11 - 03 - 2014, 06:04 PM | رقم المشاركة : ( 31 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في هروبه من الجموع ومحبته للاختلاء كان السيد المسيح يعمل من أجل خير الناس وخلاصهم وراحتهم وشفائهم، ولكن لم يكن إعجاب الجموع به يجتذبه نحوهم على الإطلاق.. كانت محبته هي التي تدفعه لأن يعمل في وسط الجموع، وليس طلبًا لمجد الناس. فالمحبة دائمًا تريد أن تعطى.. حتى إنها تبذل نفسها من أجل الآخرين. وقد أبرزت الأناجيل المقدسة هذا الأمر بوضوح في عديد من المواقف. ومن أمثلتها ما يلي: 1- في اختلائه وصلاته بعدما "أخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه" (مر1: 34). يذكر معلمنا مرقس الواقعة التالية: "وفى الصبح باكرًا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلى هناك. فتبعه سمعان والذين معه. ولما وجدوه قالوا له إن الجميع يطلبونك. فقال لهم: لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضًا لأني لهذا خرجت. فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل، ويخرج الشياطين" (مر1: 35-39). * كان السيد المسيح يتوقع أن تأتى الجموع إليه بغزارة شديدة بعد أن صنع كثير من المعجزات، وأخرج شياطين كثيرة، وهو الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء الذين صنعوا معجزات منذ القديم، إذ لم يكن لأحد سلطان على الشيطان مثل هذا السلطان العجيب. وقبل أن تحضر هذه الجموع قام باكرًا جدًا في الصباح، ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلى هناك.. * تُرى ماذا كان يقول للآب السماوي في صلاته هذه؟ لعله كان يكلمه عن "شقاء المساكين وتنهد البائسين" (مز11: 5) الذين تسلط عليهم إبليس، ورغبته الحارة في خلاصهم.. أو لعله كان يشكره من أجل محبته الأبوية الفياضة، التي حررت كثيرًا من البشر من سلطان الشيطان، والتي أكدّت أن ملكوت الله قد أقبل.. هذه المناجاة الممتلئة من الحب المتبادل بين الآب والابن؛ وهذا الاتضاع الذي سلك فيه الابن الوحيد، حينما أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، وهذه الطاعة العجيبة التي قدّمها السيد المسيح لأبيه السماوي.. لاشك أنها قد أسعدت قلب الآب القدوس. إنها علاقة الثقة والحب بين الله والإنسان، التي حققها الكلمة المتجسد في علاقته بالآب (باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عنى..( القداس الغريغوري. كان يحلو للسيد المسيح أن يخلو مع الآب، ليتكلّم معه، حديث من يصنع للآب كل مشيئته. وقد علّمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أهمية الخلوة والصلاة والحديث مع الله. فالصلاة هي التي تجعلنا نفهم مشيئة الله في حياتنا. وهى فرصة للتعبير عن حبنا وشكرنا لأبينا السماوي. كما إنها فرصة لتسبيحه وتمجيد اسمه "ليتقدس اسمك" (الصلاة الربانية). كانت الصلاة بالنسبة للسيد المسيح هي فرصة لتأكيد دور الآب السماوي في إرسالية الابن الوحيد، ولتأكيد الوحدة الجوهرية القائمة بين أقانيم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس. * حينما وصلت الجموع وبحثوا عن السيد المسيح ولم يجدوه، سألوا عنه تلاميذه. وهؤلاء بدورهم بحثوا عنه حتى وجدوه في خلوته المقدسة. فقالوا له: "إن الجميع يطلبونك" (مر1: 37). كان إحساس التلاميذ بأهمية الجموع مختلفًا عن إحساس السيد المسيح.. وكانت نظرتهم للموضوع، في ذلك الوقت، تختلف عن نظرته. فأجابهم: "لنذهب إلى القرى المجاورة".. لم يكن للجماهير تأثير ولا جاذبية تعطل قصد الآب السماوي في إرسالية السيد المسيح. ولهذا قال: "لنذهب إلى القرى المجاورة لأني لهذا خرجت".. لقد خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، وأيضًا يترك العالم ويمضى إلى الآب.. وكانت الإرسالية قصيرة في مدتها، عميقة في تأثيرها.. ولم يكن العالم قادرًا أن يجتذب السيد المسيح نحوه ليبقى فيه، بل كان مشتاقًا أن يمضى إلى الآب، وكان العمل كبيرًا متسعًا للكرازة بالتوبة وباقتراب ملكوت الله.. وكان السيد المسيح يرى الصليب ماثلًا أمام عينيه باستمرار، كطريق نحو السماء،وهو الذي قال لتلاميذه بعد قيامته "كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" (لو24: 26). وفى سعيه نحو الصليب، لم يكن هناك متسع من الوقت للانشغال بالجموع وإعجابها، كما لم يكن هناك متسع في القلب لمثل هذه الأمور.. بل كان القلب ساعيًا مثبتًا نحو الجلجثة. وبالفعل ترك السيد المسيح ذلك الموضع إلى القرى المجاورة، وكان يكرز في مجامعهم ويخرج الشياطين. 2- في اختلائه مع التلاميذ ليستريحوا يذكر أيضًا معلمنا مرقس الإنجيلي الواقعة التالية: "واجتمع الرسل إلى يسوع، وأخبروه بكل شيء، كل ما فعلوا وكل ما علموا، فقال لهم تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلًا. لأن القادمين والذاهبين كانوا كثيرين. ولم تتيسر لهم فرصة للأكل. فمضوا في السفينة إلى موضع خلاء منفردين" (مر6: 30-32). وكان السيد المسيح يُقدِّر أهمية الراحة والخلوة بالنسبة لتلاميذه، وفي فترات الاختلاء بهم كان يحدثهم أحاديثًا خاصة، ويشرح ويفسّر لهم الكثير من تعاليمه. كما أنه قد اختارهم ليكونوا معه ليتتلمذوا على يديه، ويتمثلوا به، وبمحبته، ووداعته، وصفاته الجميلة التي كانوا هم في أشد الاحتياج إليها. كان السيد المسيح يعلمهم بأفعاله أكثر مما يعلمهم بأقواله. وما حدث بعد ذلك أن "رآهم الجموع منطلقين، وعرفه كثيرون، فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة وسبقوهم واجتمعوا إليه. فلما خرج يسوع رأى جمعًا كثيرًا فتحنن عليهم، إذ كانوا كخراف لا راعي لها" (مر6: 33، 34). ضحى يسوع براحته بدافع من حنانه. ولكنه كان يميل إلى الاختلاء مع تلاميذه، بعيدًا عن الجموع، التي كانت تلاحقه وهو لم يكن يمنع محبته عنها، ويعلم تلاميذه باستمرار، كيف أن المحبة لا تطلب ما لنفسها. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:06 PM | رقم المشاركة : ( 32 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في إخفائه لاهوته قد يخفى القديسون فضائلهم الروحية، بدافع الاتضاع، ولكن قدوس القديسين أخفى لاهوته في مناسبات كثيرة. ولكن بالطريقة التي لا تتعارض مع الإيمان به، باعتباره المخلّص الحقيقي القادر على هزيمة الموت.. إثبات السيد المسيح لألوهيته لم يحدث إطلاقًا بدافع الافتخار بالنفس، أو حب الظهور، أو طلب المجد من الآخرين. بل سمح به الرب لإتمام رسالة الفداء والخلاص وغفران الخطايا وتأسيس الكنيسة المقدسة. وقد احتارت الشياطين في أمر السيد المسيح؛ الذي كان يخفى لاهوته عن الشيطان.. ولم يكن الشيطان قادرًا أن يفهم معنى التواضع وإخلاء الذات. وبالاتضاع هزم السيد المسيح إبليس بكل فطنة وحكمة روحية كقول معلمنا بولس الرسول: "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة" (أف1: 7، 8). تعالوا بنا لنرى كيف كان السيد المسيح يخفى لاهوته في مواضع كثيرة: 1- في إخراجه للشياطينيذكر إنجيل معلمنا مرقس الوقائع التالية: بعد أن "انصرف يسوع مع تلاميذه إلى البحر، وتبعه جمع كثير من الجليل، ومن اليهودية، ومن أورشليم، ومن أدومية، ومن عبر الأردن، والذين حول صور وصيداء، جمع كثير إذ سمعوا كم صنع (من المعجزات والأعمال الممتلئة حبًا) أتوا إليه.. لأنه كان قد شفى كثيرين، حتى وقع عليه ليلمسه كل من فيه داء. والأرواح النجسة حينما نظرته خرّت له وصرخت قائلة إنك أنت ابن الله. وأوصاهم كثيرًا أن لا يظهروه" (مر3: 7-12). لم يكن السيد المسيح يرغب في الإعلان عن نفسه بهذه الطريقة، كما إنه لا يقبل شهادة إبليس عنه وعن بنوته للآب السماوي. وقد حيّر السيد المسيح الشياطين برفضه لشهادتهم عن بنوته لله.. لأن الشيطان لا يفهم الاتضاع. كان الشيطان يتخبط في معرفته عن السيد المسيح. فتارة يقول له: "إن كنت ابن الله" (لو4: 3). وتارة يقول: "إنك أنت ابن الله" (مر3: 11). عبارة "أوصاهم كثيرًا أن لا يظهروه" تؤكد كيف حاول السيد المسيح أن يخفى لاهوته، كما أنه في مناسبات كثيرة كان يتعمد إثبات حقيقة إنسانيته وتجسده. ويذكر إنجيل معلمنا لوقا الأمور التالية: حينما ذهب السيد المسيح إلى كفر ناحوم "وكان في المجمع رجل به روح شيطان نجس، فصرخ بصوت عظيم قائلًا: آه مالنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله. فانتهره يسوع قائلًا اخرس واخرج منه. فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يضره شيئًا" (لو4: 33-35). ويلاحظ هنا أيضًا أن السيد المسيح قد انتهر الشيطان الذي قال "أنت قدوس الله" لأنه لا يقبل شهادة الشيطان عنه كما أنه لا يريد أن ينتشر هذا القول بين الناس في وقت مبكر قبل قيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات. أما اعتراف التلاميذ "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16). فقد طوّبه السيد المسيح لأنه هو أساس الإيمان في الكنيسة. ولكن هذا الاعتراف كان بعيدًا عن أسماع الجماهير، تمامًا مثلما حدث مع المولود أعمى الذي آمن بأن المسيح هو ابن الله وسجد له. كان السيد المسيح يقتاد الناس إلى الإيمان بألوهيته في الوقت المناسب، حينما تكون أعين قلوبهم مفتوحة بالقدر الكافي، ومهيأة لمعرفة أسراره المقدسة "أظهر له ذاتي" (يو14: 21). بعد الواقعة السابقة يذكر إنجيل معلمنا لوقا أن السيد المسيح "لما قام من المجمع..كانت الشياطين أيضًا تخرج من كثيرين وهى تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح" (لو4: 38، 41) شعرت الشياطين بقوة السيد المسيح وسلطانه عليهم، فعرفوا إنه هو المسيح ابن الله. لأنه لم يحدث قط أن أخرج أحد الأنبياء شيطانًا في العهد القديم. ولهذا دهش الجميع وكانوا يخاطبون بعضهم بعضًا قائلين: ما هو هذا التعليم الجديد فإنه بسلطان وقوة يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه وتخرج؟ (انظر لو4: 36)،ولكن حينما كان السيد المسيح يسلك بمقتضى إنسانيته، فيتعب ويتألم ويحزن -كان الشيطان يعود فيشك في ألوهيته ويتجاسر عليه، حتى تمم السيد المسيح الفداء على الصليب.. 2- في حديثه مع تلاميذه حينما سأل السيد المسيح تلاميذه عما يقوله الناس عنه، ثم عن رأيهم هم فيه قالوا: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16)، "حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح" (مت16: 20) وذلك بعد أن أوضح أن الاعتراف بألوهيته قد جاءهم نتيجة إعلان الآب السماوي لهم. وهنا نرى كيف منع السيد المسيح تلاميذه من أن يكشفوا حقيقة لاهوته للناس، وذلك إلى أن يقوم من الأموات. ولذلك يكمل معلمنا متى الإنجيلي قوله السابق ويقول: "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم" (مت16: 21). كان من المناسب إخفاء ألوهية السيد المسيح حتى تتأكد بقيامته من الأموات منتصرًا على الموت من أجل خلاص البشرية. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:06 PM | رقم المشاركة : ( 33 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في زهده في المناصب بالرغم من أن السيد المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب، وبالرغم من أنه هو رئيس الكهنة الأعظم.. إلا أنه عاش بعيدًا عن المناصب المختصة بالمُلك، والمختصة بالكهنوت. لم يمجّد نفسه، ولم يُنافس الناس في مناصبهم، بل كان بعيدًا عن كل هذه الأمور.. أولًا: فيما يختص بالمُلك عاش السيد المسيح تحت سلطة الملوك والأباطرة والحكام.. لم تكن له أية وظيفة، ولا رئاسة، ولا سلطان ينافس به الحكام في سلطتهم. خشى هيرودس الملك من ولادة السيد المسيح ملك اليهود، وأراد أن يتخلّص منه، وذبح جميع أطفال بيت لحم.. ولكنه لم يفهم طبيعة مُلك السيد المسيح الذي قال للوالي الروماني بعد ثلاثين عامًا: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36). لم يستخدم السيد المسيح حقه الإلهي في أن يسود على الجميع، بل وضع نفسه تحت الكل، وكان خاضعًا لسلطان البشر. دَفَعَ الجزية للحكام، ورفض أن تجعله الجموع ملكًا ينتزع ما اعتبروه حقوقًا لهم. ولم يقاوم الذين ألقوا القبض عليه، و"ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاه تساق إلى الذبح" (إش53: 7)، ولم يقاوم اللطم والإهانات وجلد السياط، ولا ما اقترن بالصليب من إهانات وآلام متنوعة. رفض السيد المسيح الملك الزمني، وكل أمجاده، لأنه كان يريد أن يملك على القلوب بمحبة إذ قال: "أنا إن ارتفعت.. أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32)، بمعنى أنه حينما يرتفع معلقًا على خشبة الصليب، فسوف يجتذب إليه محبة وإيمان الكثيرين. وفي موضع آخر تكلم عن الصلب فقال: "متى رفعتم ابن الإنسان" (يو8: 28). حقًا "إن الرب قد ملك على خشبة" (مز95: 10).. ملك على قلوب الذين افتداهم وخلصهم من سلطان الخطية وعبوديتها. عاش السيد المسيح في عالم ممتلئ بالمشاكل والاضطرابات.. ولم يحاول إطلاقًا أن يدخل في خضم هذا البحر المتلاطم. بل عالج مشكلة الإنسان الداخلية.. وأراد أن يحرر الإنسان من الداخل؛ عملًا بقول الكتاب أن "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينه" (أم16: 32). إن في تحرير الإنسان من الخطية، وفي تحريره من ذاته ومن الأنانية، الحل الحقيقي لمشاكل البشرية ولكل معاناة الإنسان. كانت الحرية في نظر البشر شيئًا، وفي نظر السيد المسيح شيئًا آخر.. لهذا قال: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو8: 36). أن يتحرر الإنسان من الداخل معناه أن يحيا في حرية مجد أولاد الله في الحياة الأبدية، في شركة مقدسة مع الله،أما التحرر من العبودية الخارجية للبشر، فلا يؤثر في مصير الإنسان الأبدي.. بل هو وضع مؤقت لا يمكن أن يدوم. وبهذا فقد اهتم السيد المسيح بأن يملك على قلوب الذين اشتراهم من حمأة الخطية والموت الأبدي. لم يأخذ السيد المسيح مُلكًا أرضيًا، ولكن في السماء له ملكوت أبدى. فهو الملك الذي لا نهاية لملكه. ثانيًا: فيما يختص بالكهنوت ترك السيد المسيح لكهنة اليهود وظائفهم في خدمة الكهنوت الهاروني بتقديم الذبائح الحيوانية في الهيكل. لم يطلب منصبًا كهنوتيًا، ولا خدمة طقسية في ذلك الهيكل الذي هو المسكن الأول. بل جعل من جسده هيكلًا لتقديم الذبيحة الحقيقية "وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا" (عب9: 11، 12). لقد دخل السيد المسيح إلى الأقداس السمائية ليشفع فينا أمام الآب السماوي. لم يزاحم السيد المسيح أحدًا في منصبه الكهنوتي، بل جاء كهنوته، بحسب تدبير الله، كشيء ملازم لتقديم ذاته كذبيحة خلاص حقيقية مقبولة من الآب السماوي. لم يأخذالسيد المسيح رئاسة الكهنوت كوظيفة أو منصب خارجي، بل نبع ذلك من صميم قدرته على تقديم ذاته ذبيحة عن حياة العالم. كان هو الكاهن، وهو الذبيحة. كما أنه هو الهيكل، وهو القربان. وهو الحمل وهو الراعي في آنٍ واحد. كان الآب هو الذي اختاره ليكون رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. وقد دفع السيد المسيح حياته ثمنًا لعمله الكهنوتي.. فما أمجد كهنوت مثل هذا؟.. أو هل كان ممكنًا لمثل هذا أن لا يصير كاهنًا؟! حقًا قال معلمنا بولس الرسول: "ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هارون أيضًا. كذلك المسيح أيضًا لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت ابني أنا اليوم ولدتك. كما يقول أيضًا في موضع آخر أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (عب5: 4-6). |
||||
11 - 03 - 2014, 06:07 PM | رقم المشاركة : ( 34 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في رفضه للتعصب العرقي عند بئر يعقوب التقى السيد المسيح بالمرأة السامرية عند بئر ماء وهو صاحب الينبوع الحي الذي يمنح الماء الحي لمن يطلبه. كانت المرأة تعيش في مشكلتين في علاقتها بالله: المشكلة الأولى: مشكلة عرقية لها صلة بالدين وحرفيته والتعصب فيه. والمشكلة الثانية: مشكلة داخلية تخص انقيادها لرغبات الجسد وشهواته. وفى الحقيقة أن السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليحل هاتين المشكلتين في حياة البشر جميعًا. وإن كان اللقاء مع السامرية هو وسيلة لإيضاح هاتين الحقيقتين المريرتين في طبيعة البشر. اليهود لا يعاملون السامريين قالت المرأة للسيد المسيح "كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟! لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9). كان اليهود يحتقرون السامريين لاختلاطهم بالأمم بعد أن انقسمت المملكة، وصار ملوك السامرة يقيمون شعائر العبادة في هيكل آخر في جبل السامرة بخلاف هيكل اليهود في جبل صهيون، وذلك لكي يمنعوا أفراد شعوبهم من الذهاب إلى أورشليم للسجود هناك. وفي هيكل السامريين اختلطت عبادة الله بالعادات والممارسات الوثنية أحيانًا. وتفاقم الصراع بين المملكتين، وتداخلت العوامل الدينية مع العوامل السياسية لتزداد العداوة بين اليهود والسامريين. وجاء السيد المسيح ليزيل العداوة، وليحرر اليهود من التعصب العرقي والديني. فبدأ هو بالمبادرة نحو السامريين متخطيًا الحواجز التي فصلت بين الشعبين. وتكلّم مع المرأة السامرية طالبًا منها أن تعطيه ليشرب. وحينما قالت له المرأة السامرية متسائلة: "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه" (يو4: 20). أجابها السيد المسيح "يا امرأة صدقيني إنه تأتى ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم" (يو4: 21، 22). وقد قصد السيد المسيح أن يوضح لهذه المرأة عدم تمسكه بمكان معيّن للسجود للآب السماوي.. لا في جبل السامرة، ولا في جبل صهيون بأورشليم. لأن الله هو فوق حدود المكان. ثم بدأ يوضح لها أن الموقف الأهم هو مفهوم العبادة ونقاوة العقيدة، ومعرفة الله المعرفة الحقيقية لكي تقدم له العبادة المقبولة. وشرح لها أن الخلاص يُبنى على المعرفة السليمة، وأقوال الكتب المقدسة التي هي أنفاس الله، والتي حُفظت في أورشليم إلى مجيء المخلّص. ولهذا قال لها: "لأن الخلاص هو من اليهود" (يو4: 22)، أي من وسطهم سوف يأتي المسيح مانحًا الخلاص والبنوة للذين يقبلونه. وأوضح لها أيضًا أن العبادة المقبولة أمام الآب هي "بالروح والحق" (يو4: 24). ليس بعتق الحرف.. أي ليس بالعبادة الحرفية الناموسية التي يفتخر بها المتزمتون من اليهود، بل بالروح الجديد (بجدة الروح).. أي بالعبادة الروحانية التي يتمتع بها أولاد الله الذين يتمتعون بشركة الروح القدس، ويستنيرون ويبتهجون ويشبعون بعمل الروح فيهم،عبادة تتحرر من الارتباط بالمكان والشكليات.. بل حيث يعمل الروح القدس في الكنيسة بقوة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.. يقود ويرشد ويعلم ويمنح سلطان الخدمة الكهنوتية بالخلافة الرسولية، وبها يتم مسح الخدام والمؤمنين والكنائس كما تتم جميع الأسرار المقدسة لخلاص المؤمنين. وهى ليست عبادة يتمتع فيها الإنسان روحيًا فقط، بل تمتلئ بالحق والاستقامة. أي لا يكفى أن يشعر الإنسان بنشوة روحية مبهمة في العبادة بل ينبغي أن يستوعب بعقله الإيمان وما فيه من حق.. لأن الروح القدس يعلن الحق في داخلنا.. يعلن المسيح الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6). والحق الذي يعلنه الروح القدس هو الإيمان المستقيم.. الإيمان المسلّم مرة للقديسين.. الإيمان الذي يخلو من البدع ومن الخرافات ومن الهرطقات. الحق الذي قال عنه السيد المسيح: "كل من هو من الحق يسمع صوتي" (يو18: 37). لهذا كله قال السيد المسيح للمرأة السامرية: "تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 23، 24). لم تعد العبادة لله قاصرة على أورشليم وحدها مثلما كان الأمر في العهد القديم قبل مجيء السيد المسيح. ولم يعد هيكل سليمان هو المكان المختار للعبادة. بل قال معلمنا بولس: "أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1كو3: 16). اتسع الهيكل في العهد الجديد، ليكون هو الكنيسة المقدسة الممتدة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. وصار هيكل الله الآب هو المكان (في الكنيسة) الذي يحضر فيه السيد المسيح بجسده ودمه الأقدسين بفعل الروح القدس في سر الافخارستيا ليمنح المؤمنين باسمه الاشتراك في الحياة الأبدية التي منحت لنا بموته عوضًا عنا على الصليب. حقًا صار حضور المسيح بذبيحته المقدسة -بكل ما تُعلن عنه في الموت والقيامة والصعود والمجيء الثاني- حقيقة واقعة في كنيسته المحبوبة، إعلانًا مبكرًا للعرس بين المسيح وعروسه الكنيسة التي اقتناها بدمه الكريم، وعربونًا للحياة الأبدية التي وعد بها جميع قديسيه. لم يفهم اليهود في نظرتهم الضيقة للعبادة هذه الحقائق الثمينة، وجعلوا يتمسكون بهيكل مبنى بالحجارة وربما يحلمون بإعادة بنائه بعد خرابه، حسبما قال لهم السيد المسيح: "هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت23: 38). وحينما يقولون: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت23: 39) فسوف يفهمون المعنى الحقيقي للهيكل. ألم يقل لهم السيد المسيح عن جسده: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو2: 19). أما هم فلم يفهموا أنه كان يُكلمهم عن هيكل جسده المقدس بل صاروا يعترضون ويسخرون من كلامه قائلين عن هيكل الحجارة: "في ست وأربعين سنة بنى هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟" (يو2: 20). بعد مجيء المسيح لم يعد هناك لزوم للهيكل القديم لأن الذبائح الحيوانية قد أبطلتها ذبيحة الصليب وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحقيقة بقوله للعبرانيين (أي لذوى الأصل اليهودي) "لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبدًا بنفس الذبائح كل سنة التي يقدمونها على الدوام أن يكمّل الذين يتقدمون.. لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقربانًا لم تُرد، ولكن هيأت لي جسدًا.. فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرّسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب أي جسده. وكاهن عظيم على بيت الله" (عب10: 1، 4، 5، 19-21). اذهبي وادعى زوجك (يو4: 16) أراد السيد المسيح أن يقود المرأة السامرية إلى التوبة، حتى يأتي بها إلى العبادة بالروح والحق. فلم يكن من الممكن أن تبدأ علاقتها مع الله في العبادة، بينما هي تحيا في سيرة خاطئة ومشاعر خاطئة. لهذا طلب منها أن تذهب وتدعو زوجها "أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج. قال لها يسوع: حسنًا قلت ليس لي زوج لأنه كان لك خمسة أزواج، والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلتِ بالصدق" (يو4: 17، 18). بدأت المرأة من خلال كشف المسيح لها، تدرك أنها أمام شخصية غير عادية. فقالت: "يا سيد أرى أنك نبي" (يو4: 19). قالت ذلك معترفة بخطئها. ولما تكلم السيد المسيح معها عن السجود لله بالروح والحق، وعدم التقيد بجبل السامرة ولا جبل صهيون في السجود للآب، أرادت أن تجد مرجعًا يتفق فيه اليهود والسامريون. فقالت له: "أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء" (يو4: 25). كان بالنسبة لها مجيء السيد المسيح هو الحل لجميع مشاكلها الروحية والفكرية وقد اشتاقت بالفعل أن تعرف من محدثها الذي لم تكن تعرفه، أن يخبرها متى يأتي المسيا المنتظر. عند هذه النقطة كشف لها السيد المسيح عن شخصيته الحقيقية، وقال لها: "أنا الذي أكلمك هو" (يو4: 26). فتركت المرأة جرتّها إلى جوار البئر، وذهبت إلى أهل السامرة لتدعوهم لرؤية السيد المسيح. وآمن الكثيرون بسبب كلامها- ثم بالأكثر بسبب رؤيتهم للمسيا مشتهى الأجيال. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:09 PM | رقم المشاركة : ( 35 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في معاملاته مع الخطاة جاء السيد المسيح لكي يحمل خطايا آخرين، ويشفع في المذنبين ولذلك كان لطيفًا جدًا في معاملاته مع الخطاة. ودائمًا كان يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.. لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12، 13). ومع إنه كان حازمًا مع المستكبرين، وقساة القلوب، ورافضي التوبة، والمرائين، والمنافقين، ومع الذين يعتبرون أن التقوى تجارة.. إلا أنه كان رقيقًا، متواضعًا، مترفقًا، طويل الأناة مع المنكسرين، والضعفاء، والمنسحقين، والمأسورين، والمشتاقين إلى التوبة والخلاص.. مثلما قال: "روح الرب علىَّ لأنه مسحني، لأبشر المساكين. أرسلني لأشفى المنكسري القلوب، لأنادى للمأسورين بالإطلاق، وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 18، 19). محبة الخطاة من أجل محبته للخطاة، ورغبته في خلاصهم، احتمل الكثير من التعيير الذي أثاره ضده الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود. إذ اتهموه بأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه دخل ليمكث في بيت إنسان خاطئ. وفى قبوله لتوبة المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها قالوا: "لو كان هذا نبيًا لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي إنها خاطئة" (لو7: 39). وفى النهاية حينما عُلّق على الصليب حاملًا خطايا كثيرين، كانوا يعيّرونه قائلين: "خلّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها" (مت27: 42) السيد المسيح في اتضاع عجيب تعامل مع الخطاة، بل وحمل تعييرات كان المفروض أن يحملوها هم فحملها عوضًا عنهم راضيًا مختارًا.. في لقائه مع السامرية بادرها قائلًا: "أعطيني لأشرب" (يو4: 7)، مُظهرًا نفسه كالمحتاج مع أنه هو ينبوع الماء الحي.. وحينما "أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج، قال لها يسوع: حسنًا قلت ليس لي زوج.. هذا قلتِ بالصدق" (يو4: 17، 18)، مادحًا صدقها في هذا الأمر، كاشفًا لها أعماق حياتها "لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذي لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو4: 18). فقالت المرأة: "يا سيد أرى أنك نبي" (يو4: 19). فبمنتهى الاتضاع والحرص على مشاعرها، اقتادها إلى الاعتراف، وإلى التوبة، وإلى المناداة باسمه بين أهل مدينتها. مع اللص اليمين كان اللصان اللذان صُلبا مع السيد المسيح يعيرانه قائلين: "إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا" (لو23: 39). وفيما كان السيد المسيح يدفع ثمن خطية اللص المذنب، احتمل تعييراته، وكان يصلّى من أجل خلاصه وتوبته. وعلى مدى ساعات الصلب كان اللص يراقب السيد المسيح ويستمع لكلماته، وكيف كان يهتم بغيره.. سمعه وهو ينادى الآب طالبًا المغفرة لصالبيه "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو23: 34). رأى صبره ووداعته واحتماله لتعييرات اليهود، إذ لم يرد بكلمة واحدة على ما وجِّه إليه من شتائم وإهانات. ربما فكّر اللص اليمين في نفسه قائلًا (لاشك في أن يسوع المصلوب يؤدى رسالة يدفع فيها ثمن خطايا آخرين، وهو برئ من كل خطية لأن الذي استطاع أن يقيم لعازر من الموت، لا يعسر عليه أن يُسكت هؤلاء المجدفين عليه). لهذا بدأ اللص اليمين يوبّخ زميله الآخر: "أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله" (لو23: 40، 41). ثم استطرد معلنًا إيمانه بألوهية السيد المسيح الذي احتمل كل هذا من أجلنا: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 42، 43). أي أن السيد المسيح قد وعد اللص بأن يذهب إلى مكان انتظار أرواح الأبرار، تمهيدًا لدخوله إلى الملكوت في اليوم الأخير. في اتضاعه المعهود لم يؤاخذ السيد المسيح اللص على تجاديفه السابقة وتعييراته له. بل حتى لم يعاتبه.. واكتفى بما أظهره من حب وإخلاص، ورغبة صادقة في السلوك في طريق الحق، وإيمان برسالة السيد المسيح كفادي ومخلص وملك للمفديين. وهكذا نرى السيد المسيح في اتضاعه، وقد حمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين ووبخهم برقته ووداعته العجيبة حتى تحولوا من خطاة إلى قديسين. مع المرأة الخاطئة سأل السيد المسيح مضيفه سمعان الفريسي "كان لمداين مديونان، على الواحد خمسمئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعًا. فقل أيهما يكون أكثر حبًا له. فأجاب سمعان وقال: أظن الذي سامحه بالأكثر. فقال له بصواب حكمت" (لو7: 41-43). إن الغفران الذي قدّمه السيد المسيح للمؤمنين به هو غفران مدفوع الثمن. والثمن هو دم المسيح،لهذا قال معلمنا بولس الرسول: "وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو6: 19، 20). وقال معلمنا بطرس الرسول: "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى.. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1بط1: 18، 19). إن البشر لم يكن بمقدورهم أن يوفوا الدين الذي عليهم لله بدون تجسد ابن الله الوحيد الذي هو وحده قادر أن يوفى الدين، وهو نفسه الله الظاهر في الجسد الذي صالحنا مع أبيه السماوي. وعن عدم مقدرة البشر منفردين عن الله بأنفسهم أن يوفوا الدين، قال السيد المسيح في هذا المثل: "وإذ لم يكن لهما ما يوفيان" (لو7: 42). لقد أوفى السيد المسيح الدين الذي علينا واشترانا وصرنا ندين له بهذا الحب العجيب، أي أنه قد اجتذبنا بمحبته وغفرانه المدفوع الثمن، فصرنا نحبه وتزداد محبتنا له كلما تأمّلنا في آلامه لأجلنا. وقال السيد المسيح لسمعان عن المرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها ومسحتهما بالطيب وانهمكت في تقبيل قدميه "من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا. والذي يُغفر له قليل يحب قليلًا" (لو7: 47). إن الغفران المدفوع الثمن في المفهوم المسيحي هو الذي يجعلنا نحب الرب كثيرًا. كما أنه هو الذي يجعلنا نكره الخطية، لأنها تسببت في آلام فادينا وموته على الصليب. كيف ننسى هذا الحب العجيب الذي يبكتنا على كل خطية اقترفناها أو نقترفها، ويجعلنا نشعر بالاشمئزاز من الخطية، ويجعلها تبدو خاطئة جدًا. إن الخاطئ الذي يتأمل في جراحات المخلّص الوديع يشعر بأنه لا يطيق نفسه، ولا يتصور أنه من الممكن أن يخون هذا الحب الكبير. لهذا قال السيد المسيح: "إن كان أحد يأتي إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو14: 26). وما معنى أن يبغض الإنسان نفسه، إلا أن يبغض كل تصرف تميل إليه نفسه في أنانيته لإرضاء شهواتها. هذه هي فلسفة تعاليم السيد المسيح في قوله: "من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلى يجدها" (مت16: 25). من أهلك نفسه من أجل المسيح سوف يجدها، لأنه سوف يتحرر من سلطان الخطية والموت الأبدي، وبهذا سوف يرث الحياة الأبدية ويجد نفسه في الأبدية والسعادة الحقيقة في حرية مجد أولاد الله. الإيمان بالسيد المسيح بأنه هو ابن الله الحي والإيمان بموته المحيى وقيامته من الأموات يؤهل الإنسان أن ينال سر العماد المقدس لأن "الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو1: 12). وبالميلاد الفوقاني ينال المؤمن الحق في أن ينال سر المسحة المقدسة ويصير مسكنًا للروح القدس الذي يثبّته في حالة البنوة لله ويمنحه ثمارًا لازمة للخلاص، كما يمنحه مواهبًا لبنيان الكنيسة. وبالميلاد الفوقاني أيضًا يؤهَّل الإنسان للاتحاد بالحياة الأبدية في المسيح بالتناول من جسده المقدس ودمه الكريم في سر الافخارستيا، الذي يعطيه ثباتًا في المسيح ويؤهّله لشركة الحياة الأبدية. ومن خلال سر التوبة والاعتراف يؤهل لتجديد مفاعيل العماد المقدس في الاتحاد بالمسيح بشبه موته وقيامته من الأموات في سر الافخارستيا (التناول). إن العطايا الروحية التي ينالها المؤمن بالمسيح تمنحه قوة للانتصار على محاربات الشيطان، والتمتع بحياة القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب. وفي كل ذلك يضع المؤمن أمام عينيه صلب المخلص وجراحاته وآلامه. لأن الصليب هو سلاح الغلبة. وهو مصدر كل العطايا والنعم التي يمنحها الروح القدس للمؤمنين بالمسيح، الذين يتمتعون بغفران مدفوع الثمن، يمنحه لهم الروح القدس باستحقاقات دم المسيح الفادي والمخلص العجيب. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:10 PM | رقم المشاركة : ( 36 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
الحوار في أسلوب السيد المسيح كان السيد المسيح يستخدم دائمًا أسلوب الإقناع في توصيل الحقائق الإلهية والسامية للناس. وكثيرًا ما تعرض للسخرية من مقاوميه، كما أنهم كانوا يحاولون أن يصطادوه بكلمة ليضعوه في مأزق في علاقته بالحكام، أو في موقفه من شرائع الناموس.. ولكنه كان باستمرار يستخدم أسلوب الحوار المقنع.. لم يستخدم الغضب، ولم يكن عنيفًا في الرد على مقاوميه، أو الذين يسخرون منه.. ولكنه أحيانًا كان يحذرهم من نتائج تمسّكهم بالخطأ. كُتب عن السيد المسيح: "الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدد، بل كان يُسلّم لمن يقضى بعدلٍ. الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر" (1بط2: 22-24). ولنا بعض من الأمثلة عن أهمية الحوار في خدمة السيد المسيح: 1- في إخراجه للشياطين"وكان يخرج شيطانًا. وكان ذلك أخرس. فلما أُخرِجَ الشيطان تكلم الأخرس فتعجب الجموع وأما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. وآخرون طلبوا منه آية من السماء يجربونه. فعلم أفكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وبيت منقسم على بيت يسقط. فإن كان الشيطان أيضًا ينقسم على ذاته، فكيف تثبت مملكته؟! لأنكم تقولون إني ببعلزبول أخرج الشياطين. فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنت بإصبع الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (لو11: 14-20). اتهم اليهود السيد المسيح بأن به شيطانًا، بل تجاسروا أكثر واتهموه بأن به بعلزبول. وواجه السيد المسيح هذا الاتهام بأسلوب الحوار الهادئ الموضوعي، وذلك بالرغم من تجاسرهم الكائن ضد كلمة الله المتجسد. ونكرانهم لجميله في شفاء أخيهم الأخرس الذي أذله الشيطان وعذبه. قدّم السيد المسيح دليلين على استحالة عمله بواسطة بعلزبول رئيس الشياطين: الدليل الأول: هو أن بعلزبول لا يعمل ضد مملكته وسلطانه في البشر، ولا يخرج شياطينه من البشر وإلا تكون مملكته قد انقسمت على ذاتها. لا نتصور قائدًا حربيًا يطرد جنوده من المواقع التي استولوا عليها بمشقة واستعمروها. الدليل الثاني: أنه لو كان يعمل بواسطة بعلزبول رئيس الشياطين -ولهذا فمعه سلطان الرئاسة في مواجهة الشياطين الأقل قدرة- فبمن يخرج تلاميذ المسيح الشياطين التي أخرجوها؟! كان اليهود يريدون تصوير السيد المسيح، وكأنه يعمل بقوة بعلزبول الساكن فيه.. ففند السيد المسيح ادعائهم بالمنطق والحجة القوية. مُظهرًا لهم أن الرسل يكونون قضاة لهم، لأنهم سوف يدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر. وبعدما أثبت السيد المسيح استحالة أن يكون بعلزبول هو الذي يخرج الشياطين، قدّم الحقيقة الإلهية الساطعة، وهى أنه بإصبع الله يخرج الشياطين، مؤكدًا أن ملكوت الله قد أقبل على بنى البشر مُحررًا إياهم من سلطان إبليس جاعلًا إياهم مسكنًا للروح القدس بعد إتمام الفداء على الصليب. وهكذا نقل السيد المسيح الحوار إلى إعلان قصد الله في تجسد الكلمة الأزلي، ليسحق الشيطان ويحرر البشرية من سيطرته وسلطانه. 2- في حواره حول القيامة حضر قوم من الصدوقيين الذين يقاومون أمر القيامة، وسألوه بمثلٍ عن امرأة مات رجلها دون أن تنجب أولادًا فتزوجها أخوه حسب ناموس موسى ليقيم اسم الميت على ميراثه، ولكنه مات أيضًا دون أن ينجب وهكذا حتى تزوجها سبعة إخوة وماتوا وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا ففي القيامة لمن تكون زوجة؟. لقد رد على مكيدتهم بإقناع وباتضاع، هؤلاء الذين حاولوا بذكائهم أن يوقعوه في مأزق، ليثبتوا أنه لا توجد قيامة للأموات. وبمنتهى الحكمة أجابهم السيد المسيح مُظهِرًا أن "أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزَوَّجون، ولكن الذين حُسبوا أهلًا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوِّجون ولا يزوَّجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة،وأما أن الموتى يقومون فقد دلّ عليه موسى أيضًا في أمر العليقة كما يقول الرب إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء" (لو20: 34-38). شرح السيد المسيح طبيعة حياة القيامة، باعتبارها حياة روحانية مثل حياة الملائكة الذين لا يتزوجون لأنهم لا يحتاجون إلى نسل، إذ لا يمنعهم الموت عن استمرار رسالتهم وحياتهم. أما البشر في هذا الزمان الحاضر فإن استمرار الجنس البشرى يقتضى أن ينجبوا نسلًا قبل موتهم.. وقدّم السيد المسيح دليلًا كتابيًا عن قيامة الموتى بأن الرب إله أحياء، مؤكدًا بذلك خلود الروح الإنسانية وبقاءها حتى بعد انفصالها المؤقت عن الجسد. 3- بأي سلطان تفعل هذا؟ (مت21: 23) "ولما جاء إلى الهيكل تقدّم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يُعلِّم قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب يسوع وقال لهم: وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضًا بأي سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين كانت، من السماء أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب، لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي. فأجابوا يسوع وقالوا: لا نعلم. فقال لهم هو أيضًا: "ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا" (مت21: 23-27). كان رؤساء اليهود يريدون أن يقولوا أن السيد المسيح لم يكن لديه سلطان من الله في تعليم الشعب في الهيكل. وأراد السيد المسيح أن يرد على ذلك، بأنهم هم الذين يقاومون عمل الله والمرسلين منه. وأعطاهم مثلًا بيوحنا المعمدان، وكيف لم يتجاوبوا مع إرساليته القوية كآخر أنبياء العهد القديم، والذي جاء ليعد الطريق أمام السيد المسيح، وشهد له أنه هو حمل الله، وابن الله والمسيا المخلص. وأعلن شهادته هذه على الملأ. كما أعلن أنه أثناء عماده للسيد المسيح قد رأى الروح القدس نازلًا من السماء، ومستقرًا عليه بهيئة جسمية مثل حمامة. سألهم عن معمودية يوحنا وإرساليته هل كانت من الله؟ فاحتاروا في الإجابة. ولم يمكنهم أن ينكروا علانية أنه كان مُرسلًا من الله. فقالوا: "لا نعلم". وهنا أظهر السيد المسيح ارتباكهم وعدم يقينيتهم، بل وعدم اعترافهم بالحقيقة التي قبلها الشعب بشأن إرسالية يوحنا المعمدان.. ولذلك قال لهم هو أيضًا: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا. إن للحوار الهادئ المتأني قوة وتأثيرًا أشد من العنف والقساوة في التعبير. وإن لم يقنع المقاومين، فعلى الأقل، يستطيع أن يقنع من يستمعون إلى الحوار من الشعب. 4- التوبيخ قرب نهاية خدمته على الأرض، والتي استمرت لعدة سنوات، بدأ السيد المسيح في توبيخ الكتبة والفريسيين على ريائهم، وبدأ يكشف ما في حياتهم من خداع، وذلك بعد أن تجاهلوا كل ما قدّمه لهم من وسائل الإقناع وتمسكوا بأخطائهم. كما أنه أخرج من الهيكل الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه، لأن الهيكل هو بيت الرب الذي دعى بيت الصلاة لجميع الأمم، وهم جعلوه مغارة لصوص (انظر مت21: 13). استخدم السيد المسيح الحزم والتوبيخ بعد أن استنفذ كل وسائل الإقناع الهادئة مع مثل هؤلاء الناس.. ولكنهم تآمروا عليه نتيجة لهذا الحزم وذلك التوبيخ، إذ حنقوا عليه ليقتلوه، مع أنه لم يؤذ واحدًا منهم على الإطلاق بل قدّم الحب والخير للجميع. لم يكن ممكنًا أن يسكت عليهم أكثر من ذلك، لئلا يُظن أنه سكت خوفًا على سلامته وحياته.. كما كان ينبغي أن يُظهر السيد القدوس عدم رضائه على ما يسلكون فيه من شر ورياء. ولكنه في توبيخه للكتبة والفريسيين، كان أيضًا يستخدم أسلوب الإقناع، مُقدمًا البراهين الكتابية والمنطقية، ومحققًا ما قيل عنه من نبوات في الكتب المقدسة، مثل ما قيل بإشعياء النبي: "هوذا فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم" (مت12: 18-21). |
||||
11 - 03 - 2014, 06:12 PM | رقم المشاركة : ( 37 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
حديث السيد المسيح مع نيقوديموس بعد أن أكّد السيد المسيح لنيقوديموس أهمية الولادة الثانية في المعمودية من الماء والروح لكي يقدر الإنسان أن يدخل ويعاين ملكوت الله لأن "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6). بدأ نيقوديموس يتساءل ويقول: "كيف يمكن أن يكون هذا؟" (يو3: 9). أجاب السيد المسيح وقال له: "أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟! الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا، إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟! وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء. ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو3: 10-13). حضن الآب والمقصود بالسماء هنا التي لم يصعد إليها أحد سوى السيد المسيح أي حضن الآب السماوي وليس أي سماء أخرى. لأن إيليا النبي صعد إلى السماء وأخنوخ النبيصعد إلى السماء. ولكن السيد المسيح قال ليس أحد صعد إلى السماء إلا ابن الإنسان الذي هو في السماء. ومن المعلوم أن ابن الإنسان أي السيد المسيح كان على الأرض -بحسب الجسد- وهو يكلّم نيقوديموس، ولكنه بحسب لاهوته كان يملأ الوجود كله. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18). وهذا معناه أن السيد المسيح باعتباره كلمة الله المتجسد قد أظهر لنا نور الآب حينما ظهر في الجسد وكان هو نفسه -بحسب لاهوته- في حضن أبيه أثناء ظهوره متجسدًا على الأرض. وقال معلمنا بولس الرسول: "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16) أي أن الله الكلمة "هو صورة الله غير المنظور" (كو1: 15)، ومن رأى الصورة الحقيقية يكون قد رأى الأصل. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس.. هو خبّر"بمعنى أنه هو الذي أعلن لنا الآب بظهوره في الجسد. ونلاحظ أن السيد المسيح قد ربط بين حديثه عن السماء -بمعنى حضن الآب- وبين حديثه عن السماويات والشهادة التي ذكرها وذلك في (يو3: 10-13) كما أوردنا سابقًا. الذين يشهدون في السماء من هم الذين يشهدون في السماء؟ لقد ذكر السيد المسيح الشهادة عن السماويات، فقال: "الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا" (يو3: 11). وواضح أن الحديث هنا هو بصيغة الجمع. ونظرًا لأنه يتكلم عن الشهادة التي تخص الابن الوحيد الجنس (يو3: 16) في حضن الآب (يو1: 18)، لذلك فالمقصود بالجمع هنا هو الآب والابن والروح القدس، أي أن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس. وهذا هو نفس ما أورده القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى فقال: "والروح هو الذي يشهد.. فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 6، 7). "إن كنا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه" (1يو5: 9). ومن المؤكد أن ما أورده يوحنا الرسول في إنجيله، هو نفس ما أورده في رسالته الأولى. لأن الكاتب واحد والفكرة التي شرحها في إنجيله بالتفصيل أوردها في رسالته بالاختصار. ولتوضيح ذلك نقول أن القديس يوحنا قد أورد في إنجيله ما يثبت أن الشهود للابن المتجسد هم: الآب عن ابنه، والابن عن نفسه، والروح القدس عن الابن.. وهذه بعض الآيات التي تثبت ذلك في إنجيل يوحنا: شهادة الآب قال السيد المسيح لليهود: "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته، وليست لكم كلمته ثابتة فيكم، لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به" (يو5: 37، 38). وكان قد أشار إلى شهادة الآب عنه بقوله: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا. الذي يشهد لي هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا أقبل شهادة من إنسان.. لي شهادة أعظم من يوحنا" (يو5: 31-34، 36). وقال أيضًا لليهود: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب.. وأيضًا في ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني" (يو8: 14، 17، 18). شهادة الابن كما أوردنا في الآية السابقة مباشرة قال السيد المسيح: "أنا هو الشاهد لنفسي" (يو8: 18). كذلك شرح القديس يوحنا المعمدان أهمية شهادة السيد المسيح وأورد ذلك القديس يوحنا الرسول في إنجيله "أجاب يوحنا وقال.. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله" (يو3: 27، 31-34). ومن الواضح هنا أن القديس يوحنا المعمدان قد ربط في حديثه بين شهادة المسيح على الأرض وبين ما يجرى في السماء "الذي يأتي من السماء.. ما رآه وسمعه به يشهد". أي أن شهادة الآب في السماء، هي نفسها شهادة الابن بما سمعه من الآب. شهادة الروح القدس "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى" (يو15: 26). وشهادة الروح القدس هي نفسها شهادة الآب لأن السيد المسيح قال: "متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به" (يو16: 13). فالروح القدس يشهد بما سمعه من الآب عن ابنه الوحيد الجنس وليس المقصود أن الروح القدس يقل عن الآب في المجد والكرامة لأنه لا يتكلم من نفسه. ولكن المقصود أن الشهادة للابن: (أصلها في الآب وتتحقق من خلال الابن في الروح القدس) كما شرح آباء الكنيسة الكبار. وذلك لأن الثالوث واحد في الجوهر وليس فيه انفصال لأحد الأقانيم. التجسد والفداء لقد كشف السيد المسيح في حديثه مع نيقوديموس عن أمور هامة جدًا خاصة بالتجسد والفداء والثالوث القدوس. ففيما يخص حقيقة التجسد الإلهي بقصد الفداء، قال السيد المسيح: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16). كيف بذل الله ابنه الوحيد؟ إن الابن الوحيد هو كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. ولم يكن ممكنًا لابن الله الوحيد أن يموت نيابة عن البشر دون أن يتجسد، وذلك لأن اللاهوت بحسب طبيعته هو غير مائت وغير قابل للألم. أما وقد صار له طبيعة بشرية كاملة، فقد أمكن أن يتألم وأن يموت الله الكلمة بحسب إمكانيات طبيعته البشرية. وقد شرح القديس أثناسيوس الرسولي ذلك في كتاب تجسد الكلمة- الفصل التاسع- الفقرات رقم 1، 2 فقال: [وإذ رأى "الكلمة" أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم. وأنه يستحيل أن يتحمل "الكلمة" الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت حتى باتحاده "بالكلمة" الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا أن يموت نيابة عن الكل. وحتى يبقى في عدم فساد بسبب "الكلمة" الذي أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدّم للموت ذلك الجسد، الذي أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فورًا عن جميع من ناب عنهم، إذ قدّم عنهم جسدًا مماثلًا لأجسادهم. ولأن كلمة الله متعال فوق الكل. فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفى الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية فداءً عن الجميع]. إذن لقد تجسد كلمة الله لكي يصير بالإمكان أن يموت على الصليب فداءً عن البشرية. وبهذا يتحقق قول السيد المسيح: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس" (يو3: 16). فذبيحة الصليب هى ذبيحة الابن الوحيد، وقيمتها غير محدودة عند الله الآب. لهذا كانت كافية لسداد دين البشرية، ولترضية الآب السماوي، ولإعلان قداسة الله الكاملة في رفضه لخطايا البشرية، ولإظهار حب الله الكامل في افتدائه لنا "الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم" (2كو5: 19). الله هو المخلّص لقد سبق الرب فوعد في العهد القديم بأنه هو المخلّص الوحيد بقوله: "أنا أنا الرب وليس غيري مخلّص.. وأنا الله" (إش43: 11، 12). لهذا رنمت القديسة مريم العذراء في العهد الجديد قائلة: "وتبتهج روحي بالله مخلّصي" (لو1: 47). وقال القديس بطرس الرسول عن السيد المسيح: "ليس بأحد غيره الخلاص" (أع4: 12). وتنبأ إشعياء النبي قائلًا: "هوذا الله خلاصي فاطمئن ولا أرتعب. لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصًا" (إش12: 2)،بمعنى أن الرب ليس فقط هو المخلّص كما ورد في (إش43: 11)، بل هو الخلاص نفسه "يهوه.. صار لي خلاصًا" (إش12: 2). ويمكننا أن نقارن بين هذا القول، وبين قول القديس يوحنا الإنجيلي "والكلمة صار جسدًا" (يو1: 14) لكي نفهم أن يهوه هو الله الكلمة الذي تجسد وصار خلاصًا لأجلنا. وقال عنه سمعان الشيخ: "الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب، نورًا تجلى للأمم، ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو2: 29-32). إن الرب يسوع المسيح هو المخلّص وهو الخلاص، هو الفادي وهو الفدية، هو الكاهن وهو الذبيحة، هو الهيكل وهو القربان، هو الراعي وهو الحمل. لهذا دُعي اسمه "عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام" (إش9: 6). الرب هو عجيب في محبته، عجيب في خيريته، عجيب في قداسته، عجيب في حكمته، عجيب في إخلائه لنفسه وتجسده، عجيب في تواضعه، عجيب في إصراره واحتماله للخطاة، عجيب في مغفرته، عجيب في حزمه ومواجهته للشر، عجيب في ضعفه حينما تألم في جسم بشريته لأنه أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة، وعجيب في قوته حينما قام منتصرًا من الأموات. كان الرب عجيبًا في كل تدبير الخلاص الذي أكمل بكل فطنة، وتعجب منه القديسون في كل عظم صنيعه معهم. وهذا العجب هو مصدر كثير من الإعجاب في حياتهم وأفئدتهم وفي حناجرهم. الحية المرفوعة قال السيد المسيح في شرحه لنيقوديموس: "وكما رفع موسى الحيّة في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان. لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 14، 15). كان نيقوديموس من قيادات اليهود في ذلك الزمان ومعلّم لإسرائيل (انظر يو3: 10). وكان ينبغي أن يربط له السيد المسيح ما ورد في التوراة برسالة الإنجيل وعمل الفداء والخلاص. بدأ السيد المسيح يشرح لنيقوديموس مغزى الحيّة التي رفعها موسى في البرية حينما أخطأ الشعب إلى الله، وأطلق عليهم الحيّات السامة فلدغتهم وقتلت منهم الآلاف، وصرخ موسى إلى الرب فأمره بأن يعمل حيّة نحاسية ويرفعها على سارية، وكل من لدغته الحيّات وينظر إلى هذه الحية النحاسية يبرأ من لدغ الحيّات. إن إبليس هو الملقّب بلقب "الحية القديمة"، لأنه في الفردوس اختفى في الحية التي هي أحيل حيوانات البرية وأسقط آدم مع حواء، وبهذا دخل الموت إلى العالم. وبذلك أصبحت الحيّة رمزًا لغواية إبليس ورمزًا للخطية والموت. وحينما جاء السيد المسيح إلى العالم لأجل خلاص البشرية، ليحمل خطايا جميع من ناب عنهم ولكي يموت عوضًا عنهم ويرفع عنهم الدين، فإنه قد سمّر خطايانا على الخشبة. أي أن الحية المرفوعة في البرية هي إشارة واضحة إلى الخطايا التي حملها السيد المسيح فوق الصليب مسمّرًا إياها بالخشبة. لقد صعد السيد المسيح إلى الصليب حاملًا الحية مسمّرًا إياها بالصليب، ثم نزل من على الصليب بعد قبوله الموت فداءً عنا تاركًا الحية مسمّرة هناك. فكل من ينظر إلى الصليب يرى الخطية وهى مدانة "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو8: 3). كل من ينظر إلى الصليب ويؤمن بأن الرب المسيح قد دفع عنه دين خطاياه يستحق أن يبرأ من سم الحيّات، أي أن يبرأ من خطاياه في المعمودية أو في سرى الاعتراف والتناول إذا كان من الذين قد نالوا العماد بالمسيح. إن العجيب في الأمر أن ترمز الحية المرفوعة إلى صليب السيد المسيح الذي كان هو نفسه بلا خطية وحده. ولكن هكذا يقول الكتاب إن الله قد "جعل الذي لم يعرف خطية؛ خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كو5: 21). أي أن الرب المسيح قد أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. أخذ الخطايا وحملها وحمل عارها لكي نلبس نحن بره "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل3: 27). صارت الحيّة المرفوعة ترمز إلى المسيح المصلوب.. وصارت عصا الرعاية في البرية -التي تحوّلت في يد موسى إلى حيّة وابتلعت حيّات سحرة فرعون- هي نفسها الوسيلة التي ضرب بها موسى البحر الأحمر وشق مياهه لعبور المفديين. ولهذا يحمل الأسقف عصا الرعاية في صورة حيّة نحاسية مرفوعة ترمز إلى صليب المسيح حيث قَتل السيدُ الموتَ بموته مسمرًا خطايانا بالصليب. لقد أشهر السيد المسيح الشيطان وأدان الخطية بالصليب "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)" (كو2: 15). إن ارتفاع السيد المسيح على الصليب هو إعلان للجميع أنه هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو إعلان للجميع أن الخطية قد دينت، وأن اللعنة قد أزيلت، وأن الموت قد مات. ما أجمل اللحن الذي يُقال في قداس القديس يوحنا ذهبي الفم عن الرب المسيح وموته المحيى على الصليب: [عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذي لا يموت. حينئذ أمت الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى، صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطى الحياة، المجد لك]. إن قيامة السيد المسيح من الأموات، هي استعلان لحقيقة أنه قد داس الموت بالموت. أي أن الموت الذي سحقه السيد المسيح بموته على الصليب لم يكن ممكنًا أن يمسكه لأنه قد انهزم منه، حتى أن النبي تغنى قائلًا: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية. ابتلع الموت إلى غلبة" (انظر هو13: 14، 1كو15: 55، 54). إن كان السيد المسيح قد قبِل الموت بنعمة الله نيابة عنّا، فإنه قد انتصر لنا.. ولهذا صرخ في لحظة موته على الصليب "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" (لو23: 46). إنها صرخة الانتصار نيابة عن الإنسان الذي غاب طويلًا عن يدي الآب، إذ كان تحت سلطان موت الخطية كما أوضح معلمنا بولس الرسول عما فعله الرب المسيح للبشرية المفتداة "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15). كما أن القديس أثناسيوس الرسولي قد عبّر عن هذه الحقائق بكلماته الرائعة في كتاب "تجسّد الكلمة" كما يلي: [وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسدًا مماثلًا لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا، وذلك (أولًا) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضى بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشر الذين ناب عنهم. (ثانيًا) لكي يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن انحدروا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت (يبيد الموت عنهم)، كإنقاذ القش من النار] (الفصل الثامن- الفقرة رقم 4). يطلب ويخلص ما قد هلك قال السيد المسيح لنيقوديموس: "لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم" (يو3: 17). أتى السيد المسيح في مجيئه الأول لخلاص العالم. وسوف يأتي في مجيئه الثاني ليدين العالم. فحديثه مع نيقوديموس أن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلُص به العالم، مقصود به المجيء الأول للسيد المسيح وليس المجيء الثاني، هذا من ناحية خصوصية المجيء وليس شموليته. ولكن الحديث أيضًا له شمولية عن تأثير إرسال الابن الوحيد إلى العالم. بمعنى أن الهدف الأصلي من إرساله ليس لإدانة العالم بل لخلاصه. ففي الإطار العام يكون الهدف هو الخلاص والفداء. فالغضب الإلهي كان سيمكث على العالم لو لم يرسل الله ابنه الوحيد لإتمام الخلاص والفداء. وهذا واضح من كلام القديس يوحنا المعمدان الذي سجله إنجيل القديس يوحنا "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" (يو3: 36). أي أن السيد المسيح قد جاء ليرفع الغضب الإلهي الكائن بالفعل ضد جميع البشر منذ سقوط الإنسان ومعصيته وفساد طبيعته. وقد أكّد القديس بولس الرسول فساد الطبيعة البشرية بقوله: "كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو3: 10-12). وقال أيضًا عن وراثة الخطية الأصلية وحكم الموت: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع" (رو5: 12). وقال معلمنا داود النبي: "لأني هأنذا بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي" (مز50: 5). أي أن الإنسان قد حُبل به وارثًا الخطية الأصلية وولد بها من بطن أمه. كما أنه قد ورث فساد الطبيعة. وفى المقابل يتحرر الإنسان من الخطية الأصلية كما أنه ينال الطبيعة الجديدة في المسيح بالمعمودية. كقول معلمنا بولس الرسول "لأننا كنا نحن أيضًا قبلًا أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية" (تى3: 3-7). فكما يرث الإنسان الخطية الأصلية والموت وفساد الطبيعة بولادته الجسدية من آدم هكذا يرث البر والحياة. وتجديد الطبيعة بالمسيح "لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1كو15: 22). وقال السيد المسيح عن مجيئه إلى العالم: "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10). أي أنه "قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). ما هي الدينونة؟ أكمل السيد المسيح حديثه مع نيقوديموس حول الدينونة فقال: "وهذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19). كانت البشرية غارقة في الظلمة وظلال الموت. وقال إشعياء النبي: "ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش9: 1، 2). ليست المشكلة أن يجلس الإنسان في أرض ظلال الموت منتظرًا النور. بل المشكلة في أن يبغض النور ويُسَّرْ بالظلام. فالذين انتظروا مجيء المخلّص -كما قال يعقوب أب الآباء قبل موته مباشرة "لخلاصك انتظرت يا رب" (تك49: 18)- ذهب الرب إليهم في ظلمة الجحيم، في بيت السجن وبشرهم بالخلاص وأخرجهم من هناك. الذين رقدوا على رجاء الخلاص وصلت إليهم بشارة الخلاص بعد رقادهم.. ولكن الذين يحبون الظلمة أكثر من النور لا يمكنهم أن ينالوا الخلاص سواء كانوا قد رقدوا قبل مجيء المخلّص وإتمام الفداء، أو عاينوا المسيح الرب أو جاءوا بعد مجيئه إلى العالم وصعوده إلى السماوات. الدينونة تنبع من واقع ميول الإنسان ورغباته. فهو الذي يحدد مصيره بما يشتاق إليه. كما قال السيد المسيح: "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا" (مت6: 21). الدينونة هي في رفض محبة الخير.. في رفض محبة الله.. في رفض عطية النعمة والخلاص والتجديد.. في رفض معانقة النور والالتحاف به.. في تفضيل حياة الخطية على حياة البر.. في مقاومة عمل الروح القدس داخل القلب.. في الفرح بالشر والابتهاج به وكراهية النور الذي يبعثه الله في حياة الإنسان "لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة" (يو3: 20، 21). إن مجيء المسيح نور العالم هو فرصة لتحرير من يريد الحرية، ولن ينتفع منه شيئًا رافضي الحق والنور والحياة ممن أحبوا الظلمة أكثر من النور. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:15 PM | رقم المشاركة : ( 38 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
السيد المسيح ومواجهته لليهود أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق قال السيد المسيح لليهود: "أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يو8: 23). من المعروف طبعًا أن السيد المسيح قد اتخذ من العذراء مريم طبيعة بشرية كاملة جسدًا وروحًا بلا خطية وبدون زرع بشر. ولكن هذه الطبيعة البشرية التي اتخذها لم تنزل من السماء بل تم تكوينها من العذراء مريم بالكامل، بفعل الروح القدس. فلماذا يقول السيد المسيح لليهود: "أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق"؟ السبب الأول في ذلك: أن السيد المسيح لم يكن ناسوتًا فقط، بل كان ناسوتًا متحدًا باللاهوت، ومعلوم طبعًا أن الابن الوحيد هو مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته. ولذلك قال لليهود: "الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 58). وبالطبع فإن شخص السيد المسيح كائن قبل كل الدهور بلاهوته. وهو حينما تجسد، لم يتخذ شخصًا من البشر ليسكن فيه، بل هو هو نفسه بنفس شخصه قد اتخذ طبيعة بشرية وصار إنسانًا لأجل خلاصنا. لذلك فحينما يقول كلمة "أنا"فإنه يتكلم عن شخصه الواحد الوحيد كقول القديس أثناسيوس [لقد جاء كلمة الله في شخصه الخاص The Word of God came in His own Person] وهذا الشخص الواحد الوحيد مرتبط أولًا وقبل كل شيء بطبيعته الإلهية، وحتى حينما أتى وتجسد من مريم العذراء فإنه ظل هو ابن الله الوحيد، كما نقول في التسبحة (لم يزل إلهًا؛ أتى وصار ابن بشر؛ لكنه هو الإله الحقيقي؛ أتى وخلصنا) (ثيئوطوكية الخميس qeotokia). وقال القديس بولس الرسول: "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16). والسبب الثاني هو: كون اليهود يحبون العالم ويتمسكون به، فإنه يجعلهم من أسفل لهذا قال السيد المسيح عن تلاميذه القديسين: "ليسوا من العالم، كما أنى أنا لست من العالم" (يو17: 16). وقال لهم: "لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم" (يو15: 19). فبالرغم من ولادة التلاميذ من أبوين بحسب الجسد إلا أنهم بولادتهم الثانية من فوق سوف ينطبق عليهم قول السيد المسيح أن "المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6). وليس معنى ذلك الكلام أن تلاميذ المسيح سوف يفقدون أجسادهم بالميلاد الفوقاني، ولكن سوف يسلكون بالروح وتكون اشتياقاتهم روحية سمائية غير خاضعة لشهوات الجسد الباطلة. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.. فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح يهتمون. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام" (رو8: 1، 5، 6). لقد قدّم السيد المسيح نفسه قدوة للوضع المثالي لحياة الإنسان. وطالب تلاميذه أن يتبعوا أثر خطواته حاملين الصليب منكرين ذواتهم ليتمكنوا من السلوك بحسب الروح بمعونة من الروح القدس، وبهذا يتأهلون لميراث ملكوت السماوات. وقد شرح القديس يوحنا الإنجيلي أيضًا هذا المفهوم بقوله: "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو1: 12، 13). بالطبع فإن القديس يوحنا يتكلم عن الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، وذلك بالنسبة للمؤمنين بالمسيح. وهذا على سبيل عطية النعمة. أما بالنسبة للسيد المسيح شخصيًا فقد ولد من العذراء مباشرة كابن لله، كما قال الملاك للعذراء مريم "القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو1: 35). والسيد المسيح باعتباره الله الكلمة له ميلاد واحد بحسب إنسانيته وهو ميلاده من العذراء مريم. ولكن له ميلاد آخر ينفرد به وحده وهو ميلاده بحسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور. لذلك دُعى السيد المسيح "ابن الله الوحيد"وليس "ابن الله" فقط. وقد قال السيد المسيح في حديثه مع نيقوديموس عن الفداء: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16). إن بنوة السيد المسيح للآب السماوي هي بنوة طبيعية، أما بنوتنا نحن فهي بالتبني على سبيل النعمة. وحينما ولد السيد المسيح من العذراء مريم فقط، ظل هو الابن الوحيد الذي لم يولد من العذراء مريم آخر سواه في تجسده الفريد باعتباره الله الكلمة المتجسد الذي نمجده في كل رفع بخور وقداس في صلواتنا الكهنوتية قائلين: (يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد بأقنوم واحد نسجد له ونمجده) (الأرباع الخشوعية التي يقولها الكاهن بين الخورس الأول والثاني في رفع البخور). "فتشوا الكتب" (يو5: 39) حدثت مواجهات كثيرة بين السيد المسيح واليهود، لخّصها القديس يوحنا الإنجيلي في عبارته المشهورة "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يو1: 11). وقال السيد المسيح عن موقف اليهود الرافضين له: "هذه هي الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19). أي أن رفض اليهود لرسالة السيد المسيح كان نابعًا أساسًا من محبتهم للمال أو محبتهم للعالم، أو محبتهم لذواتهم، أو محبتهم للشهوات الجسدية، أو لغرورهم أو لكبرياء قلوبهم، أو لمحبتهم للسلطة، أو محبتهم للمجد العالمي، أو لرغبتهم في إثبات بر أنفسهم، أو لرغبتهم في مملكة أرضية ترضى تطلعاتهم الزمنية، أو لعدم اكتراثهم بحاجتهم للخلاص من عبودية الشيطان والخطية، أو لعدم إيمانهم بالقيامة من الأموات أو بالحياة الأبدية، أو من بعض أو كل هذه الأسباب مجتمعة. لهذا قال السيد المسيح لليهود: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالًا للناس من البدء" (يو8: 44). كان اليهود يتكلمون على أنهم أبناء إبراهيم، ويتكلمون على أن موسى هو نبيهم وعلى الأسفار المقدسة التي كتبها لهم؛ أي على التوراة وباقي أسفار العهد القديم التي كتبها الأنبياء. بل كانوا يتكلمون على أن الله هو أباهم الواحد. وقد رد السيد المسيح على كل هذه الأشياء موضحًا لهم أنها كلها كان المفروض أن تقودهم إلى الإيمان به وبرسالته، ولهذا فأنها ستشهد ضدهم لأنهم لم يؤمنوا به. فحينما قالوا للسيد المسيح إن إبراهيم هو أبوهم، رد عليهم بقوله: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (يو8: 39). وحينما قالوا له: "لنا أب واحد وهو الله" (يو8: 41)،رد عليهم بقوله "لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني" (يو8: 42). وبالنسبة لاتكال اليهود على أن لديهم التوراة وباقي الأسفار الإلهية، ويفتخرون بذلك قال لهم السيد المسيح: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهى التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة" (يو5: 39، 40). ونظرًا لافتخارهم بأن نبيهم موسى الذي استلم الوصايا العشر وكتب التوراة أي الشريعة الإلهية، قال لهم السيد المسيح: "لا تظنوا أنى أشكوكم إلى الآب. يوجد الذي يشكوكم وهو موسى، الذي عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني. لأنه هو كتب عنى. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فكيف تصدقون كلامي؟" (يو5: 45-47). وقال لهم أيضًا: "أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس، لماذا تطلبون أن تقتلوني؟!" (يو7: 19). معرفة اليهود لله ظن اليهود أنهم يعرفون الله وأنه هو إلههم ولكن السيد المسيح أظهر لهم أنهم كاذبون لأنهم رفضوا رسالته والإيمان بأن الله قد أرسله. ولهذا قال لهم: "لستم تعرفوننى أنا ولا أبى. لو عرفتموني لعرفتم أبى أيضًا" (يو8: 19). "إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم" (يو8: 24). "متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون أني أنا هو" (يو8: 28). "من نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني" (يو7: 28، 29). "أبى هو الذي يمجدني الذي تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه، أما أنا فأعرفه. وإن قلت إني لست أعرفه أكون مثلكم كاذبًا" (يو8: 54، 55). من هذا يتضح أن السيد المسيح قد أكّد مرارًا لليهود أنهم كاذبون في ادعائهم أنهم يعرفون الله ويعبدونه. لأن من يرفض إرسالية السيد المسيح يكون قد رفض الله وهو واهم في الإدعاء بأنه يعرف الله ويعبده. ولكن هذا الكلام لم ينطبق على اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح بل قال لهم: "إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو8: 31، 32). رغبة اليهود في قتل السيد المسيح أراد السيد المسيح أن يبين لليهود الفرق بينهم وبين إبراهيم الذي يفتخرون بأنه أبوهم فقال لهم: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو8: 56). فقال له اليهود: "ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت إبراهيم؟" (يو8: 57). أجابهم يسوع: "الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 58). "فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا" (يو8: 59). وقد ظلت المواجهات بين السيد المسيح واليهود مستمرة حتى وصلت إلى ذروتها، حينما أقام لعازر من الأموات وفي أحداث الأسبوع السابق لصلبه وبالفعل تآمروا عليه وصلبوه، ولكنه نقض تآمرهم بانتصاره الساحق على الموت بقيامته حيًا من الأموات وصعوده إلى السماوات وإرساله الروح القدس لكي يشهد الرسل بقيامته ببرهان الروح والقوة. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:16 PM | رقم المشاركة : ( 39 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
التعليم عن الاتضاع في الخدمة السيد المسيح كما سلك السيد المسيح في اتضاع فائق وإخلاء ذات؛ هكذا علّم عن الاتضاع في خدمته، إلى أن أتى إلى غسل الأرجل والآلام والصليب حيث رأينا الاتضاع يتألّق فوق قمة الجلجثة. ولهذا نستمع إلى تعاليم السيد المسيح باعتباره قد عمل وعلّم "جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به" (أع1: 1). المتكآت الأولى دُعي السيد المسيح إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين في يوم السبت ليأكل. ولاحظ كيف اختار المدعوون المتكآت الأولى، وتسابقوا متنافسين عليها. لاحظ كيف ينهزم الإنسان داخليًا، حينما يسعى للتفوق على غيره، متجاهلًا مشاعر الآخرين، وبلا أي نفع يجنيه سوى محبته للظهور وإثبات الوجود الذي بلا ثمرة. فقال للمدعوين مثلًا: "متى دعيت من أحد إلى عرس فلا تتكئ في المتكأ الأول، لعلَّ أكرم منك يكون قد دُعي منه. فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك أعطِ مكانًا لهذا. فحينئذٍ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومَن يضع نفسه يرتفع" (لو14: 8-11). بالرغم من بساطة المثل، إلا أنه ممتلئ بالحكمة، ويتميز بالتصوير الدقيق للمعنى الذي قصده السيد المسيح. الإنسان المتضع يجد سهولة كبيرة في أن يجلس في المتكأ الأخير، أي في الموضع الأخير. بل يعتبر أن هذا هو مكانه الطبيعي، وأنه لا يستحق مكانًا أفضل منه. كما أنه يفرح بتقديم غيره على نفسه "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو12: 10). حاسبين البعض أفضل من أنفسهم. المثل الذي أعطاه السيد المسيح، أوضح بأجلي صورة كيف أن محب الكرامة يعرّض نفسه لمواقف يسئ بها إلى نفسه وكرامته. وكيف أن الكرامة الحقيقية هي في الهروب من الكرامة. محب الكرامة يتعب دائمًا إذا لم يحصل على رغباته، ويتعب من إهمال الآخرين له. محب الكرامة يتعب إذا لم يمدحه أحد، ويتعب إذا مُدح غيره. محب الكرامة يستجدى المديح من الناس، فإذا لم يمدحه أحد يبدأ هو في مديح نفسه، وفي الحديث عما يراه في أعماله من أسباب العظمة ودواعي الشكر والمديح. مع أن الكتاب يقول: "ليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبي لا شفتاك" (أم27: 2). كل هذه المعاني نستطيع أن نتعلمها من المثل الذي قاله السيد المسيح. ونتعلم أيضًا أن من يهرب من الكرامة، تجرى خلفه وترشد جميع الناس إليه،فالناس بطبيعتهم يميلون إلى الإنسان المتضع، ويرتاحون للتعامل معه. لأنهم يشعرون بتحرره من الأنانية، والانحصار حول الذات، وأنه يقدّم الآخرين على نفسه مقدّرًا إياهم، وشاعرًا بأنهم أفضل منه. المتضع يحبه الناس، والمتعالي يثير فيهم مشاعر الرفض وعدم الارتياح. المتضع يشبه منحدرًا متسعًا تجتمع إليه المياه وتملأه. والمتعالي يشبه قمة أو نتوءًا عاليًا لا تستقر فوقه المياه، بل تتركه سريعًا منحدرة إلى أسفل. هكذا تملأ النعمة الإلهية قلوب المتضعين. هناك من يحب الظهور فيظهر كبرياءه، وهناك من يختفي فيتألق اتضاعه ويجتذب إليه الجميع. محبة المتكأ الأخير تحتاج إلى اقتناع داخلي، وتحتاج إلى تدريب، وتحتاج إلى يقظة روحية وعين ساهرة متطلعة نحو إشراق الملكوت على النفس، حيث ترى في المسيح فرحها وسعادتها التي تغنيها عن كل مجد زائل وخادع. سباق المظاهر تكلّم السيد المسيح موجهًا تعليمه إلى الفريسي الذي دعاه: "إذا صنعت غذاءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءك، ولا إخوتك، ولا أقربائك، ولا الجيران الأغنياء. لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك. لأنك تكافى في قيامة الأبرار" (لو14: 12-14). تصوّر رئيس الفريسيين الذي استضاف السيد المسيح ليأكل في منزله، أن السيد المسيح سوف يفرح بكبار القوم والأغنياء والشخصيات المرموقة التي توافدت على البيت لحضور الوليمة. ولكن السيد المسيح في تواضعه كان يميل بالأكثر إلى مجالسة الفقراء والبسطاء، والمساكين. لم يسترح الرب لتنافس المدعوين على المتكآت الأولى ومشاعر العظمة التي ملأت قلوبهم. كما لم يكن شخصيًا تهمه الأمجاد العالمية ولا مجيء هؤلاء الأغنياء لمشاهدته، بل كان يهتم بغنى النفس في المحبة والتواضع و"زينة الروح الوديع الهادئ" (1بط3: 4). كل إنسان مثل ذلك الرجل يصنع وليمة، يفتخر بمن دعاهم من الأغنياء، ويبذل قصارى جهده لتظهر وليمته متفوقة على غيره من الأقران. وبهذا تنتشر مظاهر البذخ والترف في الولائم وفي مناسبات الأفراح وغيرها. ويتسابق الناس في دعوة الأغنياء الذين يتبادلون معهم إقامة مثل هذه الحفلات والولائم. وذلك في الوقت الذي يعانى فيه الفقراء من العوز والجوع. ولا يقيم مثل هذا الشخص مائدة بهدف إرضاء الله، بل هدفه الوحيد هو إرضاء الغرور، وإرضاء البشر، وتبادل المتعة والمنفعة. لابد لكل عمل يعمله الإنسان أن يكون بدافع الخير والمحبة، ولخير المجتمع الذي يعيش فيه ولبناء ملكوت الله. ليتمجد الله في كل شيء. وينبغي أن يجعل الإنسان له هدفًا مقدسًا لكل عمل يقوم به. المحبة الباذلة المتضع يستطيع أن يسلك في المحبة بلا عائق. فالكبرياء تصنع حجابًا على عيني الإنسان فلا يبصر حلاوة المحبة وجمالها الفائق الاتضاع. كثير من الناس يشفقون على حال الفقراء، ويتمنون أن يخدموهم، ولكن خدمة المساكين تحتاج إلى من ينزل إلى مستواهم، ويشاركهم ما هم فيه من معاناة وعوز. وقد قدّم السيد المسيح نصيحة ثمينة للرجل الذي دعاه، ولكل من سمعوا تعليمه الممتلئ بالحكمة الإلهية "إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى" (لو14: 13، 14). ألم يتنازل السيد الرب نفسه حينما تجسد إلى ذُلنا وتواضعنا، ليرفعنا إليه، لنتمتع بمجده في ملكوته السماوي، ولنجلس معه على مائدته في ملكوته. هل نحن كنا أحسن حالًا من هؤلاء المساكين الجدع والعرج والعمى، حينما كنا مستعبدين لإبليس وللموت قبل أن يخلصنا السيد المسيح من خطايانا، ويصالحنا مع الله أبيه؟! إن ما طالب به السيد المسيح في مسألة الوليمة هو شيء يسير، وصورة مصغّرة جدًا لما فعله هو معنا حينما دعانا إلى التمتع بمجده. أليست محبته هي التي جعلته يحتمل الذل والهوان، في اتضاع كبير، ليحررنا من مذلتنا وعبوديتنا المُرة، وليفتح أعين قلوبنا بعد العمى، وليحرك طاقات طبيعتنا بعد العجز الكامل والبؤس والضياع؟! حقًا إن المحبة تتشح بالاتضاع، والاتضاع يرافق المحبة، فاتحًا الطريق أمامها حتى تكمل عملها بفرح ومسرة. |
||||
11 - 03 - 2014, 06:18 PM | رقم المشاركة : ( 40 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
التعليم عن الوداعة وعدم مقاومة الشر في خدمة السيد المسيح قيل عن السيد المسيح بفم إشعياء النبي: "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق، لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يُخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم" (مت12: 18-21). لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. المقصود بالخصام هنا، الجدال المصحوب بالغضب، والصياح، والكراهية، والكلمات الجارحة، والذي يؤدى إلى العداوة المتبادلة. لهذا أوصى معلمنا بولس الرسول: "فأريد أن يصلى الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة، بدون غضب ولا جدال" (1تى2: 8). كان السيد المسيح يدافع عن الحق في وداعة عجيبة. لم يكن يهدد أو يتوعد، بل كان يثق في قوة الحق في ذاته.. لأن الحق يهدر مثل الرعد في قلوب المقاومين. وقد واجه السيد المسيح مواقف كثيرة تدعو إلى الغضب، واحتمل الكثير من الإهانات. ولكنه كان يواجهها بالاحتمال، ويجاوب بطريقة الإقناع الهادئ، كما ذكرنا من قبل عن أسلوبه في الحوار. كان السيد المسيح يدعو تلاميذه أن يتعلموا من أسلوبه هذا ويقول لهم: "احملوا نيري عليكم، وتعلّموا منى لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت11: 29). وبنفس هذه الروح أوصى بولس الرسول تلميذه الأسقف تيموثاوس أن يتجنب الخصومات في دفاعه عن الحق فقال: "والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالمًا أنها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقًا بالجميع، صالحًا للتعليم. صبورًا على المشقات. مؤدِّبًا بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق. فيستفيقوا من فخ إبليس. إذ قد اقتنصهم لإرادته" (2تى2: 23-26). بالطبع يجب أن يدافع الأسقف عن الحق، ويجب أن يؤدِّب المقاومين، ويجب أن يعزل العضو الفاسد، لئلا يؤثر على بقية الأعضاء. لأن "خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1كو5: 6). ولكن ما صنعه السيد المسيح، وما أوضحه بولس الرسول، هو أن أسلوب الدفاع، وأسلوب التأديب، ينبغي أن يكون في إطار الوداعة، وبروح الاتضاع التي تليق بالراعي. الصراع الحقيقي هو مع إبليس، وليس مع الخطاة، أو مع المقاومين. والراعي الحكيم يهدف إلى تخليص الذين اصطادهم إبليس لإرادته. وهذا لا يتم بالدخول في عداوة مع من يرغب الراعي في تخليصهم.. بل بترفقه بهم، وصلاته من أجلهم، ومحاولته إقناعهم، وأحيانًا بتأديبه لهم بروح الوداعة. كما لا يجب التفريط في باقي الرعية، وحمايتهم من التأثير الضار. أسلوب الصياح والتهديد والدخول في المعارك الكلامية الصاخبة، لا يتناسب مع اتضاع السيد المسيح كخادم للخلاص. لهذا قيل عنه "لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت12: 19). "قصبة مرضوضة لا يقصف" (مت12: 20) بترفقه بالخطاة، وبترفقه بالمقاومين، كان يطيل أناته عليهم، لعله يقتادهم إلى التوبة. لهذا قيل عنه "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يُخرج الحق إلى النصرة" (مت12: 20). كم من نفوس خلّصها السيد المسيح بترفقه وطول أناته، مثل زكا العشار، والمرأة السامرية، واللص اليمين، ومثل قائد المئة الذي صلب السيد المسيح، والذي اعترف بألوهيته بعد الصلب مباشرة بقوله: "حقا كان هذا الإنسان ابن الله" (مر15: 39). وكثيرون غيرهم ممن ذكرت أسماؤهم في الأناجيل أو كانوا في وسط الجموع الصاخبة التي صرخت: اصلبه اصلبه.. هذه الفتائل المدخنة هذه القصبات المرضوضة كان السبب في وصولها إلى معرفة الحق أو في تحررها من سلطان الخطية، هو وداعة السيد المسيح واتضاعه في خدمته لها. عدم مقاومة الشر قال السيد المسيح: "لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا" (مت5: 39)،وقال: "من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا" (مت5: 40)، وليس المقصود بكلمة لا تقاوموا الشر أن لا نقاوم الخطية فالكتاب يقول: "قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع4: 7)، فمقاومة الشر بمعنى مقاومة الخطية.. ليس هو ما قصده السيد المسيح بقوله لا تقاوموا الشر، بل كان يقصد بالشر المشاجرة والعدوان مع الآخرين. وقد قال الكتاب أيضًا: "إن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 20، 21). والرب يجازيك لأنه مكتوب: "لي النقمة أنا أجازى يقول الرب" (رو12: 19). ويدعونا أيضًا بطرس الرسول أن نتشبه بالسيد المسيح "الذي إذ شُتِم لم يكن يَشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل" (1بط2: 23). عندما شُتِم السيد المسيح لم يكن يَشتم عوضًا بل سلّم لله الآب. ونتيجة لذلك عندما قام من الأموات كل الذين شتموه صاروا في خزي وخجل. لأن الذي شتموه قد انتصر على الموت، والذي قالوا عنه أنه مجدِّف ومضل أُعلن لهم أنه هو رئيس الحياة وقدوس القديسين، من خلال انتصاره على الموت وقيامته المجيدة.. فالذي شَتَم هو الذي صار مخزيًا وليس الذي شُتِم. وبهذا قدّم لنا السيد المسيح تطبيقًا عمليًا في حياته لِما علّم به تلاميذه والجموع. اغلب بالمحبة وروح الوداعة لقد احتمل السيد المسيح الخزي في لحظات الآلام والصلب، لكن بعد هذا تحول كل ذلك إلى مجد.. فعندما قال السيد المسيح: "لا تقاوموا الشر"كان يعلم أن هذا الكلام هو من أجل منفعتنا. لأن من يقاوم الشر فالشر يؤذيه.. وعندما قال السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم" (مت5: 44) كان يقصد أننا نغلب أعداءنا بالمحبة، لأن الذي يغلب عدوك هو محبتك أكثر من عداوتك وكراهيتك. الإنسان الذي يستخدم العنف هو إنسان لا يستحق أن يكون مسيحيًا. بل تكون نتيجة عنفه؛ أذيته هو أكثر مما يستطيع أن يؤذى غيره. فالعنف لا يعطيه نصرة أو مجد كما يتصور إنما يسبب له أذية أكثر مما يتوقع. فوصايا السيد المسيح ليست لتقييدنا كما يفتكر البعض، أو يقول أن الوصية صعبة. لكن الحقيقة أن السيد المسيح يسعى لأجل منفعتنا، لأنك إن فعلت ذلك ينجيك من الشر الذي يمكن أن يؤذى روحك. اغلب الشر بالخير "لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 21)، فإذا قدّمت محبة للذي يخاصمك، تغلبه بمحبتك وتكون أنت الذي انتصرت. لكن بدلًا من أن تنتصر بقوة السلاح تنتصر بقوة الخير وقوة الحب الساكن فيك. وإذ يأمرنا السيد المسيح بهذا لا يدعونا أن نكون جبناء أو أن نخاف، فهو الذي قال: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر" (لو12: 4)، وهو الذي شجّع أولاده أن يصيروا شهداء كالشهيدة دميانة والأربعين عذراء.. أين الجبن هنا؟! الإنسان المسيحي مستعد أن يواجه الأباطرة والحكام وينال إكليل الشهادة إذا طُلب منه أن يتنازل عن مسيحيته، كما طُلب من القديسة دميانة أن تبخر للأصنام أو تسجد لها ولكنها دفعت والدها مرقس وإلى البرلس إلى أن يصير شهيدًا، بل وصارت هي أيضًا أميرة بين الشهيدات. مفهوم الشجاعة في المسيحية المسيحية لا تدعو الإنسان إلى الخوف، أو إلى الجبن، بل تدعوه أن يكون قويًا شجاعًا، ولكن الشجاعة ليست أن يحمل سلاحًا، ولا يطمئن لشيء يحميه إلا السلاح. فيبدو في الظاهر أنه شجاع لكنه في الحقيقة من الداخل لا يجد سلامًا أو طمأنينة. أما القديسون فيشعرون دائمًا بعدم خوف.. لماذا؟ لأن "ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم" (مز33: 7). الإنسان القديس أو الإنسان المؤمن، بل الإنسان المسيحي الحقيقي، يشعر أن الملائكة تحرسه، ويشعر أن أرواح القديسين تحرسه وتشفع من أجله. فيشعر بالطمأنينة ويصدّق كلمات السيد المسيح الذي قال: "بل شعور رؤوسكم أيضًا جميعها محصاة" (لو12: 7)، و"شعرة من رؤوسكم لا تهلك" (لو21: 18)، بذلك يشعر أنه ليس بحاجة إلى أن يرخِّص سلاحًا كي يحميه. فاستخدام السلاح هو إلقاء وقود على النار، بينما الكتاب المقدس يقول "لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رو12: 21).. أفضل سلاح تستخدمه هو سلاح المحبة، سلاح الوداعة.. السيد المسيح قال: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (مت5: 5). الودعاء يرثون الأرض ما معنى أنهم يرثون الأرض؟ الإنسان الوديع يكون محبوبًا من جيرانه، ومحبوبًا من أهله وبحبه هذا يستطيع أن يرث الأرض، لأن كل الناس صاروا مِلكًا له. وإذ يحبه الناس يصيرون مِلكًا له أي يملك على قلوبهم، فأنت تملك جارك وتملك بيته وتملك حقله وتملك كل شيء فيه.. وكيف ذلك؟ لأنه يحبك وإذا أحبك فأنت تملك كل شيء.. البغضة تجعل الإنسان منبوذًا مكروهًا غير مرغوب فيه. هكذا فإن كل من يكره يخسر، بينما ينجح كل من يحب. أعظم سلاح يستخدمه الإنسان لكي يغلب عدوه هو سلاح الحب وليس سلاح الكراهية.. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أفضل وسيلة تتخلص فيها من عدوك هي أن تحول هذا العدو إلى صديق] وبذلك تكون قد تخلّصت منه -ليس بالقضاء عليه، أو بقتله، أو أذيته- لكن تخلّصت منه كعدو إذ حولته إلى صديق، وصار هذا الصديق يحبك فلم يعد عدوًا على الإطلاق. كما أنك تكون قد كسبت صديقًا جديدًا وهكذا يتزايد عدد الذين يحبونك. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
من كتاب مشتهى الأجيال: صعود المسيح |
من كتاب مشتهى الأجيال: من القدس إلى قدس الأقداس |
من كتاب مشتهى الأجيال: التجربة على الجبل |
من كتاب مشتهى الأجيال: مصير العالم يتأرجح |
من كتاب مشتهى الأجيال: يأس المخلص |