نداء المضطهدين
المزمور الرابع والخمسون
1. المزمور الرابع والخمسون هو مزمور توسّل ينشده المرتّل، وهو أحد مساكين الرب، في الهيكل، حيث يسكن الله (1 مل 8: 16). يطلب المعونة من الرب بعد أن يعرض عليه حالته، ثم يعده بأن يقدّم إليه ذبيحة شكر ويهتف باسمه. نرى في هذا المزمور عبارات تعوَّدنا أن نقرأها في مزامير أخرى: خلصني (3: 8؛ 6: 5)، أحكم لي (7: 9؛ 26: 1)، استمع إلى صلاتي (4: 2؛ 17: 1)، أصخ لأقوال فمي (5: 2). ونلاحظ اختلافًا في العنوان بين النسخة العبرية (خوف داود من شاول) والترجمة السريانية (خوف داود من أبشالوم). المناسبة التي قيل فيها المزمور أمر ثانوي، أما العاطفة التي يعبّر عنها فهي الاهم، وهي تتكيّف بحسب ظروف الإنسان.
2. الرب عوننا في خطر الموت وهو يخلّصنا.
آ 3- 4: نداء إلى الرب.
ينادي المرتّل الرب بعد أن اتّهمه أعداؤه طالبين موته. يلتفت إلى الرب عونه الوحيد: خلاصه باسم الرب (أع 3: 6: باسم يسوع نخلص) الذي أوحي به على جبل سيناء على أنه يتدخّل من أجل شعبه، وأنه الاله الأمين الذي بدأ خلاصه مع ابراهيم ولا يزال يتابع مخطّطه الخلاصي.
آ 5: صورة عن الخطر.
آعداؤه هم شهود زور يهدّدون حياته. لا يذكر المزمور التفاصيل، ولكن حتى وإن ذكرها المرتّل، فقد تكون حُذفت فيما بعد لتكيّف صلاة المزمور مع حالات النفوس المتعددة. هؤلاء الأعداء لم يضعوا الله أمامهم، أي لا يهمّهم أمر الله، فتحوّلوا إلى آلهة أخرى.
آ 6- 7: ثقة المرتّل بالرب، لا بالآلهة الكاذبة.
الله هو عونه وناصره، ولا أحد سواه. خلاص الرب أمر واقعيّ ملموس، لأن الرب هو المخلّص، وهو يعرف أن يعيد الشر على رؤوس المفكرين بالشر. هي ثقة بالله ودعاء على الأعداء وتذكير لله بأمانته وهو الذي قطع عهدًا مع شعبه ومع كل فرد من أفراد الشعب.
آ 8- 9: يعد المرتّل بتقدمة ذبائح شكر إلى الله والنداء باسمه.
وينذر المرتّل للرب نذرًا بعد أن تأكّد مسبقًا مساعدة الله له: يتذكّر اسم الله وقدرته وعونه وخلاصه وأمانته، وها هو بملء إرادته سيتبرعّ بالذبائح للرب لأنه صالح. سيحبّ المرتّل الله جوابًا على حبه له، سيكون أمينًا لله جوابًا على أمانة الله له.
3. صلى إرميا النبيّ في ضيقه فوعده الرب: "أنا معك لاخلّصك وانجّيك. أخلّصك من أيدي الأشرار وأفتديك من قبضة المنافقين" (ار 15: 20- 21). وهذا ما يطلبه المرتّل متّكلاً على اسم الله وعلى قدرته (إر 10: 6: اسمك عظيم بقدرته) وحضوره وعمله في العالم. يغمض المتكبرون عيونهم عن قدرة الله التي تتجلّى في الكون، ويحسبون أنهم يستطيعون أن يُهلكوا حبيب الله، ولكنهم نسوا ما قاله الرب: "لا تخف فإني معك، ولا تتلفت فأنا إلهك. قد قوّيتك ونصرتك وعضدتك". (أش 41: 10).
4. ننشد هذا المزمور فنرى من خلاله صراعًا لا يزال حاضرًا بين الإيمان بالله والعداوة له. وهذا ما حدث ليسوع خلال حياته على الأرض حتى إنه قال: "من أبغضني أبغض أبي أيضًا" (يو 15: 23). وقد جعل يسوع من الصراع بين النور والظلمة رمزًا إلى قدرة الله وأمانته التي تنتصر رغم كل معارضة بشريّة.
5. الخلاص
هذا المزمور القصير يقدّم لنا ملخِّصًا عن عمل الخلاص كما نراه في الليتورجيا. مع أزمنة ثلاثة: عرض الوضع، اللجوء إلى الرب، الشكر له. وهكذا يتحوّل النظر من أعداء يضايقون المؤمن إلى إله يتدخّل من أجل أتقيائه. وفي النهاية نتطلّع إلى ذلك الذي نعم بحماية الرب فأطلق له نشيد شكره.
كيف يبدو الخصم الذي يضايق المؤمن؟ إنسان عنيف ووقح. يهجم بقساوة على الفقير فيتجاهل أن الله يتدخّل في الوقت المناسب. ولكن الله لا يتأخّر: يعين أخصّاءه ويفني "أعداءه". أو هو بالأحرى يزيل سبب الشرّ في العالم فيعيش شعبه في أمان. يعلن المؤمن ثقته بالله، ويقول ما يقول عن خصومه، ويستند إلى أمانة الله التي لا تتزعزع.
ويأتي المصلّي فيقدّم ذبيحته ويعلن اسم الله كما في مز 16: 17: "إرجعي يا نفسي إلى هدوئك، لأن الرب أحسن إليك".
6. أيها الرب خلّصني باسمك
أنت تستجيب لي يا ربّ، لأنني أصرخ إليك في ضيقي. قال المرتّل في ما سبق: "أصرخ إليك النهار كله". فأنا كل النهار في الضيق. لا يقدر أي مسيحي أن يقول إنه عرف يومًا لم يكن فيه محنة. النهار كله يعني دومًا. إنه مجرَّب النهار كله.
هل نستطيع أن نتكلّم عن ضيق حين تسير الأمور في الطريق الحسن؟ لا شكّ. فما دمنا نسير في هذا الجسد فنحن بعيدون عن الرب. مهما كنا مرتاحين فنحن لسنا بعدُ في الوطن حيث نريد الرجوع على عجل.
فالذي يحبّ منفاه لا يحبّ وطنه. فإن كان الوطن عذبًا له فالمنفى مرٌّ له. وإذا كان المنفى مرًّا عليه فالضيق يرافقه النهار كله. ومتّى يزول الضيق؟ حين نذوق أفراح وطننا. "أشاهد وجهك وأتذوق لذائذك".
هناك يختفي التعب والنواح. هناك لا تضرُّع بل تسابيح. هناك هللويا، هناك آمين. هناك صوت موافق لصوت الملائكة، ورؤية لا ضباب فيها، وحب لا ملل فيه. ما دمتَ لست هناك فلست بسعيد كما ترى.
ولكن تقول: لا شيء ينقصني.
هل أنت متأكّد أن خيراتك لن تفلت من يدك؟ أما كنت أكثر طمأنينة لما كنت أكثر فقرًا؟ وإن كنت متأكدًا أنك ستتنعم إلى الأبد بخيرات الدنيا الوافرة وأن الله سيقول لك: "لن ترى وجهي"، فهل ستجد أيضًا سعادة في كل هذه السعادات؟ إذا كان جوابك بالإيجاب فأنت ما بدأت بعد أن تحب الله وتتأوّه كمنفيّ بعيد عن بلده. إلى الوراء، إبعدي يا اغراءات كاذبة.
فلنرفع قلبنا إلى فوق ولنغرق بالدموع ولنبك، ونحن نعترف ونتأوَّه في شقائنا. كل شيء مرّ خارجًا عن الله. فما تهمنا كل العطايا إذا كان الذي أعطي كل شيء لا يعطي ذاته؟ (أوغسطينس).