الحب الذي دعيت اليه القديسة تريز الطفل يسوع
تريز مارتان
عمرها خمسة عشر عاماً تقريباً. شابة صغيرة تضجّ حياة، وذكية بشكل خاص أيضاً،
تحب كل ما هو جميل، وتحب كل ما فيه حياة.
منفتحة على الصداقة، وتشعر بنفسها مندفعة إلى أن تكون أمينة على مثال اختارته بحريّة.
تحمل على التفكير في برعم زهرة على سطح الماء، يأسر بنضارته وبالوعد الذي يحمله.
أكثر من ذلك، مالياً، تستطيع تريز أن تسمح لنفسها بأشياء كثيرة.
عائلتها غنيّة، الأعمال ازدهرت! إنّها تسكن منزلاً جميلاً، ويمكنها أن تسافر، وهي لم تمر من غير أن تلفت النظر حين دخولها عالم مدينتها الصغيرة: ليزيو!
" كنّا نتمتع بالحياة الأعذب التي يمكن لشابات أن يحلمن بها؛ كل شيء حولنا، كان يلبّي أذواقنا، وكانت أكبر حريّة قد أعطيت لنا، وأخيرا كنت أقول إن حياتنا على الأرض كانت مثال السعادة".
الفجر
تتمتع تريز بطبع متساهل، لكن طبعها لم يكن هكذا دائم. كانت والدتها قد ماتت بداء السرطان،
في حين لم تكد تريز تبلغ أربع سنوات وثمانية أشهر. إذا في وقت دقيق جداً بالنسبة إلى نموّ الولد النفسي.
كانت هناك علاقة عاطفية سعيدة بين تريز ووالدتها. وحين وضع الموت حداً فجائياً لها،
فقدت الطفلة هذا الحنوّ الحار الذي كانت لا تزال في حاجة ماسّة إليه. ولم يستطع أحد أن يعالج
ذلك حقا. أصبحت خجولة ومفرطة الحساسيّة وسريعة التأثر. وفقط في عش "البويسونه"
المحميّ كانت تشعر بالأمان.
كانت تريز كبتت بشدة وهي لا تزال طفلة. ومن دون وعي، بدأت تنتزع الشفقة بفيض من الدموع. لكم بكت...
وتكتب بقسوة،
" كنت حقاً لا أطاق بحساسيتي الشديدة التي تفوق كل حدّ".
" وعندما كنت أبدأ بتعزية نفسي عن الأمر بحد ذاته، كنت أبكي لأنني بكيت".
كانت تريز منطوية على نفسها بشكل ميؤوس منه. وكانت تتألم من ذلك كثيراً. تتألم لأنّها
تتمتع بهذا القدر من الإمكانات الغنيّة بحد ذاتها، ولا تملك الوسيلة الكافية لاستغلالها...
وثابرت تريز على بذل جهود، وإن كانت غير مجدية أحياناً: لتمحو هذه العيوب من طبعها،
وبفضل ذلك اكتسبت خفية إرادة متينة: وفيما بعد، لن تكون تريز أبداً ميالة إلى أن تعدل عاجلاً عماّ كانت ستباشره.
يوم الميلاد، سنة 1886، يتغير كلّ شيء. العائلة تعود من قداس منتصف الليل. أبوها، اللطيف للغاية دائما، تعب. في لحظة مزاجية، أبدى ملاحظة أن تريز لا تزال تشعر بفرح طفولي شديد حين تضع حذاءها في المدفأة." لحسن الحظ، إنها السنة الأخيرة... " يقول، وهو متوتر الأعصاب.
لم يكن هذا قد حصل لتريز أبداً حتى الآن، في علاقاتها مع والدها.
كان دائماً رقيقاً وملاطفاً: مرآة لامعة كانت تستطيع بأمانة أن تجد نفسها ثانية فيها.
وفجأة ترى تريز وجهها مشوهاً: " لم يعد أبي يعكس الصبر، بل المقاومة الشرسة".
فورا تفهم تريز، بمشقة أكبر وبوضوح أكثر من السابق، أنه آن الآوان لترك " أقمطة الطفولة". لقد سبق وحاولت ذلك. لكنها نجحت هذه المرّة! كما الأمر دائما. كانت الدموع قد صعدت إلى عينيها عندئذ، لكنها، وللمرة الأولى في حياتها، تتجاوز وضعاً صعباً وتكبح دموعها. تختبر كيف أنها " كبرت في لحظة واحدة"، كيف أصبحت فجأة "قوية وشجاعة".
تنسب تريز هذه الأعجوبة النفسية الصغيرة إلى طفل المغارة، إلى يسوع هذا الذي استقبلته للتو عند المناولة.
"يسوع بذّل ليل نفسي إلى سيول من نور... ومنذ تلك الليلة المباركة، لم انهزم في أيّ معركة، بل على العكس سرت من انتصارات إلى انتصارات".
اجتاحت قوة الله نفسيتها. وتبلورت الآن جميع الجهود، بحالة من القوة.
وتسميّ تريز حدث ميلاد 1886 "نعمة إهتدائها الكامل".
انتهى هذا الإنشغال بنفسها، المرضي تقريباً: انتهت" الحلقة الضيقة حيث منت أدور ولا أعرف كيف أخرج منها"! وبسرعة تستدرك تريز تأخرها. الآن تبدأ "المرحلة الثالثة من حياتي، الأجمل من مراحل الكرمل".
وبقسوة تقريبا، ينفتح باب الحياة أمام الشابة الصغيرة، ابنة الرابعة عشرة، وتكتشف عالماً ينتظر استكشافه. ومتحررة من حساسيتها المفرطة، تتولّه بما هو خارجي: دراسة وسفر وصداقة، كل هذه الإمكانات الواسعة!.
ماذا حدث في قلب هذه المراهقة، التي هي نفسياً أكثر نضجاً بكثير من رفيقات عمرها؟
ما يجري هنا ليس عاديا كثيرا. حتّى إنّه يعاكس ردات الفعل الأولى عند من يكتشف الحياة.
عادة، نحن مأسورون بكل شيء وبلا شيء. فكل شيء يبدو مهماً. عند تريز، أشياء عديدة هي نسبية. إن انفتاح كيانها الأكثر عمقاً لم يعد مبهما لفترة طويلة. كل شيء هو الآن متمحور حول نقطة اكتسبت قيمة مطلقة. لقد وجدت مركزها؛ قلبها مأسور بحب وحيد ثابت. بالمقارنة مع شبيبة أخرى، فإن نضج حبها المبكر ذاك يتمتع بخصوصيّة: إنه الآن حب نهائي. لكنّها تملك شيئاً مشتركاً معها، وهو أن تغذي حلماً من دون حدود.
المثال الذي استخلصته صغرى بنات السيّد مارتان الخمس ليس إيديولوجية على الإطلاق كما أنه ليس شيئاً. إنه كائن بشري، لكنّه ليس كالآخرين. ترغب في أن تحب يسوع بشدة. الحياة هبة من يسوع، ولا بدّ من تكون مكرّسة له. تريز تعرف أنّها مجتذبة بحبّ خلاقّ وتريد تلبيته
هبة كاملة لذاتها.
بالنسبة إلى تريز، ليس شخصاً تاريخياً فحسب، وبعيدا من زمن غامض. إنّه الآن حاضر، إنّه يحب الآن، وهو قريب كلياً. فيما بعد، أبدا لن تكتب كثيراً عن موضوع قيامة يسوع: بالنسبة إليها هذا بديهي أن يسوع حي، وأن يسوع حاضر؛ نحن لا نتكلم على الهواء الذي نتنفسه في كل لحظة، فهو "محيطها الإلهي". في كل مكان، تجد أثره من جديد. بالنسبة إلى تريز، الأرض شفافة وصافية: هي كون " الحبيب".
متكلمة على هذه الحقبة الربيعية، تستشهد بقصيدة القديس يوحنا الصليب" بليل مظلم" يظهر كيف أن الحب يجانب كل المسيرة:
"لم يكن عندي لا مرشد ولا نور
ما عدا الذي كان يلمع في قلبي
هذا النور كان يقودني بأمان أكثر
من نور الظهر، في المكان حيث كان ينتظرني
الذي يعرفني تماماً".
"كان الطريق الذي فيه مشيت مستقيماً جداً، ومنوّراً جداً، لم يكن يلزمني مرشد آخر سوى يسوع... كان يريد أن يفجّر فيّ رحمته؛ لأنني كنت صغيرة وضعيفة، كان ينحدر نحوي ويعلمني سرّاً أشياء من حبّه".
تفهم تريز أن "الله" يعلمها أن تحب ويملأها بهبة حبّه.ويصبح الكتاب المقدس، العهد القديم،
تجربة جديدة، حيوية وشخصية. تطبق على نفسها كلام النبي حزقيال:
"بمروره بالقرب مني، رأى يسوع أن الوقت كان قد حان بالنسبة إلي لأكون محبوبة، فعقد العهد معي وأصبحت خاصته ... بسط عليّ رداءه" .
لا تزال تريز تستطيع بعد اختبار مستقبلها، وفي الوقت نفسه لم تعد حرة.
لقد فهمت أن حياتها ستمضي برعاية يسوع. كل شيء سيكون مستغرقاً فيه.
لا يمكننا وضع نمو تريز الداخلي على الخط نفسه كنمو شباب مسيحيين آخرين. في قصد الله، كان على تريز أن تكون شخصية بارزة لكثيرين آخرين. لقد بدأت تعيش بشغف كمسيحية، باكراً جدّا. كانت في التاسعة تقريباً حين اختارت القداسة كمثال. بعد ذلك بقليل، وعت أنّه لبلوغ ذلك لا بدّ من أن تتألم كثيراً. وتقبل. كونها راديكالية، " تختار الكل" ، ولا"تريد أن تكون نصف قديسة".
أثناء مناولتها الأولى تختبر اللقاء بالرب مثل:
"انصهار، فلم يعودا اثنين، كانت تريز قد اختفت، كما نقطة الماء في قلب المحيط. بقي يسوع وحده، كان السيّد والملك".
تحت تأثير نعم إفخارستية غزيرة، كبر حبها للألم.
الألم، لا أحد بحاجة للبحث عنه. إنه واقع في حياتها. في الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمرها، وخلال السنة ونصف السنة، تكابد تريز من شكوك مضنية بشأن قيمة أعمالها الأخلاقية. تفكر من دون توقف في أنها تسقط في الخطيئة.
في المدرسة، لعب تعليم ديني متشدد دوراً سيئاً. هكذا تدّون تريز ملاحظات عن مواعظ أربع ألقاها الأب" دومان" على الأولاد، خلال الرياضة التحضيرية للمناولة الأولى: يتعلق الأمر بحسابات سيطالبنا الله بها: عن الموت،
والجحيم، والمناولة الأولى النفاقية... لحسن الحظ، تموت رئيسة المدرسة في هذا الوقت، ولا يستطيع الكاهن متابعة تعليمه. وباستمرار، هناك العجز المذلّ لحساسيتها المفرطة! وحتى ميلاد 1886، كما قلنا.
أولا خبرة فقرها الذاتي، ثم خبرة رحمة الله المحررة وكلاهما عميق جدا.
وتلمس تريز أن ليس هناك أي تناسب بين جهودها وبين النتيجة غير المنتظرة.
"في لحظة واحدة، حقق يسوع العمل الذي لم أستطع تحقيقه في عشر سنوات، مكتفياً بإرادتي الحسنة التي لم تخذلني أبداً".
"كان عليّ تقريباً أن أشتري برغباتي هذه النعمة التي لا تثمّن".
أخيراً وقد تخلصت الآن من ضغط شكوكها ومن حساسيتها المفرطة، تصبح تريز قادرة نفسياً على أن تعير انتباهاً كبيراً إلى الآخر. وتلخّص اكتشافها هذا:
" شعرت بالمحبة تدخل قلبي، وبالحاجة إلى نسيان نفسي لأرضي الآخرين، ومنذ
ذلك الحين صرت سعيدة".
بعد ستة أشهر من ذلك، وقع كتاب "لأرمنجون" تحت يدها، فتلتهمه وتنخطف به.
"كانت هذه القراءة لا تزال إحدى أكبر نعم في حياتي، لقد حققتها عند نافذة غرفة دراستي،
والانطباع الذي أحسه عن ذلك هو حميمي جدا وعذب جدا حتى أنني لا أستطيع استرجاعه...
كانت جميع حقائق الدين وأسرار الأبدية تغدق نفسي في سعادة لم تكن من الأرض... كنت أستشعر عندئذ ما كان يدّخره الله للذين يحبهم ( ليس بعين الإنسان بل بعين القلب )، وبرؤية
أن المكافآت الأبدية لم يكن لها من تناسب على الإطلاق مع تضحيات الحياة الضئيلة، كنت أريد أن أحب يسوع بشغف، وأن أعطيه ألف علامة حب ما دمت كنت أقدر على ذلك".
أي سعادة بالنسبة إلى تريز أن تستطيع الكلام بحرية عن هذه الأشياء! بحوارها، تنجلي أحاسيسها الجديدة وتوقظ في قلبها أيضاً حماسة أعمق.
محاورتها هي أختها سيلين، الأكبر منها بأربع سنوات. سيلين هي أكثر من أخت، وتريز تسميها"أناي الأخرى"، بالقرب منها تصبح تريز ذاتها تماماً، وتماماً كما في الصلاة.
"كانت سيلين قد أصبحت المؤتمنة الحميمة على أفكاري... لقد جعلنا يسوع نصبح شقيقتين بالروح... وكانت شرارات الحب التي يبذرها بملء يديه في نفسينا، والخمر القوي واللذيذ الذي كان يناولنا لنشربه، يجعل الأشياء العابرة تختفي تحت عيوننا، ومن شفاهنا كانت تخرج زفرات حب ملهمة منه. لكم كانت عذبة الأحاديث التي كنا نتبادلها كل مساء في المنظرة!...
يبدو لي أننا كنا نتلقى نعما من رتبة سامية كالنعم الممنوحة للقديسين الكبار ... لكم كان شفافاً ورقيقاً الحجاب الذي كان يحجب يسوع عن أنظارنا ... لم يكن الشك ممكناً، ولم يكن الإيمان والرجاء عندئذ ضرورياً بعد، لقد جعلنا الحب نجد على الأرض ما كنا نبحث عنه". إذ وجدناه وحده، قبّلنا، كي لايستطيع أحد في المستقبل أن يحتقرنا". ( راجع نشيد الأناشيد 8/1)".
نقلاً عن كتاب: "اليدان الفارغتان"، رسالة تيريز ليزيو، الفصل الأول، منشورات الرهبانيّة الكرمليّة، بيروت 2001