حين تجسّد الله
ان الله الخالق القدير العليّ، ساكن الابد هو عظيم جدا في قدرتة وحكمته وجبروته وجلاله، ولا يمكن للمخلوق الضعيف ان يعيه بمنطقه او يدركه بعقله او يغور سبر كينونته بخلده.... وعلى مدى التاريخ، حاول البشر ان يفهموا او يعللوا او يفسروا وجود القدير، وسبب وجوده وسر كيانه، لكن الانسان اعجز واوهى واهش من ان يدرس خالقه.. وتغنّى الحكماء والشعراء والادباء على مر العصور بخصال العليّ وشيَم القدير وميزات الخالق.. واندهش الفلاسفة وانشده العباقرة من سر وجود الخالق، الذي كان وما زال يحتاط بالغموض والالغاز المبهمة.... وما هو سر اهتمام البشر بحقيقة وجود الخالق؟؟،
اولا من البديهي ان يبحث المخلوق عن خالقه، فلا يمكن لمخلوق ان يأتي الى الوجود من لا شيء، ولا يمكن ان يتكون من دون مسبب، فلكل نتيجة علة وتعليل، فليس الكيان هو البداية، بل لكل بداية بادئ ومنتج ومبدع... والانسان من البديهي ان يحاول ان يبحث ويكتشف من اين اتى، ومَن هو الذي ابدعه وخلقه وصنعه بهذا الشكل العجيب.. كما الطفل اذا ترعرع، امضى كل سنين عمره يبحث عن ابيه البيولوجي وعن امه التي ولدته، ولن يهدأ له بال، الا اذا وجد مَن ولده، ومَن اتى به الى هذا العالم...
ويبقى وجود الخالق سرا مبهما ولغزا يحتار امامه العلماء والفلاسفة. وتتنوع التحليلات والتعليلات والخرافات والتصورات حول مبدع الكون العجيب، منها الصحيح ومنها الخطأ، وينزلق البشر الى محيط من البلبلات والتشويشات والجدالات التي لا حد لها.. ونقع جميعنا في بحر من التساؤلات الوجودية المحيّرة...
ولا جواب لاهم معضلة في التاريخ، ولا مخرج لاعقد مأزق على مر العصور، ولا جواب شافي وكافي وووافي لاكثر التساؤلات اهمية واولوية، ولن يهدأ البشر الا اذا وجدوا مرسى هادئ، يطمئن عنده الانسان.. اقول، انه لا جواب لتخبطات المخلوق، الا امام فكرة انجيلية كتبها صيادوا سمك، ينقصهم العلم والفلسفة...
الفكرة هي ، ان الله تجسّد، اي تأنّس واتّخذ جسما وجسدا كما الانسان.. لا جواب للبشر امام اهم لغز في الحياة، الا الاعلان الالهي ان الله القدير جاء في هيئة جسد انسان.... لان الله الخالق لا يُرى وهو غير مادي ولا ملموس ولا يمكن ملامسته او معاينته او محادثته او اكتشافه بحواس البشر الخمسة او حتى بالحاسة السادسة، لان الله بعيد عن مجال الملموس ومدار المحسوس..
وكل معرفة البشر للامور تأتي عن طريق الحواس والمنطق البشري المعتمد بالدرجة الاولى على الملموس والمحسوس والمرئي والمسموع... ويعلن الانجيل ان الله غير المرئي، تجسّد وصار مثلنا، يمكن ملامسته ورؤيته وسمعه ومحادثته ويمكن السير معه والاكل معه...
والفكرة التي يقاومها كل الفلاسفة والعلماء والفهماء هي، ان الله صار جسدا والقدير صار انسانا والعلي نزل وحل بيننا... ومع ان الكثيرين ما زالوا يقاومون هذه الفكرة العجيبة والفائقة والمدهشة، الا انها هي الوحيدة، الجواب لمعضلة الانسان، والتعليل للكون والكائن وللخالق لكل الامور...
ربما يقول قائل، ومَن خلق الله؟!.. بما اننا زلنا بعيدين عن فكرة وجود الله، وما زلنا بعد الاف السنين نحاول ان نصل الى القدير وادراك سر وجوده، اذن ما زلنا بعيدين اكثر، ملايين السنين الضوئية عن السؤال، مَن اوجد الخالق... ولا يمكن لنا معرفة الاجابة على هذا السؤال.. اولا، لانه لم يكن احد من البشر هناك، ولم ير احد الله، وثانيا، نحن ما زلنا نتخبط بالنسبة للسؤال، ليس مَن خلق الله، بل مَن هو الله، وما هو الله وماهية الله وما صفاته وصورته... ولا يمكن ان يكون الله مشابها للبشر، ولا يمكن ان ندركه بعقول بشرية هشة وضعيفة ومحدودة..
حتى ان الانسان ما زال يقف محتارا وعاجزا امام امور مخلوقة يراها، كالنجوم والكواكب واسرار الاسماك واسرار الحياة وسر الموت وامور كثيرة اخرى، فكيف يدرك الخالق، اذا كان عاجزا عن تعليل امور مخلوقة... مهما فكر العلماء والحكماء والفلاسفة فلا يوجد جواب شافي الا فكرة وحقيقة، ان الله تجسد وصار ملموسا وحل ومشى بين البشر... ومع انه كأنسان يشبه البشر في كل شيء ما عدا الخطأ، الا انه ينبغي ان يكون مختلفا عن البشر العاديين في كلامه وتعاليمه واقواله واعماله وحكمته واسلوب تعامله... والانجيل هو الكتاب الوحيد الذي اتى بهذه الفكرة، ان الله صار جسدا ملموسا مثلنا.....
ومهما حاول البعض الجدال لينكروا هذه الفكرة ولكي يظهروا انها سخيفة، لكنها تبقى حقيقة تاريخية، ان يسوع الذي قال الانجيل انه هو الله الظاهر في الجسد، كان فريدا في ولادته وحياته وتعليمه ونهايته وتأثيره، فحوله، كُتبت ملايين الكتب، ومن تعليمه، استقى الجميع فلسفاتهم ومعتقداتهم. ويسوع هو الوحيد الذي تأثيره انتشر في كل مكان وزمان، مع انه لم يدرس في جامعة ولم يحمل سلاحا ولا مالا ولا ثروة ولا جيشا ولا عائلة ولا منصبا ولم يعش اكثر من ثلاثة وثلاثين عاما، وكل خدمته وتعليمه وعمله كان في ثلاث سنين فقط، انقلب العالم رأسا على عقب بعد دخوله اي دخول يسوع الى العالم...
ومن الناحية الادبية هو الوحيد الكامل، فلم يقتل ولم يزن ولم يعتد على احد ولم يخطئ بالفكر والكلام والعمل....وحتى اليوم بعد الاف السنين، ما زال العالم الذي اسم المسيح عليه مختلفا ومتقدما ومبدعا ومخترعا، وتأثيره سائدا في كل الدول التي اسم المسيح عليها.. والسؤال الهام الان، ماذا ينتفع البشر، لو ان الله الخالق، بقي في السماء، ولم يتجسد، ولم يأتي كبشر الينا؟؟ ماذا ينتفع الانسان حتى ولو تغنّى بعظمة الخالق وكتب كتبا واشعارا وملاحم شعرية ووعظ الوعاظ عن القدير عظات عظيمة اشادت بصفات الخالق وقدرته، ماذا ينتفع الانسان، لو ترنم بعظمة الخالق، من دون ان يأتي الخالق الينا جسدا؟؟
لو ان الله لم يتجسد ولم يتأنس ، لهلك الجميع ولبقي البشر يجهلون حقيقة ماهية الله ولكانت كل افكارهم وتحاليلهم عن الله هباء وغباء ومجرد غناء، ولكانت نهاينتهم فناء من دون سماء... لان البشر خطاة واشرار وعصاة وفاسدون وضالون وضائعون.... لكن الله اتى الينا وتجسد بيننا لكي يخلصنا ويفدينا وينقذنا وينقلنا من الهلاك الى الحياة الابدية... لو ان الله لم يتجسد، لكان كل التدين فارغ، وكل الواجبات الدينية هباء...
لكن الله تجسد، وحل بيننا وسمعناه ورأيناه ولمسناه وشاهدناه، كما قال تلاميذه ورسله الامناء....ان تجسد الله ومجيئة كانسان، حباه عظمة خاصة، واعلن لنا عن حقيقة عظمته وعظمة حكمته وقدرته.. وكل خصال الله العجيبة ظهرت في يسوع الانسان..وهل تعلم ان مئات النبوات كُتبت عن يسوع، قبل ولادته بمئات السنين، كتب عن ولادته واين سيولد، وعن حياته والامه ونهايته وموته وقيامته وكل تفاصيل حياته....
اريد ان اقول من كل ما ورد، ان الله مع كل عظمته، لن يعني لنا شيئا، الا اذا تجسد بيننا وصار ملموسا ومعاينا من البشر وصار حضوره ملموسا وواضحا...ولن ينتفع الانسان من كل عظمة الخالق، الا عندما ولد كطفل وعاش كبشر ومات كفاد ومخلص وشفيع وقام ليهب البشر انتصارا وخلودا......ان تجسد الله في المسيح انار لنا الخلود اي اظهر لنا حقيقة الخالق وكشف لنا عن الابدية ومصير البشر... ونحن المؤمنين، ننادي بعقيدة مسيحية وتعاليم سامية ومبادئ تهتز منها جدران الكنائس، ونعظ العظات الرنانة، ونكتب العبارت المؤثرة، وننادي بانجيل قوي، ونفتخر بتعاليم جميلة، تمتاز عن كل التعاليم البشرية التي ينادي بها الاخرون..
لكن اذا لم يتحوّل ايماننا الى امر ملموس يراه البشر، يبقى تعليمنا خاملا ومبادئنا نظرية وكلما نادينا الانجيل بصوت اعلى، كلما ضاربنا الهواء، لان الانجيل، اذا بقي حبرا على ورق، وبقي اللاهوت في السماء غير متجسد، لن يستفيد احد من ذلك، ويبقى الامر نحاسا يطن وصنجا يرن لا يفيد السامعين شيئا....لكن الله تجسد، فحصل الخلاص لملايين، والقدير صار ملموسا فصار فداءا لكثيرين، واللاهوت حل بيننا ولمسناه وعايناه، فصار التعليم المسيحي قويا طرح الامبراطورية الرومانية ارضا وحوّل الفلسفة اليونانية الى حطام وردم..
والكنيسة اليوم، تعلّم تعاليم سامية جدا، لكن ينقصها تجسيد ايمانها بشكل ملموس عن طريق تضحية وخطوة ايمان تكلفها الكثير... اذ يدعونا الانجيل الى ان نخرج خارج المحلة، اي لنخرج خارج المعتاد والروتين والتعليم النظري ولننزل الى واقع الحياة، ونجسد ايماننا الى حقيقة ملموسة، يراها ويلمسها الجميع، خطوة نتخدذها تكون سبب بركة وخلاص وحياة وفداء وجذب الكثيرين للمسيح..
ان العالم اليوم بفلسفاته وتخبطاته، لا يحتاج فقط الى كلام كثير وتعاليم رنانة، بل الى تجسد للامور الالهية في واقع ملموس وحقيقي ومرئي ... وتجسد يسوع، مع انه كان سبب خلاص وحياة، الا انه كان سبب سخرية واحتقار ورفض من اصحاب الفلسفة والدين... والانجيل حين يقول "فلنخرج اليه"، يتابع القول بالقول "حاملين عاره"... الايمان الصحيح يحتاج الى تجسيد، كما تجسد اللاهوت في الناسوت.. وكلما تجسد، صار سبب احتقار ورفض، لكن ايضا سبب حياة وخلاص ونجاة وبركة ونعمة لكثيرين....
كنا قد كتبنا ووعظنا الكثير عن الايمان المسيحي في "الاراضي المقدسة" لسنين طويلة.. لكن اتى الوقت، حين جسّدنا ايماننا وعقائدنا في خطوة ايمان جماعية ملموسة، اي بلدة الجليل الجديد، فكانت سبب رفض واحتقار ومقاومة من كثيرين، لكنها ايضا سبب خلاص وبركة لكثيرين..... ان تجسيد الاله هو اعظم سر عرفه التاريخ، ولم ولن يضاهيه سر اخر، واتباع الاله الحقيقي عليهم لا ان يتكلموا ويعظوا ويكتبوا فقط، بل ان يحذوا حذو الههم، اذ يجسّدون ايمانهم في طفل المغارة المحتقر، مع انه هو، وهو فقط، الطريق والحق والحياة