مزمور 69 - تفسير سفر المزامير
كتب داود هذا المزمور وهو في ضيقة عظيمة، فكان كمن يصرخ من الألم، بل كان يشعر أنه في طريقه للموت المؤكد، ويصرخ لله ليخلصه.
وكان داود في هذا رمزًا للمسيح، وهناك آيات كثيرة من هذا المزمور طبقها العهد الجديد على المسيح.(الآية 4 وردت في يو 15: 25)( الآية 9 وردت في يو 2: 17 + رو 15: 3) (الآية 21 وردت في مت 27: 34 والآيات 22، 23 وردوا في رو 11: 9، 10) وهو رفيق للمزمور 22. وكلاهما يبدأ بآلام المسيح وينتهي بمجده. ويضاف لهذا النبوات الخاصة بخراب إسرائيل لصلبها المسيح.
ونرى في هذا المزمور أيضًا صورة لآلام الكنيسة جسد المسيح، التي أوصلها مضطهدوها إلى حافة الموت لكن الله خلصها وأنقذها وخرب أعداؤها. والمجد الذي صار لها.
وتستخدم الكنيسة في صلوات التجنيز للمنتقلين من أبنائها آيات كثيرة من هذا المزمور وكأنها ترى أنهم ماتوا مع المسيح ليكون لهم قيامة مع المسيح في مجده.
الآيات (1-3): "خلصني يا الله لأن المياه قد دخلت إلى نفسي. غرقت في حمأة عميقة وليس مقر. دخلت إلى أعماق المياه والسيل غمرني. تعبت من صراخي. يبس حلقي. كلّت عيناي من انتظار الهي."
الأحزان والبلايا يصورها داود بمياه أحاطت به وستغرقه (يون5:2) فيموت غرقت في حمأة عميقة = داود مهما زادت آلامه فلم يحدث له أن غرق فعلًا. ولكنه بروح النبوة يتكلم عن المسيح الذي مات فعلًا. وصراخ المسيح تكلم عنه الرسول في (عب7:5). أما بالنسبة لداود فنفهم أن الأحزان والحيرة أغرقته في همومه. ولنلاحظ أن الأحزان دخلت للعالم بالخطية. ليس.. مقر= كأنه في مياه عميقة لا يجد أرضًا يستقر عليها= أي هو بلا أي شيء يسنده ولقد قال المسيح في آلامه "الآن نفسي قد اضطربت".
آية (4): "اكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب. اعتزّ مستهلكيّ أعدائي ظلما. حينئذ رددت الذي لم اخطفه."
طبقها المسيح على نفسه" (يو25:15). وأعداء المسيح كانوا من اليهود والرومان والشياطين. وهكذا أعداء الكنيسة جسد المسيح. والأعداء كثيرين = أكثر من شعر رأسي. وأقوياء = اعتز مستهلكيَّ = من يريدون تدميري هم أقوياء معتزون. وهم يظلمونه بلا سبب وظلمًا = وهذا ما فعله إبليس بآدم وحواء، ثم بداود وبالمسيح وبالتالي كنيسته. ومن قوة الأعداء يقول داود حينئذ رددت الذي لم أخطفه = فهو لم يخطف من أعدائه شيء، وهو لم يظلمهم، ولكنهم جعلوه يعاني كل هذه المعاناة بلا سبب جناه، وربما هو أعطاهم ما يهدئ من غيظهم ليهدأوا. وهكذا المسيح تحمل عقوبة كان يجب أن أتحملها أنا، هو دفع ديوننا، عانى بسبب تعدياتنا. وتعني أيضًا أن المسيح لم يخطف منا سلامنا وفرحنا ومجدنا فلقد ضاع من الإنسان سلامه ومجده وفرحه، ولم يكن المسيح هو الذي أخذهم، بل كان ذلك نتيجة الخطية. ولم يحجب الله نفسه عن آدم بعد أن اخطأ ، بل آدم هو الذي اختبأ من الله...والمسيح ردَّ لآدم ولنا أكثر مما فقدناه.
آية (5): "يا الله أنت عرفت حماقتي وذنوبي عنك لم تخف."
يا الله أنت عرفت حماقتي = أنت تعلم يا رب كل ذنوبي، وتعلم أن ما ظلموني به أنا برئ منه وبلسان المسيح، فالآب يعلم أنه بلا خطية لكنه صار خطية لأجلنا وحمل خطايانا.
آية (6): "لا يخز بي منتظروك يا سيد رب الجنود. لا يخجل بي ملتمسوك يا إله إسرائيل."
داود يطلب أن يخلصه الله حتى لا يرى أصدقاؤه من القديسين أن الله لم يتدخل لينقذه ويكون هذا سببًا في يأسهم وإحباطهم، ويكون هذا سببًا في أن أعداء القديسين يشمخون على الله وعليهم. وكل من كان ينتظر المسيح، لو لم يقم المسيح لكانوا في خزي وخجل.
آية (7): "لأني من أجلك احتملت العار. غطّى الخجل وجهي."
هذه بلسان المسيح ويوجه كلامه لآدم = لأني من أجلك احتملت العار (عار الصليب). وهذه الآية تفهم أيضًا أنها موجهة للآب ، فالمسيح الابن لمحبته للآب قبل كل هذه الآلام والاحتقار.
آية (8): "صرت أجنبيًا عند اخوتي وغريبًا عند بني أمي."
لأجل آدم طرد المسيح من أهل بيته وأخوته. وحتى الآن فالمسيح مرفوض من اليهود (يو 1: 11).
الآيات (9-11): "لأن غيرة بيتك أكلتني وتعييرات معيّريك وقعت عليّ. وأبكيت بصوم نفسي فصار ذلك عارًا عليّ. جعلت لباسي مسحًا وصرت لهم مثلًا."
غيرة بيتك أكلتني وتعييرات معيّريك وقعت عليّ = هنا نرى داود الذي يتقد قلبه بحب الله، يغير على بيت الله، وهؤلاء الأشرار الموجودين الآن في بيت الله بحكم مراكزهم وبخطاياهم صاروا سببًا في أن الآخرين من الأغراب يعيرون الله بسبب ما يحدث من شعبه وما يحدث داخل بيته ، من فساد سببه شعب الله. وهؤلاء سببوا لداود ألامًا شديدة وكأن كل تعييراتهم لله قد وقعت على داود. لقد كانت التعييرات ضد الله أشد قسوة على داود من الآلام الشخصية التي ألحقوها به. ولذلك أوصانا المسيح قائلًا "لكي يري الناس أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السموات".
ولقد طبقت الآية على المسيح حين طرد الباعة من الهيكل (يو17:2) وطبقت عليه في (رو3:15) للتدليل على أن المسيح كان ينكر ذاته، إذ حسب أن أي تعيير للآب يقع عليه هو، فقام بطرد الباعة من الهيكل مما أهاج الجماهير ضده، واحتمل هذا لمحبته للآب. وارتد هذا عليه فقد أهانوه بسبب ذلك، فكانت شهادة المسيح عن الآب لا ترضى اليهود ويهينونه بسببها فغيرة المسيح على مجد الآب أكلت ما تبقي من حب هؤلاء اليهود له.
وداود حين صام وصلى عيَّره هؤلاء الأشرار لثقته في الله وأنه مازال مؤمنًا به. وهو لبس المسوح ليريهم كيف أنه يلجأ لله فزادوا من سخريتهم. لقد أخلى داود ذاته بهذا ليصير رمزًا للمسيح الذي أخلى ذاته فعلًا وصار إنسانًا فسخر منه الجميع، وحين صام جربه إبليس (رو3:8). صرت لهم مثلًا = صار داود رمزًا للمسيح. وتفهم أنه صار لشعبه مثلًا في انسحاقه أمام الله وفي طهارته لكي يتمثلوا به فيرضي الله عنهم.
آية (12): "يتكلم فيَّ الجالسون في الباب وأغاني شرّابي المسكر."
الجالسون في الأبواب = القضاة والحكام ورؤساء الكهنة هؤلاء سخروا منه = يتكلم في بل حتى السكيرين وأسافِل الناس صرت سخرية لهم = وأغاني شرابي المسكر = فرحوا بآلامه وجعلوها أغنيتهم (مت40:27-43).هنا نفهم كيف صار داود مثلًا للمسيح = فاليهود كما سخروا من داود حينما لبس المسوح سخروا من المسيح ابن الله المتجسد
آية (13): "أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضى يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك."
فِي وَقْتِ رِضًى = هو وقت الصليب الذي قبل فيه الآب شفاعة المسيح الكفارية عنا.
بحق خلاصك= لقد خلصتنى مرارا بالحقيقة فصرت متأكدا أنك ستخلص حينما أطلبك.
الآيات (14-20): "نجني من الطين فلا اغرق نجني من مبغضيّ ومن أعماق المياه. لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية عليّ فاها. استجب لي يا رب لأن رحمتك صالحة. ككثرة مراحمك التفت إليّ. ولا تحجب وجهك عن عبدك. لأن لي ضيقا. استجب لي سريعا. اقترب إلى نفسي. فكها. بسبب أعدائي افدني. أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي. قدامك جميع مضايقيّ. العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن ومعزّين فلم أجد."
الآيات (14، 15) يصليها داود لينقذه الله من آلامه. وبلسان المسيح ليقيمه الله من الأموات، وبالتالي يخلصكنيسته.وبالنسبة لداود فقد كان عاره بسبب خطيته (زنا وقتل في بيته)، أما بالنسبة للمسيح فقبل العارعنا.
آية (21): "ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني خلًا."
هي نبوة واضحة عن المسيح. وبالنسبة لداود فأعداؤه مرروا حياته.
الآيات (22-25): "لتصر مائدتهم قدامهم فخا وللآمنين شركا. لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائما. صبّ عليهم سخطك وليدركهم حمو غضبك. لتصر دارهم خرابا وفي خيامهم لا يكن ساكن
نبوة بالنكبات التي وقعت على اليهود لصلبهم المسيح والآيات (22،23) طبقها الرسول على اليهود (رو9:11،10) ولذلك تفهم كل الآيات على اليهود من (22إلى 25)
في (21) هم قدموا له علقم وخلًا.. عقابهم لتصر مائدتهم (خيراتهم) لهم فخًا (22)
في (3) جعلوه يتعب وتكل عيناه.. عقابهم لتظلم عيونهم.. وقلقل متونهم (23)
في (4) أبغضوه بلا سبب.. عقابهم صب عليهم سخطك (24)
في (8) صار بسببهم مرفوضًا من أهله.. عقابهم لتصر دارهم خرابًا (25)
لتصر مائدتهم قدامهم فخًا= تفهم بعدة تفسيرات:
[1] الكتاب المقدس بعهده القديم الذي كان بين أيديهم مملوءاً نبوات عن المسيح، وهم لم يفهموها أو هم حرفوا معناها، فصارت شاهداً عليهم= فَخًّالهم.
[2] هم قدموا المسيح كذبيحة وفرحوا بأن قدموه كما يقدمون ذبيحة على مائدتهم وابتهجوا بقوتهم وحكمة تدبيرهم وصار هذا لهم فخًا، فهم تصوَّروا في نشوة قوتهم أنهم قادرين أيضًا على الرومان فثاروا عليهم وكان هذا سببًا لأن يحطم الرومان أورشليم تمامًا.
[3] بعد مجيء المسيح انعدمت قيمة محرقاتهم وذبائحهم فلقد جاء المسيح المرموز إليه بهذه الذبائح وكان استمرارهم في تقديمها فخًا لهم، فلمن يقدموها والله قد رفضها.
لتظلم عيونهم = لم يعد بينهم من يفهم النبوات بسبب عنادهم، فهم لم يفهموا معنى ظلمة يوم الصليب. وقلقل الله متونهم = من ثقل الشدائد التي حملوها 2000 سنة. وصارت دارهم خرابًا وتشتتوا في كل العالم = في خيامهم لا يكن ساكن.
آية (26): "لأن الذي ضربته أنت هم طردوه وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون."
كان المسيح هو الذي ضربه الآب، ولكنهم هم الذين طردوه. فالآب كان يريد هذا الفداء ليخلص شعبه، وهم لم يكن لهم أي سلطان علي المسيح إن لم يكن الله قد أعطاهم هذا السلطان (يو 19 : 11). وهم لاحقوا المؤمنين بالمسيح بالإضطهاد. وكانوا يَتَحَدَّثُونَ ويتآمرون علي المسيحيين لإلحاق الاذي بهم فيتوجعوا = بِوَجَعِهم. وهم جرحى إيمانهم بالمسيح. الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ = مرة ثانية نري أن الآب هو الذي سمح للمسيحيين أن يتألموا ويجرحوا لأجل المسيح فهذه الألام بعد إيمانهم تعمل علي تنقيتهم فيلمع إكليلهم. وشركاء صليب المسيح هم شركاء مجده. ولكن يجب أن نفهم حكمة الألم، فبه نكمل (عب 2 : 10) ولكن اليهود تكلموا عليهم بشر كراهيتهم لهم ليحزنوهم ويوجعونهم وظن اليهود أن هذا بسلطانهم ، ولم يفهموا أنهم أداة تطهير لشعب الله.
الآيات (27، 28): "اجعل إثمًا على إثمهم ولا يدخلوا في برك. ليمحوا من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يكتبوا."
كانت خطاياهم كثيرة وزادت بل كملت بصلبهم للمسيح= اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ وزادت بإضطهاد شعبه. وهذه أيضا ألام يضعونها علي جسد المسيح (كو 1 : 24). ومايضاعف خطيتهم إنكارهم حتى الآن للمسيح وإهانتهم له . ومن يرفض المسيح الإله يعدم الحياة التي هي هبة للمؤمنين. وقطعاً لن يتبرروا= لاَ يَدْخُلُوا بِرِّكَ .
آية (29): "أما أنا فمسكين وكئيب. خلاصك يا الله فليرفعني."
فيها مقابلة لطيفة بين ضعف الإنسان مع نعمة الله التي تخلص وترفع.
الآيات (30، 31): "اسبح اسم الله بتسبيح وأعظمه بحمد. فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف."
الله يفرح بالتسبيح أكثر من الذبائح العظيمة ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ. أي عجول كاملة السن سمينة معلوفة ذات قيمة مادية كبيرة. وتسبيح المتألم هو أعظم من أي محرقات (هو 14 : 2) . وقطعا لن يستطيع المتألم أن يسبح إن لم يدرك محبة الله وحكمته في الألم الذي يسمح به ، وإن لم يفهم والفهم غير مهم الآن وإن كنا "سنفهم فيما بعد" ، فليسبح الله لأنه صانع خيرات "وأن كل الأشياء تعمل معا للخير لمن يحبون الله" (رو8 : 28 + يو13 : 7) .
آية (32): "يرى ذلك الودعاء فيفرحون وتحيا قلوبكم يا طالبي الله."
كل من صار وديعاً على صورة مسيحه يفرح بالخلاص أكثر من كل كنوز الدنيا. الألم يُكَمِّل المسيح (عب 2 : 10) وذلك ليشابهنا في كل شئ حتى فى الآلام، ونحن نكمل بالآلام لنشبه المسيح حينما نتنقى (غل4 : 19) .
آية (33): "لأن الرب سامع للمساكين ولا يحتقر أسراه."
لقد خلص الله كل الأسرى القديسين من الجحيم.
آيات (34-36): "تسبحه السموات والأرض البحار وكل ما يدبّ فيها. لأن الله يخلص صهيون ويبني مدن يهوذا فيسكنون عناك ويرثونها. ونسل عبيده يملكونها ومحبو اسمه يسكنون فيها"
صهيون هي جماعة المؤمنين. ويبني مدن يهوذا= كثرة الكنائس في أقطار الأرض كعربون لسكنى المؤمنين الدائم في أورشليم السماوية.