وأكثر هذه الطلسمات أو كلها كانت مودعة في سقف هذا المعبد، مما يلي السبع، فأحرقت لما أحرق ليلة النصف من شعبان بعد العصر، سنة إحدى وستين وأربعمائة، في دولة الفاطميين كما سيأتي ذلك في موضعه. (ج/ص: 9/172)
وقد كانت بدمشق طلسمات وضعتها اليونان بعضها باق إلى يومنا هذا، والله أعلم. فمن ذلك: العمود الذي في رأسه مثل الكرة في سوق الشعير عند قنطرة أم حكيم، وهذا المكان يعرف اليوم بالعلبيين، ذكر أهل دمشق أنه من وضع اليونان لعسر بول الحيوان، فإذا داروا بالحيوان حول هذا العمود ثلاث دورات انطلق باطنه فبال، وذلك مجرب من عهد اليونان.
قال ابن تيمية عن هذا العمود: إن تحته مدفون جبار عنيد، كافر يعذب، فإذا داروا بالحيوان حوله سمع العذاب فراث وبال من الخوف، قال: ولهذا يذهبون بالدواب إلى قبور النصارى واليهود والكفار، فإذا سمعت أصوات المعذبين انطلق بولها.
والعمود المشار إليه ليس له سر، ومن اعتقد أن فيه منفعة أو مضرة فقد أخطأ خطأً فاحشاً. وقيل: إن تحته كنزاً وصاحبه عنده مدفون، وكان ممن يعتقد الرجعة إلى الدنيا كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37]، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما زال سليمان بن عبد الملك يعمل في تكملة الجامع الأموي بعد موت أخيه مدة ولايته، وجددت له في المقصورة. فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزم علي أن يجرده مما فيه من الذهب، ويقلع السلاسل والرخام والفسيفساء، ويرد ذلك كله إلى بيت المال، ويجعل مكان ذلك كله طيناً، فشق ذلك على أهل البلد واجتمع أشرافهم إليه، وقال خالد بن عبد الله القسري: أنا أكلمه لكم.
فقال له: يا أمير المؤمنين بلغنا عنك كذا وكذا، قال: نعم ! فقال خالد: ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ولم يا ابن الكافرة؟ - وكانت أمه نصرانية رومية أم ولد - فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت كافرة فقد ولدت رجلاً مؤمناً، فقال: صدقت، واستحيا عمر ثم قال له: فلم قلت ذلك؟ قال: يا أمير المؤمنين لأن غالب ما فيه من الرخام إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الأقاليم، وليسهو لبيت المال، فأطرق عمر. قالوا: واتفق في ذلك الزمان قدوم جماعة من بلاد الروم رسلاً من عند ملكهم، فلما دخلوا من باب البريد وانتهوا إلى الباب الكبير الذي تحت النسر، ورأوا ما بهر عقولهم من حسن الجامع الباهر، والزخرفة التي لم يسمع بمثلها، صعق كبيرهم وخر مغشياً عليه، فحملوه إلى منزلهم، فبقى أياماً مدنفاً، فلما تماثل سألوه عما عرض له فقال: ما كنت أظن أن يبني المسلمون مثل هذا البناء، وكنت أعتقد أن مدتهم تكون أقصر من هذا، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز قال: أو إن الغيظ أهلك الكفار، دعوه.
وسألت النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز أن يعقد لهم مجلساً في شأن ما كان أخذه الوليد منهم، وكان عمر عادلاً، فأراد أن يرد عليهم ما كان أخذه الوليد منهم فأدخله في الجامع، ثم حقق عمر القضية، ثم نظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة، مثل كنيسة دير مران بسفح قاسيون، وهي بقرية المعظمية، وكنيسة الراهب، وكنيسة توما خارج باب توما، وسائر الكنائس التي بقرى الحواجز.
فخيرهم بين رد ما سألوه وتخريب هذه الكنائس كلها، أو تبقى تلك الكنائس ويطيبوا نفساً للمسلمين بهذه البقعة، فاتفقت آراؤهم بعد ثلاثة أيام على إبقاء تلك الكنائس، ويكتب لهم كتاب أمان بها، ويطيبوا نفساً بهذه البقعة، فكتب لهم كتاب أمان بها.
(ج/ص: 9/173)
والمقصود أن الجامع الأموي كان حين تكامل بناؤه ليس له في الدينا مثيل في حسنه وبهجته.
قال الفرزدق: أهل دمشق في بلادهم في قصر من قصور الجنة - يعني الجامع -
وقال أحمد بن أبي الحواري: عن الوليد بن مسلم، عن ابن ثوبان: ما ينبغي لأحد من أهل الأرض أن يكون أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرون من حسن مسجدها. قالوا: ولما دخل أمير المؤمنين المهدي دمشق يريد زيارة القدس نظر إلى جامع دمشق فقال لكاتبه أبي عبيد الله الأشعري: سبقنا بنو أمية بثلاث: بهذا المسجد الذي لا أعلم على وجه الأرض مثله، وبنبل الموالي، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبداً. ثم لما أتى بيت المقدس فنظر إلى الصخرة - وكان عبد الملك بن مروان هو الذي بناها - قال لكاتبه: وهذه رابعة.