النسك في محبة الآخرين لنا
فإن البعض منا قد يصنع الخير ليس لأجل الله وإنما لحساب الآخرين! ليس لمجد الله وإنما ليرضى عن نفسه، فقد ينتهج البعض مثلًا اللطف طريقة في التعامل مع الآخرين، ليس كثمرة خالصة من ثمار الروح القدس (غلاطية 22:5) وإنما لأجل الحصول علي المديح فقط، حتى يُقال عنه أنه وديع أو لطيف أو محب، أو يُظهر آخر قدرًا كبيرًا من الاحتمال، والتحلّي بابتسامة مشرقة دائمًا، مهتمّ في ذلك برأي الآخرين فيه!..
حقيقي أن الكتاب يوصينا بأن نعتني بأمور حسنة قدام الناس(رومية 17:12) وأن يري الناس أعمالنا الصالحة فيمجدوا أبانا الذي في السموات، ولكن المفروض كما هو واضح أن يكون الظاهر في الخارج هو انعكاس لما في القلب، والحرص كذلك ألاّ نُعثر الآخرين. لاسيما الضعفاء منهم وغير المستنيرين. فإن لم يكن الأمر كذلك فإنه وبينما ُيوحي الظاهر بالاتضاع والمسكنة والتسامح، تكون خطية الكبرياء رابضة في الداخل باطمئنان.. إذ يصلها غذاؤها بانتظام!!
يقول القديس بولس "لأنه ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب" (2كو18:10) ويقول الآباء "هوذا الناس يموتون وتموت معهم كراماتهم". أقول ذلك لنتخذ حذرنا ممن تأتينا منهم الكرامة والمجد الباطل، وإن كانت المشكلة لا تكمن في مديح الناس لنا فهم بسطاء أنقياء ينظرون إلينا باعتبارنا ملائكة.. ولكن الخطورة تكمن في قبولنا للمديح وسعادتنا به والسعي إلي المزيد منه..
هكذا علينا أن نتخلّى عن حب المديح والكرامة ونتنسّك فيه، غير مبالين برأي الآخرين فينا، وإلا فإن مسيرتنا ستتعطّل، ولماذا نسعى بدأب نحو رأي الآخرين فينا.. أليس الأولي بنا أن نهتم برأي الله فينا.. أليس من الخطورة أن تكون الأولوية لحكم الناس، ألم يقل لنا السيد المسيح بفمه الطاهر: "ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنًا "(لوقا 6:26) أي أنه إذا استطعت الحصول علي تأييد جميع الناس ومدحهم فأنت منافق، إذا استطعت التلوّن بجمع الألوان وإرضاء كافة الاتجاهات والأمزجة. تقول الأم سارة: "للناس مشيئات كثيرة، فإن أنا أردت أن أرضي جميع الناس، سأجد ذاتي تائهة على باب كل أحد"!
وعندما صرح القديس تادرس تلميذ القديس باخوميوس، بأنه علي الإنسان أن يكون "مكورًا.. لا ذو قرون أو مربع" فقد قصد أن يكون الإنسان سلسًا، سهل التعامل وسهل الكسب، لطيف المعشر.. لا أن يكون مسوقًا بكل ريح..
هناك أمران علينا الالتزام بهما في هذا الإطار:
أولهما: ألاّ نُسيء إلي أحد أو نجرح إنسانا.
ثانيهما: ألاّ نشغل أنفسنا بكم من الآخرين يحبوننا وكم يكرهوننا (أو برأي الناس بصفة عامة) أي "لا تجعل سلامك في أفواه الناس".
بل وعلي العكس من ذلك، فلقد سعي الكثير من الآباء إلي إظهار ما يحتقرهم الناس بسببه، مثل القديس بيمن والذي تظاهر بالعته والجنون أمام الوالي والذي حضر لزيارته والتبرك منه.. ومن الآباء من تعمّد أن يأكل في فترة الصوم..إلخ،ولكن علينا كمبتدئين ألاّ ننتهج هذا التدبير لئلا يأتي بنتيجة عكسية، فهي طريقة محفوفة بالخطر لا تناسب قامات المبتدئين.
كتب يوحنا كاسيان عن القديس بفنوتيوس والذي كان يعيش في دير بالفرما (بالقرب من بورسعيد) أنه لما أصبح معروفًا، فكَّر في طريقة ينجو بها من تقاطر الزائرين عليه، ففكر أولًا أن يلزم قلايته، غير أنه خشي أن يتجمهر الناس حولها ويجبرونه علي الخروج منها، ثم عاد وفكر في ترك الدير إلي آخر، ولكنه عدل عن الفكرة خشية أن يكتشفوا مكانه الجديد فيتبعونه إلي هناك.
وفي النهاية اهتدى إلي فكرة عجيبة ألا وهي أن يتخفي في زى رجل علماني متجهًا إلي مكان أخر! وبالفعل اتجه إلي صعيد مصر ومشي طويلًا حتى وقف بباب أحد أديرة القديس باخوميوس، وقرع ناقوس الدير فخرج إليه الراهب البواب مستفسرًا، فأخبره بأنه شخص طالت غربته في العالم ويود الآن أن يقضي بقية حياته كراهب (وكان قد قارب الستين من عمره) ولكن الراهب اعتذر له بسبب كبر سنه، ثم تركه وأغلق الباب دونه، ومن بعد يومين فتح الراهب الباب ليجد الأب بفنوتيوس ما يزال جالسًا بجوار الباب، فتعجب لذلك، وعاد فألحّ عليه كثيرا في الالتحاق بالدير ولو كواحد من العمال، وعندئذ وافق الراهب، وألحقوه بالعمل في حديقة الدير، فعمل فيها بمسكنة وطاعة لراهب حديث السن.
وفي ذات يوم وبينما كان راهب من منطقة الفرما في زيارة للموضع، لمح الأب بفنوتيوس في حديقة الدير فعرفه في الحال.. رغم أنه كان في ملابسه العلمانية. وهنا توسل إليه الأب ألاّ يخبر من بالدير ولكنه كان أسرع منه حين أبلغهم. وقد بادروا بدورهم بالاعتذار إليه محتفين به. فلما قرر مغادرة الدير شيعوه بالدفوف والبخور. وهرب من ثم إلي المغارة التي كان يسكنها القديس جيروم بجوار بيت لحم، ولكنهم أعادوه ثانية إلي الفرما حيث تنيح هناك بعد زمن قصير.
إن الكبرياء الداخلية تغتذي علي الكرامة الخارجية، والتي يقبلها الإنسان ويسمح لها بالمرور إلي الداخل.. لذا فعلينا رفض كل كرامة تأتينا من العالم، فنحن أكثر من يعرف ضعفاته ونقائصه، وأن الله في تحننه قد ستر عليه ولم يفضحه أمام الآخرين. قال الفيلسوف فليقطن مؤنبًا الإسكندر الأكبر: "إن حياة هذه نهايتها الزهد فيها أولى"...