النظر إلى قدام والشكر
مشكلتنا في عدم الشكر، أننا لا ننظر إلى قدام.
إنما ننظر إلى تحت أقدامنا فقط، إلى مجرد الواقع الذي نعيشه! دون النظر إلى بعيد، إلى سوف يحدث فيما بعد.. ولا نلتفت مطلقًا إلى هدف الله من هذا الأمر الذي يتعبنا، أقصد هدفه المفرح لنا.. سوف أضرب لهذا مثالين:
ولادة إنسان أعمى: أكانت خيرا نشكر عليه؟!
حتى التلاميذ ظنوه عقوبة، فقالوا بجهل (هل أخطأ هذا الإنسان أم أبواه؟) متأثرين بأفكار خاطئة نقلت من العالم الوثني عن طريق الرحلات.. أما السيد المسيح فوضع أمامهم التدبير الإلهي الذي يستحق كل شكر، فقال لهم (لا أخطأ هذا ولا أبواه. لكن لتظهر أعمال الله فيه) (يو 9: 3)
لولا ولادته أعمى، ما كانت تحدث هذه المعجزة العظيمة في حياته، وتكون نتائجها إيمانه بالرب وسجوده له ودفاعه عنه.. وصارت له عينان روحيتان مفتوحتان تريان ما لا يرى.. وهكذا دخل الرجل إلى التاريخ، وظهرت أعمال الله فيه، وكانت سببا لإيمان الكثيرين. وهذا أمر نشكر الله عليه.
ولكننا للأسف لا نشكر، إلا بعد أن نرى النتائج!
أما الإيمان، فيعطى الثقة بأنه لابد أن يكون هناك خير ما سواء رأيناه أم لم نره.. وطوبى لمن آمن دون أن يرى) (يو 20: 29) وطوبى لمن يرى بالإيمان ما لا يرى (عب 11: 1).
مثال آخر هو موت لعازر أخي مريم ومرثا:
أكان مرض لعازر وموته أمرا يدعو إلى الشكر؟! واضح أن مريم بكت، واليهود الذين جاءوا معها بكوا أيضا، وعاتبت الرب قائلة (يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي) (يو 11: 32، 33).
وبنفس العبارة عاتبته مرثا (يو 11: 21) ومع ذلك فان هذا كله كان (لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به) (يو 11: 4).
لو عرف الناس ما سيفعله الرب بعد موت لعازر، لشكروا على مرض لعازر وموته، ليظهر مجد الله.
لأنه كم أنتشر الإيمان بإقامة لعازر بعد أربعة أيام من موته (يو 11: 45) وهذا أمر يدعو إلى الشكر بلا شك.. ولكن الناس ما كانوا يشكرون لما مرض لعازر ومات! فلماذا؟ ذلك لأن رؤيتنا البشرية قاصرة.. كل ما تستطيعه أنها تذهب إلى القبر، حيث دفنوا لعازر، وتقف خارج القبر تبكى!
أما الإيمان فيمتد إلى أربعة أيام بعد هذا.
فيرى لعازر خارجا من القبر ملفوفا بأقمطة..! ويرى مجد الله، وإيمان الناس فيشكر.
مثال آخر، وهو مجاعة مصر أيام يوسف:
لا يوجد أحد يشكر على حدوث مجاعة..! ومع ذلك كانت تلك المجاعة للخير. إذ أنها أظهرت بر وحكمة يوسف الصديق. وقدمت لنا أحلاما ورؤى من الله، حتى لفرعون وكانت تلك المجاعة خيرا وبركة، فبسببها التقى يوسف مع أبيه، ومع أخوته، وتصالح معهم، وعالهم في أرض جاسان.. وكانت فرصة أن ينال ابناه بركة يعقوب أبيه.. أليست كل هذه الأمور أسبابا نشكر الله عليها؟! أما عن المجاعة، فقد دبر الله أمر علاجها، بأن سبقتها سبع سنوات من الشبع والخير، تم فيها تخزين ما يلزم لسنوات الجوع. وهذا أيضا تدبير إلهي يستحق الشكر أيضًا.. وكل الأمور تعمل معًا للخير..
فلنتأمل أيضا الشكوك التي حامت حول البابا ديمتريوس الكرام.
أنه أمر يبدو سيئا في ذاته. ولكن هذه الشكوك عينها، كانت السبب في إظهار قدسية هذا البابا العظيم، وأظهرت للناس بره وعفته وبتوليته. كما كانت مناسبة تدخلت فيها يد الله بمعجزة وتعيد الكنيسة لذلك اليوم في السنكسار (12 بابة).
ولا شك أن الشعب كله شكر الله، كما شكره البابا ديمتريوس وزوجته، تحولت الشكوك إلى تمجيد، وتحول يوم الألم إلى يوم عيد..
نتحدث بهذه المناسبة عن متاعب داود النبي:
ما كان يظن أن متاعب داود النبي -سواء مع شاول أو أبشالوم أو غيرهما- ستؤول إلى هذه المزامير الجميلة العميقة، التي تعزينا جميعا.. ؟! ان داود في متاعبه، كان يغنى هذه المتاعب على العود والمزمار، وعلى العشرة أوتار،كان يخلط متاعبه بمزماره ومزاميره. وبدلا من أن يكسب نفسه حزنا، كان يكسبها لحنا. وقد ترك لنا هذا الكنز العظيم من أغانيه. ألسنا نشكر الله على كل هذا؟! وهو أيضا في كل متاعبه كان يشكر ويقول:
(أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي) (مز 34: 1).
(بالرب تفتخر نفسي.. عظموا الرب معي. ولنرفع اسمه معا) (مز 34: 2، 3) ويقول أيضا (باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس. باركي يا نفسي الرب، ولا تنسى كل إحساناته) (مز 103: 1، 2) انه في كل متاعبه يسبح الرب بتسبيحه جديدة، ويغنى له أغنية شكر..
درسان آخران من حياة موسى النبي:
من كان يظن أن وضع الطفل موسى في سفط، وإلقاءه على حافة النهر، خوفا من قتله (خر 2: 3) كل ذلك يؤول إلى مجد، ويصير هذا الطفل ابنا بالتبني لابنة فرعون، ويتربى في قصر ! أليس هذا درسا في عناية الله، نشكره عليه..
ومن كان يظن أن هروب موسى إلى البرية خوفا من فرعون، سينتهي إلى تعلمه الرعاية والهدوء في البرية. وأيضا سينتهي بعد فترة إلى أن يظهر الله له في البرية، في عليقة مشتعلة بالنار (خر 3) ويدعوه لخدمته، ويصير نبيا من أعظم الأنبياء، وقائدا لشعب
إنها أمور تذكرنا بقول الكتاب:
ونهاية أمر خير من بدايته (جا 7: 8).
فلا تزعجنا إذن البدايات الصعبة، ولننظر كيف ينهى الله الأمور. وسنجدها نهاية سعيدة نشكره عليها.. ولعله من الأمثلة البارزة في الكتاب لهذه الأمور: مؤامرة هامان.
درس من كبرياء هامان ومؤامرته:
كان هامان متكبرًا، وتضايق من مردخاي لأنه لم يخضع لكبريائه. وأعد مؤامرة يصلب بها مردخاي، وإبادة الشعب كله. إنها بداية مزعجة، ولكن فلننتظر قليلا لنرى كيف انتهت.. لقد صام الشعب كله بقيادة أستير، وكانت فترة روحية تقرب فيها إلى الله. وتدخل الله في الأمر، وأنقذ الشعب كله. والصليب الذي أعده هامان ليصلب مردخاي عليه، صلب هو عليه. أما مردخاي فقد نال إكراما ما كان يتصوره (أش 6، 7).
وهكذا تحولت الأمور إلى العكس تماما، من الصلب إلى المجد.
مبارك هو الرب في كل ما يفعله. مباركة هي يده التي تتدخل، وتدير دفة السفينة إلى المسار الذي يريده هو، بمشيئته الصالحة الطوباوية..
درس آخر من تجربة اسحق:
لا شك أنها كانت تجربة صعبة على أبينا إبراهيم أن يقدم ابنه وحيده الذي تحبه نفسه، محرقة.. (تك 22: 2) ولكنها كانت للخير، لأنها أظهرت طاعة إبراهيم، وأظهرت أيضا إيمانه، لأنه (بالإيمان قدم إبراهيمإسحق وهو مجرب.. إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات) (عب 11: 17، 19) وهكذا ظهر بره، إذ بالأعمال في طاعته وتقديم ابنه (يع 2: 21) وأيضا (آمن إبراهيم بالله فحسب له برًا) (يع 2: 23) واستحق أبونا إبراهيم بهذه التجربة أن ينال البركة من الرب له ولنسله، فقال له الرب (أباركك مباركة نسلك.. ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض) (تك 22: 16-18) وأعطانا الرب في هذه التجربة مثالا رائعا للطاعة والإيمان نشكره عليه..
كانت التجربة إذن بركة لإبراهيم ولنسله ولنا.
وكانت درسا ومثالا وقدوة لكل الأجيال على الأرض، سواء من جهة إبراهيم، أو من جهة ابنه إسحق، الذي صار رمزًا للسيد المسيح، الابن الوحيد للآب (يو 3: 16) الذي أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8).
ل- مثال للشكر، هو سجن بولس الرسول:
أترى يشكر أحد على سجنه؟ نعم، إن الإنسان المؤمن يشكر على كل شيء. لقد سيق بولس وسيلا إلى السجن، بعد أن ضربا بضربات كثيرة، والقيا في السجن الداخلى، وضبطت أرجلهما في المقطرة. ومع ذلك كانا يسبحان الله، والمسجونون يسمعونهما (أع 16: 23-25).
وكانا سجنهما بركة.. أراد به الله إيمان سجان فيلبى.
هذا الذي نال في الحال نعمة العماد هو والذين له أجمعون.. وتهلل مع جميع بيته (أع 16: 33، 34) أليست هذه أمورا نشكر الله عليها.. كما أن القديس بولس الرسول كثيرا ما وجد في السجن فترة هادئة، كتب فيها بعض رسائله وهو في السجن.