيف على نفس الظالم فيقتلها. لهذا يقول السيد المسيح: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مز 10: 28). سيفهم يدخل في قلبهم، "لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (مت 26: 52). * فماذا إذن؟ هل يؤذيك شر فاعل الإثم ويبقى هو بلا ضرر؟ أما يحدث أن حقده الذي ينفجر من حمو غضبه وكراهيته ليهدف إلى العصف بك أن يدمره هو أولًا، ويهلك أعماق نفسه قبلما يهاجمك علانية؟! سيفَهمْ يدخل في قلبهم؛ من السهل أن يمس سلاحه أي سيفه جسدك كما بلغ سيف المضطهدين أجساد الشهداء فاخترقها، لكن بقيت قلوبهم سليمة بلا ضرر؛ لكن من الواضح أن الذي أنتزع السيف ليضرب به جسد البار لا يسلم هو من الضرر. لقد وضع في قلبه أن يقتل جسد إنسان؛ دعه يجتاز موت النفس! القديس أغسطينوس وبالرغم من أنهم يعجزون عن أن يضروا الغير، إذ بها ترتد على أنفسهم هم أولًا وضدهم، وذلك كما يُصلي المرتل، قائلًا: "سيفهم يدخل في قلبهم" [15]. وهناك أيضًا عن مثل هذا "الشرير... بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22)[722]. البابا أثناسيوس الرسولي الأب دوروثيؤس 3. يفتقد الشرار بركات الله: كثيرًا ما يضطهد الأشرار الأبرار لأجل اغتصاب ممتلكاتهم لكن يبقى البار غنيًا بإيمانه وببركة الرب التي تملأ أعماقه، ويبقى الشرير معتازًا مهما نال من خيرات زمنية (أم 15: 16-17)، وكما يقول المرتل: "خير قليل للصديق أفضل من غنى كثير للخطاة" [16]. 4. انكسار أذرع الأشرار: "لأن سواعد الخطاة تنكسر؛ والرب يعضد الصديقين" [17]. كسر الساعدين يعني العجز التام عن العمل، كما قيل عن فرعون: "هأنذا على فرعون ملك مصر فأكسر ذراعيه القوية والمكسورة، وأُسقط السيف من يده... وأشدد ذراعيّ ملك بابل وأجعل سيفي في يده، وأكسر ذراعي فرعون فيئن قدامه أنين الجريح..." (حز 20: 22-24). إذ يمسك الشرير أسلحته يحطم الله ذراعيه فتنهار قوته ويخسر سلاحه، ويبقى الله نفسه سندًا لأبراره، يحملونه فيهم كذراعين للعمل المستمر لحساب مملكته. 5. طرق الأبرار معروفة لدى الرب: "يعرف الرب طريق الذين لا عيب فيهم، ويكون ميراثهم إلى الأبد" [18]. كما سبق فقلنا أن كلمة "يعرف" تعني العلاقة الوطيدة بين الله ومؤمنيه. يعرف طريقهم، لأنه هو "الطريق"، يحملهم فيه فيصيروا بلا عيب، فيهم برّ المسيح. ويقدم نفسه مكافأة أبدية وميراثًا لهم. قال السيد المسيح عن أسقف (ملاك) كنيسة سميرنا المتألم. "أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك، مع أنك غني... لا تخف البتة مما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا إبليس مزمع أن يلقي بعضًا منكم في السجن... كن أمينًا إلى الموت فأعطيك إكليل الحياة" (رؤ 2: 9-10). أنه يعرف أعمال محبته، ويعرف أن أيام ضيق تنتظره، لكنه لا يتركه بل يُعدّ له إكليل الحياة. هذا ما عناه أيضًا المرتل، إذ قال: "لا يخزون في زمان السوء، وفي أيام الجوع يشبعون" [19]. زمان السوء قادم وأيام الجوع ستحل، لكن لا يفقد المؤمنون رجاءهم، ولا يحل بهم الخزي، ولا يكونون في جوع داخلي، بل بالرب يشبعون. يقول الرسول بولس: "بل نفتخر في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3-4). هذا الرجاء هو عطية الروح القدس المنسكب في قلوبنا (رو 5: 5)، يسندنا في وادي الدموع حتى نجتازه ونعبر إلى أورشليم العليا. 6. هلاك أعداء الله كالدخان: "لأن الخطاة يهلكون؛ وأعداء الرب إذ يُمجدون ويرتفعون يفنون فناءً. مثل الدخان إذا فنى" [20]. جاء النص العبراني، "كهباء المراعي فنوا، كالدخان فنوا". ربما يقصد بهذا أن العدو يدخل إلى المرعى - كنيسة المسيح - كأسد ليفترس، أو كلص في جراءة يذبح الخراف السمان ويشويها ليأكل، فماذا يحدث؟ تخرج من الذبيحة دخانًا سميكًا يَرتفع في تشامخ إلى فوق، وتتسع بقعته جدًا ليفنى ويضمحل. يشتمّ الله الذبيحة رائحة سرور من المظلومين بينما يصير الظالمون كالدخان المتشامخ الذي يفنى. * آنذاك، في اليوم الأخير، سيهلك أعداء الله، هم والموت والشيطان والأرواح الشريرة، لذا يليق بنا ألا نغتم لازدهار أعداء الله؛ لأنه في لحظة يسقط مجدهم، أجل، كدخان يفنون. إذا ما رأيت عدوًا ثريًا مدججًا بأسلحته يتبعه كثير من المنافقين لا يصيبك الإحباط بل ارثِ له، ونح عليه، واصرخ إلى الله لكي ينتشله مع أصحابه. وكلما ازدادت عداوته لله فليزدد نوحكم عليه، فأننا نبكي على الخطاة الهالكين من البشر، خاصة إن كانوا يمتلكون ثروات وينعمون بأيام طيبة، فإنهم مرضى يأكلون ويشربون للتخمة![724]. القديس يوحنا الذهبي الفم 3. نهاية الأبرار والأشرار: 1. عجز الأشرار عن الإيفاء بديونهم وقدره الأبرار على العطاء. إن كان الأشرار يبذلون كل الجهد ليسلبوا الأبرار ممتلكاتهم ويحرمونهم حقوقهم بل يطلبون أنفسهم، إذا بهم حتى في هذا العالم يفقدون بركة الرب في حياتهم يقترضون ولا يقدرون على الإيفاء، بينما تملأ بركة الرب حياة الأبرار ليعطوا بسخاء وفرج. الاقتراض هنا لا يقف عند الأمور المادية وإنما بالأكثر الاحتياجات النفسية، فالشرير قد يكون غنيًا بماله لكنه بائس، يشعر بفقر داخلي ومذلة وحرمان، ينقصه الحب والفرح والسلام... يتوسل لكل أحد ليهبه كلمة حب صادقة أو يبعث فيه سلامًا.... أما البار فحتى في لحظات استشهاده يسكب على كل من حوله فرحًا وبهجة قلب، فتتحول أيام استشهادهم إلى أعياد مفرحة! "يستقرض الخاطئ ولا يفي. أما الصديق فيتراءف ويعطي" [21]. اقترض الشرير من الله نعمة الوجود، ونال منه بركات العاطفة والعقل والدوافع والجسد... وعوض أن يستخدمها لحساب ملكوت الله كآلات برّ لله يجعلها آلات إثم للخطية (رو 6: 13). أنه يقترض ولا يفي بل يقاوم دائنه، أما الصديق فيحمل طبيعة مخلصه، إذ يتراءف ويعطي حتى ذاته لأجل خلاص اخوته. الشرير تحل به اللعنة فيهلك، والصديق يرث أرض الموعد، كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية. إحدى البركات التي وُعد بها المؤمنون الطائعون للوصية في العهد القديم قدرتهم أن يُقرضوا الغير وعدم احتياجهم أن يقترضوا من أحد (تث 15: 2؛ إش 24: 20). إحدى اللعنات التي تقع على مقاومي الله أن يضطروا على الاقتراض مع عجزهم عن إقراض الآخرين (تث 28: 44). رذائل الأشرار وعدم تقواهم وتهورهم تدخل بهم إلى حالة عوز[725]. * إنه يأخذ (يقترض) ولا يوفي؛ فما الذي يرده؟ الشكر! أنه لا يفي الله الذي نال منه (العطايا) شكرًا، بل على النقيض إذ يرد له الخير شرًا وتجديفًا وتذمرًا وجحودًا... أما الآخر (الصديق) فيُظهر رحمة ويُقرض، طرقه سخية؛ لكن ماذا لو كان فقيرًا؟ حتى وإن كان فقيرًا فهو غني... ليس لديه ثروة من خارج لكنه يملك الرأفة في داخله. القديس أغسطينوس "والذين يباركونه يرثون الأرض. والذين يلعنونه يُبادون" [22]. يبدو كأن الأبرار لا يملكون شيئًا مع أنهم يملكون كل شيء ويُغنون الكثيرين، وكما يقول الرسول بولس: "كفقراء ونحن نُغني كثيرين؛ كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10)، إذ يملكون نعمة الله وبركته. يمتلئ الأشرار جشعًا وظلمًا، ونهايتهم أنهم ينالون اللعنة ويبادون، بينما يُعرف الأبرار بالسخاء والرأفة فيمتلئون ويرثون الأرض. * إنهم يملكون البار (الله)، البار الحقيقي وحده الذي يبرر، هذا الذي كان فقيرًا على الأرض ومع ذلك جاء بهبات سخية عظيمة ليغني كل الذين وجدهم فقراء معوزين. أنه ذاك الذي يهب الروح القدس لقلوب المساكين، ويطهر النفوس باعترافها بالخطايا، ويملأها بكنوز البر. إنه ذاك الذي استطاع أن يُصيّر صياد السمك غنيًا بتركه شباكه جانبًا غير مهتمٍ بما يملكه ليضع قلبه على ما لا يملكه (الخدمة). القديس أغسطينوس الشهيد كبريانوس "من قبل الرب تعتدل خطوات الإنسان، ويهون طريقه، وإذا سقط لا يضطرب، لأن الرب يسند يده" [23-24]. لله خطة في حياة كل إنسان شخصيًا، سواء كان كاهنًا أو راهبًا أو من الشعب؛ شيخًا أو شابًا أو طفلًا، رجلًا أو امرأة. كل نفس لها تقديرها ورسالتها الخاصة في عيني الله. وهو كآب لا يأتمن أحدًا غيره على تحقيق هذه الرسالة، حقًا يستخدم ملائكته خدامًا للعتيدين أن يرثوا الأرض، وأنبياءه ورسله وخدامه بل والطبيعة ذاتها، لكنه يبقى هو المخلّص الحقيقي لهم، يقدم لهم ذاته طريقًا. * لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي ائتمنته على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست وشابهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وصرت لنا وسيطًا مع الآب. وصالحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا[727]. (قداس) القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس * لكي يهوى الإنسان طريق الله، يوجه الرب نفسه خطواته، لأنه إن لم يوجه الرب خطوات الشر يضلون حتمًا في طريق الخطية، إذ هذه هي طبيعتهم؛ وإذ يضلون طويلًا في طريق معوجة يصير الرجوع بالنسبة لهم (بدونه) مستحيلًا. القديس أغسطينوس في الطريق قد يسمح لهم بالسقوط لكي يكتشفوا ضعفهم، ويدركوا حاجتهم إلى قيادة روحه القدوس ومساندة نعمة الله لهم. يسقطون لكنهم لا يتحطمون، فإن عينيه تنظران إليهم، ويديه تمتدان لتنشلنا إن صرخنا إليه. يقول الرسول يعقوب "لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا" (يع 3: 2). هذه العثرات لا تجعلنا ننهار بل أن نرفع أعيننا دومًا لله القادر أن يقيمنا! يرى البعض أن السقوط هنا لا يعني السقوط في الخطية بل السقوط في المتاعب، فإن الله في كل الأحوال لا يترك مؤمنيه أبدًا ينهارون. 4. اختبار الأبرار نعمة الله: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قط مِن الرب مرفوضًا، ولا ذريته تلتمس خبزًا. النهار كله يرحم ويقرض، وزرعه يكون مباركًا" [25-26]. إذ يتحدث المرتل عن بركات الله التي تحل بالبار المملوء حبًا ورأفة وضياع الشرير الظالم، ربما يُسأل: هل حديثك هذا عملي وواقعي؟ لذا يجيب بأنه منذ صباه حتى شيخوخته لم يجد صديقًا أو بارًا واحدًا قد تخلى الله عنه أو رفضه، إنما يقف دائمًا بجانبه، بل وبجانب ذريته أيضًا. ربما يسمح الله أحيانًا إن يجوع بعض الأتقياء أو أولادهم، أو يعيشوا في عوز، لكنهم لن يتركهم إلى النهاية. يسمح بآلامهم لكنه لا يتخلى عنهم في تجاربهم، بل يبقى معهم، يحمل معهم أتعابهم وينجيهم، بل ويمنحهم نفسه شعبًا وغنى لهم. * لن يسمح الرب قط أن تهلك نفس بارة جوعًا، إذ يقول المرتل: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قد تخلى عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". إيليا كان يقتات بخدمة الغربان، وبأرملة صرفة صيدا التي توقعت موتها مع ابنها في ذات الليلة التي قضتها، فقد قدمت طعامًا للنبي إيليا ولم تعد طعامًا لنفسها. * محبة المال أصل كل الشرور. يتحدث الرسول عن الطمع بكونه عبادة أوثان (كو 3: 5). "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 6: 33). لن يسمح الرب أن يموت بار جوعًا؟![728] القديس جيروم * ليكن (الله) هو صيّ أولادك؛ ليكن هو كفيلهم، ليكن هو حاميهم بجلاله الإلهي ضد كل الأضرار الزمنية... هذا هو الميراث الموضوع في أمان والمحفوظ تحت وصاية الله[729]. الشهيد كبريانوس يا من تهتم بالحري بأمورهم الزمنية وليس بممتلكاتهم السماوية، يا من تضعهم في وصاية الشيطان لا المسيح، تمارس خطيتين، وترتكب جريمة مزدوجة، وذلك بأنك لا تمد بنيك بعون الله أبيهم، وبتعليمهم أن يحبوا قنيتهم أكثر من المسيح[730]. الشهيد كبريانوس * جسد المسيح أي الكنيسة، مثل أي كائن بشري، كانت في بداية حياتها صغيرة كما ترون، والآن هي في نهاية العالم قد بلغت سن الكبر المثمر. فإن الكلمات: "حينئذ يكثرون في شيخوخة دسمة" (مو 92: 14) قيلت عن الكنيسة التي تزدهر بين الأمم كلها. حديثها كحديث إنسان واحد بخصوص صباه وتقدمه في السن الحالي، فإنها قد فحصت كل شيء، فإنها بالكتاب المقدس عرفت كل الزمان، وها هي تعلن في رفعة وتحذير: "والآن قد شخت، ولم أرَ صدّيقًا تُخلي عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". الخبز هو كلمة الله التي لا تُحْرَم منها قط شفتا البار (مت 4: 3-4). القديس أغسطينوس "حد عن الشر واصنع الخير واسكن إلى دهر الدهور" [27]. هذه هي الوصية السابعة حيث يلتزم البار ألا يحد عن الشر فحسب، وإنما يمارس العمل الإيجابي أي يصنع الخير، بمعنى يلتزم البار ألا يتشبه بالأشرار في ممارستهم للظلم وإنما يليق به أيضًا أن يسلك بروح الرب الصالح. هذه الوصية تحمل في ذاتها مكافأة، إذ يلحقها المرتل بالقول "واسكن في دهر الدهور"، وكأن الامتناع عن الشر وصنع الخير هو دخول إلى عربون الحياة الأبدية حيث لا يوجد إثم بل صلاح دائم. الشر يعطي لذة مؤقتة سرعان ما تزول، بل وتتحول إلى مرارة، أما الخير فيدخل بنا إلى تذوق المباهج الإلهية الأبدية. سبق لنا الحديث عن الجانبين: السلبي والإيجابي في حياة المؤمن التقي (مز 34: 13). * لا تظن أنك تصنع خيرًا إن كنت لا تسلب إنسانًا ثيابه. حقً إنك بهذا حِدت عن الشر، لكن يليق بك ألا تقف عند هذا الحد بلا ثمر؛ فالأعظم من عدم سلب ثياب إنسان هو أن تكسو عريانًا. القديس أغسطينوس الأب دوروثيؤوس "لأن الرب يحب الحكم ولا يهمل أصفياءه، يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. يحب الرب الحكم أو "الحق"، بكونه هو الحق، ويُسر بأن ينصف مظلوميه، يبقى أمينًا مع من أحبهم وأحبوه. قد يسمح لهم بالمتاعب إلى حين، إنما ليعلن رعايته لهم أبديًا. إنه يحفظهم إلى أبد الأبد، وكأنهم كنز السماء! * "لأن الرب يحب العدل ولا يهمل قديسيه". الوسيلة التي يتمم بها هذا هي أن حياة القديسين مخبأة فيه، فبينما الآن يتعبون ويكدّون على الأرض، يشبهون الأشجار التي تراها في الشتاء بلا ثمار ولا أوراق، لكن حينذاك يشرق أمامهم كشمس جديدة، فتظهر الحيوية التي تكمن في الجذور في ثمارهم... قد تحتقرون قديسًا حين يكون تحت التأديب، أنكم ترتجفون حين ترونه ملتحفًا بالكرامة. القديس أغسطينوس يجيب القديس أغسطينوس، قائلًا: [اصغِ إلى ما جاء بعد ذلك: "يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. إن كنتم ترغبون في أن يعيش (القديسون) بضع سنوات إضافية، فبهذا الافتراض لا يأخذ الله قديسيه. لكن الله لم يتخل علانية عن الثلاثة فتية، كما لم يتخل عن المكابيين سرًا. الأولون وُهبوا الحياة الزائلة (بالجسد) ليُخزوا غير المؤمنين، أما الآخرين فقد كللهم سرًا ليُدين ضلال المضطهدين]. 7. يرث الأبرار الأرض ويسكنون فيها أبديًا [29]. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأرض التي يرثها الصابرون منتظروا الرب والودعاء. 8. ينعم الأبرار بالحكمة السماوية: "فم الصديق يتلو الحكمة، ولسانه ينطق بالحكم. ناموس الله في قلبه، ولا تتعرقل خطواته" [30]. لم يسبق أن صادفتنا كلمة "الحكمة" في سفر المزامير من قبل، وهي تشير إلى معرفة الإرادة الإلهية والأمور المقدسة الصادرة عن كلمة الله، بسكنى روحه القدوس وخلال خبرة الشركة مع المخلص. عطية الله لأتقيائه أن يتمتعوا بالسيد المسيح عاملًا في فمهم وعلى لسانهم وفي قلوبهم وسلوكهم، إذ هو الحكمة التي يتلوها الصديق، وهو العدل (الحكم) الذي ينطق به لسانه، وهو ناموس الله المتجلي في قلبه وقائد خطواته. يليق بالمؤمن أن يجاهد بالنعمة الإلهية لكي ينعم بالشركة مع المسيح، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله معكم شريطة ألا يفارقكم كلمته]. وفي نفس الوقت يدرك أن تمتعه بالكلمة هو عطية مجانية يهبها الله لأحبائه المتجاوبين مع حبه. يركز سفر المزامير كثيرًا على الفم بكونه، أما أداة لإبليس الكذّاب وأبي الكذابين يقدم خلاله الخداع والغش والتجاديف، أو أداة الله يعلن خلاله حكمته وأسراره الفائقة. المؤمن التقي أشبه بقيثارة تعزف أسرار الله أوتارها القلب والفم والعمل! الكل يتناغم معًا في انسجام، ما ينطق به اللسان يتفق مع ما في القلب، ويتجاوب معه السلوك. 9. خطوات الصديق لا تتقلقل ولا تنحرف عن الطريق الملوكي: "ناموس الله في قلبه، ولا تتعرقل خطواته" [31]. سرّ التزامه بالطريق الملوكي حبه للوصية الإلهية من كل القلب، وطاعته لها في حياته العملية. الوصية بالنسبة له ليست ثقلًا وإنما سندًا له، تحفظه في الطريق الملوكي فلا تتعرقل خطواته. بها يتشبه بالله خالقه، وبها يدخل إلى الحضن الإلهي، بفضل روح الله القدوس الذي أوصى لنا بالكلمة والذي يسندنا لنعمل بها. 10. لا سلطان للشرير على الصديق: "يتفرس الخاطئ في الصديق، ويلتمس أن يقتله؛ والرب لا يبقيه في يديه. ولا يدحضه في الحكم إذا ما هو دانه" [32-33]. يبدو كأن الصديق دائمًا في قبضة الشرير، لكن الله لا يتركه هكذا. إنه يخلصه كما خلص داود من يد شاول، ومردخاي من يد هامان، وبطرس من قبضة هيرودس. وإن لم يكن ثمة مهرب من أيدي الأعداء لسببِ أو آخر في قصد الله، فإنه يفتح أبواب السماء ويأخذ قديسه إلى الفردوس كما فعل مع اسطفانوس وكل الشهداء. لقد ترك الآب ربنا يسوع كما في أيدي أعدائه، لكن لم يُبقه هكذا، إذ قال السيد المسيح لبيلاطس: "ليس لك سلطان عليَّ إن لم تكن قد أعطيت من فوق"، كما قال: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (يو 22: 53)؛ وكأن الظلمة قد نالت سلطانًا إلى ساعةٍ على السيد المسيح حتى يتم الخلاص بصلبه. ربما يشير المرتل هنا إلى الدينونة الأخيرة، حيث يتم القضاء ويصدر الحكم العادل كما حدث مع المرأتين المتنازعتين على طفل كل منهما تَدّعي أنها أمه. ففي وقت ما ظهر سليمان الحكيم كمن لا ينحاز لأي منهما، لكن في النهاية أمَّن حقوق الأم الحقيقية المحبة لطفلها وحَفَظها. هكذا قد يصمت الله إلى حين لسبب ما، لكنه في الوقت المعين يصدر الحكم[732]. * يُسلَّم الجسد في قبضة المضطهدين، لكن الله لا يترك تقيّه هناك، من الجسد الأسير يحضر (الله) النفس ظافرة... ما تحتاج إليه هو ألا تسقط فريسة خلال الشهوة في قبضة شريرة، لئلا برغباتك في الحياة الزمنية تسقط بين مخالب (الشهوة) ومن ثم تخسر الحياة الأبدية. القديس أغسطينوس 11. يرتفع الأبرار بالله وينحدر الأشرار أو يُستأصلون: الوصية الثامنة في هذا المزمور هي: "تمسك بالرب واحفظ طريقه، ويرفعك لترث الأرض وتعاين الخطاة إذ هم استأُصلوا" [34]. إذ نتمسك بالرب السماوي "يرفعنا" كما من المزبلة لنشاركه المجد الأبدي، بينما يُحرم الأشرار من هذه العطية إذ هم يُستأصلون بحرمانهم من الله مصدر حياتهم وانحدارهم مع إبليس أبيهم. 12. بعكس الأبرار يفتقر الأشرار إلى المجد الداخلي إذ يسعون نحو المجد الباطل: "رأيت المنافق يرتفع ويتعالى مثل أرز لبنان، وجزت فإذ ليس هو. التمسته فلم أجد مكانه" [35-36]. صار نبوخذنصَّر الملك العظيم كالحيوان مرذولًا ومطرودًا حتى تأدّب. ويرى المرتل في الأشرار أنهم يعبرون فلا يوجدون، وكأنهم أشبه بممثلين قاموا بدورهم على خشبة المسرح ثم نزلوا عنها فاختفى اسمهم وغناهم ومجدهم وسلطانهم. يتحدث أليفاز التيماني عن الغبي الشرير، فيقول "إني رأيت الغبي يتأصل وبغتة لَعَنتَ مربضه" (أي 5: 3). قيل أيضًا: "صوت رُعوب في أذنيه في ساعة سلام يأتيه المخرب..." (أي 51: 21). * التكبر والغرور والغطرسة والافتخار بعجرفة هذه كلها لا تنبع عن تعاليم المسيح الذي علمنا الاتضاع بل عن روح ضد المسيح الذي يوبخه الرب بالنبي القائل: "وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش 14: 13-14) [733]. الشهيد كبريانوس القديس أمبروسيوس الأب أفراهات أنت هو بهجتي ونصرتي * ينتفخ الشرير بجناحه الزمني، ويتكئ على سلطانه وإمكانياته، أما أنا فأجد فيك يا إلهي بهجتي ونصرتي. * افتح عن عيني فأرى أرض الأحياء، وأتمتع بثرواتها الروحية. كنيستك هي أرض الأحياء، بيتك الروحي، وأنت هو غناها... أقتنيك في قلبي! * هب لي ألا أحسد الشرير لئلا أسقط في الخبث. أعطني حكمتك السماوية، فألتحف بوداعتك. علمني أن أثق فيك وأنتظر مكافأتك السماوية. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مزمور 37 - الودعاء يرثون أرض السلام |
كن وديعاً فإن الودعاء يرثون الأرض . |
الودعاء يرثون الأرض |
ان الودعاء يرثون الارض |
مزمور 94 - تفسير سفر المزامير - الله ديان السماء والأرض والمدافع عن المظلومين |