رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تفسير سفر نشيد الأنشاد القمص تادرس يعقوب مركزه عند اليهود: وقد ضمت النسخة العبرية للتوراة التي جمعها عزرا الكاتب في القرن الخامس قبل الميلاد هذا السفر، كما ترجم إلى اليونانية ضمن أسفار النسخة السبعينية في القرن الثالث قبل الميلاد، دون أي اعتراض أو شك من جهة معانيه الروحية. وفي أيام السيد المسيح، حاول الحاخام شمعي استثناءه من الكتاب المقدس بسبب رغبته في التفسير الحرفي للكتاب المقدس بطريقة قاتلة...، فأكدت مدرسة هليل اليهودية التقليدية قانونية السفر. وأكد مجمع[1] Jamnias (95-100م) قانونيته. وفي عام 135م أكد الحاخام أكيبا أهميته العظمى، قائلاً: "الكتاب كله مقدس، أما سفر نشيد الأناشيد فهو أقدس الأسفار، العالم كله لم يأتِ بأهم من ذلك اليوم الذي فيه أعطي هذا السفر". وجاء في الترجوم اليهودي[2] "الأناشيد والمدائح التي نطق بها سليمان النبي، ملك إسرائيل، بالروح القدس، أمام يهوه الرب العالم كله في ذلك رنمت عشرة أناشيد، أما هذا النشيد فهو أفضل الكل". وأكدت المدراش [3]Midrash: "نشيد الأناشيد هو أسمى جميع الأناشيد، قدمت لله الذي سيحل بالروح القدس علينا. أنه النشيد الذي فيه يمتدحنا الله، ونحن نمتدحه!". ربما يتسأل البعض: لماذا استخدم الوحي هذا الأسلوب الرمزي الغزلي في التعبير عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته؟ 1. اعتاد الله أن يتحدث معنا خلال الوحي بذات الأسلوب الذي نتعامل به في حياتنا البشرية، فهو لا يحدثنا فقط باللغات البشرية بل ويستخدم أيضًا تعبيراتنا، حتى لا يكون الوحي غريبًا عنا. نذكر على سبيل المثال أن الوحي يتحدث عن الله بأنه حزن أو غضب أو ندم... مع أن الله كليّ الحب لن يحزن لأنه لا يتألم، ولا يغضب إذ هو محب، ولا يندم لأن المستقبل حاضر أمامه وليس شيء مخفي عنه. لكنه متى تحدث الكتاب عن غضب الله إنما نود أن يعلن لنا أننا في سقطاتنا نلقي بأنفسنا تحت عدل الله، وما يعلنه الوحي كغضب إلهي إنما هو ثمر طبيعي لخطايانا، نتيجة هروبنا من دائرة محبته. بنفس الطريقة يستخدم الوحي التعبيرات البشرية عندما يقول: "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، وجه الرب ضد عاملي الشر" (مز 34: 15)، فهل يعني هذا أن لله عينان أو اذنان أو وجه! إنما هو يحدثنا عن رعاية الله لنا بأسلوبنا!... هكذا أيضًا إذ يتحدث الكتاب المقدس عن كرسي الله أو عرشه، فهل أقام الله له كرسيًا أو عرشًا محدودًا يجلس عليه؟ ألم تكتب هذه كلها لكي نتفهم ملكوت الله ومجده وبهاءه حسب لغتنا وتعبيراتنا البشرية؟!. على نفس النمط يحدثنا الوحي عن أعمق ما في حياتنا الروحية، ألا وهو اتحادنا بالله خلال الحب الروحي السري، فيستعير ألفاظنا البشرية في دلائل الحب بين العروسين، لا لنفهم علاقتنا به على مستوى الحب الجسداني، وإنما كرموز تحمل في أعماقنا أسرار الحب لا ينطق له. هذا الأمر ليس بغريب، فقد استخدمه كل الأمم حين تحدثوا عن العشق الإلهي والهيام في محبة الله... حينما تعلن النفس رغبتها في أن ترتمي في أحضان الله لتحيا به ومعه وحده، ليشبع كل أعماقها. 2. هذا المفهوم للحب الإلهي كحب زوجي روحي يربط النفس بالله ليس غريبًا عن الكتاب المقدس، فقد استخدمه أنبياء العهد القديم كما أستخدمه رجال العهد الجديد أيضًا، كما سنرى ذلك عند حديثنا عن "العرس السماوي". 3. عبارات هذا السفر لا يمكن أن تنطق على الحب الجسداني، ولا تتفق مع القائلين أنه نشيد تغنى به سليمان حين تزوج بابنة فرعون أو ما يشبه ذلك، نذكر على سبيل المثال[4]: أ. "ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر" (1: 1). هكذا تُناجي العروس عريسها، لكنها تطلب قبلات آخر "فمه"... مع أنها تعلن له "حبك" أطيب من الخمر. كيف يمكن لعروس أن تطلب من عريسها أن يقبلها آخر بينما تستعذب حب العريس نفسه؟ يستحيل أن ينطبق هذا على الحب الجسداني، لكنه هو مناجاة الكنيسة للسيد المسيح عريسها، فتطلب قبلات فم الآب، أي تدابيره الخلاصية، والتي تحققت خلال حب الابن العملي، كقول الكتاب "الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر"... ب. "لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى" (2: 1) إذ تُشيد العروس برائحة عريسها الطيبة المنعشة، وأن اسمه عطر كالدهن المسكوب، تعلن أن العذارى قد أحببنه. هل يمكن لعروس أن تفرح لأن عريسها موضع حب عذارى غيرها؟ لكن العروس هنا هي الكنيسة التي تُريد أن كل المؤمنين - كالعذارى - يحبون عريسها. ج. "اجذبني وراءك فنجري" (4: 1). كيف تغير ضمير المتكلم المفرد إلى المتكلمين الجمع في عبارة واحدة؟! هل المتكلم هنا مفرد أم جمع؟ أن كانوا جمعًا فكيف تلتقي الجماعة في حب الواحد جسدانيا؟! وأي عروس تطلب من عريسها أن يجتذبها فتجري ومعها كثيرات نحو حبه؟!... من هذه الأمثلة وما على شاكلتها كما سنرى، يظهر هذا السفر قد كتب لا ليُعبر عن حب جسداني بين عريس وعروسه، بل حب إلهي يربط الله بكنيسته ومؤمنيه. وقد لقب "نشيد الأناشيد"، وذلك لأن تكرار كلمة "نشيد" تُشير إلى أفضليته على غيره من الأناشيد، كالقول "ملك الملوك، رب الأرباب، قدس الأقداس، سبت السبوت، سماء السموات، باطل الأباطيل عبد العبيد[5]...". 1. إن كان سليمان قد كتب سفر الجامعة مدركًا حقيقة الحياة الأرضية أنها "باطل الأباطيل" فإنه إذ تلامس مع الحياة السماوية وجدها "نشيد الأناشيد". في سفر الجامعة يعلن الحكيم أنه لا شبع للنفس خلال كثرة المعرفة، أما في سفر نشيد الأناشيد فتشبع النفس وتستريح تمامًا بالحب الإلهي، ولا تكون بعد في عوز. في سفر الجامعة يتحدث عن كل ما هو تحت الشمس وإذا ليس فيه جديد، أما في النشيد إذ تدخل النفس إلى أحضان الله ترى كل شيء جديدًا. 2. فهم اليهود هذا السفر بطريقة رمزية تمثل العلاقات القائمة بين الله (العريس) وشعبه (العروس) منذ الخروج حتى مجيء المسيا، وفهمه المسيحيون أنه يمثل العلاقة بين المسيا المخلص والكنيسة عروسه. وقد أخذ المسيحيون اتجاهات ثلاث في التفسير الرمزي لهذا السفر، هذه الاتجاهات في الحقيقة متكاملة ومتلازمة معًا، وهي: أ. يرى العلامة أوريجانوس والقديس جيروم وأغسطينوس وغيرهم أن السفر يُشير إلى العلاقة بين السيد المسيح وكنيسته ككل، أي جماعة المؤمنين. ب. يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص وبرنارد Bernard of Clairvaux أن السفر يُعبر عن العلاقة بين السيد المسيح والنفس البشرية على المستوى الشخصي. وقد أخذ العلامة أوريجانوس بهذا الاتجاه أيضًا[6] جنبًا إلى جنب مع الاتجاه السابق. ج. يُفسر بعض اخوتنا الكاثوليك هذا السفر بكونه يُعالج موضوع التجسد الإلهي، ويروا في العروس أنها القديس مريم والدة الإله. والحقيقة أن المؤمن إذ يتذوق المحبة المتبادلة بين الله والكنيسة الجامعة، إنما يراها محبة شخصية تمس حياته هو بالذات. فالعلاقة التي تربط الله بالجماعة تؤكد وتثبت العلاقة بين الله والنفس البشرية، لا كعلاقة فردية خلالها ينعزل الفرد عن الجماعة، بل علاقة شخصية يختبرها الفرد بكونه عضو في الجماعة. أما عن القديسة مريم، فهي تمثل بطريقة ما الكنيسة الجامعة، كعضو أمثل وسام[7]، فأن فسر البعض هذا السفر كعلاقة محبة تربط السيد المسيح بالقديسة مريم، إنما لأنها قد تمتعت بحب الله كواحدة منا... ما قد تمتعت به يحمل بشكل أو آخر ما ننعم نحن به أيضًا، وأن كان بدرجة مختلفة!... 3. يرى العلامة أوريجانوس أن المؤمن وهو منطلق من برية هذا العالم ليدخل أورشليم السمائية يتغنى بأناشيد كثيرة، حتى متى استقر في حضن العريس الأبدي في الحجال السماوي يترنم بنشيد الأناشيد، أما الأناشيد التي يُسبح بها في الطريق، فهي: أ. إذ تعبر النفس مع الشعب بني إسرائيل البحر الأحمر تقول: "أرنم للرب لأنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر. الرب قوتي ونشيدي، وقد صار خلاصي" (خر 15: 1). يعلق العلامة أوريجانوس على هذا النشيد قائلاً[8]: "وإن كنت تترنم بهذا النشيد الأول إلاَّ أن الطريق لا يزال طويلاً للوصول إلى نشيد الأناشيد". هذا هو بدء الأناشيد، تترنم به النفس البشرية عندما تنعم بالدخول إلى مياه المعمودية، فتدرك أن "الله" هو سرّ قوتها وخلاصها وغلبتها على إبليس وكل جنوده... لقد صارت بالمعمودية ابنة له، تحت رعايته، يهبها روحه القدوس ليتمم خلاصها. لهذا جعلت الكنيسة هذا النشيد جزءًا أساسيًا في التسبحة اليومية، وكأنها تُريد أن يتذكر أولادها كل يوم عبورهم من عبودية الخطية وتمتعهم بالتبني لله خلال المعمودية، فتتأكد في أذهانهم غلبتهم على قوات الظلمة، ويشهدوا للرب مخلصهم! ب. يرى العلامة أوريجانوس أن النشيد الثاني في هذه الرحلة الروحية نترنم به عندما نأتي إلى البئر التي حفرها الرؤساء[9] في البرية، "حيث قال الرب لموسى أجمع الشعب فأعطيهم ماء" (عد 21: 16)... فترنم الكل هكذا: "أصعدي أيتها البئر أجيبوا لها، بئر حفرها الرؤساء، بئر حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم". هذه أنشودة النفس التي تتقبل من الله نفسه - خلال الكنيسة (الرؤساء) - ينابيع المياه الحية. فآبار الآباء أو الرؤساء هي عطية الله نفسه، كقول الرب لموسى "أعطيهم ماء"، لكن الذي يحفرها هم الرؤساء، أي العاملون في كرم الرب. ج. نترنم بالنشيد الثالث حين نقف مع موسى النبي على ضفاف الأردن، ونسمعه يترنم في مسامع الشعب قبيل رحيله، قائلاً: "أنصتي أيتها السماوات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي. يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي... كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على منكبيه، هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي. أركبه على مرتفعات الأرض فأكل ثمار الصحراء، وأرضعه عسلاً من حجر، وزيتًا من صوان الصخر. وزبدة بقر ولبن غنم مع شحم خراف وكباش أولاد باشان وتيوس مع دسم لب الحنطة، ودم العنب شربته خمرًا" (تث 32). هذه أنشودة النفس وقد أدركت رعاية الله لها وسط البرية، يرافقها كما يرافق الأب ابنه كل الطريق، يقودها ويهتم بكل احتياجاتها الروحية والمادية. تراه النفس كالنسر الذي يرف على فراخه، ويبسط جناحيه فيحميها، يترفق بها ويحملها على منكبيه، يعطيها كل رعايته ولا يتركها تعتاز إلى غيره. يشبعها وسط القفر، فيخرج لها من الحجر عسلاً ومن صوان الصخر زيتًا... أي يصنع من أجلها المستحيلات!. د. يتحدث العلامة أوريجينوس عن النشيد الرابع في الطريق أثناء الجهاد الروحي المستمر، قائلاً[10]: "يجب عليك أيضًا أن تحارب تحت قيادة يشوع، وتملك الأرض المقدسة ميراثًا لك، وتتنبأ النحلة (دبورة) لك وتكون قاضية لك، فان "دبورة" تعني "نحلة"، لكي ما تنطق شفتاك بالتسبحة التي وردت في سفر القضاة". هذه التسبحة نترنم بها أثناء جهادنا الروحي، فنكون كالنحلة، حتى نملك السماء ميراثًا لنا، قائلين: "أنا أنا للرب أرنم. أزمر للرب... تزلزلت الجبال من وجه الرب" (قض 5). فان الرب يزلزل أمامنا الجبال الوعرة أثناء جهادنا الروحي، ويفتح لنا باب السماء لندخل بالفرح ونرث إلى الأبد. ه. أما النشيد الخامس فهو الذي نطق به داود حين هرب من أيدي أعدائه، إذ قال: "الرب سند ليّ، قوتي وملجأي ومخلصي". هكذا تملك النفس مع الملك داود حين تتحطم قوى الشيطان عدوها بالله سندها وقوتها وملجأها وخلاصها. وكما ورث داود شاول نرث نحن أيضًا ونحتل مركز إبليس قبل السقوط، إذ كان من أعظم الطغمات السمائية. و. إذ تكتشف النفس أسرار الملكوت، تنشد مع الأنبياء النشيد السادس، قائلة: "لا نشدن عن حبيبي نشيد محبي لكرمة" (إش 5: 1). في اختصار نستطيع القول بأن أوريجانوس شاهد النفس في حالة ترنم مستمر تسبح سبع أناشيد: النشيد الأول وهي خارجة من جرن المعمودية في حالة التبني لله، والثاني وهي تشرب من ينابيع الله التي تفيض في كنيسته، والثالث وهي تتلمس رعاية الله المستمرة وهي في البرية، والرابع تسبحة أثناء جهادها كالنحلة، والخامس تترنم به كلما تحظى بغلبة ونصرة فتملك مع الرب، والسادس تنشد مع الأنبياء حين تتحسس أسرار الأبدية والسماويات، وأخيرًا السابع هو سفر نشيد الأناشيد الذي تنطق به إلى الأبد حين تدخل إلى حضرة العريس نفسه، وتبقى معه في حجاله السماوي وجهًا لوجه. 4. كان هذا السفر يُقرأ في اليوم الثامن من الاحتفال بعيد الفصح[11] بكونه نشيد الحب الأبدي المقدم لله، أو الذي يربط الله بالمؤمنين الذين ينعمون بالخلاص خلال الدم... فاليوم الثامن يُشير إلى ما بعد أيام الأسبوع (7 أيام)، أي يُشير إلى الحياة الجديدة، أو الحياة الأخرى التي ننعم بها خلال السيد المسيح فصحنا الحقيقي. وكأن النشيد يحمل نبوة عن الفصح الحقيقي الذي ينقذنا من الموت ويدخل بنا إلى حجاله "سماء السماوات"، عروسًا عفيفة، متحدة به اتحادًا أبديًا. سفر نشيد الأناشيد في الحقيقة هو سيمفونية رائعة، تطرب بها النفس المنطلقة من عبودية هذا العالم، متحررة من سلطان فرعون الحقيقي "الشيطان"، متكئة على صدر ربها، تدخل أورشليم السمائية في حرية مجد أولاد الله، لهذا لا يتحدث هذا السفر عن وصايا أو تعاليم، بل عن سرّ الحب الأبدي والحياة مع العريس السماوي... هو سيمفونية القلب المتحد مع مخلصه! هو نشيد فريد في نوعه وفي معانيه، يترنم به في تقديس بدم الحمل، داخلاً بدالة الحب إلى قدس الأقداس السمائي بغير كلفة أو روتين أو رسميات... حتى يستقر في حضن الآب، مرتفعًا فوق كل فكر مادي جسداني إلى الفكر الروحي الحق. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يأمرنا الكلمة في النشيد ألا نفكر فيما هو للجسد - حتى ونحن بعد في الجسد - بل نرتفع إلى الروح، فنحول كل تعبيرات الحب التي نجدها هنا كتقدمات طاهرة غير مدركة، نقدمها للرب الصالح الذي يفوق كل فهم، والذي فيه وحده نجد كل عذوبة وحب ومشتهي]. فنشيد الأناشيد في الحقيقة هو أغنية الحب الإلهي، مسجلة برموز غزلية، تحمل معان سماوية، أكثر عمقًا مما يحمله ظاهرها... يترنم بها الناضجون روحيًا، الذين عبروا اهتمامات العالم والجسد وانطلقوا سالكين بالروح، لذلك يسميه العلامة أوريجانوس "سفر البالغين"، إذ يقول[12]: [أما الطعام القوي للبالغين... الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة، وأما الأطفال في الإيمان فلهم في كلام الله غذاء يجدونه في الأسفار الأخرى... وأخطر ما نخشاه أن يجد الجسدانيون الأرضيون سبيلاً إلى هذا السفر! أنها مجازفة قاتله للجسداني الذي لا عهد له أن يسمع أو يتعامل بلغة الحب في الطهارة... ونصيحتي لكل إنسان مازال في ظلمة الجسد وتتحكم فيه الطبائع البشرية أن يبتعد عن قراءة هذا السفر. وعندي أن العبرانيين كانوا محقيين لما جعلوا هذا السفر - مع أجزاء أخرى من العهد القديم - ممنوعًا على الذين لم يبلغوا الكمال...]. وعندما تحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن هذا السفر قال[13]: "أنني أتحدث عن سرّ نشيد الأناشيد معكم أنتم جميعًا يا من تحولتم إلى ما هو إلهي... تعالوا أدخلوا إلى حجرته الزيجية غير الفاسدة، يا من لبستم ثوب أفكار النقاوة والطهارة الأبيض! فان البعض لا يرتدي ثوب الضمير النقي اللائق بعروس إلهية، فيرتبكون بأفكارهم الذاتية، ويحدرون كلمات العريس النقية إلى مستوى اللذات البهيمية، وهكذا يبتلعون في خيالات مشينة]. أما القديس بفنوتيوس، من آباء برية مصر، فيرى في كتب سليمان الحكيم درجات النسك الثلاثة، التي ترتفع بالإنسان إلى حياة الحب والوحدة مع الله في سفر "نشيد الأناشيد"، إذ يقول[14]: "سفر الأمثال يقابل النوع الأول من النسك، فيه نقمع الشهوات الجسدية والخطايا الأرضية . (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). والنوع الثاني يطابق "سفر الجامعة"، حيث يعلن أن كل ما يحدث تحت الشمس باطل. وأما النوع الثالث فيطابقه "سفر نشيد الأناشيد"، فيه تسمو النفس فوق كل المنظورات، مرتبطة بكلمة الله، بالتأمل في الأمور السماوية". إذ نتحدث عن "العرس" أو "الزواج" يليق بنا ألا نحبس أفكارنا في نطاق الجسد، فالزواج هو اتحاد سري داخلي عميق يحمل حبًا فوق حدود الجسديات... هذا عن الحياة الزوجية بين بني البشر، فماذا نقول عن الزوجية الروحية التي فيها تقبل النفس ربها كعريس لها، يضمها إليه لتكون واحدًا معه!. ففي العهد القديم فهم الأنبياء العهد الذي بين الله وشعبه كعهد زوجي فيقول إشعياء النبي مثلاً: "لأن الرب يُسرّ بك... كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك..." (62: 4-5). ويقول هوشع النبي: "ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعيني "رجُلّي"... وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والأحسان والمراحم، اخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (2: 14-20). وهكذا جاءت عبارات مماثلة في سفر الخروج (45) وإرميا (2: 2)، حزقيال (16: 7-14). هذا الاتحاد الزوجي الذي عبر عنه الأنبياء، كان رمزًا لاتحاد أكمل حققه "الكلمة الإلهي" أو "اللوغوس" في ملء الزمان. فسفر النشيد هو سفر العريس السماوي، فيه تتحقق إرادة الله الأزلية نحو الإنسان... هو نبوة لسرّ الزفاف الاسخاتولوجي (الاخروي)، فيه تزف الكنيسة الواحدة، الممتدة من آدم إلى آخر الدهور، عروسًا مقدسة. هذا العرس تطلع إليه يوحنا المعمدان حين قال: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 19). وهو غاية كرازة الرسل، إذ يقول الرسول: "فأني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)، "هذا السرّ العظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة". ويقول القديس يوحنا: "رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من عند الله كعروس مزينة لرجلها" (رؤ 21: 2). "قد ملك الرب الإله... لأن عرس الخروف قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بزا نقيًا بهيًا..." (رؤ 19: 6-8). "الروح والعروس يقولان تعال"[15] (رؤ 22: 17). نستطيع الآن أن نقول أنه خلال نشيد الأناشيد يمكننا العبور إلى الأبدية وممارسة لغة الحب السماوي، إذ يحوي حوارًا بين المسيا العريس وكنيسته الجامعة الرسولية العروس، أو بينه وبين كل نفس اتحدت به كعضو حيّ في كنيسته. يكشف هذا الحوار الروحي عن الحب المشترك من الجانبين: الله والإنسان، والبحث المشترك من جانب كل منهما نحو الآخر، وينتهي بالراحة الحقيقية خلال الملكية المشتركة التي يقدمها كل منهما للآخر. يحمل هذا السفر في مجمله نبوة صادقة عن عمل الله السرائري القدسي في كنيسته، وقد فسره آباء الكنيسة الأولى تفسيرًا سرائريًا Sacramental خلاله نتفهم الأسرار. فعندما يتحدث السفر عن الدخول في "حجال الملك"، إنما يتكلم سريًا عن دخول الوعوظ في جرن المعمودية، ليرتبط بالعريس السماوي، يدفن معه، ويصلب معه، ويقوم معه، حاملاً في داخله الخليقة الجديدة على مثال المسيا. سرّ المعمودية هو سرّ الزوجية الروحية مع المسيا المصلوب القائم من الأموات، والذي يتم بالروح القدس، فيرى القديس كيرلس الأورشليمي أن جرن المعمودية هو "حجال العريس"[17]". ويقول القديس ديديموس الضرير: [الذي خلق لنا النفس، يتقبلها عروسًا له في جرن المعمودية[18]]، كما يحدث القديس غريغوريوس النزينزي طالبي العماد، قائلاً: [بقي ليّ أن أبشركم بأمر واحد، أن الحال الذي تصيرون عليه بعد عمادكم قدام الهيكل العظيم إنما هو مثال للمجد العتيد أن يكون: التسبيح الذي يستقبلونكم به إنما هو تمهيد لتسبيح السماء! المشاعل التي تضيئونها هي سرّ الاستنارة الذي تستقبلون به العريس![19]]. إذ تدخل النفس إلى سرّ الزوجية الروحية في المعمودية، يراها الملائكة في ثياب العرس الداخلي فيترنمون قائلين: "من هذه الصاعدة التي صارت بيضاء؟!" (نش 8: 5) (الترجمة السبعينية). وفي هذا السفر نجد دعوة إلهية للتمتع بسرّ الافخارستيا، وليمة العرس، وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [يهب السيد المسيح أبناء الحجرة الزوجية أن يتمتعوا بجسده ودمه]. وفي هذا السفر أيضًا يمكن أن نتفهم "سرّ الميرون" حيث يطبع العريس بختمه على قلب عروسه وساعدها، لكي تتهيأ بالروح القدس للعرس الأبدي. لما كان هذا السفر هو سفر الزوجية الروحية التي تربط السيد المسيح البتول بكنيسته البتول رباطًا روحيًا، لهذا رأي بعض الآباء الأولين في هذا السفر أنه "سفر سرّ البتولية"، حيث تشبع النفس البتول بعريسها البتول، فلا تحتاج إلى شيء... حتى ولا إلى الزوجية الزمنية. وهي في هذا لا تحتقر الزواج لكنها تُريد زواجًا على مستوى أعظم وأبدي! وقد استخدم كثير من الآباء بعض عبارات السفر في مدح البتولية والبتوليين. وأنني أقتطف هنا عينة بسيطة من كلمات القديس جيروم ضد جوفينانوس محتقر البتولية. فقد أعلن القديس كرامة البتولية مستشهدًا بالكتاب المقدس، ولما جاء إلى سفر النشيد رآه "سفر البتولية"، فقد ربط بين الإنجيل والبتولية كما ربط بين الناموس الموسوي وعفة الزواج، ففي رأيه أن هذا السفر قد أعلن أن وقت الشتاء قد مضى، أي كمل زمان الناموس الذي يحث على العفة خلال الزواج المقدس وجاء وقت الربيع حيث تظهر زهور البتولية كثمر من ثمار الإنجيل... وقد حسب القديس السفر كله يؤكد البتولية ويمدحها، إذ يقول[20]: [إني أعبر إلى نشيد الأناشيد]، فقد ظن خصمنا أن هذا السفر يتحدث بكليته عن الزواج، لكنني أوضح كيف حوى أسرار البتولية. لنسمع ماذا قيل للعروس قبل مجيء العريس على الأرض وتألمه ونزوله إلى العالم السفلي وقيامته: "نصغ لك شبه ذهب مع حلي من الفضة، مادام الملك على مائدته" (1: 10-12)، فإنه لم يكن للكنيسة ذهب (البتولية) قبل قيامة الرب وأشراق الإنجيل، بل كان لها شبه ذهب (الزواج العفيف)... كان لها حلي من الفضة، بل أنواع منها: أي أرامل وأعفاء ومتزوجون. لقد أجاب العريس العروس معلمًا إياها أن ظلال الناموس القديم قد عبرت، وأن حق الإنجيل قد جاء، قائلاً لها: "قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي... لأن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال" (2: 10-11). مرة أخرى يتحدث عن الإنجيل والبتولية فيقول: [الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان قضب الكروم]. أليس من الواضح أنه يردد قول الرسول: "الوقت منذ الآن مقصر لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم" (1 كو 7: 22). وفي أكثر وضوح يعلن عن الطهارة، قائلاً: "صوت اليمامة سمع في أرضنا"، فإن اليمامة هي أطهر الطيور، تسكن عاليًا باستمرار كرمز للمخلص... "قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي. يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل. أريني وجهك، أسمعيني صوتك، لأن صوتك حلو ووجهك جميل" (2: 13-14). أن سترتي وجهك مثل موسى ووضعتي برقع الناموس لا أرى وجهك ولا أنزل لا سمع صوتك. أقول: "وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع" (إش 1: 15). أما الآن فانظري مجدي بوجه غير مقنع، فتحتمي في محاجئ الصخر، وفي ستر المعاقل. إذ تسمع العروس ذلك تكشف عن أسرار الطهارة، قائلة: "حبيبي ليّ وأنا له، الراعي بين السوسن" (2: 16)، أي أن سرّ طهارتها هو ذلك الراعي الذي يرعى جماعات العذارى الطاهرات. يقول: "اذهب إلى جبل المرّ"، أي إلى أولئك الذين أماتوا أجسادهم، "إلى جبل اللبان" (4: 6)، أي إلى جماهير العذارى الطاهرات... يكمل العريس حديثه قائلاً: "شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب واشربوا واسكروا أيها الأحباء" (5: 1). فقد قيل عن الرسل أنهم امتلأوا خمرًا جديدًا وليس خمرًا عتيقًا (متى 4: 17). والخمر الجديد إنما يوضع في زقاق جديد، إذ لم يسلك هؤلاء بالحرف القديم بل سلكوا في جدة الروح (رو 7: 6). هذا هو الخمر الذي متى سكر به الشبان والشابات يعطشون إلى البتولية ويمتلئون بروح العفة... "حبيبي أبيض وأحمر"، أنه أبيض بالبتولية، أحمر بالاستشهاد... وهكذا لا يسعفني الوقت أن أشرح الكتاب وأوضح كل أسرار البتولية كما وردت في سفر نشيد الأناشيد. يليق بنا في دراستنا للكتاب المقدس بوجه عام، ولهذا السفر بوجه خاص ألا نقف عند الحرف واللفظ، بل ندخل إلى الأعماق، لنلتقي مع الله الكلمة نفسه، نرى يسوعنا واضحًا، حيًا، يُريد الاتحاد بنا لنعيش به ومعه إلى الأبد. في هذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [في فن الرسم من يتأمل صورة تكونت باستخدام الألوان بطريقة ماهرة لا يقف بصره عند حدود الألوان، بل بالحرى يتطلع إلى الشكل الذي أوجده الفنان بألوانه. هكذا يليق بنا في دراسة الكتاب المقدس ألا نقف عند مادة الألوان، بل ننظر شكل الملك الذي تُعبر عنه مفاهيم الذهن الطاهرة خلال الكلمات. فالألوان هنا هي الكلمات الحاملة لمعان غامضة مثل (ما جاء في هذا السفر من كلمات): "الفم، القبلات، المرّ، الخمر، أعضاء الجسد، السرير، الجواري، وما أشبه ذلك..." أما الشكل الذي عبرت عنه هذه الكلمات فهو: هالة الكمال والطوباوية، الاتحاد مع الله، عقاب الشر، المجازاة عما هو بحق صالح وجميل". يتحدث هذا السفر عن عدة شخصيات هم: 1. العريس، وهو السيد المسيح الذي يخطب الكنيسة عروسًا مقدسة له (أف 5: 27). 2. العروس، وهي الكنيسة الجامعة، أو المؤمن كعضو حيّ فيها، وتسمى "شولميث". 3. العذارى، في رأي العلامة أوريجانوس هم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد العمق الروحي، لكنهم أحرزوا بعض التقدم في طريق الخلاص. 4. بنات أورشليم، ويمثلن الأمة اليهودية التي كان يليق بها أن تكرز بالمسيا المخلص. 5. أصدقاء العريس، وهم الملائكة الذين بلغوا الإنسان الكامل (أف 4: 13). 6. الأخت الصغيرة، وهي تمثل البشرية المحتاجة من يخدمها ويرعاها في المسيح يسوع. سفر النشيد هو سفر الحب العميق، أو سفر القلب الذي لا يتطلب. أقسامًا معينة، بل يحمل وحدة الحب الفياض المتبادل. لكننا من أجل تسهيل الدراسة يمكننا تقسيم السفر إلى ستة فصول: الفصل الأول: شخصا العروسين: 1. المسيا المتألم [1: 2-6]. 2. المسيا الراعي [1: 7-12]. 3. المسيا الملك [1: 12-16]. 4. المسيا الحبيب [2: 1–7]. الفصل الثاني: الخاطب يطلب خطيبته: 1. ينزل إليها بنفسه [2: 8-14]. 2. يحذرها من الواشين [2: 15]. 3. وليمة العرس "القيامة والصليب" [2: 16-17، الأصحاح الثالث]. الفصل الثالث: الزفاف السماوي: 1. العروس المقامة [4: 1–15]. 2. العروس تشارك عريسها [4: 16]. الفصل الرابع: الحياة الزوجية: 1. بدء الحياة الزوجية [5: 1]. 2. ظلال في حياة الزوجية [5: 2-3]. 3. بالصليب يعود الحب [5: 4-9]. الفصل الخامس: الحب الزوجي المتبادل: 1. العروس تمدح عريسها [5: 10–16]. 2. حوار في الحديقة [الأصحاح 6]. 3. وصفه للعروس "شولميث". [الأصحاح 7]. الفصل السادس: العروس العاملة: [الأصحاح 8]. |
|