((ما هي أبعاد سرّ الإنتقال بالنسبة إلينا؟))
يقول المفكّر البيزنطي بّول أفدُوكِموف: "خُلِقَ العالم لكي تتألّه الخليقة." هذا المصير العامّ قد استُبِقَ تحقيقُه في العذراء. إنّها صورته المُسبَقة النموذجيّة... هذا ما يفسّره الفنّ الأُيقونوغرافي عندما يقابل، من زاويةٍ إزائيّةٍ وجنباً إلى جنب، بين أُيقونة صعود المسيح وأيقونة انتقال العذراء، أي الإله الذي تأنّس، والإنسان الذي تألّه. الأمر الذي يوضح القولَ المأثور عند الآباء: "صار الله إنساناً، ليصير الإنسان إلهاً..." وعليه فإنّ انتقال العذراء هو بالنسبة إلينا:
1 استباقٌ للمصير.
انتقال العذراء إلى السماء بالنفس والجسد، استباقٌ لمصير جميع الصدّيقين. هذا ما يُحْيي فينا الأمل بتحقيق تمجيدنا الأبديّ، نحن الذين لهم مع المسيح شركة "في اللحم والدم" (عب 2\14)... وفي حال إنّ انتقال العذراء دلالةٌ على أنّ المسيح يلتزم مصير الكنيسة حتى النهاية، في الموت وفي القيامة.
ما قد جرى لمريم عنوانٌ لما سيجري لنا. وقُصارى القول، يعني انتقال العذراء أنّ العودة إلى الله، تلك التي اكتملت في إنسانيّةٍ إلهيّة (إنسانيّة المسيح)، قد اكتملت أيضاً في إنسانيّةٍ كلُّها بشريّة (إنسانيّة مريم)، وسوف تكتمل فينا. متى يكون لنا هذا التمجيد الجسديّ؟ لمّا كان أنّ بيوس الثاني عشر لم يُوضح، في إعلانه، أنّ الانتقال يتعلّق بامتيازٍ فريد قد مُنِح للعذراء، فإنّه تَرَكَ المجالَ حُرّاً للنظريّة القائلة إنّ التمجيد الجسديّ قد يلي حالاً ساعة الموت. هذا ما حاول كارل رَهنر إثباته، بالاستناد إلى كون دخول المسيح في المجد الأبديّ قد أقام جماعةَ المُفتدين الجسديّة، وإلى كون "القبور قد تفتّحت" عند موت المسيح، كما جاء في إنجيل متّى، وقام "كثيرون من القديسين الراقدة أجسادهم فيها" (27\52)... هذه النظريّة، رفضها بشدّةٍ لاهوتيٌّ آخر كبير، سْخِيلبكس، ولكن دون أن يناقش حيثيّاتها.
2 ملجأ الخطأة.
يشهد الأُسقف غْرُوار (+1931)، من جمعيّة المنذورين لخدمة مريم البريئة، ويقول: "كنتُ في العاشرة، وكنت أٌسبّب لأبي الكثير من الغمّ والحزن، بطيشي الكبير، حتّى أنه ـ على الرغم من كونه شرطيّاً ـ قد يَئِسَ مني... في أحد الأيّام، إذ كنت قد تغيّبت عن المدرسة لأتسكّع ,"أتشَيطن"، قَبَضَ عليّ وقادني إلى الكنيسة. ضَغَطَ عليّ من ذراعي وأركعني أمام مذبح العذراء، ثم قال: "يا عذراء، إنه لك. حاولي أن تصنعي منه شيئاً. فأنا قد يئست." "يبدو أنّ طلبه قد استُجيب، إذ إنّي بعد قليل قُبِلتُ في المدرسة الإكليريكيّة الصغرى... ولمّا، بعد عشر سنوات، أُعلمتُه بأنّي ذاهب للرسالة في كَنَدا، لم يستطع إلاّ أن يشهق ويقول: "ولو يا عدرا!.. ضروري تِقْبَضيها جدّ، لهالحدّ؟" "وأنّي إن اتّخذت لي شعاراً، يومَ سيامتي أُسقفاً، العبارةَ "تحت ذيل حمايتك"، فاستذكاراً لذلك المشهد." يقول بولس السادس، في "فعل الإيمان" الذي كتبه، إنّ مريم "تُواصل في السماء دورها الأمومي حيالَ أعضاء المسيح، بمساهمتها في ولادة ونموّ الحياة الإلهيّة في النفوس المفتداة."
3 الشفاعة المريميّة الكليّة القدرة.
هذا ما يشهد له التقليد المسيحيّ بوضوح، شرقاً وغرباً: يقول ما افرام إنّ العذراء مريم، بصفتها أُمّ الله، قادرة على كلّ شيء، ولها على ابنها تأثير كبير... ويقول نيقولا دي كُلِيرْفُو إنّ الله أنعم على مريم بكليّة القدرة. فهي تتقدّم من ابنها "لا متوسِّلةً بل آمرةً، لا خادمةً بل سلطانةً"... وإنْ سألنا اللاهوت المعاصر، قال إنّ "قدرة الله كائنة في مريم بفضل الروح القدس القائم فيها، وبفضل أُمومتها الإلهيّة. فعندما تصلّي مريم من أجلنا، هو الله يصلّي. وعندما تستجيب صلواتنا، هو الله ـ في مريم ـ من يتعطّف بلطفه على أبنائه" (ليونردو بُوف). فرغباتها رغبات الله نفسه. وإنّه من المُضحك إقامةُ التعارض بين "العدل" الإلهيّ و "الرحمة" المريميّة... رحمة مريم نافذة لأنّها تعبّر عن رحمة الله.
4 تذكير بحقائق ضروريّة.
ـ عندما يُقْصِرون المصير البشريّ على الدنيا الزائلة، سرّ الانتقال يفتح آفاقَ السماء.
ـ عندما يشكّون في الإنسان، سرّ الانتقال يؤكد نجاح النعمة نجاحاً تامّاً، حتى عل الصعيد الجسديّ.
ـ عندما يتعذّب المرء في جسده ومن جسده، سرّ الانتقال يحرّك الأملَ في صلبان الحياة ستكون درباً إلى المجد.
ـ عندما ينغمس المرء في عبادة الجسد حتى التدنيس، سر الانتقال يذكّر بأنّ الجسد هو هيكل الروح القدس المُعَدّ للتمجيد.
ـ وعندما، بالعكس، يتجاهل المرءُ جسده أو يحتقره، يُعلن سرُّ الانتقال كرامة الجسد الفائقة: فهو ليس ثوباً يهترئ فيُطرَح، بل هو ما يجعلنا من نحن، لأنّه لنا أداةُ وَصْلٍ واتّصال مع الإنسان ومع الله.
ـ وعندما نرزح تحت ثقل الأوجاع والعاهات والمشقّات، يذكّرنا انتقال أمّ الأوجاع أنّ السلام في أن نتقبّل حدودنا "فنبلغ الكمال، بما نتألّمه"، على مثال المسيح الذي تألّم "مع كونه ابناً" (عب 5\8-9).