رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ما هذا العالم؟
مِن أين جاء؟ إلى أين هو ذاهب؟ لماذا؟ تُعلِّم المسيحيَّة أن الله خلق العالم، وهكذا تُعلِّم اليهوديَّةُ والإسلام (بخلاف الهندوسية والبوذية). فالعالم له بداية وسيكون له نهاية ذات يوم. فليس العالم أبدياًّ كما ترى الهندوسية، ولا هو مجرّد صدفة كونيّة كما قد ترى الماركسيّة. فإنَّ الأرض قد خلقها الله على نحوٍ فريد بقصدٍ أن تكون لنا "مسكناً". ولو كانت أبعد قليلاً عن شمسنا لكانت أكثر برودةً من أن تُحتمَل، أو لو كانت أقرب قليلاً لكانت أكثر حرارةً من أن تُطاق. وعندنا القمر لإضاءة الليالي، ونحن ندور حول المحور بحيث يصير عندنا ليل ونهار ولكي تدفأ كل أجزاء الأرض. وهناك الأُوكسجين لنتنفَّسه، وطبقة من الأوزون لحماية الإنسان من الإشعاعات العالية غير المحتملة. ولكن، أليس ثَّمة أمرٌ ناقص؟ فالحياة ما تزال غير مُرضية. ومن السهل أن نحتجّ بأن بعض كوارث الحياة هي من صنع الإنسان، ولكن ليس كلُّها من صنعه. فهنالك المرض، وبوار الزرع، والأوبئة، والجراثيم. وبينما الأرانب مثلاً حسنة جداً، ماذا نقول في ذلك المرض الذي أودى بعشرات الألوف منها، وقد عُرف باسم ميكسوماتوسِز myxomutosis) (؟ من أين جاء هذا المرض؟ إذا كان الله قد صنع العالم، فمن المؤكَّد أنه قام بعمل غير كامل فيما يتعلق بالعالم؟ عمل غير كامل؟يجيب المسيحي: كلَّا البتَّة، ثَّم يقدِّم ملاحظة مزدوجة تختصُّ بالدُكها، أي عدم نفع الحياة لكونها غير مُرضية: - هذا العالم ليس على الطريقة التي قُصِد له أن يكون عليها. ما هذا العالم؟ إنه مسكنٌ فريد للإنسان. من أين جاء؟ الله صنعه. إلى أين يمضي هذا العالم؟ يبدو فعلاً أن الزمام قد أُفلِت. وقد بذلت صنوفٌ شتّى من المحاولات لوضع العالم من جديد على السكة القويمة. فها هي أنظمة سياسية جديدة، منها المحلَّي كالقومية الأفريقية، ومنها الدُّوّلي كالماركسية، تنشط في عملها محاوِلةً إضفاء معنًى على الحياة، ساعيةً بكل جهد لعلَّها تضع حدّاً لصفة عدم الإرضاء المنوطة بوجودنا البشري. ويبدو غالباً أن هذه الأنظمة البشرية تنطلق من افتراض يقول بأنّنا جميعاً صالحون في الجوهر وأنَّه يسرنا أن نعمل لأجل خير الآخرين، وهكذا نُصلح حال العالم كلّه. إلا أن حال العالم لا تصطلح، وتذهب المحاولة أدراج الرياح. والظاهر أن سبب ما نقدّمه من أجوبة بشرية غير شافية عن السؤال "إلى أين يمضي هذا العالم؟" إنّما يكمن فينا نحن. فليست المشكلة هي العالم، بقدر ما هي نحن في العالم. وهكذا تعود بنا المجموعةُ الثالثة من الأسئلة الأساسية، لا محالة، إلى المجموعتين الأولى والثانية. إلى أين يذهب العالم؟إلى الفوضى والخراب؟ أهي غلطة الله؟ حسناً، لنأخذ مثلاً "عدم كفاية" المجاعة. ينقطع المطر فيبور الزرع ثم يجوع الناس. فهل هي غلطة الله؟ حاشا: ففي العالم غذاء يكفي لتلبية حاجات كلّ من هو حيَّ اليوم وكل من سيكون حياًّ في المستقبل المنظور. إنما التوزيع هو المشكلة. فإنَّه لَعالمٌ مجنون حيث تكدّس أوروبا زبدتها وأمريكا حنطتها فيما يجوع قوم في أفريقيا وآسيا ويموتون فعلاً كلَّ يوم. مهلاً. سهلٌ جداًّ أن نُلقي اللوم على أمريكا وأوروبا وحدهما. فاللوم يلحقنا جميعاً _ سوداً وبيضاً _ لأجل هذه الفوضى. وأنا، كاتب هذه السطور، قد عشت في أثيوبيا عدّةَ سنين، بما فيها سنوات المجاعة، حين مات مئاتُ الألوف جوعاً. أهي غلطة الله؟ أم غلطة أمريكا؟... وقد حلّقت بي الطائرة فوق المنطقة الواقعة في جنوب أثيوبيا، والمعروفة محليَّا بأنها "سلّة خبز أفريقيا ": أميالٌ وأميال من الأراضي الخصبة المدهشة، لكنَّها متروكة بلا زرع. ذلك أن الأثرياء الأثيوبيين في أديس أبابا علموا بخطط البنك الدولي المعدَّة لتنمية المنطقة، فما كان منهم إلاَّ أن ابتاعوا الأراضي من السكان المحليين ثم جلسوا مكتوفي الأيدي وراحوا ينتظرون صفقة العمر حين يبيعون تلك الأراضي إلى البنك الدولي. وطبعاً، لم يكونوا راغبين في زراعتها فيما كان الآلاف يموتون جوعاً. إلّا أن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ. فقد بادر الغرب إلى إغاثة الجياع، فأرسل هباتٍ من مسحوق الحليب المجفّف للأطفال وكميّات من الحنطة للجائعين. غير أنّ المبتزّين الأثيوبيين وضعوا أيديهم على مسحوق الحليب وباعوه في السوق السوداء. وكأنَّ هذا لم يدرّ عليهم الربح الكافي حتى خلط بعضهم مسحوق الحليب بغبار الكلس. وبالطبع مات كثيرون من الأطفال نتيجةً لذلك. فعلى من يقع اللوم؟ علينا أجمعين، ما دامت طبيعةُ انتهاز الفرص موجودة في قلب كل واحد منّا. إلى أين يذهب هذا العالم؟ إن مصيرنا الفوضى والخراب. وغالباً ما لا نقدر أن نجد ولو سبيلاً للمساعدة. فلنعد إلى أثيوبيا. مرَّت سنوات ورحى الحرب تدور على جبهتين: مع أهل الصومال إلى الشرق، ومع أهل أريتيريا إلى الشمال. ولدعم المطالبة بالاستيلاء على الإمبراطورية، أنشأت أثيوبيا أكبر جيش في أفريقيا، بحيث تحوّل معظم الدخل القومي إلى اقتناء القنابل والرصاص. ولما ظهرت المجاعة من جديد في الثمانينيّات، صدرت صرخات الاستغاثة من آلاف الجياع. ولكن ما العلم؟ عندما تُرسل الحنطة تتشجّع الحكومة الأثيوبية وتنفق ميزانيتها على الحرب. وعندما لا تُرسل الحنطة يموت الناس جوعاً. أضف إلى هذا بالطبع أهوال المرض والزلازل والأعاصير، وكلُّها جزء من الفوضى المستفحلة في هذا العالم. غير أن العالم لم يخلق على هذه الصورة. "ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جداًّ" (تكوين31:1 ). مرّةً أُخرى نشير إلى أن اللوم، بحسب التعليم المسيحي، يقع على الإنسان. فالفصل الثالث من سفر التكوين يصوِّر، على نحوٍ بسيط ودرامي، تصميم الإنسان الانتحاريَّ على المضيّ في سبيله الخاصّ لإرضاء ذاته مُبقياً الله خارج حسابه. ونقولها بكلماتٍ كُنا نتمنَّى ألَّا تُقال، إننا هناك نطقنا على أنفسنا بحكم العواقب الرهيبة الظاهرة الآن في ابتعاد الإنسان عن الله وإقامته في عالمٍ مُعادً. وبكلمة واحدة: إنّها الفوضى الشاملة. هذه الفوضى الكليّة ليست من صنع الله، بل من صنعنا نحن. وهنا يظهر الجواب عن "لماذا سقط العالم في هذه الفوضى"؟ لقد كان ذلك بسببنا نحن وبسبب ابتعادنا عن الله. فلو كُنَّا قد عرفناه حقّ المعرفة، لما كنّا نتصرّف كما نحن فاعلون الآن. العلاجكما أن للمسيحية تفسيرها للفوضى الكونيَّة، فإنَّ عندها علاجاً لها. أما، وقد رأينا التفسير، ننظرُ الآن في العلاج؟ إن العلاج يتمُّ على صعيدين: _ مباشر _ ومستقبليّ فعلى المدى القريب، يستطيع الله أن يغرس فينا حياةً ذات نوعيَّة جديدة ومطامح جديدة وأولويات جديدة، بحيث نصير على استعداد لأن نضع الله أوّلاً والآخرين ثانياً وأنفُسنا أخيراً. وهكذا نستطيع، على المدى القريب، أن نحصل على عالم ٍ أفضل. وكي نكون واقعيين، نقولُ إنَّه لن يكون العالم الأفضل، لسببٍ بسيطٍ هو أنَّ المسيحية لا تشجّعنا على الاعتقاد أنّ أعداداً كبيرةً من الناس ستنضوي تحت لوائها. فليست المسيحية مجرّد وعدٍ بمجتمع فاضل، بل هي تقِّدم طريقاً، طريقاً صعباً، ينطلق منا أوّلاً. وعلى المدى البعيد، فللمسيحية أيضاً ما تقوله، إذ هنالك الرجاء بأن العالم سيكون ذات يوم معرضاً لكل النظام والجمال والقصد العجيب الذي قُصِدَ له في الأصل أن يكون عليه. وقد كان كثيرون من المسيحيين الأوَّلين قوماً عديمي العلم. أما بولس فكان استثناءً، فهو يهوديٌّ درس على معلِّم شهير اسمه غمالائيل. وقد كتب بولس رسالة إلى الكنيسة في روما، وفيها رسم الصورة كلّها بمنتهى الوضوح: لأنّ انتظار الخليقة يتوقّع إستعلان أبناء الله. إذ أُخضعت الخليقة للبُطل، ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها، على الرجاء _ لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبوديَّة الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخَّض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئنّ في أنفسنا، متوقعين التبنّي، فداء أجسادنا (رومية 8: 19_23 ). ذلك هو جواب المسيحي، على المدى البعيد، عن طبيعة الحياة المتسمة بالنقص وعدم الإرضاء. إن الله قد أصلح حالي، ويستطيع أن يُصلح حالك. ونحن نستطيع معاً أن نبدأ بإصلاح حال هذا العالم. غير أن الله سيتدخّل يوماً ما، بخطوةٍ حاسمة، ليُحرِّر الخليقة كلَّها. وعندئذٍ نرى عالم الله كما قصد له دائماً أن يكون. لعلك لاحظت، ونحن ننظر في الأسئلة الأساسية، أنَّنا مراراً وتكراراً عُدنا إلى أنفسنا، أي إلى الإنسان. لذا يلزمنا فعلاً أن نسأل أنفسنا هل نحن على صواب في وضعنا الإنسان في لُبّ تفكيرنا بالذات. فهل الإنسان بهذه الأهميَّة حقّاً ؟ ليس الإنسان ذا أهميَّة لأنه يعتقد أنَّه مهم، بل لأنَّ الله صنعه هكذا. حتّى إنَّ جزءاً من مشكلة النقص العام في الحياة يأتي عندما يجعل الإنسان نفسه مهمّاً بمعزلٍ عن الله. وتظهر وجهة النظر المسيحية بخصوص الإنسان في سؤالٍ بسيط وجوابه بحسب خلاصة أصول الدين المعروفة بخلاصة وستمن ستر الصُغرى (وهي معتمدة في الكنائس المشيخية في انكلترا واسكتلندا وايرلندا منذ 1648 ): |
|