08 - 01 - 2014, 02:58 PM | رقم المشاركة : ( 111 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
ما هي هذه الضيقات؟ هي أولًا مقاومة هذا الجسد المادي لرغبات الروح " لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد" (غل5: 17). وهكذا يدخل الإنسان الروحي في صراع لإخضاع الجسد. وكما قال القديس بولس الرسول: "أقمع جسدي واستعبده" (1كو9: 27)... وهذا القمع قد يطول عند البعض وقد يقصر. حسبما تكون حربة قوية أو ضعيفة... إخضاع الجسد باب ضيق تدخل منه، ولا تداريب روحية كثيرة... ولعلنا نذكر أن أبوينا الأولينآدم وحواء لم يدخلا من هذا الباب حينما أكلا من الشجرة. وعيسو أخو يعقوب لم يدخل من هذا الباب حينما باع بكوريته (تك25: 34).. وكذلك رفض بنو إسرائيل الدخول من هذا الباب حينما تذمروا على الطعام السمائى واشتهوا أن يأكلوا لحمًا. (عد11: 4). وعكس كل هؤلاء أفلح دانيال النبي حينما وضع في نفسه أن لا تنجس بأطياب الملك وفضل أن يأكل القطاني هو والثلاثة فتية (دا1: 8، 12). لهذا دخل الروحيون في تداريب الصوم أيضًا في تدريب السهر، بالصوم قاوموا شهوة الجسد في الأكل، وبالسهر قاوموا شهوته في الراحة والنوم. وحفظوا أنفسهم ساهرين في عمل الصلاة والتأمل. ولم يقتصروا في الصوم على مظهرياته. وإنما اهتموا قبل كل شئ بإخضاع الجسد., لكي يشترك مع الروح في عملها. واشركوا الجسد في عمل الروح القدس أيضًا بالمطانيات " السجود المتتابع " لكي يخشع الجسد كما تخشع الروح ويشترك معها في الخضوع لله وتمجيده وهكذا يقدم العبادة لله. الإنسان كله روحًا وجسدًا ومن أهم النقاط في إخضاع الجسد الحفاظ على طهارته وعفته. إن الذين يسلكون في شهوات الجسد إنما يدخلون من الباب الواسع باب المتعة الجسدية التي قال فيها سليمان "ومهما اشتهيته عيناي لم أمنعه عنهما" (جا2: 10).. هذه المتعة التي يرفضها الروحيون، وهم يقاومون حتى الدم مجاهدين ضد الخطية (عب12: 4). وفي إخضاع الجسد، مما يقاومه الروحيون أيضًا: متعة الحواس... الحواس التي تريد أن تشبع رغباتها في النظر والسمع والمذاق... فيكبح الروحي جماحها. ويسيطر عليها. ويتحكم فيها. وهكذا يجاهد. ولا يعطي الجسد راحته. بل كما قال الرسول: "كل من يجاهد، يضبط نفسه في كل شئ" (1كو9: 25). وضبط النفس هو دخول من الباب الضيق. فالشخص العادي يحاول أن يمتع نفسه. أما الإنسان الروحي فإنه يراقب هذه النفس. ويضبطها حسنًا. ويقمع جسده ويستعبده. وكذلك نفسه. ولا يستسلم لرغباتهم ولا لشهوات الجسد. فالرسول قد اعتبر شهوة الجسد جزءًا من محبة العالم (1يو2: 16) ومحبة العالم عداوة لله (يع4: 4). إذن فمن علامات الدخول من الباب الضيق. كبح شهوات الإنسان حتى لا تنحرف والدخول إيجابيًا في محبة الله وشهوة ملكوته. وإعداد الجسد بما يليق كهيكل للروح القدس (1كو6: 19). |
||||
08 - 01 - 2014, 03:00 PM | رقم المشاركة : ( 112 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
إنكار الذات قال السيد المسيح في ذلك.. إن أراد أحد أن يأتي ورائي. فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني.. (متي16: 24). يضع الله أولًا، في قمة اهتمامه. والناس ثانيًا. ونفسه آخر الكل. لاشك أنه باب ضيق أن ينكر الإنسان نفسه ويتجاهلها في كل شيء. يحتمل اللطمة على خده. فيحول الآخر.. وإن سخره أحد ميلًا. يمشى معه ميلين. وإن أراد أحد أن يخاصمه ويأخذ ثوبه. يترك له الرداء أيضًا (متى5: 39 41). إن احتمال الإساءة والمغفرة للمسيء ربما لا تكون أمرًا سهلًا على كثيرين فكم بالأولي تكون محبة الأعداء والإحسان إلى المبغضين (متى5: 44). الإنسان الروحي يحتاج أن يحتمل كل شيء. ويتنازل عن أشياء كثيرة ويرتقع فوق المستوي العادي ويبغض نفسه من أجل الرب الذي قال... من يهلك نفسه من أجلي يجدها.. (متى16: 25). إن الأمر ليس سهلًا على المبتدئ في الطريق الروحي. وقد يتضايق أولًا إلى أن يدرب نفسه على الحب الكامل. وما أصدق قول الكتاب: " بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله.." (أع14: 22). يحتاج من يسير في طريق الله أن يصعد على الصليب باستمرار، حسبما قال الرب " يحمل صليبه ويتبعني". وفي هذا قال القديس بولس الرسول " مع المسيح صلبت، لكي أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل2: 20). ما أعمق عبارة " لا أنا"... لا يستطيع أن يقولها إلا الذي دخل من الباب الضيق... على الذي تدرب أن يختفي دائمًا لكي يظهر الرب، ولكي يظهر باقي الناس. ويقول " لا أنا " أيضًا الإنسان المتواضع الذي في كل موقف يصر أن يكون آخر الكل وخادم الكل، ويجلس دائمًا في المتكأ الأخير، كما قال الرسول " مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو12: 10). يقول " لا أنا " الإنسان الوديع المتواضع، الذي يكون مقتنعًا تمامًا داخل نفسه أنه لا شيء...! ومن يقدر على هذا إلا الذي يدخل باستمرار من الباب الضيق.. لا يقيم رأيه في أمر من الأمور، وعلى فهمه لا يعتمد" (أم3: 5). يفضل غيره على نفسه في كل شيء ويضع تحت الكل.. لا يقاوم ولا يكون حكيمًا عند نفسه.. (رو12: 16). ويدين نفسه لكي يبرئ غيره. يحمل خطايا الآخرين. ليكونوا هم أبرياء وهو المذنب. وفي عمق محبته يفدي الكل كما فعل المسيح. |
||||
08 - 01 - 2014, 03:01 PM | رقم المشاركة : ( 113 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
التعب من أجل الرب يتعب في تنفيذ الوصايا التي قد تبدو صعبه في تنفيذها... ويتعب من أجل راحة الآخرين: ولنأخذ مثلًا لذلك موسى النبي: كان من السهل عليه جدًا أن يبقي في بيت فرعون كأمير يتمتع بالجاه والغني والمركز. ولكنه حسب عار المسيح غني أفضل من جميع خزائن فرعون... وماذا أيضًا؟ إنه.. " فضل أن يذل مع شعب الله، عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطية" (عب11: 25). وكنبي وراع. تعب كثيرًا في قيادة شعب صلب الرقبة. واحتمل من هذا الشعب التذمر والعصيان. وحمل هذا العبء زمانًا طويلًا بصدر رحب يحتمل أخطاء الآخرين. كل الأنبياء، وكل الرعاة والخدام تعبوا من أجل الرب. إننا نمجدهم الآن. ولكنهم في عصرهم عاشوا في ضيقات مريرة، خذوا مثالًا لذلك القديس أثناسيوس الرسولي الذي دافع عن الإيمان بقوة وبفهم عميق.. قيل له في بعض الأوقات " العالم كله ضدك يا أثناسيوس". وخذوا مثالًا آخر هو القديس بولس الرسول بالنسبة إلى باقي الرسل " في الأتعاب أكثر في الضربات أوفر.. في السجون أكثر. في الميتات مرارًا كثيرة... في تعب وكد، في أسهار.. في جوع وعطش. في أصوام مرارًا كثيرة، في برد وعري... (2كو11: 23 27). وقال هذا القديس عن نفسه وعن زملائه في الخدمة وفي الضيق: " في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله، في صبر كثير، في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات، في سجون في اضطرابات، في أتعاب في أسهار في أصوام بمجد وهوان، بصيت رديء وصيت حسن" (2كو6: 4 8)... " مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين.. متحيرين لكن غير متروكين.. حاملين في الجسد كل حين أماته الرب يسوع" (2كو4: 8 10). وهنا ملاحظة نريد أن نسجلها وهي أن قاعدة "الباب الضيق" هي للكل، لكل مؤمن مهما علا مركزه... |
||||
08 - 01 - 2014, 03:03 PM | رقم المشاركة : ( 114 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
الباب الضيق للكل حتى القديسة العظيمة مريم اطهر أهل الأرض كلها. دخلت هي الأخرى من الباب الضيق. فعاشت في يتم وفي فقر: وولدت إبنها في مزود بقر. وتغربت عن بلادها... وتحملت الآلام الكثيرة وهي تري إبنها وحيدها مظلومًا من الناس. ومصلوبًا وهو القدوس الكامل. وتحقق فيها قول سمعان الشيخ " وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف" (لو2: 25) وكما جازت العذاراء في الضيقة، اجتازها أيضًا القديس يوحنا الرسول أحب تلاميذ الرب إليه. سجن وجلد مع باقي الرسل ونفي. وكل الشهداء والمعترفين دخلوا هم أيضًا من الباب الضيق، لذلك رفعتهم الكنيسة فوق كل القديسين. وفي كل عذباتهم والآمهم برهنوا على عمق محبتهم للرب فكافأهم في كوره الأحياء بمكانه أعلي منن أن توصف. |
||||
08 - 01 - 2014, 03:05 PM | رقم المشاركة : ( 115 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
تقييم الضيق إن الله لا ينسى مطلقًا أي تعب أو ضيق يحتمله مؤمن من أجله. إنه يقول حتى لملاك كنيسة أفسس الذي ترك محبته الأولي: "أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك.. وقد احتملت ولك صبر، وتعبت من أجل أسمي ولم تكل" (رؤ2) وبقدر ما يتعب الإنسان هنا على الأرض، تكون مكافأته في الأبدية السعيدة كما قال الرسول: "إن خفة ضيقتها الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر مجد أبديًا" (2كو4: 17). وقال أيضًا " إن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" (رو8: 18). لهذا كان الذين لا صادفهم ضيق من أجل الرب، يضيقون هم على أنفسهم، في جهادهم من أجله ومن عملهم الروحي. نقطة هامة أخرى أقولها عن الباب الضيق وهي: أن الباب الضيق قد يكون ضيقًا في أوله فقط، ثم ما يلبث الإنسان الروحي أن يتعوده ويجد فيه لذة روحية. |
||||
08 - 01 - 2014, 03:07 PM | رقم المشاركة : ( 116 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
النمو والكمال يظن البعض أنهم قد وصلوا إلى الله حينما يتركون الخطية، ويسيرون في الطريق الروحي. ولكن ترك الخطية، إنما يمثل فقط الجهاد السلبي في الحياة الروحية، فماذا إذن عن الإيجابيات؟.. إنها طريق طويل.. لذلك فالحياة الروحية لا تقف مطلقًا عند حد. إنها سائرة باستمرار. تنمو في كل حين وتتقدم. وهكذا تكون حياة النمو هي إحدى خصائص ومعالم الطريق الروحي.. بماذا شبهها السيد المسيح؟ إنه يشبه ملكوت السموات بإنسان " يلقي البذار على الأرض، وينام ويقوم ليلًا ونهارًا، والبذار يطلع وينمو... أولًا نباتًا، ثم سنبلًا، ثم قمحًا ملآن في السنبل" (مر4: 26-28). وهكذا شبه الإنسان الروحي بالشجرة التي تنمو باستمرار ولا تتوقف لحظة واحدة عن النمو... والشجرة تنمو بطريقة هادئة، ربما لا تلحظها وأنت تمر عليها كل يوم. ولكنها تنمو باستمرار، ويظهر نموها بعد حين... وقد قيل " الصديق كالنخلة يزهو. كالأرز في لبنان ينمو" (مز92: 12). إنه ينمو في كل عناصر الحياة الروحية، ينمو في معرفة الله وفي محبته. وينمو في حياة النقاوة وفي الصلاة والتأمل. ونلاحظ هنا ملاحظة هامة وهي: الذي لا ينمو، هو عرضة للفتور، بل عرضة لأن يرجع إلى الوراء. إنه كالسيارة التي طالما هي سائرة تكون محتفظة بحرارتها. فإن وقفت، وقفت حرارتها أيضًا. كذلك السير في الحياة الدائم في الحياة الروحية، يعطي حرارة للقلب، تشمل كل العلاقة مع الله والناس. ولكن إلى أين يمتد الإنسان الروحي في نموه؟ إنه يمتد نحو القداسة، كما قال القديس بطرس الرسول: " كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" (أف1: 4). المسألة إذن ليست مجرد توبة، وإنما هي حياة قداسة تليق بالمؤمنين. بل إن كلمة قديس كانت تطلق على المؤمنين في العصر الرسولى، كما يقول بولس الرسول في آخر رسالته إلى فيلبي التي كتبها من رومه: "سلموا على كل قديس في المسيح يسوع... يسلم عليكم جميع القديسين ولاسيما الذين من بيت قيصر" (في4: 21، 22). فهل أنت تعيش في هذه القداسة، واصبحت عضوًا مع مجمع القديسين؟ أم مازلت تقوم وتسقط، وتتردد بين الحياة مع الله والحياة مع العالم؟. إن القداسة ليست معينة لأفراد قلائل في القمة، إنما هي هدف الجميع " مكملين القداسة في خوف الله" (2كو7: 1). لأنه " هذه هي إرادة الله: قداستكم" (1تس4: 3). وفي عظة الرب على الجبل، اشترط النقاوة لكي تري الله في الأبدية، فقال: "طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعانيون الله" (متي5: 8). فهل وصلت إلى نقاوة والقداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب؟ ولعلنا نقول هنا أيضًا إن القداسة وحدها لا تكفي، بل لابد من النمو أيضًا في القداسة حتى يصل الإنسان الروحي إلى الكمال. والمقصود طبعًا هو الكمال النسبي، لأن الكمال المطلق هو لله وحده. إنما الكمال النسبي هو الكمال الذي يستطيع الإنسان أن يصل إليه في حدود إمكانية ونسبة إلى ما وهبة الله له من نعمة، وما تحيط به من ظروف. وعن هذا الكمال قال الرب: " كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (متى5: 48). إذن يلزمك في حياتك الروحية، أن تنمو في النقاوة والقداسة حتى تصل إلى الكمال إلى كمال قدرتك، إلى كمال السيرة حتى تعود إلى الصرة الإلهية التي سبق الله فخلقك عليها (تك1: 27). ولكن من هذا الذي يستطيع أن يصل إلى الكمال؟. إن كنت لا تستطيع، فمهما فعلت ومهما جاهدت في حياة الروح، قف أمام الله كخاطئ ومقصر، لأنك مطالب بالكمال بينما أنت بعيد عنه هذا البعد. ولهذا عندما كان القديسون يقولون عن أنفسهم إنهم خطاة، لم يكن ذلك منهم نوعًا من المبالغة أو من التواضع إنما قالوا ذلك لشعورهم بالتقصير أمام الكمال المطلوب... ولما كان الكمال غير محدود، لذلك كان النمو الروحي، غير محدود أيضًا. لقد شبهت فيه الإنسان الذي يسعى إلى الكمال، بإنسان يطارد الأفق... يقف فيرى أمامه بعيدًا، حيث تنطبق أمامه السماء على الأرض. فيذهب إلى هناك، فيرى أمامه عند النهر، فيذهب إلى النهر ويعبره، ليره الأفق أمتد إلى الجبل... وهكذا إلى غير نهاية... مادام الأمر هكذا، فتأمل إذن قول الرب في الإنجيل: "متي فعلتم كل ما أمرتم به، فقولوا إننا عبيد بطالون" (لو17: 10). وقد أمرنا في الكتاب بوصايا عديدة جدًا لم نفعلها حتى الآن... وحتى إن كنا قد نفذنا جميع الوصايا، فواجب أن نقول إننا عبيد بطالون " إننا إنما عملنا ما كان يجب علينا" (لو17: 10)، ولم نتجاوزه إلى الكمال... صدقوني أن درجة "عبيد بطالين) هي درجة كبيرة لم نصل إليها بعد. لاشك أن الطريق طويل أمامنا، ولم نسر فيه شيئًا. ونحن محتاجون بكل أتضاع القلب أن نبدأ. وهناك آية أخري في الكتاب وقفت أمامها منذهلًا، وهي قول القديس بولس الرسول في رسالته إلى أفسس " وأنتم متأصلون ومتأسون في المحبة، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو". " وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله" (أف3: 18، 19). يعلم الله أنني لا أزال وقفًا أمام هذه الآية منذهلًا، لم أصل بعد إلى شيء من أعماقها العجيبة. وسأحاول أن ارجع إلى تأملات الآباء فيها، لعلى أعرف. فإن وصلت إلى شيء سأخبركم لأن ههنا الروح يعمل، وليس العقل ولا الفكر... هذا الامتلاء، من ذا الذي يمكنه أن يصل إليه؟... مطلوب منا جميعًا، كما يأمرنا الرسول قائلًا في نفس الرسالة " امتلئوا بالروح" (أف5: 18). لقد قال في موضع آخر " اسلكوا بالروح" (غل5: 16). ودعانا أن نكون لنا ثمار الروح (غل5: 22). ولكن هنا درجة أكبر يجب أن نصل إليها في نمونا وهي الامتلاء بالروح... إذن فالطريق طويل أمامنا، ويحتاج إلى جدية كبيرة للسير فيه. يحتاج الإنسان الروحي أن يجتاز مرحلة التوبة، إلى مراحل النقاوة والقداسة، إلى الدخول في العلو والعمق، وإلى معرفة المسيح الفائقة المعرفة. وينتقل من السلوك بالروح، إلى كل ثمار الروح، إلى الامتلاء بالروح... إلى الكمال... لهذا نري القديس بولس الرسول يقول: "ليس أني قد نلت أو صرت كاملًا ولكنى اسعي لعلي أدرك" (في3: 12). بولس الرسول الذي صعد إلى السماء الثالثة، إلى الفردوس (2كو12: 4) الذي تعب أكثر من جميع الرسل الأثنى عشر، وسافر وبشر وكتب أربع عشرة رسالة، وألقى في السجون وتعذب من أجل الرب، وصنع آيات كثيرة، وكانت له كثرة من الاستعلانات، وتكلم بألسنة أكثر من الكل، يقول أخيرًا " لست أحسب أنني قد أدركت. ولكنني أفعل شيئًا واحدًا " ونسأله ما هو فيجيب: "أنسي ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام..." (في3: 13). ينسي كل هذه المواهب الفائقة، وينسي كل هذا التعب في الخدمة، وينسى اختطافه إلى السماء الثالثة، ويسعى نحو الغرض، يسعى لعله يدرك... يدرك ماذا يدرك " جعاله دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في3: 14). يدرك هذا الامتلاء العجيب... لذلك فإنه ينصحنا قائلًا " اركضوا لكي تنالوا" (1كو9: 24). ويقول معنا " وأنا أركض هكذا" (1كو9: 26). ويقول أيضًا " فليفتكر هذا جميع الكاملين منا" (فى3: 15). إذن هي دعوة ليست للأشخاص العاديين فقط، بل للكاملين أيضًا... دعوة للجميع أن يسعوا نحو الغرض، لكي يدركوا... هناك درجة أخرى موضوعة أمامنا. كأولاد لله، وكلنا ندعي أننا أولاد الله يقول القديس يوحنا الرسول: " كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية... ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من الله" (1يو3: 9). ويقول في ذلك أيضًا " كل من ولد من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه" (1يو5: 18). فهل وصلت إلى هذا المستوي الذي لا يستطيع فيه أن تخطئ، والشرير لا يمسك؟ هنا مستوي خاص، ليس هو مقاومة الخطية والجهاد معها والانتصار عليها، إنما مستوي إنسان قديس لا يستطيع أن يخطئ... من وصل إلى هذا الكمال؟ ومع ذلك لا أريد فقط أن أقدم لك مستويات العهد الجديد بكل ما تحمل من سمو، إنما انتقل بك إلى وصية في العهد القديم وهي: " تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث6: 5). من ذا الذي قد وصل إلى محبة الله من كل القلب. وعبارة "كل" تعني أنه لا يوجد في القلب شيء سوي الله... لا توجد أية محبة أخري في القلب تنافس محبة الله. ولا شك أن هذا يعني الموت الكامل عن العالم، ويعني التجرد، وامتلاء القلب بمحبة الله... فهل بدأت هذا الطريق؟. هل بدأت بمخافة الله التي هي الخطوة الأولي الموصلة إلى المحبة؟ وذلك كما يقول الكتاب " بدء الحكمةمخافة الرب" (أم9: 10). ومخافة الرب تعني طاعته والخضوع لوصاياه. بهذا تصل إلى الله وتدخل إلى ملكوته. يقول الكتاب في هذا: "ملكوت الله داخلكم". فهل تشعر بهذا الملكوت داخلك؟ وهل بدأت حاليًا بمذاقة الملكوت؟ هل أخذت عربونه في حياتك الحاضرة، حتى تتمتع بملئه في العالم الآخر؟. ابدأ إذن بمذاقة الملكوت. وحينما تصلي وتقول "ليأت ملكوتك" اطلب أن يأتي ملكوته على كل قلبك وكل فكرك، وعلى حواسك وجسدك ومشاعرك. وحينئذ تغني تقول " الرب قد ملك" (مز96). ولكن لعلك تسأل بعد كل هذا؟ ماذا أفعل والطريق طويل أمامي؟ الأمر لا يأتي باليأس ولا بالحزن، ولا بعبارة "إذن لا فائدة مني"... كل هذه حيل من الشيطان، يريد بها أن يوقعك في صغر النفس، حتى تبطل الجهاد يائسًا، أو تشعر الحياة مع الله. إنما أهم نصيحة توجه إليك هي: إن أطول طريق أوله خطوة. ابدأ إذن بهذا الخطوة. ابدأ بهذه الخطوة، مهما كانت قصيرة، ومهما كانت ضعيفة، ومهما كانت فاترة. وحينئذ عندما يري الله رغبتك في الحياة معه، سيرسل لك معونات إلهية من عنده، وتفتقدك نعمته، ويعمل فيك روحه القدوس بكل قوة. والله الذي عمل في القديسين وأوصلهم هو قادر أن يعمل فيك... لكن نعمة الله ليست تشجيعًا لك على الكسل، وعلى التهاون والإهمال إنما هي تعمل معك. وبهذا تدخل في شركة مع الله، في العمل لأجل ملكوته... ملكوته فيك وفي غيرك. الله قادر أن يرفعك دفعة واحدة، كما فعل مع بعض قديسى التوبة... كما عمل مع اوغسطين، الذي نقله من عمق الخطية، إلى عمق التأمل في الإلهيات، وإلى عمق محبة الله... وكما عمل مع مريم القبطية التي أخذها من الدنس إلى الرهبنة وإلى السياحة فصارت من القديسات العظيمات. وإن أراد لك الله التدرج في حياة الروح، فلتكن مشيئته. هكذا فعل مع القديس موسي الأسود إذ قاده تدريجيًا إلى التوبة. وبالتدريج منحه الفضائل الروحية. ونزع منه قساوة القلب، ومنحه محبة لجميع الناس، ووداعة عجيبة. وتواضع قلب وصار إنسانًا آخر. المهم إذن أن تقدم قلبك لله، لكي يملأه الله بمحبته. قل له: أنا يا رب غير قادر أن أصل إلى محبتك، إذ توجد محبات أخرى عالمية ومادية وجسدية تجتذبني وأنا ضعيف أمامها. لذلك أريد أن تمنحني محبتك كعطية مجانية من عندك كمجرد هبة، كما يقول الرسول: " لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطي لنا" (رو5: 5). وفي نفس الوقت الذي تطلب فيه أن يعمل الله معك، اعمل أنت أيضًا معه، أعمل بكل ما تستطيع، ولا تكسل مطلقًا في روحياتك، وكن جادًا. افتح قلبك لكي يملأه الله. واحرص ألا تفتحه لمحبة خاطئة. وابعد بكل جهدك عن كل ما يبعدك عن الله... والقليل الذي تقدمه إلى الله، سيقبله كما قبل فلسي الأرملة، ويكون عزيزًا عنده. إن الله يعرف تمامًا مقدار إمكانياتك ولا يطالبك بأكثر، تصل بها إلى أعماق أكثر. وهكذا يقودك خطوة خطوة إلى حيث يريد لك بنعمته. لا تنظر إذن إلى نهاية الطري وتيأس. إنما أنظر إلى هذا الخطة الواحدة، كيف تخطوها حسنًا... وكلما كنت أمينًا على القليل، سيقيمك الله على الكثير، حسب وعده الصادق. أما كيف تكون أمينًا في القيل، فهذا ما أود أن أحدثك عنه بالتفصيل في مناسبة أخري إن شاء الله. |
||||
08 - 01 - 2014, 03:09 PM | رقم المشاركة : ( 117 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
عوائق النمو تكلمنا في المقال السابق عن النمو في الحياة الروحية، ولزومه، وكيف أنه علامة مميزة للسير السليم في الطريق الروحي. وقلنا في هذا المجال إن النمو الروحي هو مرحلة إلى الكمال. ويهمنا الآن أن نسأل: هل كل إنسان ينمو في روحياته؟ وهل كل نمو روحي يستمر؟ الواضح تمامًا أن النمو يتعطل أحيانًا بالنسبة إلى كثيرين، فيتوقفون عند درجة معينة في حياتهم الروحية. بل ربما يرجعون أحيانًا إلى الوراء. فما هو السر في كل هذا؟ وما هي العوائق التي تقف أمام النمو الروحي. العوائق تختلف من شخص لآخر. |
||||
08 - 01 - 2014, 03:10 PM | رقم المشاركة : ( 118 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
حروب الشياطين من عوائق النمو إن الشيطان لا يقف ساكنًا إن وجد إنسانًا يمتد إلى قدام باستمرار في طريقة الروحي، فلابد أن يقف ضده. ويسمى هذا أحيانًا حسد الشياطين. إنهم يحسدون الذين يتقدمون في محبة الله، لأنهم أي الشياطين قد فقدوا هذه الصلة الجميلة بالله، وفقدوا ملكوته. لهذا فإنهم يحاربون ليس فقط النمو الروحي، إنما الطريق الروحي كله. لذلك يقول سفر يشوع بن سيراخ: يا ابني تقدمت لخدمة ربك، فهيئ نفسك لجميع التجارب... والكنيسة تورد هذا الفصل وهذه الآية في طقس سيامة الراهب، لأن الداخل في حياة الرهبنة، إنما يحاول أن يبدأ في حياة الكمال. وكذلك ترتب الكنيسة هذا الفصل في صلاة الساعة الثالثة من يوم ثلاثاء البصخة، لأن السيد المسيح مقدم على إكمال عمل الفداء العظيم، وداخل في عمق التجارب... لذلك فكثيرًا ما يسير الإنسان الروحي، بكل ما يملك من جهد، وبكل عمل النعمة فيه، وينتصر ويستمر نموه. والبعض يحوز في هذا الحروب ويضعف، ولا يستطيع أن يتقدم أكثر في نموه... إن الشيطان لما وجد عمل الفداء قد أوشك أن يتم، أثار عنف حروبه على التلاميذ، فقال لهم السيد المسيح. " هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة" (لو22: 31) وفي تلك الغربلة وقف النمو الروحي للتلاميذ، بل رجع غالبيتهم إلى الوراء! وأمثال هذه الغربلة أو هذه الحروب مرت على كثير من القديسين والأنبياء، لأن الشيطان لا يترك أحدًا بدون حرب... فإن تعرضت لهذه الحروب، فلا تتضايق. إنها شئ طبيعي... إنها من طبيعة الطريق الروحي، من طبيعة الشياطين. ولكن قاوم بقدر ما تستطيع... وفي كل درجة جديدة تصعدها في السلم الروحي، توقع محاربة لإيقافك واستعد. وفي كل تدريب روحي جديد تسلك فيه لنموك، إن وجدت حربًا فاطمئن. لولا أن الشيطان يخاف من هذا التدريب، ما كان يقاومه ويحاربك فيه. إنها ظاهرة صحية بالنسبة إليك، وظاهرة مرضية من الشيطان. ولكن الحرب شيء، والسقوط شيء آخر. وتاريخ الآباء الرهبان والسواح حافل بالحروب الروحية لمنع نموهم... إنها مجرد محاولات من الشيطان، قد تنجح حينًا، وقد تفشل. ولكنه عدو للنمو، لابد أن يحاربه على أية الحالات، وليحدث ما يحدث والشيطان ليس هو العائق الوحيد أمام النمو الروحي، إنما هناك أعوان له كثيرون في ذلك ونذكر في المقدمة. |
||||
08 - 01 - 2014, 03:11 PM | رقم المشاركة : ( 119 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
البيئة المُعَطِّلة للنمو البيئة السيئة تعطل النمو الروحي. لذلك تخير أصدقاءك ومعاشريك ومرافقيك في الطريق... إنهم قد يوقفون نموك، بل قد يرجعونك إلى الخلف.. وكما أن الصديق الصالح يجذبك معه إلى فوق كذلك الصديق الخاطئ إلى أسفل ويعطل نموك. والزوج غير الروحي، يمنع الزوجة روحيًا. وكذلك تفعل الزوجة غير الروحية مع زوجها. إنهما يشتركان معًا في حياة واحدة. ومن شروط المرافقة الموافقة. وإن لم تكن هناك موافقة فالنمو الروحي يتعطل، أو قل الحياة بسبب البيئة المحيطة. أبونا إبراهيم أبو الآباء تعطل نموه حينًا بسبب البيئة المحيطة. تعطل لما تغرب في جرار، وكان يعلم أنه "ليس في هذا الموضع خوف الله البتة" وخاف أن يقتلوه من أجل امرأته (تك20: 11). ودفعه الخوف إلى أن يقول عن سارة إنها أخته، فأخذها أبيمالك... وإذا بهذه البيئة التي لا يوجد فيها خوف قد عاقت نمو هذا النبي العظيم، بل أوقعته في أخطاء نقائص. ونفس الوضع حدث للوط البار ولكنه بنسبة أكبر. في أرض سدوم. وفي ذلك قال عنه القديس بطرس الرسول "كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم، يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" وقال عنه أيضًا إنه كان "مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة" (2بط2: 7، 8). إذن فالبيئة الخاطئة والضغوط الخارجية يمكن أن تعطل حتى الأنبياء والأبرار. لأنه إن انتصر البار حينًا، فربما إذا ضغطت عليه البيئة " يومًا فيومًا " حينئذ تتعذب نفيه البارة ويقف نموه. لذلك في ممارساتك الروحية احترس من استصحاب أحد يعوق نموك. وفي اليوم الذي تتناول فيه، أو في يوم اعترافك، وأنت في حالة روحية نامية، احذر من صديق وزميل يدخل معك في حديث قد يعكر نقاوة ذهنك وقلبك. لقد استفاد آباؤنا من الوحدة. عاشوا وحدهم، بهيًا عن البيئة التي تشغلهم أو تعوق نموهم، فتفرغوا لعملهم الروحي مع الله دون عائق من البيئة... وكذلك عاش كل محبي الوحدة حتى في العالم، ولا يعرجون بين الفرقتين، لا يقضون حينًا في حرارة روحية، وحينًا آخر مع أساب تبرد حرارتهم. وفي مثل الزارع، نسمع عن الأشواك التي تخنق الزرع بعد نموه (متى13). فاحترس أنت، وابعد عن الأشواك حتى ينمو زرعك المقدس دون أن تخنقه البيئة المحيطة. وفي نموك تذكر قول الشاعر الذي قال: متى يبلغ البنيان يومًا تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم. من الأسباب الأخرى التي تعطل النمو الروحي، سياسة الاكتفاء |
||||
08 - 01 - 2014, 03:12 PM | رقم المشاركة : ( 120 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب معالم الطريق الروحي - البابا شنودة الثالث
الاكتفاء في الروحيات من عوائق النمو الروحي حيث يصل الإنسان إلى مستوي روحي معين، دون أن يتقدم بعده، ويظن أن هناك المنتهي، دون أن يفكر في تخطئ هذا المستوي إلى ما بعده. أو يحاربة الشيطان بأن ما فوق هذا المستوي هو لون من التطرف. ولكن آباءنا القديسين لم يحدث أن قنعوا في حياتهم الروحية بما وصلوا إلية. بل كانوا باستمرار يجاهدون إلى وضع أفضل. فبولس الرسول الذي اختطف إلى السماء الثالثة، قال " انس ما هو وراء، وامتد إلى ما هو قدام" (فى3: 13). إن الذي يقف نموه: هو معرض أن يرجع إلى الوراء. لذلك حاول باستمرار أن تنمو، ولا تكتف مطلقًا بما أنت فيه. ولكن بحكمة، ضع أمامك المستويات العليا التي وصل إليها الآباء، لكي يحفزك هذا إلى مزيد من الجهاد، واعرف قاعدة هامة وهي: هنناك فرق كبير بين النمو والتطرف. والحكمة هي الميزان بينهما. ولكن الشيطان قد يستخدم إحدى العبارتين بدلًا من الأخرى لمحاربتك. هناك سبب آخر يعوق النمو، وهو: الإرشاد الخاطئ. |
||||
|