تنقية القلب
- لم يستخدم أبي كلمتين: “جهاد”، أو “صراع”، ولا حتى وردت كلمة “حرب” على لسانه.
- كان يرى أن ما ساد في أروقة مدارس الأحد في ذلك الزمان (1956 – 1971) قد ترك الأساسات. وكان يردد كلمات المزمور: “أساساته في الجبال المقدسة. يحب الرب أبواب صهيون (أي “مخارج القلب”) أكثر من كل بيوت يعقوب (أي من كل الممارسات النسكية السلبية تلك التي لا هدف لها إلَّا هدفٌ واحد، وهو انشغال الإنسان بذاته، وهو بداية الانحراف عن الالتصاق بالرب يسوع)”.
- كانت الإبصاليات هي أول ما تعلمت. “تعلم الالتصاق بالرب لكي تتحد به”. وجاءت بعد ذلك الثيئوطوكيات، أو كما هو شائع التذاكيات، وهي ليست تمجيداً للقديسة مريم كما تبدو القراءة السطحية العابرة الباحثة عن أفكار، وإنما هي تمجيدُ “سر تجسد” ذاك “الذي أخذ لنا وأعطانا الذي له”.
- السهر ليس هو عدم النوم كما يشاع، بل هو يبدأ:
أولاً: “بيقظة القلب”، القلب الذي يرفض كل ما هو ضد المسيح، وهذا الرفض له سببٌ واحد، وهو اختيار الرب يسوع “النصيب الصالح”، و”اسمه القدوس”؛ لأن الاسم القدوس “أعطى فرحاً لنفوسنا”، فهو “اسم الخلاص”، وهو “الاسم” الذي من الفكر يبدأ لكي يوحِّد القلب بالإحساس، وهو ليس العواطف وحدها، بل الالتزام “والعزيمة”، أو “قرار الإرادة” أن يتبعَ القلبُ “المخلِّصَ الواحدَ” يسوع المسيح الذي لا خلاص آخر بدونه، والذي “هو خلاصنا وحياتنا كلها”.
وحرية القلب مما هو “زائد” أي ما هو “غير ضروري”، وما هو “بلا نفع”، وما هو “غير أبدي”، هو الذي يعطي القلب حرية المحبة. ولكن “التحرر من الأهواء” ليس غايةً، بل وسيلة؛ لأن الغاية هي المسيح الرب. وكلما نقول: “يا ربي يسوع المسيح”، فنحن نعود بالوعي والإدراك إلى مصدر حياتنا الأبدية، وإلى مَن هو حياتنا الأبدية.
ثانياً: بعد رفض ما هو غير ضروري، يجب أن يبحث القلب “بيقظة”، أو “القلب السهران يُفتِّش عن المحبوب”، وهو لا يُفتِّش عنه في فضاءٍ، أو في كتاب. وقد ظللت أسأل نفسي عدة مرات عن السبب الذي جعله يطلب مني في إلحاح أن أحفظ القداسات الثلاثة، وكل ما فيها من صلوات. كانت الإجابة أحياناً سهلة: علشان تعرف تصلي من غير كتاب ولا ينشغل قلبك بالقراءة، بل يطلع الكلام من قلبك. وكانت الإجابة الأكثر صعوبة هي: علشان تعرف دائرة التدبير الإلهي للخلاص، فأنت لست وحدك، بل مع الكنيسة. وزادت الصعوبة عندما قال: “خلِّي صلوات القداسات يا ابني في قلبك علشان تحفظ الإيمان وتوحَّدك الصلوات بالرب يسوع”. ولعل الإجابة الثالثة هامة؛ لأن حِفظ الإيمان ليس في التكوين اللفظي والعبارات، بل في المعاني التي “تفيض بمحبة الثالوث للبشر”، واستغرق هذا وقتاً.
لكن عَبر هذا التعليم، بدأت الرؤيا تظهر بوضوح. التمسُّك بما هو أبدي كضرورة لحرية القلب للبقاء في شركة، وللالتصاق بالرب يسوع المسيح.
وبدأت دائرة الفهم تتسع، أولاً بالممارسة؛ لأن التعليم الصادق هو ممارسة، وليس عرض أفكار. وثانياً عدم الخلط بين الوسيلة والغاية.
- “النسك المزيف” هو “تداريب روحية”، وهي عودة الوعي إلى الوعي، أي انفصال الإنسان عن المخلص، وبقاء الإنسان في دائرة الوعي بما يجب أن يفعله، وهنا تصبح الذات هي الوسيلة والغاية معاً، وتتحول الحياة المسيحية إلى دائرة مغلقة على الذات .. أخذ هذا وقتاً طويلاً، فقد كانت فترة الخمسينيات والستينيات هي فترة “التداريب الروحية”، وكان لها مدرسة تقود التعليم في تلك الفترة، أضاعت على الذين دخلوها اكتشاف غنى الحياة الليتورجية.
طبعاً، من المعروف أن أبي كان يصلي باكر – عشية – نصف الليل – قداس كل يوم، واحتفظ بهذا حتى عندما صار بطريركاً.
ماذا سُلِّم إلى جيلٍ تعلَّم منه، ولم يُكتَب؟
أولاً: التصاق القلب باسم “الخلاص”، أي اسم ربنا يسوع المسيح. ليس في ترديد الاسم بشكل ميكانيكي، فقد كانت “صلاة يسوع”، وجاءت كاكتشاف روحي في “مذكرات سائح روسي على دروب الرب”، نشرها أستاذنا يسى حنا، وكان تعليق القمص مينا المتوحد: هذا جيد؛ إذا حَفِظَ القلبُ الإبصاليات حتى لا ينفصل مَن يمارس صلاة يسوع، عن الكنيسة. وعندما سألته: ما هو الانفصال عن الكنيسة؟ قال في وداعة: حتى لا تصبح الإنسان الوحيد الذي يصلي؛ لأن صلوات الكنيسة أحلى ما فيها أنك تصلي مع غيرك، ومُتَّحد معهم في نفس الحياة والهدف.
ثانياً: وكان هذا درساً ضد تيار التعليم السائد، وهو: أن الاعتراف ضروري؛ إذا كانت لديك مشكلة. ولم يكن يقبل أن يتحول الاعتراف إلى “إدمان” الشعور بالراحة والاطمئنان لأن الرب غفر، بل لكي يتعلم التلميذ -إذا كانت التلمذة حقيقية- الإفراز؛ لأنه “مدرسة الحكمة الالهية”.
والإفراز كان سؤالاً كان غامضاً في البداية، وهو: أيه اللي جوه جوه قلبك؟ أي ما هي حركة القلب الحقيقية، ما هو مصدرها، وما هي غايتها. البحث ليس عن خطية، بل عن الضعفات التي تقود إلى الخطية. ليس “التعدي”، بل سبب التعدي، وهو ليس “العصيان”، بل “ضعف المحبة”، وانعدام رؤية ما هو “أبدي”.
لقد تقدم بي العمر، وصار من الضروري فتح كل الملفات مهما كانت