«أيُّها الشيطان، أين شوكتك؟ »
(الجزء الأوّل)
بقلم الأب صلاح أبو جوده اليسوعيّ
نُشرت في مجلّة المشرق، السنة 88، الجزء الثاني، 2014.
يختبر العديد من الكهنة والمكرَّسين الملتزمين بالنشاطات الرعويّة في أوساط الشبيبة أنّ موضوع الشرّير أو الشيطان يشغل حيّزًا مهمًّا في النقاشات والمشاركات التي تجري أثناء نشاطاتهم. ويختبرون أيضًا أنّ هذا الموضوع يُثار نتيجة تأثير بعض البرامج المرئيَّة والمسموعة التي تبثّها وسائل إعلام مسيحيّة محليّة في هذا الشأن. ولعلّ أوّل ما يستوقف هؤلاء الملتزمين بالنشاطات المذكورة نتائج الموضوع على نفسيّة الشبيبة وطريقة فهمها إيمانها.
ومن تلك النتائج على سبيل المثال: حالات الخوف التي تسود بعضهم، إذ يعتبرون أنّهم أرض صراع بين ملائكة خيّرين وآخرين شرّيرين، وتحوّل جهد بعضهم الروحيّ إلى تضرّع متواصل للخلاص من حيل الشرّير وملائكته، أو فهم بعضهم بكلّ بساطة حياتهم الإيمانيّة بصفتها معركة لا هوادة فيها بوجه الشرّير. وفضلاً عن هذه النتائج، ثمّة أسئلة أخرى يطرحها موضوع "الشفاءات من الأرواح النجسة" الذي يتّصل بدور الكاهن أو المكرّس في ضوء العلم، وهو يُثار أيضًا في البرامج الإعلاميّة، تتّصل بدور الكاهن أو المكرَّس في ضوء العلم؛ وعلى سبيل المثال: هل من شأن الكاهن أو المكرَّس - الذي يتَّبع تكوينًا يدوم عادةً خمس أو ستّ سنوات في الفلسفة واللاهوت- أن يحكم في شأن عوارض نفسيّة أو جسديّة معيّنة، يعاني منها الإنسان فينسبها إلى فعل روح شرّير؟ ألا يتعدّى الكاهن أو المكرّس في هذه الحالة مثلاً دورَ طبيب الأعصاب أو المحلّل النفسانيّ، أو حتّى في بعض الأحيان دورَ عالم الأنتروبولوجيا أو عالم الاجتماع، وغيرهم؟ فهل خدمة الإيمان تشمل آليّات عمل جسم الإنسان نفسيًّا وبيولوجيًّا؟
قد تستند الأجوبة عن هذه التساؤلات وغيرها إلى الكتاب المقدّس وتعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة نفسها. ففي سفر التكوين مثلاً نجد أنّ "الحيَّة" التي ترمز إلى الشيطان قادت المرأة إلى الخطيئة والخطيئة أدَّت إلى موت الإنسان، ليس الموت الروحيّ فحسب، بل الجسديّ أيضًا. ويقول العهد الجديد إنّ يسوع نفسه جرّبه الشيطان. كما وأنّ يسوع نفسه يتكلّم غالبًا على الشيطان الذي هو العدوّ الزارع الزؤان في حقل القمح (متى 13: 39)؛ وهو مَن ينزع من قلب الإنسان الزرع الطيّب، أي كلمة الله (لوقا 8: 12). ويردّد التعليم الدينيّ إلى اليوم أنّه منذ أن سقط أبوانا الأوّلان في التجربة، أصبح للشيطان سلطانٌ على جميع البشر، وهو يسعى ليهلكهم جميعًا نفسًا وجسدًا. وبالرغم من أنّ يسوع قد انتصر عليه عندما مات على الصليب، تبقى حياة كلّ مسيحيّ، على خطى يسوع، معركة متواصلة في وجه الشرّير. ويمكن في السياق دعم هذا التفسير بخبرات قدّيسين وقدّيسات طوال العصور، وبأقوالٍ مألوفة في الكنيسة مثل: "حيلة الشيطان الأساسيّة أن يجعل المؤمن يظنّ أنّه غير موجود"؛ أو: "مَن لا يؤمن بالشيطان لا يؤمن بالإنجيل"، أو أيضًا: "عندما لا نؤمن بعدُ بالشيطان، فالإيمان بالله سيختفي هو أيضًا".
1. مقاربة الموضوع بطريقة مختلفة
ليس هدف هذه الدراسة معالجة الموضوع من زاويته الرعويّة الصرف، ولا من زاوية علاقة خدمة الإيمان بالعلم، بل تقديم ملخّص عن فكر لاهوتيّ حاضر في الكنيسة الكاثوليكيّة له رأيه في موضوع الشرّ. ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّنا نعرض هذا الفكر بموضوعيّة، فلا نتبنّاه، بل نسعى لاستخلاص نتائجه على الفكر اللاهوتيّ، وبالتالي أثره الممكن في البُعد الرعويّ.
ثمّة أمران يجدر التسليم بهما بدايةً: أوّلاً، إنّ الشرَّ منتشر في العالم ويتجاوز قدرة الإنسان على التحرِّر منه بقواه الذاتيّة، فلا بدّ من تدخّل إلهيّ أو عمل النعمة، لكي يمكن الإنسان أن يتحرَّر من الشرّ. غير أنّ السؤال المطروح هو التالي: من أين يأتي الشرّ؟ هل هو نتيجة سقوط أبوينا الأوّلين من حالة النعمة بسبب تجاوبهما وإغراء الشيطان؟ لا بدّ من توضيحَيْن في هذا الموضع: أحدهما لاهوتيّ والثاني علميّ. أمّا التوضيح اللاهوتيّ فهو أنّه يصعب علينا أن نتخيّل الآب السماويّ الذي أظهره يسوعُ لنا قد عاقب أبوينا الأوَّلَيْن بسبب خطيئتهما، ليس هما فحسب، بل ذريّتّهما كلّها أيضًا. إنّ الآب يحبّ كلّ إنسان حبًّا مجّانيًّا لا حدود له، ولا يريد له إلاّ الحياة الحقّ. لذا، لا يمكن ربط انتشار الشرّ في حياة البشر بعقاب إلهيّ. فالإنسان مخلوق ضعيف طبيعيًّا، وهو عرضة للشرّ كما عرضة للأمراض. وكما أنّ بعض الأمراض قد تأتيه من أفعال إخوته، فالشرّ كذلك يرثه من أفعالهم. ونجد في الكتاب المقدّس ما يتلاءم وهذا التفكير: "ما يَتصوَّرُه قَلْبُ الإِنسانِ يَنزعُ إِلى الشَّرِّ مُنذُ حَداثَتِه" (تكوين 8: 21). فالنزوع إلى القيام بالشرّ يبدو وكأنّه ملازم طبيعة الإنسان؛ ذلك مفطور عليه ومحفورٌ في قلبه. "فَمِنَ القَلْبِ تَنْبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم" (متّى 15: 19). وأمّا التوضيح العلميّ فأنَّه من المسلَّم به الآن أنّ الحياة البشريّة نشأت تدريجيًّا وظهرت في أكثر من مكان على وجه الأرض وفي أوقات مختلفة. وبالتالي، لا يمكن ربط انتشار الشرّ بخطيئة "أبوَيْن أوَّلَيْن"، بل هو على صلة، كما سبق القول، بطبيعة الإنسان نفسها.
ثانيًا، تؤمن الكنيسة بأنّ الأسفار المقدّسة قد دُوِّنت بإلهام الروح القدس، ولكنّها تسلِّم أيضًا بأنّ الإلهام بلغنا عن طريق وسيط بشريّ له حدوده الفكريّة، وله خلفيّته الثقافيّة في زمن معيَّن. وبكلام آخر، تأتي كلمة الله في إطار ظروف اللغة البشريّة وشروطها، غير أنّ الروح القدس حفظ مضمونها أو جوهرها من الخطأ والنقص اللذين يطبعان حتمًا كلَّ وسيلة بشريّة. لذا، يجب أن يتوقّف المؤمنون على نواة رسالة الأسفار أو جوهرها، لا على غلافها المطبوع حتمًا بحدود كلّ وسيلة بشريّة. ومن الجليّ أنّ علم تفسير الأسفار المقدّسة المعاصر يساهم مساهمة فعّالة في إبراز جوهر الرسالة أو في تمييز "غلاف" الرسالة من جوهرها. ستتّضح أهميّة هذه النقطة في المقاطع اللاحقة. بعد هاتَيْن الملاحظتَيْن، لنعد إلى سؤالنا الأساسيّ: إنّ الشرّ منتشر إذًا في حياة البشر ومتفاقم فيها، ويعجزون من تلقاء أنفسهم عن التحرّر منه. ولكن، من أين يأتي الشرّ؟
2. أصل الشرّ في الفكر اليهوديّ القديم
أ- في البحث عن أصل الشرّ
في أثناء خضوع فلسطين للحكم الفارسيّ من العام 538 إلى 331 ق.م. اتّصل الفكر اللاهوتيّ اليهوديّ بالفكر اللاهوتيّ الفارسيّ القديم الذي كان يؤمن بوجود إله خير وإله شرّ. ولكن، لم يكن بوسع اللاهوتيّين اليهود التسليم بتلك النظرة الفارسيّة، لأنّ إيمانهم يقوم على وحدانيّة الله الصارمة. فلم يجدوا جوابًا عن مسألة الشرّ إلاّ بنسبة كلّ أمر إلى الله. وقد عبَّر عن ذلك خير تعبير النبيّ الذي عاش في الجماعة اليهوديّة ببابل حوالى نهاية زمن السبي، والذي نسمّيه عادةً "أشعيا الثاني"، لأنّ أقواله النبويّة تؤلّف القسم الثاني من سفر أشعيا: "لِكَي يَعلَموا مِن مَشَرِقِ الشَّمسِ ومِن مَغرِبِها أَنَّه لَيسَ غَيري أَنا الرَّبّ ولَيسَ مِن رَبٍّ، آخَر. أَنا مُبدِعُ النُّورِ وخالِقُ الظَّلام وصانِعُ الهَناء وخالِقُ الشَّقاء أَنا الرَّبُّ صانِعُ هذه كُلِّها"، (أشعيا 45: 6-7). يشدّد النبيّ إذًا على أنّ الله خالق الهناء والشقاء على السواء. فإذا كان الله خالق الشقاء، فهو بالتالي من يُثير الخطيئة. وفي هذا الصدد نقرأ في سفر صموئيل الثاني أنّ الله نفسه حرّض داود على إحصاء الشعب، وبالتالي على ارتكاب المعصية، لأنّ إحصاء الشعب كان محرّمًا: "وعادَ غَضَبُ الرَّبِّ فاحتدمَ على إسْرائيل، فحَرَّضَ علَيهم داوُدَ قائلاً: "اذهَبْ فأَحصِ إسْرائيلَ ويَهوذا" (2 صموئيل 24: 1). ولكن في وقت لاحق، ما عاد الفكر الدينيّ قادرًا على تحمّل تلك الفكرة. لذا، نجد في سفر أيّوب وقد دوّن في القرن الخامس أو الرابع قبل المسيح، محاولةً لا تهدف إلى نسبة الشرّ إلى الله مباشرةً، بل إلى خليقة آخرى خاضعة لسلطته، أي الشيطان.
تعني كلمة "شيطان" بالعبريّة "عدوًّا" أو "خصمًا"، وبدايةً بمعنى دنيويّ صرف. وعلى سبيل المثال، عندما أراد آكش ملكُ الفلسطينيّين اصطحاب داود اليهوديّ معه إلى المعركة، اعترض على قراره رؤساءُ الفلسطينيّين سائلينه: "رُدَّ الرَّجُل، ولْيَرجعْ إِلى المَكانِ الَّذي عَيَّنتَه لَه، ولا يَنزِلْ معَنا إِلى الحَرْب، فلا يَكُنْ لَنا خَصْمًا (أي شيطانًا) في القِتال" (1 صموئيل 29: 4؛ أنظر أيضًا: 1 ملوك 5: 18). كما عنت اللفظة الخصمَ في المحاكمة أو مَن يَتَّهِم (مزمور 109: 6). وتبعًا للمفهوم اليهوديّ القديم، لا ينحصر دور "المـُتَّهِم" في المحاكم البشريّة وحسب، بل يشمل محكمة الله أيضًا. ونجد مثالاً تقليديًّا عن ذلك في بداية سفر أيّوب: فالشيطان يبدو أحد "أبناء الله" الذين يؤلّفون المجلس السماويّ (1: 6). وكان له مهمّة خاصّة ألا وهي تعقّب سلوك البشر السيِّئ على الأرض وإبلاغ الله عن الخطأة. غير أنّه لم يجد ما يشكو أيّوب. إلاّ أنّه ارتاب من أمره: إنّ أيّوب يخاف الله لأنّه يستفيد منه فقط. وبالتالي، يعطي الله الشيطانَ سلطة ليُنزل بأيّوب البلايا، ليس إلاّ لامتحان إخلاصه. ومن اللافت أنّ الله يحرّض الشيطان على أيّوب. فالله نفسه مَن يمتحن إخلاص أيّوب، وهو نفسه مَن يُرسل البلايا إليه. وأيّوب نفسه في الواقع، في خضمّ محنته، يقول هذه الصلاة: "الرَّبُّ أَعْطْى والرَّبُّ أَخَذ" (أيّوب 1: 21)، ولم يقل: "الربُّ أعطى والشيطان أخذ". ففي نظر مؤلِّف سفر أيّوب، يقتصر دور الشيطان على الخداع. ولهذا السبب، بقيت محاولة إقصاء نسبة الشرّ إلى الله غير وافية؛ فالله بالنتيجة مَن يخلق الشرّ وما الشيطان إلاّ وسيط. وبغية الخروج من المأزق، جرت محاولة إقصاء هذا الوسيط عن الله وإضفاء البُعد الفرديّ عليه. ولنعد إلى رواية إحصاء داود الشعبَ. ثمّة في الكتاب المقدّس صيغتان للرواية: الصيغة الأقدم في 2 صموئيل 24 التي ذُكرت أعلاه، والصيغة الأحدث في 1 أخبار 21. يستعيد سفرُ الأخبار المذكور الإحصاء الوارد في سفر صموئيل، ولكنّه يعدِّل في المضمون. فعوض القول إنّ "الله حرّض داود"- كما ورد في سفر صموئيل، نقرأ إنّ "الشيطان حرّض داود". لقد جُعل الشيطانُ في مرجع سفر الأخبار مكان الله. وخلاصة القول إنّنا نجد في ذلك صورة الشيطان التي أصبحت مألوفة عندنا: إنّ الشيطان هو مَن يحرّض الإنسان على الخطيئة ويسلّمه بذلك إلى الغضب الإلهيّ. ولكن يجب ألاّ ننسى أنّ ذلك الحلّ لم يكن للعهد القديم إلاّ وسيلةً سمحت بتفسير مسألة الشرّ في العالم تفسيرًا مقبولاً.