رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في السنة الأخيرة من مُلك بيلشاصر حيث صارت نهاية مملكة بابل على الأبواب، قدم الله له رؤيا جديدة عن دمار ممالك قادمة، لكي لا يندهش عندما يرى بابل العظيمة تنهار أمامه. فقد ظن الكثيرون أن بيلشاصر سيسخر بكورش وداريوس، وأن مقاومتهما لبابل لا تستحق اهتمام بيلشاصر. لكن الله كشف أكثر من مرة لدانيال عن انهيار بابل ثم انهيار فارس فيما بعد. تمتع دانيال النبي برؤيا جديدة تؤكد ما جاء بالرؤيا الأولى وتشرحها بأكثر تفصيل، مع إبراز جوانب جديدة خاصة بدور الشر العنيف الممثل في أنطيوخس أبيفانس Antiochus Epiphanes (في العهد القديم) وضد المسيح (في أواخر الدهر)، الأمر الذي جعل دانيال يضعف جدًا ويتحير. يقول القديس هيبوليتس الروماني أن هذه الرؤيا بتفاصيلها هي "لبنيان المؤمنين" . 1. مقدمة عن الرؤيا: تمت هذه الرؤيا قبل سقوط بابل بفترة قصيرة، إذ رأى دانيال النبي نفسه كمن هو في شوشان، عاصمة ولاية عيلام، غرب فارس وشرق بابل وجنوب مادي. "في السنة الثالثة من مُلك بيلشاصر الملك ظهر ليّ أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت ليّ في الابتداء" [1]. وُهب دانيال من قبل الرب أن يقف كما في برج مراقبة عالٍ، ليرى الأمور البعيدة التي لا يراها غيره، والتي قد يظنها البعض أنها غير منطقية، بل وأحيانًا مستحيلة. هذه العطية تُقدم للنفس الأمينة التي ترتمي في حضن الله، فيرفعها كما بجناحي حمامة، لترى حتى ما هو وراء الزمن. وُهبت له هذه الرؤيا بعد عامين من الرؤيا السابقة، وذلك قبل سقوط بابل (دا 5) بقليلٍ، لهذا تجاهلت الرؤيا الإمبراطورية البابلية وكشفت عن مملكة مادي وفارس (الكبش) التي تُهاجمها مملكة المقدونيِّين (التيس). "فرأيت في الرؤيا، وكان في رؤياي وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام، ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي" [2]. مدينة شوشان أوسوسا، وهي توصف في الكتاب المقدس بالحصن. احتلت مركزًا خاصًا، إذ كانت عاصمة فارس؛ صارت فيما بعد تشارك بابل كعاصمة في أيام الإمبراطورية الفارسية. تقع على بعد حوالي 250ميلًا شرقي بابل، تُستخدم إحداهما في الشتاء والأخرى في الصيف، وقد صارت عاصمة لكورش. كان دانيال في القصر في بابل، لكنه إذ كان في الرؤيا شاهد نفسه كأنه عند نهر أولاي. ظن البعض أن دانيال كان في مدينة شوشان، لكن هذا غير مقبولٍ، لأنه لم يكن ممكنًا لدانيال المسبي أن يترك بابل ويقطن في شوشان التابعة لفارس، إنما رأى نفسه هكذا في الرؤيا. ولعل الله سمح له بذلك ليطمئن أنه كما خدم شعبه خلال الحكم البابلي سيخدمه أيضًا خلال الحكم الفارسي. غالبًا لم يكن شوشان القصر قد بُنِيَ بعد، لأنه لم تكن إمبراطورية فارس قد ازدهرت بعد. 2. رؤيا الكبش: في الرؤيا السابقة رأى دانيال أربعة حيوانات، أما هنا فينظر حيوانين، الأول كبش له قرنان. إذ اقترب وقت انهيار بابل أمام فارس ومادي رأى دانيال هذه الرؤيا. رأى كبشًا واقفًا عند النهر له قرنان عاليان، الواحد أعلى من الآخر. يقول القديس هيبوليتس الروماني: [يعني بهذا الكبش الذي ينطح غربًا وشمالًا وجنوبًا داريوس ملك الفرس، الذي غلب كل الأمم، إذ قيل "لم يقف حيوان قدامه"]. "فرفعت عيني ورأيت، وإذا بكبشٍ واقف عند النهر، وله قرنان، والقرنان عاليان، والواحد أعلى من الآخر، والأعلى طالع أخيرًا. رأيت الكبش ينطح غربًا وشمالًا وجنوبًا، فلم يقف حيوان قدامه، ولا مُنقذ من يده، وفعل كمرضاته وعظم" [3-4]. إذ شعر دانيال النبي أنه مدعو لرؤية أسرار إلهية مستقبلية، رفع عينيه ليرى. وكأن الرؤيا وإن بدت أنها تخص ظهور مملكتيْ فارس ومادي واليونان، لكنها في جوهرها تمس أبدية المؤمنين وتمتعهم بما هو فوق الزمن. هكذا ليس لنا أن نتجاهل التاريخ الزمني، لكن إذ يرفع روح الله أعيننا نرى خطة الله الخفية التي تعمل عبر التاريخ ليحملنا إلى ما وراء التاريخ. في دقة عجيبة شُبهت مملكة فارس بالكبش ذي القرنين، واحد أعلى من الآخر. لأن فارس صارت أعظم من مادي. لقد تزوج كورش الفارسي ابنة خاله كياكسارس Cyaxares (داريوس المادي)، وكان داريوس ضعيف الشخصية جدًا بالنسبة لكورش، الذي فاق حماه جدًا، مع ذلك تركه شريكًا معه في الحكم، فتحققت النبوة حرفيًا. هنا القرنان يقابلان جانبي الحيوان الثاني (الدب) في الرؤيا السابقة حيث ارتفع على جنبٍ واحدٍ (دا 7: 5)، كما يقابلا كتفي التمثال العظيم المعدني Colossus في حلم نبوخذنصَّر المذكور في الأصحاح الثاني. ويرمز نطاح الكبش إلى الانتصارات السريعة التي حققها الفارسيُّون. إذ شُبه فارس بالكبش، شُبه الملوك الآخرون بالحيوانات، التي لم تستطع الوقوف أمامه، ولا أن تفلت من يديه. يقول مارسيلينوس Marcellinus: [إنه إذ كان ملك الفرس على رأس جيشه كان يرتدي رأس كبش على رأسه عوض التاج]. 3. رؤيا التيس: "وبينما كُنت متأملًا، إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض، ولم يمس الأرض، وللتيس قرن مُعتبر بين عينيه. وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقف عند النهر، وركض إليه بشدة قوته" [5-6]. إذ ظهر الكبش بقوة وسلطان ينطح كل حيوان يلتقي به ظهر له عدو هو تيس ذو قرن معتبر بين عينيه. رآه النبي قادمًا من الغرب، حيث تقع اليونان غرب فارس. كان التيس سريعًا جدًا حتى أن أقدامه لم تكن تمس الأرض [5]. كان بجيشه أشبه بطائر يطير في الهواء، أكثر منه قادمًا على البَرّ أو خلال الأسطول البحري. لقد شُبه فارس بالكبش بالمقارنة بالمملكة اليونانية التي شُبهت بالتيس. فإن التيس أكثر رشاقة وسرعة حركة من الكبش. هكذا كان الإسكندر الأكبر أكثر سرعة في تحرُّكاته. ضرب الكبش وكسر قرنيه وطرحه على الأرض وداسه، ولم يكن للكبش مُنقذ من يده [7]. "ورأيته قد وصل إلى جانب الكبش، فاستشاط عليه وضرب الكبش، وكسر قرنيه، فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه، وطرحه على الأرض وداسه، ولم يكن للكبش مُنقذ من يده" [7]. إنها رؤيا صادقة تحققت بعد أكثر من 200 عامًا. هنا يظهر الله لنبيِه نصرة الإسكندر الذي أخضع الشرق كله، حيث دخل في معاركٍ كثيرة، لكنه يركز على فارس التي كانت مسيطرة على دولٍ كثيرةٍ، والتي سبق فشُبهت بالكبش الذي ينطح في كل جهات المسكونة. رأى التيس قد وصل إلى الكبش، الأمر الذي لم يكن أحد يتوقعه، إذ كانت المدن الكبرى محصنة، هذا مع بُعد المسافة بين فارس واليونان. لكن الإسكندر بلغ إلى فارس، وهزمها بقوة وبسرعة غير متوقعة. لقد هُزم داريوس في معركتين مثيرتين، هٌزم في المعركة الأولى، فحاول أن يجمع قواته من جديد، وبالفعل دخل معه في معركة ثانية، لكن اتباعه خانوه وانتهت المعركة بقتله بواسطتهم. يقول بعض المؤرخين أن الإسكندر ادعى بأنه ابن الإله جوبتر آمون الذي كان يُرمز إليه بشكل تيس، وقد اُكتشفت صور تاريخية تُصور تيسًا بقرنٍ واحدٍ كرمز للجيوش اليونانية القديمة. "فتعظم تيس المعز جدًا، ولما اعتز انكسر القرن العظيم، وطلع عوضًا عنه أربعة قرون مُعتبرة نحو رياح السماء الأربع" [8]. يقول القديس هيبوليتس الروماني: [يقصد بالتيس من الماعز القادم من المغرب الإسكندر المقدوني القادم من اليونان... لقد أثار الإسكندر حربًا ضد داريوس وغلبه، وأقام نفسه سيِّدا على كل المملكة بعد أن هزمه هزيمة منكرة وحطم معسكره. بعد أن تمجد التيس انكسر قرنه العظيم، وطلع أربعة قرون تحته نحو رياح السماء الأربع. فإنه عندما أقام الإسكندر نفسه سيدا على كل أرض الفرس وأخضع شعبها مات وانقسمت مملكته على أربعة رؤساء ]. عظم التيس جدًا، وفي عز عظمته حدث تغيُّر عجيب، فقد انكسر القرن المعتبر، وحلّ موضعه أربعة قرون معتبرة، تمتد نحو رياح السماء الأربع [8]. بموت الإسكندر الأكبر، انقسمت مملكته بين قواده الأربعة إلى أربع ممالك: مقدونية، وتراقيا، وسوريا، ومصر. ولم يكون أحد منهم في قوته. اختلف المؤرخون بخصوص موته، فالبعض يرى أنه مات بسبب المرض، وآخرون يرون أنه مات مسمومًا. قبل موته سُئل عمن يخلفه، ففي كبريائه لم يرَ أحدًا مستحقًا أن يخلفه، فقال: "الإنسان الذي يُحسب نفسه مستحقًا جدًا لهذه الإمبراطورية!" وكان له ابنان أحدهما من روكسانا Roxana ابنة داريوس، وأيضًا كان له أخ يُدعى أريداؤس Aridaeus، لكنه لم يرَ أحدًا منهم مستحقًا أن يخلفه، كأنه لا يوجد في العالم كله من هو مثله. وإذ صار عاجزًا عن النطق نزع الخاتم من يده وأعطاه لبيرديكاس Perdiccas. بعد موته حدثت اضطرابات كثيرة وقُتل حوالي 15 قائدًا. صار كاساندر Cassander بن انتيباتير ملكًا على مقدونية بعد قتل أولمبياس والدة الإسكندر، وأخته، وابنه، وزوجته روكسانا، وكثير من أقربائه. وفقد القادة ثقتهم في بعضهم البعض، وخشي كل قائد من زملائه، فقد ساد بينهم روح الغدر والخيانة. أخيرًا بعد 15 عامًا من موته انقسمت المملكة إلى أربعة أقسام وهي: أ. مقدونية، حيث ملك عليها كاساندر بن أنتيباتير، وانضم إليها بعض أجزاء من تراقيا Thrace مع مدن اليونان. ب. سوريا وبابيلونيا وكل ممالك الشرق، ملك عليها سلوقس نيقانور Selecus Nicanor. ج. آسيا الصغرى، ملك عليها أنتيجونس Antigonus، حيث ضم فيريجيا وبافلاجونيا Paphlagonia والمناطق الأسيوية الأخرى، وذلك بعد قتل 5 أو 6 من القادة. د. مصر ملك عليها بطليموس بن لاغوس Lagos. هؤلاء هم الأربعة قرون المعتبرة [8] التي سادت العالم في الشرق والغرب والشمال والجنوب. 4. القرن الصغير: "ومن واحد منها خرج قرن صغير جدًا، نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضي. وتعظم حتى إلى جند السموات، وطرح بعضًا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم. وحتى إلى رئيس الجند تعظم، وبه أُبطلت المُحرقة الدائمة، وهُدم مسكن مقدسه. وجعل جند على المُحرقة الدائمة بالمعصية، فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح. فسمعت قدوسًا واحدًا يتكلم، فقال قدوس واحد لفُلان المُتكلِّم: إلى متى الرؤيا من جهة المُحرقة الدائمة ومعصية الخراب لبذل القدوس والجند مدوسين. فقال ليّ: إلى ألفين وثلاث مائة صباح ومساء فيتبرأ القُدس" [9-14]. ما هو هذا القرن الصغير إلاَّ دجال العهد القديم أنطيخوس أبيفانس، والذي يرمز أيضًا إلى ضد المسيح في أواخر الدهور. دُعي بالقرن الصغير ليس بمقارنته ببقية الملوك في عهده، وإنما لأنه لم يكن أحد يتوقع أنه يتولى الحكم بعد والده، لكنه استولى على الحكم بخبثه ودهائه. ملك أبيفانس على سوريا (مملكة الشمال للإمبراطورية اليونانية) وكان ذلك حوالي سنة 175 ق.م. تحدث عنه دانيال النبي بأكثر تفصيل في (دا 11: 21-35). دُعي أدنس إنسان في العهد القديم، اضطهد اليهود. التقى بعد وفاة أخيه بالشعب، وتظاهر باللطف الشديد وخدعهم، فأقاموه ملكًا، وذبح خنزيرًا ورش دمه على المذبح والأواني المقدسة، ومنع تقديم الذبائح اليومية [11]، وإلاَّ تعرضوا للقتل. * قام أنطيخوس المدعو أبيفانس من خط الإسكندر، وإذ ملك على سوريا، وأخضع مصر تحت سلطانه صعد إلى أورشليم، ودخل الهيكل، واستولى على كل كنوز بيت الرب، والمنارة الذهبية والمائدة والمذبح وصنع مذبحة عظيمة في الأرض، كما كُتب: "يُداس المقدس بالأقدام إلى ألفٍ وثلاثمائة صباح ومساء". لقد حدث أن المقدس بقي خرابًا كل هذه المدة - ثلاث سنوات ونصف - فتمت الألف وثلاثمائة يومًا. عندئذ ظهر يهوذا المكابي بعد موت والده متياس وقاومه وحطم معسكر أنطوخيوس، وخلص المدينة وطهر المقدس وأصلحه بدقة حسبما ورد في الشريعة. لقد وُصف هذا بوضوح في سفريّ المكابيِّين. القديس هيبوليتس الروماني "خرج نحو الجنوب" [9]، أي نحو مصر، فقد أراد الاستيلاء على مصر، لكن مجلس الشيوخ Senate أرسل إليه بومبيليوس Pompilius لكي يترك مصر، وبطريقته المملوءة خداعًا طلب من الرسول مهلة لكي يترك مصر، أما الرسول إذ كان ممسكًا بعصا صنع دائرة على الأرض حوله وقال: "قبل أن تخرج من هذه الدائرة تعطيني إجابة ولا تخدعني بالقول أنك تطلب مشورة المشيرين"، واضطر إلى ترك مصر. لكنه فيما بعد دخل في حرب ضد بطليموس فيلوباتير ملك مصر.اتجه نحو الشرق [9]، إذ امتدت مملكته حتى بتولمايس Ptolemais، وقد حارب الثائرين ضده في فارس. ثم إلى "فخر الأراضي" [9]، أي الأراضي المجيدة، أو أرض الموعد "كنعان". وكما جاء في إرميا "وأعطيكِ أرضًا شهية ميراث مجد أمجاد الأمم" (إر 3: 19)؛ "وأعطيتهم هذه الأرض التي حلفتُ لآبائهم أن أُعطيهم إياها أرض تفيض لبنًا وعسلًا" (إر 31: 22). دُعيَت فخر الأراضي أيضًا لوجود هيكل الرب المجيد في يهوذا، وقد حارب أنطيوخس اليهود ودنس هيكلهم. يتعظم أنطيخوس (أو ضد المسيح) حتى على جند السماء ويطرح بعضًا من الجند والنجوم إلى الأرض [10]. هكذا يُعلن الله لنبيِّه دانيال عن كنيسته أنها سماء، وأن المؤمنين هم جند المسيح وكواكبها. وكما قاوم أنطيخوس المؤمنين -كنيسة العهد القديم- وقتل كثيرين، هكذا سيبذل ضد المسيح كل جهده ليُحطم كواكب العهد الجديد. لهذا يقول السيِّد المسيح عن مجيئه الأخير: "متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟!" كما يقول عن ضد المسيح: "إن أمكن أن يضل حتى المختارين". لا يقف الأمر عند كواكب السماء أو جنودها، بل يتعظم العدو على رئيس الجند [11]، أي رئيس الكهنة اليهودي الذي اضطهده أنطيوخس أبيفانس. ويرى القديس جيروم أنه يقصد برئيس الجند الله نفسه رب الجنود، فقد وقف أنطيوخس ضده، ولم يترك جزءً من الهيكل مقدسًا لعبادة الله الحيّ، بل دنّس كل الهيكل وملحقاته. وإذ منع تقديم المحرقة الدائمة endelekhismos، صار هيكل الرب كأنه غير قائم. يقول القديس جيروم أن أنطيوخس فعل هذا ليس بسبب شجاعته وإنما بسبب خطايا الشعب. هذا كله يحمل رمزًا لما سيفعله ضد المسيح الذي يُقيم نفسه إلهًا. ولا يقف الأمر عند مقاومة عبادة الله، وإنما يمتد إلى إفساد التعاليم الإلهية، إذ يقول عنه أنه "طرح الحق على الأرض" [12]. هكذا تربط الرؤيا بين العبادة والتعليم السليم. من جانب آخر فإن عدو الخير يستطيع أن يطرح الحق على الأرض، لكنه لا يقدر أن ينتزعه عن السماء. وكأن من يحيا في السماويات يحمل بجوار العبادة الروحية الحق ذاته فيه. إذ ارتفع قلب دانيال إلى السماء رأى ملاكًا (قدوسًا) يسأل ملاكًا آخر، وإن كان البعض يرون أنه يسأل كلمة الله: "إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة...؟" فالملائكة لا يعرفون كل الأسرار (أف 3: 10)، لكن في حبهم للبشرية واشتياقهم إلى كمال مجدهم يتساءلون عما يخص الكنيسة، ولعلهم خشوا أن تطول مدة الضيقة فيفقد المؤمنون إيمانهم وأكاليلهم. اختلف الدارسون في أمر هذا القرن الصغير: أ. يرى البعض أنه هو بعينه القرن الصغير الوارد في الأصحاح 7. ب. آخرون يميِّزون بين الاثنين، فيرون أن القرن الصغير الوارد في الأصحاح 7 يُشير إلى ضد المسيح، بينما المذكور هنا يُشير إلى أنطيوخس أبيفانيس الذي اعتبره البعض "ضد المسيح" لفترة العهد القديم. ج. هناك رأي يوفق بين الرأيِّين السابقين وهو أن ما ورد هنا في الأصحاح الثامن يُشير إلى أنطيوخس الذي بدوره يُشير إلى ضد المسيح، وكأن ما ورد في الأصحاح السابع يُشير إلى ضد المسيح بصورة مباشرة، أما هذا الأصحاح فهو يُشير إليه بطريقة غير مباشرة. أما عن المدة الخاصة بتبرئة القدس أو تطهيره، وهي 2300 صباحًا ومساءً؛ لئلا تُفهم على أن اليوم هنا رمز لسنة يقول: "صباحًا ومساءً"، فيعني 2300 يومًا حقيقيًا. يرى القديس جيروم أنها تعادل 6 سنوات وثلاثة شهور، وهي تمثل المدة من بدء مقاومة أنطيوخس للعبادة حتى انتصر يهوذا المكابي عليه. بينما يرى القديس هيبوليتس الروماني أن 2300 صباحًا ومساءً تعني 1150 يومًا (2300÷2)، حيث مُنعت الذبيحتان اليوميتان (الصباحية والمسائية) أثناء الاضطهاد، وهي تُعادل حوالي ثلاث سنوات ونصف، حيث طهر يهوذا المكابي الهيكل بعد تدنيسه بواسطة أنطيوخس. كثير من المفسرين يرون أن 2300 صباحًا ومساءً تؤكد أنها أيام حقيقية، وهي تعادل 6 سنوات و4 شهور و20 يومًا نبويًا حيث أن السنة في الكتاب المقدس تعادل 360 يومًا نبويًا، والشهر 30 يومًا. هذه هي المدة الفعلية التي تبدأ من 5 أغسطس 71 ق.م، أي من بدء معصية الخراب، حيث تعين ياسون رئيس كهنة بالدسائس، وتعهد الملك بأن يدفع له 260 وزنة فضة إذا صرح له بإنشاء محل لتعليم شبان اليهود عادات الوثنيِّين وتسميتهم بالأنطيوخيِّين، فأذن له بذلك. وبالفعل أدخل عادات الوثنيِّين بين قومه وتزيوا بزيِّهم، ولبسوا قبعاتهم، فازدرى الكهنة بهيكل الله وذبائحه، وانشغلوا بالألعاب اليونانية، وفضلوها على كل شيء. وكما جاء في سفر المكابيِّين: "وفي تلك الأيام خرج من إسرائيل أبناء لا خير فيهم، فأغروا الكثيرين بقولهم: هلمُّوا نعقد عهدًا مع الأمم التي حولنا، فإننا منذ انفصلنا عنهم لحقنا شرور كثيرة؛ فحسن الكلام في عيونهم... وارتدّوا عن العهد المقدس، واقترنوا بالأمم، وباعوا أنفسهم لعمل الشرّ" (1 مك 1: 11-15). فإذا حُسبت نبوة دانيال من هذه الحادثة حتى إعادة العبادة إلى أصلها وتطهير المقدس في 25 ديسمبر 165 تكون المدة 2300 يومًا تمامًا. بمعنى آخر ما ورد هنا تشمل المدة التي حلّت فيها كل الكوارث على الهيكل في أيام أنطيوخس إبيفانُس من أول معصية الخراب إلى انتهاء مدة أبطال المحرقة الدائمة، حيث خلّص يهوذا المكابي اليهود من أنطيوخس. أما الأحداث المؤلمة التي تعرضت لها أورشليم في ذلك الحين فهي: أ. تعيين ياسون رئيسًا للكهنة واشتراكه مع أنطيوخس في الرجاسات الوثنية. ب. هجوم أنطيوخس على أورشليم ودخوله الهيكل ونهبه نفائس وتقديم خنزير على المذبح (1 مل 1: 20-28). ج. بعد سنتين إذ شاع خطأ خبر موته فتهلل اليهود، أرسل إليهم أبولونيس أحد قواده، فنكَّل بالمدينة ثم أحرقها ودكَّ أسوارها وبنى بأطلالها قلعة منيعة على جبل مطل على الهيكل (1 مك 2: 29؛ 2 مك 5: 11-14). د. منع رسميًا تقديم المحرقات والذبائح في الهيكل (1 مك 44: 51) وكان ذلك في شهر يونيو 197 ق.م. بخصوص ما حلّ باليهود على أيدي أنطيوخس إبيفانُس نميِّز بين مدتين رئيسيتين: أ. مدة 2300 يومًا تضم كل الأحداث السابقة، تبدأ بتوليّة ياسون رئيس كهنة وتنتهي بنصرة يهوذا المكابي. ب. مدة 1290 يومًا، أو حوالي ثلاث سنوات ونصف تبدأ بإزالة المحرقة الدائمة وإقامة تمثال جوبتر في الهيكل وتدنيس المقدس بعد استيلاء أنطيوخس على أورشليم بواسطة قائده أبولونيس. 5. تفسير الرؤيا: "وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا، وطلبت المعنى، إذ بشبه إنسان واقف قُبالتي. وسمعت صوت إنسان بين أولاي، فنادى وقال: يا جبرائيل فَهِّم هذا الرجل الرؤيا" [15-16]. اشتهى دانيال النبي تفسير الرؤيا بصورة أكمل، فقد عرف القليل، لكن لنفعه ولنفع الكنيسة ككل اشتهى أن يبحث عن المعنى، وقبل أن يسأل رأى "شبه إنسان" [15]؛ غالبًا ما يكون كلمة الله قبل التجسد الذي له سلطان أن يأمر رئيس الملائكة جبرائيل لكي يفسر له الرؤيا [16]. وكأن الله الذي يعرف خفايا القلب، إذ يرى الداخل مشتاقًا نحو الحق يقدمه له بفيضٍ، ويطلب من خدامه السمائيِّين أن يكشفوا له بعض الأسرار الخفية. "فجاء إلى حيث وقفت، ولما جاء خفت وخررت على وجهي. فقال ليّ: افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى. وإذا كان يتكلم معي كنت مُسبَّخَا (في نومٍ عميقٍ) على وجهي إلى الأرض، فلمسني وأوقفني على مقامي. وقال: هأنذا أُعرفك ما يكون في آخر السخط. لأن لميعاد الانتهاء" [17-19]. يبرر القديس جيروم دعوة دانيال "ابن آدم" بقوله: [إذ رأى حزقيال ودانيال وزكريا أنفسهم إنهم غالبًا ما كانوا في صحبة ملائكة، كانوا دائمًا يُذكرون بضعفهم حتى لا يرتفعوا بالكبرياء، ويظنوا إنهم يشاركون في طبيعة الملائكة أو كرامتهم. لذلك كانوا يُدعون كأبناء البشر (أبناء آدم)، ليتحققوا إنهم ليسوا إلاَّ كائنات بشرية]. إذ اقترب رئيس الملائكة من دانيال سقط النبي في رعبٍ. ولعل دانيال اكتشف خطورة الرؤيا، واهتمام الله بكشف أسرارها له عن طريق رئيس الملائكة، فاستقبل هذا التفسير في خوفٍ ومهابةٍ. وقد سجل لنا ذلك كي لا نستهين بالرؤيا أو نستخف بتفسيرها، بل يلزم أن تستعد أذهاننا كما حياتنا للتعرف عليها بروح الاجتهاد والجدية. أوضح الملاك له أن هذه الرؤيا "لوقت المنتهى" [17]، أي تخص المستقبل. هنا ربما يقصد إتمامها في أيام أنتيخوس وبالأكثر قُبيل مجيء المسيح الأخير. أنه يؤكد أن الرؤيا ستتحقق حتمًا وبالتمام، ولكن في الوقت المناسب والمحدد لها. أقامه رئيس الملائكة من نومه العميق، ليتقد ذهنه بالمعرفة، وطمأنه، كما أكد له هلاك هذا القرن الصغير. قيل أن أنطيوخس قد مات شر ميتة، حيث كان الدود يضرب في جسمه مثل هيرودس أغريباس الأول (أع 12). وهكذا سيُضرب أيضًا ضد المسيح وتهلك مملكته. "أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادي وفارس. والتيس العافي ملك اليونان، والقرن العظيم الذي بين عينيه هو الملك الأول. وإذ انكسر وقام أربعة عوضًَا عنه، فستقوم أربع ممالك من الأمة ولكن ليس في قوته. وفي آخر مملكتهم عند تمام المعاصي يقوم ملك جافي الوجه وفاهم الحيل. وتعظم قوته، ولكن ليس بقوته. يُهلك عجبًا وينجح ويفعل ويُبيد العظماء وشعب القديسين. بحذاقته ينجح، أيضًا المكر في يده، ويتعظم بقلبه، وفي الاطمئنان يُهلك كثيرين، ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر" [22-25]. سبق لنا شرح ما ورد في العبارات السابقة. هنا يؤكد رئيس الملائكة لدانيال معنى الكبش والتيس، نازعًا أدنى شك من جهة تفسيرهما. هنا يدعو أطيوخس ملكًا جافي الوجه، أي أنه ملك ذو وجهٍ قاسٍ لا يلين، كما يدعوه فاهم الحيل أو الأحاجي، لأنه كان بارعًا في الخداع. تنبأ دانيال النبي عن أنطيخوس قائلًا: أنه بالسلام أو الاطمئنان يُهلك كثيرين [25]، وقد تحقق ذلك عندما أرسل قائده ومعه 22000 رجلًا إلى أورشليم كإرسالية سلام. وكان هؤلاء الجنود يدخلون ويخرجون حتى اطمأن لهم اليهود، وكان الرجال يُعاملون الشعب بلطف شديد، فلم يتشككوا في أمرهم. وفي يوم السبت إذ كان اليهود يعبدون في الهيكل صدرت الأوامر بقتلهم جميعًا، فقُتل الآلاف، وهكذا بالاطمئنان أهلك كثيرين. تنبأ أيضًا دانيال النبي عن قيامه ضد رئيس الرؤساء وانكساره بغير يد بشرية [25]، وقد تم ذلك حين قاوم أنطيوخس أبيفانس الله نفسه، رئيس الرؤساء وملك الملوك. وبقي هكذا لمدة أكثر من 6 سنوات (2300 يومًا). قاومه المكابيُّون، وعلى أيديهم تطهَّر الهيكل وتحققت النصرة عليه. سمع أن اليهود تحت قيادة المكابيِّين قد أزالوا تمثال جوبتر أوليمبياس من الهيكل الذي وضعه بنفسه هناك، فثار جدًا وجمع جيشًا ضخمًا وقرر إبادة الجنس اليهودي تمامًا، لكنه أصيب بألم حادٍ جدًا في أحشائه، ومات حالًا من شدة الألم، وهكذا هلك بسماحٍ إلهي دون استخدام يد بشرية. "فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق. أما أنت فاكتُم (اختم على) الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة. وأنا دانيال ضَعفت ونحلت أيامًا، ثم قُمت وباشرت أعمال الملك. وكنت متحيِّرًا من الرؤيا ولا فاهم" [26-27]. بقوله: "فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق" [26]، يعني أن الرؤيا هي حق بوجهها المظلم حيث الضيقة الشديدة، ووجهها المشرق حيث يُعلن الله عن نصرة شعبه. لم يحتمل دانيال الرؤيا فصار مريضًا غير قادرٍ على مفارقة الفراش وذلك إلى أيام. ولكنه كان مرتعبًا مما سيحل بالكنيسة سواء في عهد أنطيوخس أو ضد المسيح. لكنه كما يقول القديس جيروم : [قام ليباشر أعمال الملك، فيعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (لو 20: 25). على أي الأحوال لم يُدرك دانيال كل أسرار الرؤيا، ومستقبل ختومها مع الأزمنة، إذ يقول: "كنت متحيِّرًا من الرؤيا ولا فاهم" ]. الإمبراطوريات الأربع في سفر دانيال من وحيّ دانيال 8 صرت متحيِّرًا ولا فاهم! * رافق جبرائيل رئيس الملائكة نبيك دانيال، وقدم له تفسيرًا لبعض أسرارك، وها هو يصرخ بعد أن انحلّ جسده في ضعفٍ: كنتُ متحيِّرًا من الرؤيا ولا فاهم! * لتكشف ليّ أسرار حبك، فأرى التاريخ كله في قبضة يديك، وأرى حياتي كلها موضوع اهتمامك! هب ليّ صحبة ملائكتك، لكن ذكرني بضعفي لئلاَّ أتشامخ. اذكر إنيَّ ابن آدم الضعيف. بك أصير قويًا وفهيمًا! * لتتعاقب الممالك القوية، ويظهر ضد المسيح، فأنت وحدك حصن الكنيسة وقوتها! لن تسمح له أن يملك إلاَّ إلى زمن محدود! تنتهي مملكته، ويملك قديسوك في السماء إلى الأبد! |
|