نتائج سقوط الإنسان
عصت العائلة البشرية الأولى صوت الله , وأطاعت صوت الشيطان , وأسدل الستار على عصر برارة الإنسان, بل أسدل على هنائه , وسعادته , وبدأت الدراما الإنسانية تأخذ مكانها على مسرح الأرض الجدباء.
وهنا يليق بنا أن نتتبع النتائج الرهيبة لسقوط الإنسان , فتعال معي لنسر في كهوف هذه المأساة الإنسانية الكبرى , ونرى ما جرته من شقاء على البشرية جمعاء !!
الإحساس بالعري
فتح الإنسان عينيه بعد أن عصى إلهه ليرى نفسه عاريا , والإحساس بالعري هو أكبر دليل على ضياع الشعور بالبراءة , فالطفل الصغير دون سن المسئولية لا يشعر بالعري لأن إدراكه لمعنى الشر لم يكمل بعد , أما الإحساس بالعري , فيعني أن العين لم تعد بسيطة كما كانت , وأن العقل بدأ يفكر أفكاراً رديئة
ولما أ حس الإنسان بعريه حاول أن يستر نفسه، لكن بماذا؟ بأوراق تين لا بد أن تجف و أن تكشف ما ورائها من عورات.
ومحاولة ستر الجسد العاري، تقابلها محاولة أخرى أعمق و أخطر شأناً هي محاولة كبت الشعور بالذنب, وتغطيته إما بالنسيان، أو بالاعتذار، أو بالتهوين، أو بعدم المبالاة، أو بالانغماس في المشاغل والملذات للهروب من مواجهة الله، وكل هذه أوراق تين لا تستطيع أن تستر ذنب الإنسان.
و جاء الرب الإله !!
فهل استقبله آدم ليحييه التحية الواجبة على المخلوق نحو خالقه ؟ وهل أسرع إليه كعادته كل يوم ليتحدث معه حديث الشركة القلبية الحبية ؟!
الإحساس بالخوف
لقد طغى عنصر جديد على حياة هذا المخلوق بعد أن عصى وصية الله، هو عنصر الإحساس بالخوف، والخوف والخطيئة صنوان لا يفترقان.
جاء الرب الإله، فلما سمع آدم وامرأته صوته عند هبوب ريح النهار أحسا بالخوف، واختبئا في وسط شجر الجنة. قالت لهما الحية أنهما سيصيران كالله، وها هما ينزلان درجة في سلم الانحدار، فيملأهما الخوف من مواجهة الله، و يسرعان للاختباء وسط الأشجار، تماما، كما يفعل الكثيرون اليوم، حين يختبئون وراء أشجار المذاهب الدينية، أو وراء أشجار المظاهر الكنسية، أو وراء أشجار العلم و الأدب وحسن اللياقة... أشجار كلها إلى ذبول.
الإحساس بالعداء
وألقى الله أول سؤال سمعه إنسان عاش على هذه الأرض ((آدم...أين أنت ؟)) وأجاب آدم ((سمعت صوتك فخشيت لأني عريان فاختبأت)) وكشف الإنسان في إجابته عن حقيقة إحساسه من نحو الله , إحساس الخوف بدل إحساس الحب ,وإحساس العداء والهرب بدل إحساس القرب !! ومع الإحساس بالعداء لله , شعر الإنسان بالعداء لأخيه الإنسان , ونرى ذلك في محاولة آدم إلقاء التبعة على حواء , وذكر شخصيتها دون أي لقب يدل على الحب والوفاء فقد قال لله ((المرأة التي أعطيتني)) , ولم يقل شريكة حياتي أو أليفة وحدتي ومنذ ذلك اليوم والعداء مستحكم بين الناس , نراه في الحروب , والخصام , وسفك الدماء !! وكل هذه المشاعر والأحاسيس ملأت كيان الإنسان بعد السقوط
وسأل الله آدم ((من أعلمك أنك عريان , هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها)) ويقينا أن الله كان يعرف أن آدم قد أكل من الشجرة لكنه سأله ليعطيه فرصة للاعتراف بخطيته , ولكننا بدلا من أن نسمع اعترافا وشعوراًً بالندم , نسمع إجابة جريئة متبجحة تخرج من فم الإنسان إذ يقول ((المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت)) , وكأنه بهذه الإجابة يضع مسئولية سقوطه على الله , لا على طاعته للشيطان وسماعه لصوت الإغراء الآتي من حواء !!
وسأل حواء : ما هذا الذي فعلت ؟ ومرة ثانية , يتنصل الإنسان من المسئولية ,. فتجيب المرأة وهي نصف البشرية الثاني : ((الحية غرتني فأكلت))
ولا يسأل الله ((الحية)) , لأنه يعرفها يعرف أن الشيطان قد استخدمها , وأنه يتحداه بإسقاطه للإنسان !!
وهنا يجلس الله في مجلس القضاء , ويتخذ العدل مجراه
ويبدأ الله في إصدار عقوباته على المذنبين
ويصدر الله العقوبة الأولى على الحية قائلا ((لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه))
ثم يصدر العقوبة على المرأة قائلا ((تكثيراً – أكثر أتعاب حبلك بالوجع تلدين أولاداً والى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك)).
ويأتي دور آدم ويصدر الله ضده هذا القصاص ((لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب والى التراب تعود)) 3 : 14-19
وفي عقوبة آدم تتجسد خطيئة الإنسان , وتظهر مسئوليته في طاعته بمحض حريته لصوت الشيطان لقد وضع الله الإنسان في هذا الامتحان , ليعلمه أنه وكيله الذي أقامه على مخلوقاته التي وضعها تحت إمرته , وأنه لابد أن يعطي حسابا لله إذا أساء تصرفه في وكالته , والشخص الذي يفقد الإحساس بوكالته لله , يفقد حتما فهمه لحقيقة أصله ونهايته , ويكون قلبه مرتعا لكل أنواع الشر , ومن المستحيل أن يخلق الله محلوقا عاقلا دون أن يرسم له حدود حياته التي لا يجب أن يتعداها , والمخلوق العاقل ينبغي أن يشعر دائما بمسئوليته أمام خالقه , وبضرورة الطاعة لوصيته
أما آدم فلم يطع الله , بل سمع لقول امرأته , وفضلها عن إلهه , ولذا كان هو المسئول الأكبر في مأساة السقوط , وبسببه جاءت اللعنة للأرض , وجاء للبشر التعب والكد , وانبتت الأرض الملعونة الشوك والحسك , وصار الإنسان التعس المسكين عبداً لبطنه يأكل لقمة العيش بعرق الجبين
إلى متى ؟ ((إلى أن تعود إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب والى تراب تعود))
وهكذا نفذ الله كلمته ((لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت)) , وشرعت قوى الموت تشتغل في الإنسان , من الناحيتين الروحية والجسدية , حتى إذا انتهى يوم حياته عاد إلى التراب
ثم جاءت الخطوة الأخيرة ((فطرد الرب الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكر وبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة شجرة الحياة)) وخرج الإنسان الطريد إلى أرض الأشواك , التي صارت مسرحاً للدراما الكبرى التي صنعها الإنسان
وتفشت الخطية في كل مكان وطأته أقدام الإنسان !! وكان أول إنسان ولد من حواء هو ((قابين)) القاتل الأول الذي لوث الأرض بدماء هابيل أخيه
لقد كان آدم نائبا وممثلا لجميع الجنس البشري الذي كان في صلبه يوم تعدى وصية الله , فبعد طرده من الجنة ولد نسلا ساقطاً نظيره في حالة الفساد الروحي والأدبي , وتحت حكم الموت والدينونة التي استحقها بعصيانه على الله , وقد ورث هذا النسل عن أبويه الأولين حياة العداوة لله , والتمرد على شرائعه ووصاياه , وهذا ما يقرره بولس الرسول في كلماته ((من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع)) رو 12:5 , وما يؤكده داود في قوله ((هاأنذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي)) مز 5:51 , وهكذا كان أول مولود للإنسان الساقط , ولداً قاتلا نجسا
ثم ظهر في العالم الموجود وقتئذ مبدأ تعدد الزوجات عندما ((اتخذ لامك لنفسه امرأتين)) تك 19:4 , مع أن الله يوم خلق الإنسان , خلق امرأة واحدة لرجل واحد , وسجل كاتب سفر التكوين كلماته ((لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً)) تك 24:2
ومع هذا كله ابتدع الإنسان الموسيقى العالمية , ليغرق في غمرة أصواتها متاعبه , وينسى همومه , وينسى معها أبديته ومطاليب إلهه , فبزغ على مسرح التاريخ ((يوبال الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار))21:4.
ثم شرع الإنسان في إنشاء صناعاته الخفيفة والثقيلة ونبغ في هذا ((توبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد)) تك 22:4 وانغمس الإنسان في الموسيقى , والرقص , والطرب , والغناء و وانحدر في دنياه الجديدة إلى الحضيض
صار الحب سلعة تباع , والشرف كلمة ساذجة بلا معنى , والسيف هو القانون الوحيد , واخترق الإنسان أيسر السبل لسد أرخص غرائز الحياة , فمن اتجار بالرقيق الأبيض , إلى سطو , إلى سرقة , إلى أي شيء وكل شيء لا تقره شريعة السماء
وغرقت مدينة الإنسان الطريد في اللهو , والعمل الشاق فلم تعد تستطيع أن تتبين ما تعاني من أمراض
لقد سد الشيطان فم البشرية بالمخدر , حتى لم يعد في مقدورها أن تتحدث فتشكو ما تحسه من مرارة أرهقها السهر , والعمل والشراب , فلم تعد قادرة على الشكوى مما هي فيه من محنة وعلى مر التاريخ ظهر المستغلون , والمستبدون , والمحتكرون , وأصحاب الأهواء , وانتشرت الخطيئة في جميع أركان الأرض , تجدها في كل عاصمة , وكل مدينة , كما تجدها في القرى الصغيرة حتى لو تخفت هذه القرى بين صخور الجبال , بل تجدها في أكثر بلاد الدنيا صرامة , وعبادة , وتصوفاً , ومع الخطيئة تجد كل صنوف الألم , والحرمان , والعذاب