"يا سيّد ها قد تركنا كلّ شيء وتبعناك"
بولس متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما
لا توجد عبارة أكثر لياقة وجمالاً من هذه العبارة، والتي يمكن لنا أن نقدّمها مقابل نزول الروح القدس إلينا الأحد الماضي في العنصرة.
تقيم الكنيسة في هذا الأحد، التالي للعنصرة، تذكاراً لجميع القدّيسين. إنَّ هذه السحابة من القدّيسين تبرهن على أنَّ العنصرة حدثٌ مستمرّ في التاريخ، وأنَّ الروح القدس فاعلٌ أبداً؛ وهذه الثمار أفضل برهان.
أن نكون قدّيسين كما أنَّ أبانا السماويّ قدوس.
إرادة الله هي أن ندخل في شركة قداسته.
في البدء كان الكلمة (المسيح)، والكلمة الأقنوم الثاني كان عند الله أي مع الله، في حركة اتصالٍ وحبٍّ دائم. كان الكلمة يتّجه نحو الله. وهذه الكلمة صار جسداً وأراد يسوع أن يجعل الناس يتّجهون بدورهم نحو الله، وبكلمة أخرى أرادهم أن يشاركوه المجد الذي كان له عند أبيه.
لقد جاء يسوع ليحقّق إرادة الآب وليشركنا نحن البشـــر في حياة الثـــالوث
الأقدس، أي لنتَّجه بحبّنا وحركتنا نحو الآب.
وبعد الصعود أرسل لنا المسيحُ الروحَ القدس ليرشدنا إلى كامل الحقيقة، والحقيقة هي المسيح؛ والمسيح يتجه بنا نحو الآب. لقد نزل الروح القدس يوم العنصرة ليتابع ما بدأه يسوع، أي ليصرخ "فينا بأناتٍ لا توصف: أبّا أيها الآب".
من هو القدّيس إذن؟ إنّه من يصرخ كالعروس مع الروح إلى المسيح: "تعال". نعم، أنتَ دَعَوْتَنا ونحنُ تبعناك؛ بحسب تعبير الكلمات الأخيرة من سفر الرؤيا. القدّيس هو من يحرك قوّة حبّه باتجاه الله.
والروح هو الذي يدفعنا ويقودنا إلى ذلك. إنَّ نزول الروح القدس يتطلّب منّا موقفاً حيّاً يُعبَّر عنه بأجمل كلمة: "ها قد تركنا كلّ شيء وتبعناك".
يتوقف القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم في شرحه لهذه العبارة ليتساءل:
أليس مجرّد شبكة وأسماك؟ لم يكن بطرس غنياً أو من عظام أبناء الدهر...
هنا يكمن سرّ "الترك" الذي حقّقه بطرس، في أنّه حوَّل الحبّ من كلّ شيء إلى يسوع، ولو قدَّم هو أيضاً فلسَ الأرملة. نحن نترك كلّ شيء، أكان هذا الشيء صغيراً أم كبيراً لا يهمّ، المهمّ أن يصير المسيح لنا كلّ شيء. وهذه هي القداسة.
القداسة هي أكثر بكثير من بعض الكمالات الأخلاقيّة وهي أكثر من تصرّفات كفضائل نسمّيها مسيحيّة. هذه الأخيرة نتائج لقلبٍ يحبّ كثيراً وصار المسيح بالنسبة له الحبّ كلّه.
هذه المحبّة لا تتطلب هجراناً أو تنكُّراً لأي محبوب آخر. لذلك قال يسوع "من أحبَّ... أكثر مني فهو لا يستحقني". وهذا يوضح أمرين، أولاً التراتبيّة في القلب وثانياً تصنيف هذا الحبّ.
أولاً عندما يكون يسوع بالنسبة لنا كلّ شيء، فإنَّ أي حبّ آخر يعارض ذلك مرفوض وثانياً أمام حبّ يسوع يسقط أي حبٍّ وثني أو أيّة عاطفة أنانيّة عند قدميّ يسوع، نقدّم كلّ حبٍّ لنا مع أيّ محبوب، نقدّمه صلاةً وشفاعةً وخدمة وتفانياً.
أليس هو من أوصانا: "أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"! ومن هذا المنظار ليس القدّيس مَنْ لا يحبّ إلاَّ يسوع فقط؛ إنّما هو من يحبّ بيسوع كلّ شيء. لأنَّ كلّ شيء هو فرصة نبرهن من خلالها أنّنا نحبّ يسوع.
خاصّةً عندما نتذكر أنَّ كلّ شيء هو محبوبٌ أيضاً من يسوع، وأنَّ سيدنا قد جعله في دربنا لنحمله صليباً، لنحمله رسالةً، أو لنحمل إليه بشارة. القدّيس هو من أدرك أنّه مجرّد رسول للربّ يسوع، وأنَّ كلّ إنسان معشوق لأنّه موضوع حبِّ سيده وأنَّ ربّنا أرسله إليه.
أنحنُ والدون، فلنحبّ أولادنا حتّى النهاية، وهل من حبٍّ أعظم من هذا أن نوجههم إلى يسوع؟ وبهذا نتابع إذن عمل الروح القدوس. إن أحببنا في أولادنا مشاعرنا أكثر من يسوع فنحن من جهة لا نحبّهم الحبّ الحقّ، ومن الناحية الثانية لا نستحقّ الربّ.
القدّيس هو من أحبّ الربّ لدرجة صار فيها كلّ ما يحبّه ربُّه محبوباً لديه.
وكما يقول بولس الرسول في رسالته اليوم إلى العبرانيين: "فنحن أيضاً إذ يحدقُ بنا مثل هذه السحابة من الشهود فلنلقِ عنَّا كلّ ثقلٍ... ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع".
مع جميع هؤلاء القدّيسين، نصرخ إذن يا سيّد إنّنا نترك كلّ شيء لأننا تبعناك، ونصرخ مع الروح نحو العروس: "أيها الربّ يسوع تعال". وللربّ يسوع دائماً جوابنا "نعم" وليس لنا فيه لا.
فيا أيها الملك السماويّ هلمَّ اسكنْ فينا وطهِّرْنا من كلّ دنسٍ،
وطهِّر الحبّ فينا لنكون على درب قدّيسيك. آميــن